من سيرتي الذاتية: توفيق زيــــاد كما عرفتــــه
تاريخ النشر: 05/07/13 | 4:29توفي الشاعر المناضل توفيق زياد (أبو الأمين) في مثل هذا اليوم 5 تموز 1994، وفي ذكراه أعيد نشر صفحات من سيرتي الذاتية عنه، ويلاحظ القارئ أنها تقول ما له وما عليه، وتعبر عن رأيي ساعة الكتابة، فالأمانة تقتضي أن أحافظ على الأصل حتى ولو تغيرت بعض التفاصيل، فعذرًا سلفًا من الشيوعيين ومن المتدينين المتشددين على بعض الصراحة التي قد لا تروق لهذا الطرف أو ذاك.
……………………………………………………………………………………………….
توفيق زيــــاد كما عرفتــــه
توفيق زياد قرأته شاعرًا ناثرًا! فتابعته بالإعجاب.
فرحت له يوم أن انتصرت"جبهة الناصرة الديمقراطية”؟ وأضحى رئيسًا:
ورفعت رأسي عاليًا يا ناصره
وصفعت ما كادوا بأيدِ ظافره
راق لي توفيق زياد في قصائده التي كان ينسجها فصيحة من رحم الأغنية الشعبية- مثل-"عذّب الجمّال قلبي"….
كنت أحس أنه منا وإلينا، فينا وعنا. كفاحه أصيل جريء رغم لجوئه إلى الفحش أحيانا في تعابيره (أذكر ولا أنسى لقطته وهو يمسك بمنطقة حساسة ليتحدى زئيبي الذي يطالب بترحيلنا، ويبدو أن أمثال زئيبي لا يفهمون إلا هذه اللغة، على الأقل حسب مفاهيمنا الشرقية.)
في السبعينيات عندما دعيت مع صديق لشراب في مطعم في يافة الناصرة لم أعرف أنني أمام عملاق الفكاهة، أمام رجل يتمتع بحافظة نادرة، وبتمثيل باهر. فنان تحبه وتشعر أنه قريب منك جدًا، وكأنك عشت العمر كله معه.
كان يهتم بما ننشر نحن الشباب في بدايتنا، فيشجع وينبه دائمًا إلى ضرورة أن يكون الشعر للناس، وليس للهواء.
كانت قصائده الوطنية مثار نقاش طويل حول"فنّـيّـتها”، وكنت من الذين يعجبون بها رغم مخالفتي لرؤيتها الفنية في مقالاتي النقدية، ومع ذلك كنت أبرر أن اللغة له سحرها، والسحر لا يتبين أحيانًا بسبب كونه سابيـًا باهرًا.
أردد قوله:
إنا هنا باقون
فليشربوا البحرا
نحرس ظل التين والزيتون
ونزرع الأفكار كالخمير في العجين
نأكل التراب ولا نرحل
هنا لنا ماض وحاضر
هنا على صدوركم باقون كالجدار
ننظف الصحون في الحانات
ونملأ الكؤوس للسادات
ونمسح البلاط في المطابخ السوداء
حتى نسلّ لقمة الصغار
من بين أنيابكم الزرقاء
هكذا بمثل هذه البساطة التي استقاها محمود درويش في"سجّل أنا عربي”، وسميح القاسم في "خطاب من سوق البطالة" كانت بدايات شعر المقاومة.
هنا لا يُحْفل بالقاموس الشعري ما دامت حرارة التوصيل قائمة حية متفاعلة منفعلة.
كتبت في مفكرتي في ذكرى يوم الأرض سنة 1993:
كنت وأبو عمر في شفا عمرو. لاحظنا أعدادًا هائلة من الجنود تظهر على ملامحهم إشارات الاستفزاز، جاءوا وكأنهم على موعد بما سيحدث.
ارتفع صوت زياد (من أين له هذا الصوت؟!) وهو يناقش المتزمتين أن يعطوا المرأة حقّها.
هنا تدخل زعيم من الحركة الإسلامية معترضًا. وأخذت العصي الغليظة تظهر. لم يَخفهم.
كان يتحدّاهم رغم هجومهم وكثرتهم. اختلط الحابل بالنابل، واحتدت الأصوات. واقتحمت الشرطة لفض الاشتباك.
(شاهدت في السنة التالية مشهدًا مماثلاً في الطيبة، فقد تكرر المشهد فيما بعد، بصور أخرى، وذلك في أعقاب ظهور الوطنيين المنافسين من كل حدب وصوب)
***
قبل ذلك في يوم الأرض 1977-في باقة بلدي- كان توفيق زياد الخطيب البارز على منصة الاحتجاج – على الاعتداء البوليسي الشرس على أبناء باقة وجت. قرأت أمامه وعلى الجمهور قصيدتي التي كتبتها:
يا شعبي العملاقَ إنك ملهمي
أنت الكريم، وما سواك معلّــمي
كنت أحس أن القصيدة خطابية مفعمة بصوت زياد ونفَسه. طلب مني أبو الأمين أن أوثّق الحدَث، حتى نصدر كتابًا أسود عن جرائم المعتدين.
عندما دخل البرلمان كان أبو الأمين يمر على مقهى أبو اسحق – حيث نجلس، فنلتئم حوله، فيحدثنا عن جولاته وقولاته، فنزداد به إعجابًا.
ظلت العلاقة رائقة رائعة، حتى نشطتُ في الحركة التقدمية، حيث كنت من مؤسسيها، فإذا به يشتد ويحــتد، فيخطب في باقة خطابًا سخر مني فيه، ونسي ما بيننا من خبز وملح، ثم ما لبث أن دعاني إلى مراجعة النفس (وفعلاً راجعت نفسي فيما بعد، وتبين لي الأساس المتهافت الذي يبني عليه بعض المتسلقين)، لكن وللحق، فالسخرية لم تكن ضرورية ولا أستحقها.
وما دام الأمر بين قوسين فقد حضر الأديب حنا إبراهيم بعدها إلى اجتماع شعبي لحزب لا أؤيده، فأبى أن يقرأ الشعر-كما قال- إلا بعد أن يطلب إذنـًا من شاعر باقة، واستذكر قصة الخوري الذي جاء ضيفًا إلى بلدته- البعنة، فطلبوا منه أن يكرز، فأبى وقال: حتى أحصل على إذن من خوري البلد. (مع عدم ادعاء التشبيه، رحم الله من قال في التراث: أيفتى ومالك في المدينة؟!)
وشتان بين الموقفين!
***
عندما اتجه إميل حبيبي اتجاهًا جديدًا بعيدًا عن مقولات الحزب أخذ توفيق ينشر قصائد يوجهها له دون أن يذكر اسمه (الندابة-”الاتحاد”5/7/1991)، وقد تأخر نشرها في كتاب. وهذه القصائد محفوظة لدي بأصلها. أذكر هنا أن أبا الأمين -الشاعر توفيق زياد قد طلب مني شخصيًا أن أكتب نقدًا عنها أو دراسة تبين الشعرية قياسا لكتاباته الأولى، خاصة وأن هذه بحاجة إلى النظر الأدبي بعيدًا عن الموقف من إميل فيها. ولمّا أفعل ذلك.
كنت أستمع إلى الإذاعة فإذا بنعي توفيق، فقد لاقى الشاعر مصرعه الأليم في حادث سير.
فَجَعنا، ولم نستوعب ذلك……
كانت التقولات تحوم بأنه مات بسبب الشراب، وهذه تقولات لئيمة مستهجنة حتى في الدين، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول”اذكروا محاسن موتاكم”!
كتبت قصيدة تحدٍّ، ونشرتها في"الاتحاد” تحت عنوان"كأسك يا توفيق!”، وقد ألقيتها في المهرجان الذي أقيم لذكراه في الناصرة يوم 24/8/1994، وفيها:
أما أنت
يا عاشق هذي الأرض
في كأسك
تتجلى لك معشوقـــه
موجات موجات
آيات آيات
فارفع كأسك
نشرب نخبك
كأس محبـــــه
كأس جهاد في صولة جرأه
وقد علقت فيها على هؤلاء الملتزمين الذي لا يقولون كلمة حق أمام السلطان
الجائر،كما يقولها توفيق:
ثّم الشيطان الأخرس
لا يشرب، يرقبنا
لم يقل الحق….. فلا خيرٌ فيه.
***
في السادس من أيلول سُجّي جثمانه في قاعة "بيت الصداقة” في الناصرة.
أُلقيت كلمات التأبين أمام حشد هائل جدًا (لا أذكر أني شاهدت مثل هذا الحشد بين ظهرانَـينا) –آلاف مؤلفة تنطلق منهم دموع دامعة. فأحسست باللوعة والدمعة، وقد أصابت المناوئ السياسي قبل الرفيق الحزبي.
من الجميل الذي أعجبني وأكبرته- أن إميل حبيبي كان قد كتب في"الاتحاد” كلمة رقيقة صفح فيها عن كل ما عكر صفو الأحبة، وقال:
“لقد اتفقنا على طول الطريق ومنذ نعومة أظافرنا (أظفارنا. ف)، وما آلمني شيء أكثر من الاختلاف معه في أي موقف.
التشييع المهيب لجثمانه عبر تعبيرًا مهيبًا عن حب هذا الشعب لهذا القائد الفذ الأصيل الذي لم يكتف بالكلام عن المنجزات والكرامة”. (الاتحاد 8/7/1994).
هكذا قدّر إميل حبيبي كما قدرنا نحن في زياد تضحياته من نفي وسجن وتعذيب وبطالة، وكيف كان بيته هدفـًا ثابتـًا لهجمات الشرطة كلما قام أهل الناصرة بمظاهرة احتجاجية*.
ومضى الرجل، وترك عظيم الأثر.**
……………………………………………………
(*) يعتز كاتب هذه السيرة بأنه حصل على جائزة توفيق زياد الأدبية للأبحاث سنة 2001. وقد جرى احتفال مهيب في 11/9/2001 بحضور رئيس البلدية رامز جرايسي وعقيلة الشاعر السيدة نائلة زياد والقائمين على"مؤسسة توفيق زياد"- السيدين أديب أبو رحمون وسامي الحاج، وحصل على الجائزة كذلك الكاتب سهيل كيوان. وقد ألقيتُ كلمة بهذه المناسبة، وقرأت قصيدتي" كأسك يا توفيق".
(**)- كتبت دراسة عن "النفس القصصي في شعر توفيق زياد"، وقد ألقيتها في عمان في مقر رابطة الكتاب العرب في 5 شباط 2005، وكنت محكَّـمًا في أكثر من سنة لقرارات لجنة الجائزة.