الأقصى.. صمت العرب وهجمة الإسرائيليين

تاريخ النشر: 02/10/15 | 5:24

تصاعدت في الأيام الأخيرة عمليات اقتحام المسجد الأقصى، مترافقة مع جملة من التصريحات للزعامات الحكومية والحزبية الإسرائيلية حول موضوع أحقية المتطرفين اليهود والمستوطنين بالصلاة فوق “أنقاض الهيكل المزعوم”.
فمنذ اقتحام أرييل شارون للأقصى في سبتمبر/أيلول 2000 واندلاع انتفاضة الأقصى آنذاك، كانت الاقتحامات المتكررة للحرم القدسي من غلاة المستوطنين من أمثال موشيه فيجلين ومجموعة “أمناء الهيكل” بزعامة الإرهابي يهودا غليك تتم بشكل أسبوعي، إلى أن وقعت محاولة اغتياله يوم 30 أكتوبر/تشرين الأول 2014.
تعيد العمليات المكثفة لاقتحام الأقصى في اليومين الماضيين التكثيف الشديد للقدس كمدينة وشعب وكدلالة تاريخية للسياسات الإسرائيلية التوسعية في المدينة المقدسة، كما يأتي اقتحام وزير الزراعة الإسرائيلي أوري أرائيل لباحات المسجد الأقصى واقتحام الحرم والاعتداء على المصلين منسجما مع الدلالات الإسرائيلية لتنفيذ السيناريوهات الصهيونية بحق المدينة المقدسة، ومع خطط الاستيطان الضخمة والمتسارعة في ظل الربيع العربي.

ليس مصادفة أن تعلن المجموعات الصهيونية الاستيطانية نيتها تنفيذ عمليات الاقتحام المتكرر للأقصى، وليس من قبيل المصادفة أيضا أن تصادق حكومة نتنياهو على أكبر المشاريع الاستيطانية الخاصة بالقدس، كما أنه ليس عفويا أو صدفيا أن تكون ورشات الحفر والتنقيب تحت أسوار القدس تعمل ليل نهار بحثا عن الهيكل المزعوم.
وليست مصادفة أن يقوم المأفون أوري أرائيل بالسير على خطى شارون، فالسياسة الإسرائيلية والتعاليم التلمودية حاسمة ولا تترك مجالا للصدف، فهي منظمة ومتتابعة ومتراكمة إلى حدها الأقصى، لا يمر وقت دون أن يلتهم غول الاستيطان بيتا أو أرضا جديدة ضمن مخطط واضح المعالم والأهداف يبغي تهويد المدينة وتغيير تركيبتها الديمغرافية وتحويلها إلى أغلبية يهودية، وعبرنة معالمها العربية وأسرلة آثارها بما يخدم المخطط الصهيوني.
وعليه فقد ظلت قضية القدس مختلفة عن كل القضايا في الصراع العربي الإسرائيلي، وأخذت بعدا أكثر من مجرد الصراع على مدينة من المدن، بل كانت عنوانا للصدام بين التاريخ المزيف والتاريخ المحفور في تراب الفلسطينيين منذ الكنعانيين.
لم يترك المشرع الإسرائيلي ومحازبوه ومستوطنوه مناسبة إلا ويؤكدون فيها أن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، ويدعمون التصريحات بممارسات ميدانية لفرض سياسة الأمر الواقع، وصولا إلى إتمام كل شيء بما في ذلك القبضة الأمنية والاستيطانية لقطع الطريق أمام أي محاولة ولو شكلية لإثارة موضوع القدس لاحقا، ليجد المفاوض الفلسطيني نفسه أمام حقيقة نهائية لا خيار حيالها عربيا سوى القبول بما تفرضه المؤسسة الصهيونية.
اليوم وبعد حالة الانهيار السياسي التي تشهدها الساحات العربية الرسمية في سوريا ومصر واليمن وليبيا، وانكفائها إلى حدود التقوقع للحفاظ على “أنا” السلطة باستخدام البلدوزر العربي والدبابة والبرميل والمعتقل والتصفية والمقابر الجماعية التي تعبد الطريق للبلدوزر الإسرائيلي للانقضاض على القدس وترسيخ واقع ميداني وسياسي وأمني يشكل سدا منيعا أمام أوهام الشعارات السياسية العربية والفلسطينية، ويحاصر ردود الفعل العربية التي أحبطتها ودمرتها بلدوزراتها الأمنية، وغيرت وأسقطت كل المفاهيم الأخلاقية والإنسانية حول قداسة المدينة المقدسة، وأعطت تفوقا “أخلاقيا” لانتهاكات المستوطنين في التطاول والاعتداء على المصلين داخل المسجد الأقصى.

نظم الاستبداد في سوريا ومصر واليمن وليبيا أسقطت عن نفسها قداسة الشعارات والخداع والتضليل لقطاعات جماهيرية واسعة كان يراهن الاستبداد على تدجينها وركودها واستنقاعها.
وجدت المؤسسة الإسرائيلية في تماثل وتشابه ممارسات الاستبداد معها -بل وفي تفوقها- الفرصة الأمثل للانقضاض على القدس، ومكنت الأسس الأولى للتطور السلبي والكارثي لمسار الانكفاء العربي من قبل أنظمة الاستبداد، من خلق واقع جديد يتمثل في الانفكاك والتحلل ليس من قضية تهويد القدس، بل من القضية الفلسطينية كلها، على اعتبار أن معركة الحفاظ على السلطة هي الأهم، فكان المآل الذي وقع على حلب ودرعا وإدلب وغوطتي دمشق وأبين وتعز وسيناء والصعيد ودرنة وبنغازي والزاوية، لا يقل فداحة عن تعب الحصار والتجويع ومصادرة الأراضي والتهويد لمدينة القدس.
التشابه والتماثل بين الاستبداد والاحتلال يعبر عن جوهر عميق للموروث السيئ الذي تجلى في عامل البطش والفاشية الذي يلف مستوى التعاطي مع القدس وشقيقاتها العربيات في التوأمة. والمسألة هنا لا تردنا فقط إلى الروابط والشعارات التي ألغت العقول وباسمها أحالت الشقيقات مع القدس إلى حالة فجائعية، مع الردع والتحطيم لكل من يهدد الاستبداد والاحتلال.
الانقلاب العميق ليس في مسار الانتهاكات الإسرائيلية، ولا في السياسة الاستيطانية للقدس وانتهاكاتها المتكررة، بل في روادع الهزيمة المزيفة للمشروع الإسرائيلي، وفي التأثيرات والتحولات الرسمية للسياسة العربية وأحزابها التي أخذت صفة “المقاومة” وانتهت بشكل مختلف من السقوط والخيبة كدلالة تاريخية للتقهقر نحو الوراء مع مشهد وحدة البلدوزرين العربي والإسرائيلي كأداتين لتدمير الإنسان العربي.

الملفت في الوتيرة المتسارعة للاعتداءات الإسرائيلية في مدينة القدس هي تمكن إسرائيل من هضم الوجبات الدسمة من ردود الأفعال التي سقطت في امتحان الأزمات العربية قبل خمسة أعوام، مع تقاطع الأهداف والطموحات مع بعض النظم العربية المنكفئة في صخب أدائها لمحاربة “الإرهاب”، وهو ما يمثل ضربة قوية للغاية في استمرار العدوان على الأرض الفلسطينية عموما والقدس خصوصا، مع إدراك المؤسسة الإسرائيلية لطبيعة الظروف المحيطة والعقد والأبعاد التي تحكم عملية الصراع مع النظام الرسمي العربي الذي اتضح ضعف حصانه عن لجم الطموحات الإسرائيلية.
لهذا لم نلحظ أي ارتباك، وإنما وجدنا هدوءا إسرائيليا مريحا ونشطا ومستعدا لكل مخططاته بعد سقوط شكليات وآليات “العداء الرسمي” العربي، وميل بعض الأحزاب التي لها ماض سياسي وعسكري وليس لها حاضر أو مستقبل في دعم وإسناد القدس، إلى حالة من التعصب المذهبي، وتردد أسئلة مبهمة عن أسباب وظروف العدوان على المدينة، وعن من يدعم أو يسند القدس والمقدسيين؟
شغل السؤال الأخير حيزا هاما من نداءات الفلسطينيين منذ احتلال المدينة عام 1967، هذه المدينة التي تقرع فيها كل يوم أجراس الخطر لما يحاك ضدها. وقد أصبح واضحا لدى الإسرائيلي على ضوء مجريات الأحداث واختبار رد الفعل، أن أقصى ما يمكن أن يفرضه النظام الرسمي العربي بيان مثل بيان الجامعة العربية أمس الأول بإدانة التصرفات الإسرائيلية بحق القدس.
في الطرف العربي والفلسطيني الرسمي ثمة إستراتيجية خطابية تتكرر مثل بكاء الأطفال لحظة ولادتهم “هذا شأن إسرائيلي داخلي”، إن كان الأمر متعلقا بعدوان داخل الخط الأخضر أو بتصريحات فاشية وقوانين عنصرية، بينما لا أحد فعليا يتحدث عن الزمجرة الصهيونية المهددة والمنفذة للقتل بحق خيارات الفلسطينيين، وتهويد القدس والاعتداء عليها أحد تجليات هذه الدونية والاستعلائية التي يُنظر من خلالها إلى كل الشأن الفلسطيني من العين والمصلحة الإسرائيلية المتماهية معها.

يتبقى من القول إن طموحات العرب الفلسطينيين والمقدسيين تحديدا كبيرة، ليس أقلها خلع الاستبداد كتعبير ديمقراطي عن طموحاتهم وميولهم، للجم الممارسات الصهيونية بكسر القيود التي كبلهم الاستبداد والاحتلال بها. ويبدو أن الشعب الفلسطيني يصل إلى مرحلة بالغة السوء والصعوبة مع أشقائه في بعض دول الربيع العربي التي تناضل ضد القيود المتكاثرة.
يدرك العقل الإسرائيلي خطورة الانتفاضة العربية في وجه الاستبداد، ويدرك أيضا أي ظروف مهدها له للانقضاض على القدس. وعلى أية حال فإن الأفق المنشود لا يقاس بمستقبل مرغوب ولا بماض ولّى، بل يقاس بأمر وحيد هو أشكال النضال الصحيحة التي غيرت بعض العلاقات في الحاضر القائم.
القدس كما الزبداني كما درعا وحلب في اشتداد الهجمة على الإرادة والأحلام والطموحات. وبتفكيك عرى الاستبداد والاحتلال تعود القدس عربية وتتوقف عبرنتها وتتحطم بلدوزرات الاستيطان الإسرائيلي والتهجير الاستبدادي.
انجلت الصورة تماما، وإن كانت تكلفتها الدموية باهظة، لكنها تمثل مشهدا يكتمل في متاهة البحث عن طريق القدس التي تدل عليها أبوابها الأربعة عشر وسورها ومسجدها والمرابطون فيه، لمن تاه عن الطريق ويقول: يا قدس إنا قادمون.

نزار السهلي

o

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة