من يومياتي كمرب قبل نصف قرن في قرية معاوية

تاريخ النشر: 08/05/11 | 0:57

يوميات مرب عن قرية معاوية التي لا زالت حية في الذاكرة بعد أكثر من نصف قرن:

معاوية قرية صغيرة – آنذاك- إلى الغرب من مدينة أم الفحم ، تتربع على مكان يرتفع قليلا عن سطح البحر تشرف على الروحة وهي جزء منها وكأنها الحارسة الأمينة والحصن المنيع لهذه المنطقة الخضراء الغنية بالخيرات والنعم.. معاوية حباها الله بموقع به من الجمال والروعة ما يثلج الصدر ويسر العين: الماء والخضراء والوجوه الخيرة.. سكانها جاءوا من البلدة الأم أم الفحم وقليل ممن هجروا وشردوا من ديارهم في النكبة..

وكان أن عينت معلما في مدرسة معاوية الابتدائية مع مطلع السنة الدراسية التي تبدأ مع الفاتح من أيلول لعام 1956… تقبلت أمر هذا التعيين بنوع من الريبة وعدم الوضوح لأنني لم أعرف هذه القرية من قبل وكنت أرغب الانتقال إلى مدارس بلدي باقة الغربية… اعتبرت هذا النقل إبعادا ولكنه في المحصلة كان خيرا… ومع آخر يوم من العطلة الصيفية قصدت قرية معاوية وبصحبتي أثاث متواضع جدا هو عبارة عن سرير لشخص واحد وفرشة ولحاف ومخدة والقليل من الملابس وعدة الحلاقة ، أما ما يتعلق بالحمام ومعداته اكتفيت بمنشفة صغيرة لاستعمالها عند غسل اليدين والوجه والرأس أحيانا لأن الحديث عن غرفة حمام ودورات مياه في ذلك الوقت فأنه من سابع المستحيلات ليس في هذه القرية فحسب بل وفي جميع قرى المثلث الشمالي التي أعرفها.

وعلى عادة القرويين آنذاك توجهت حال وصولي قرية معاوية إلى بيت المختار لأجد شابا زميلا من الطيبة وقد سبقني ، استقبلت بحفاوة وترحاب بالغين كما أستقبل زميلي (المرحوم سليم صابر) وما هي دقائق وإلا بالخبر ينتشر في الحي الذي نزلنا فيه وبدأت وفود المهنئين تفد إلى بيت المختار للتعرف على المعلمين الجدد ومن ثم دعوتهم لزيارتهم في بيوتهم والإقامة عندهم حتى يقضي الله أمرا مفعولا ونستقر في بيتنا الجديد ، ولكن كرم المختار وإباءه أبوا عليه أن يتنازل عن استضافتنا فأقمنا في بيته العامر يومين كاملين لننتقل بعدها إلى بيتنا الجديد لننضم بعدها إلى زميلين اثنين أحدهما مدير المدرسة السيد خليل يوسف أبو زينة جبارين وهو من أم الفحم والسيد الياس نجيب دله من كفر ياسيف ، وتعين هذا الشاب الكفرساوي في قرية معاوية كان نفيا وإبعاده عقابا له على انتماءه إلى منظمة المعلمين الديمقراطيين وكان أن نفي معه زملاء أخر منهم الزميل نمر مرقس من كفر ياسيف وكذلك والذي كان لي شرف مزاملته لسنتين كاملتين في مدرسة برطعة الابتدائية ( وتجدر الإشارة هنا أن الزميل نمر مرقس أصبح فيما بعد رئيسا لمجلس كفر ياسيف المحلي لأكثر من دورة)..

تحدثنا أربعتنا عن مواضيع تتعلق بالمدرسة لننتقل بعدها للحديث عن المعدة وإنعاشها وكيفية الحصول على مواد الطعام..عندها تدخل المدير الأستاذ خليل قائلا: اجلوا هذا الحديث إلى موعد آخر..قلنا: وكيف ذلك؟! قال: العادة في هذه القرية أن المعلم الجديد الوافد إليها لا يتناول الطعام في بيته إلا بعد انقضاء شهر تقريبا يتعرف خلال هذه الفترة على السكان لتعرفوا عليه بالمقابل..قلت: لا أفهم كلامك.. وضح..قال: انتظر لترى بأم عينيهم..وما هي إلا سويعة أو يزيد وإذ بالسيد عثمان رجل في العقد الرابع من عمره يدخل علينا الغرفة يحيينا ويصافحنا ويقول: عشاؤكم ومبيتكم وطعام فطوركم عندي الليلة.. وحاولنا التهرب خجلا. ولكنه ألح وكان له ما أراد… استمرت عملية الدعوات لعدة أسابيع وصلت عددها خمسة لتتعداها إلى ضاحية تبعد عدة كيلومترات عن معاوية تربض على رابية تسيطر على طريق وادي عاره اسمها “ربزة كيوان” (والربزة هي مكان مرتفع) وهي عزبة من عزب أم الفحم.. والذي لم يسعفه الحظ ونلبي طلبه كان يرجونا أن لا نغمطه حقه لزيارته في بيته لتناول الشاي والقهوة ومن ثم السهر خاصة وأن الشتاء على الأبواب والسهر يحلو في الشتاء مع لعبة الصينية وسرد الحكايات والأحاجي..

ونحن نتحدث عن زمن كانت فيه وسائل النقل العمومية بين قرى المثلث بقسميه الجنوبي والشمالي شبه معدومة اللهم إلا من حافة كانت تغادر قرية الطيبة الساعة الخامسة فجرا مارة بالمثلث لتصل إلى حيفا أو الناصرة ، كان هذا متصف القرن الماضي أي عام 1956 أيام الحكم العسكري البغيض وما يترتب عليه من الحصول على تصاريح خاصة لتنتقل من قرية إلى أخرى.. إذا كيف كنا نقضي عطلة نهاية الأسبوع؟! لقد من الله علينا بمدير للمدرسة كان بمثابة الأخ لنا ، كان بشوشا متواضعا مرحا وكريما جدا عوضنا فراق الأهل والغربة كان يدعونا نحن الثلاثة إلى الإقامة عنده في منزله العامر في أم الفحم أيام العطلة الأسبوعية وكنا نرافقه ومشيا على الأقدام مسافة لا تقل عن ستة كيلومترات وتعرفنا من خلالها على أهله لتتوضد العلاقة الأخوية لتنتقل بعدها إلى أهلينا وتبقى عامرة زاخرة حتى يومنا هذا..

وفي قرية معاوية التي ندين لها بالشكر والتقدير والاحترام لم يقتصر دور المعلم بها على التدريس بل تعداه إلى مهام اجتماعية إنسانية وحتى دينية فهو الواعظ والمصلح أو الخطيب أحيانا وأذكر أنه عندما تعذر وجود قارىء لقصته المولد النبوي الكريم طلب منا أن نقوم بهذه المهمة فلبينا الطلب دون تردد وكان دور المدير قراءة النصوص المكتوبة بترتيل لا يقل جودة عن أشهر القراء وكنا نحن الزملاء ومعنا جمهور المشتركين بترديد ما يقوله المدير..

هذه قرية معاوية كما عرفتها وعرفت أهلها الطيبين لا زلت أكن لهم الاحترام والتقدير لما لمسته منهم من تقدير للمعلم ورسالته وهنا أسمح لنفسي وأقول أن المعلم في هذا البلد الطيب ولما لقيه من تبجيل واحترام كاد أن يكون رسولا وانطبق عليه وبحق قول أمير الشعراء أحمد شوقي:

قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا

‫9 تعليقات

  1. تحيه كبيره للمربي الكبير ابوا اياد اطال الله في عمرك .وجزاك الله كل خير على عطائك المميز فانت رجل والرجال قليل
    .

  2. ذكريات مشوّقة عن بلد طيّب وأهله الكرام!
    بوركَ يراعُك ودام عطاؤُك أيّها المربّي الفاضل،
    ما كتبتَه يستحقّ أن يّحفظ في كتاب مع ذكريات
    مماثلة ممتعة ليتعرّف أبناؤنا والأجيال الصاعدة
    على عادات شعبنا المضياف، وعلى الدور القيادي
    الرائد للمربّين الأوائل.
    لك، أبا إياد، كلّ المحبّة والتقدير، ولأهل معاوية جزيل
    الشكر والامتنان!
    د. محمود أبو فنه

  3. حقا لقد اعطيت معاوية العزيزة حقها يا استاذ حسني
    اثني على ما قلته عن معاوية واهلها الذين عاملوني واصحابي المعلمين كذلك مدة ثلاث سنوات من سنة1958 حتى سنة 1961
    اما ما ذكرته عن زملائك المعلمين وخصوصا”المنفيين”منهم وحيث عرفتهم في وقت لاحق
    فانهم اهلا لما قلت عنهم
    بارك الله فيك يا اخي

  4. أبا أياد أمد الله في عمرك وعافاك . أقول : لايعرف الفضل لذوي الفضل ألا ذووه .

  5. انا يوسف من قرية معاوية ونحن نستحق ما قلته يا استاد لان قرية معاويه اهل الكرم والجود

  6. حياك الله استاذي الكريم وجمل ايامك بالمحبة والرياحين..

    انتم المربون الاوائل اعمدة هذا المجتمع..لكم منا كل التقدير والعرفان.

    لقد تركتم بصمات من ذهب في تاريخ مجتمعنا..بكم نفخر .ونعدكم ان نكون اوفياء

    وخير خلف لخير سلف..

    جدير ان يفهم شبابنا هذا التاريخ…لنصون المكتسبات..ونسير الى الامام نسمو

    بمجتمعنا نحو الرقي والتقدم..لنلحق بالحياة العصرية قلبا وقالبا.

    استاذي الكريم..الجهل ضيع شعبنا واسقاه كاس الهزيمة والذل..وبفضل امثالك

    نقول ها نحن نسير بدروب العلم والمعرفة..نشمخ للمعالي كالنخيل..وباذن الله

    سنحقق العيش الكريم.

    جزاك الله كل خير..وربنا يكرمك كل الخير بالذرية الصالحة..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة