الينبوع القديم
تاريخ النشر: 29/01/16 | 2:12قال لي جدي ذات يوم وهو جالس على كرسيه الهزاز المريح مداعباً بأصابعه لحيته البيضاء: “لم تكن هذه القرية كلها موجودة منذ خمسين عاماً يا بني، ولم يكن فيها حياة، ولم يكن هناك ذلك النهر الجميل الذى يمر عبر قريتنا ويسقينا بمائه ويسرنا بجماله.” قلت له وأنا أبتسم ابتسامة طفل يريد أن يعرف أكثر: “حقًا يا جدى؟!” ربت جدي على كتفي وقال: “حقًا يا بني، ولهذا قصة سأرويها لك!”
“عندما كنت شاباً صغيراً، أكبر منك بسنوات قليلة، كنت وأخواي نخرج كل مساء إلى هذه البقعة القريبة من مزرعة والدنا ونقضى الأيام نمشى فى الغابة الصغيرة التى لم تكن مورقة الأشجار. وفى يوم من الأيام كنت أنا وأخواي نمشي بين أشجار الغابة الصغيرة عندما رأينا مستنقعاً عفناً مليئاً بالأشجار والأوراق الميتة، مياهه خضراء وأعشابه لزجة. وعندما بحثنا ودققنا، اكتشفنا أنا وأخواي أن هذا المستنقع ما هو إلا ينبوع صغير، وقد سُد مدخله بالكثير من الأشجار الميتة والصخور المتساقطة فتراكمت عليه وجعلت منه مستنقعاً كريهاً مياهه غير نظيفة ولا تصلح للشرب. فكر أخي الأكبر للحظات ثم قال لنا وابتسامة كبيرة على وجهه: ’ما رأيكما يا أخواي أن نقوم بتنظيف هذا المستنقع وفتح الطريق أمام هذا الينبوع كي يعود نبعاً جميلاً يسقى الغابة ويفتح فى عمقها نهراً عظيماً يعيد الحياة إلى أشجارها؟‘ استحسنت الفكرة أنا وأخي الأصغر، وقررنا أن نبدأ العمل على الفور. وهكذا ولأيام طويلة ظللنا أنا وأخواي نرفع الأشجار الميتة بعيداً عن الينبوع، وحفرنا له مجرى صغير يسمح له بإطلاق مياهه عبر أشجار الغابة، وأبعدنا أوراق الأشجار الضخمة الميتة عن طريق المياه، ونظفنا قاع الينبوع ليصبح الماء لامعاً نظيفاً جميلاً صالحاً للشرب.
وبعد أيام كثيرة، وجهد لا يوصف، وقفنا أنا وأخواي ننظر إلى ما فعلته أيدينا وابتسامات السعادة تطل من وجوهنا ونحن نرى مياه اليبنوع الرقراقة وهى تخرج من بين صخور الغابة وتمر بين أشجارها نظيفة جميلة صالحة للشرب. فى تلك اللحظة، ومن بين أشجار الغابة، ظهر لنا رجل عجوز تبدو على وجهه الطيبة وابتسم لنا ابتسامة رائعة وقال: ’شكراً لكم يا أبنائي على جهدكم الكبير الذى بذلتموه من أجل غابتنا، لقد استطعتم أن تقوموا بعمل عظيم لن تدركوا مداه إلا بعد عشر سنوات.‘ فسأله أخي الأصغر: ’وماذا يمكن أن يحدث بعد عشر سنوات؟‘ فابتسم العجوز الطيب وقال: ’لو عدتم إلى هذا المكان بعد عشر سنوات سترون بأنفسكم!‘ بعد ذلك، افترقنا أنا وأخواي وذهب كل منا إلى طريق يبحث فيه عن عمل واتفقنا على أن نتقابل فى ذلك المكان بعد عشر سنوات. ذهب أخي الأكبر إلى مدينة الحطابين حيث تعلم فن الحطابة، وتعلم لغة الشجر، وأصبح قادراً على معرفة أي الأشجار جاهزة لأن تصبح حطباً وأيها أفضل لمهنة النجارة، ثم استطاع أن يُدخل مهنة النجارة إلى قرية الحطابين ليزيد من ازدهار القرية وجمالها. أما أخى الأصغر فقد ذهب إلى قرية الصناع الماهرين حيث تعلم صناعاتهم الحديدية والزجاجية، وأدرك أسرار مهنتهم الصعبة قبل أن يضيف إليها صناعة النحاس، ليصبح شيخ الصناع وشهبندر تجار تلك المدينة. أما أنا فظللت فى مزرعة أبي لأهتم بها وأرعاها، فزرعت البقول والحبوب والخضراوات والفواكه، حتى أصبحت من أكبر المزارعين وتجار الحبوب.
وبعد سنوات عشر، مرت بسرعة كبيرة، شد ثلاثتنا الرحال وقررنا العودة إلى النبع القديم الذى قابلنا عنده العجوز الطيب. وهناك، ما إن اقتربنا من المكان، حتى ذهلنا مما رأينا. الينبوع الصغير أصبح نهراً جارياً كبيراً يملأ الغابة مياهاً نظيفة جميلة. أما الغابة فأصبحت قرية جميلة مليئة بمختلف العمال والصناع الماهرين، وكانت الحيوانات البرية تعيش جنباً إلى جنب مع أهل القرية فى سلام، ويشرب الجميع من مياه النهر الضخم الذى كان منذ عشر سنوات مستنقعاً كريهاً. عندئذ، ومن نفس المكان ظهر الرجل العجوز الطيب وعلى وجهه ابتسامة عريضة، وقال لنا: “هل فهمتم الآن ما كنت أقصد؟” ابتسمنا نحن الثلاثة وأدركنا أن العمل الذى قمنا به قد عاد بكل هذا الخير على الناس والحيوانات وحتى النباتات والأشجار. فعندما قمنا بتنظيف الينبوع، أصبح خيراً جارياً يسقى كل من يحتاج ويروى الزرع والأشجار.”
ثم داعب جدي لحيته من جديد وقال لي: “ومن يومها يا ولدي، انتقلنا أنا وأخواي إلى هذه القرية لنعيش بها، وحملنا معنا ما تعلمناه لتصبح هذه القرية أجمل القرى وأقواها تجارة وأحسنها زراعة.”