نسمات قرآنية

تاريخ النشر: 08/11/15 | 12:48

7

جاءت سورة الفاتحة تستفتح القرآن الكريم بحمد الله تعالى وجاءت بطلب العون منه والهداية ، وجاءت من بعدها سورة البقرة فاستهلت الكلام بالمقطع من الحروف [ الم ] وإن كنا نعلم أنََّ ترتيب المصحف كما هو يُعد ترتيبا توقيفيا ، فنعجب كل العجب كيف يكون بدء الكلام بما لا يُفقه معناه من الكلام إلا بما يجيء من بعده في نص جميل واضحٍ كل الوضوح { ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِۛ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) }[ 2 / البقرة / 2] ويكأن الحروف المقطعة [ الم ] جاءت بما يُشبه الشيفرة المتعارف عليها في زماننا هذا ، تُشبه الاختصارت الاصطلاحية والتي تختصر الكثير من الأسماء الطويلة من باب الإيجاز لوقوعنا في عصر السرعة ، أو من باب استرعاء الانتباه وتحيير القول تشغيلا لها لتتهيأ لاستيعاب كلامٍ ليس كسائر الكلام ، ولتقبل كلام يتنزل من السماء ، مع فارق واحد وهو ؛ أن أول ما نزل من القرآن في سورة العلق كان لمحمد صلى الله عليه وسلم خاصة حينها ، وأنه لا يصلح ليكون بداية الكلام هنا في أول القرآن ، ولو صلح لكان هنا .
ففاتحة الكتاب هي حمد ودعاء وهو ما نبدأ به الجليل من كلامنا وحتى اليسير والعاجل ، ولكن البقرة هي بداية القرآن ، وأي كتاب هو القرآن ؟ إنه هو الكتاب . إنه الكتاب ، ودعك عنك ما يتبقى من ثبوت الجملة الاسمية في هذا الموضع فليس ها هنا موضعه ولا محل تفصيله .
فإن كان هنا كلام البداية لكتاب تحدى الله به العرب وما زال يتحدى الإنس والجن أجمعين في وقت ظهر في
كل علم أقصى إمكانياته وأقصى مجده ، فإن القرآن لم يتزعزع ولم يتخلخل ولم يتقلقل ، وبقي ثابت كالطود الشامخ بل هو الشموخ نفسه ، وهو الرقة كلها ، وهو الشفاء الشفاء من كل سقم .
والسؤال الذي يُسأل :
ما هي أجمل جملة تبدأ بها تعريف هذا الكتاب؟
الجواب
كما أسلفنا كان هناك اللغز [ الم ] ، فلا بد من جواب له ، وفي نفس الجواب وجب وجود كل عناصر الجواب القريبة منها والبعيدة.
{الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِۛ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) }[ 2 / البقرة / 2] فهنا تبدأ الآيات بذكر التعريف بالقرآن ، والجميل هنا أن الكتاب يُعرِّفُ عن نفسه بأبلغ ما يكون من عبارة ومن أوجزها لفظاً ومن أجمعها معنىً .
وكون الجملة العربية إما أن تكون اسمية أو فعلية ، كان لا بد هنا من الاسمية وذلك لأن التعريف لا يكون إلا بالأسماء وكما نذكر فإن الله قد علم آدم عليه السلام الأسماء ، وتحتوي الأسماء على الأفعال .
ولكن الغريب أيضاً ها هنا هو الابتداء باسم الإشارة [ذَٰلِكَ ] مع قدرة النص القرآن أن يتجاوز إلى لفظة [الْكِتَابُ ] مباشرة .
وتقدير الكلام لمن أراد أن يقرأ الكلام من عربي أو أعجمي متسائلا : ماهو هذا القرآن ؟
فيأتي الجواب : كِتَابٌ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِۛ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ .
ولكنه هنا عدلَ عن الجواب البسيط بأمرين ؛ الأول : باسم الإشارة كما أسلفنا .
والآخر : بتعريف الكتاب بأل التعريف العهدية .
وأجمل ما قرأت من آراء حول لفظة [ذَٰلِكَ ] أنه خطاب لأصحاب الكتب السابقة ، أنه أيها الرهبان والقساوسة والأحبار ، أنه هذا هو الكتاب الذي أشرت لكم عنه في كتبكم السابقة .
لذا جاء الترميز قبل التعريف ، في رسالة خفية لا يُدركها العرب الجاهليون في كونها سابقة لغوية لم يعهدوها ، ولم يعهدوا أحدا بدأ بها كلامه قبل القرآن الكريم ، وإنما أدركوا أنَّ لها ما لها ، وفهموا أنه كتاب لا ريب فيها ، وفهموا من تقديم الظرف من الجار والمجرور أنه ينفي عن نفسه ـ القرآن ـ الريب ، ولا ينفيه عن غيره من الكتب ، وفي هذا التعبير الصريح توكيد يُطمئن به قلب أصحابه ـ المسلمين ـ ويستفز به أسرار وخبايا نفوس الأحبار الذين لطالما استأثروا بعلم الكتاب مترفعين به عن الجاهليين الأميين .
والاستفزاز الحاصل حينها وفي وقتها ، يخدم أمرًا آخر اليوم ، إذ أن هذه الرسالة التعريفية تأتي لتعرف من شاء من أبناء الكفر التعرف إلى هذا الكتاب ، وكذلك تأتي رسالة واضحة لمن أراد من أبناء المسلمين بداية التعرف على كتابه ، أو أراد بداية التلاوة بهدف الختم ، فيجذبه هذا التعريف لواقع قد غاب عن باله وعن بال الكثيرين وهو وجوب تدبر هذا الكتاب الكريم مع تلاوته أناء الليل وأطراف النهار . هذا إلى جانب طريقة القرآن الكريم في استحثاث العقول المؤمنة لكي تصل لطريقة التدبر التي يرتضيها القرآن الكريم ، وهي طريقة الجمع بين الآيات واستخراج الفهم للنصوص التي تبدو بعيدة عن بعضها أو غير مفهومة مراميها . وطريقة القرآن الكريم تستحث العقول الغير مؤمنة التي لا تفهم النص القرآني . فتعمد هذه العقول الغير مؤمنة مباشرة إلى الطعن في الكتاب سواء علموا أنهم على باطل أو جهلوا ذلك . وفي هذه الحيثية الصغيرة نجد أنَّ النص القرآني يستعصي في علو ورفعة على أولئك الذين يتطاولون بعقولهم القاصرة ، ويسارعون في الشرور والسيئات ، وكأن القرآن هنا يُعطي إشارة لعباد الله المؤمنين تنحى منحيين اثنين ، الأول : تطمينا لهم في أنهم على خير دين ، وأن لديهم أفضل الكتب ، والثاني : في أنهم يرون سوء عاقبة عاجلة لأولئك الأقزام الذي حُرموا الفهم فالإيمان .وفي هذا أيضا إنذار خفي جلي .
وقد يقول قائل : لماذا كانت الرسائل القرآنية ، والنصوص القرآنية والتي هي سور القرآن الكريم طويلة ، لا بل كان القرآن كتابا طويلا نسبيا ولماذا هذا الإلغاز فيه ولماذا كان عنصر الوضوح فيها مفقودا ، ولماذا حافظ القرآن على فصاحة كلمته وخلوصها من أعجميتها ، وتمسك بشكل وهيكل وإطار متميز ميزه عن غيره من الكتب الاسبقة وحتى اللاحقة ، لماذا ببساطة لم تكن صفته البساطة ؟
ولماذا كانت نصوصه ـ أياته ، وسوره ـ وإن كانت عربية خالصة ، لماذا كانت تختلف في صياغتها وبنائها عن الشعر والنثر من كلام العرب ؟
وفي هذا الكلام بسط كلام ، وإماطة لثام ، وتجلية أفهام .
نحن نعرف أنه لا بد للكلام المفيد من ثلاثة جهات :
المرسل والرسالة نفسها والمُرسَل إليه .
ونحن نعرف انه لا بد حقيقة من مُرسِل ، أو لا بد من مَتكلِم ابتداءًا ، ولكن قد لا يوجد مُرسَل إليه ، أو قد لا توجد رسالة واضحة ، فقد يتكلم انسانٌ مع نفسه بكلام لا مغزى منه سوى الهذيان ، وقد يتكلم انسانٌ آخر بكلام قيِّم ، ولكن لا يجدُ أحدًا يسمعه ، ولربما وُجدَ السامعُ وكان ذا عقل ولكنه أغفل قلبه وأعمى بصيرته عن هذا الكلام لا لشيء إلا لأنه ألِفَ القديم ، أو لأن هذا الكلام يُطيح بملذاته وأهوائه .
ولكن المُخاطِب إن كان يريد التأثير في المًخاطَب بكلامه وإيصال رسالته الخيِّرة القيِّمة للسامع العاقل ، كان لا بد من البلاغة والفصاحة ، ولا بدَّ أحياناً من الإيجاز أحياناً ، والإطالة أحياناً ، … إلخ ،كلٌ حسب موقعه وموضوعه وظروفه .
وكون الخالق عزَّ وجلَّ يريد لعباده الهداية ، وكون هذه الدنيا إلى فناء ، وكون الإنسان ميت محالة بفرده وجنسه ، وكون البشرية الحديثة لا تستطيع أن تتقبل نبيا جديدا بعدما نما لديها الفهم والتفكير وفشا فيها الكذب والإلحاد ، وتنوعت الأهواء والأنواء ، واقتربت الساعة وانشق القمر ، كان لا بد ـ كما اقتضت الحكمة الإلهية ـ من وقف بعثة الرسل بعد محمد صلى الله عليه وسلم .
وبعد ختم النبوة بمحمد بن عبدالله النبي الأمي الأمين ، كان القرآن هو العنوان ، وفيه الشفاء من كل داء ولديه الجواب عن كل سؤال ، كيف لا ؟ وقد قال الله عنه في محكم التنزيل : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىٰ هَـٰؤُلآءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ } [ 89 / النحل / 16 ] .
فاقتضى أن يكون القرآن هو التبيان لكل أمر جديد ولكل حادثة فضلا عن تبيان كل شيء انقضى وفات .
واقتضى أن يكون النص القرآني نصا بليغاً وتبيانا فصيحاً ، لا بل آخذاً بمجامع البلاغة والفصاحة والبيان ،
واقتضى كذلك أن يكون مغايرا لغيره من كلام العرب من نثر وسجع وشعر .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة