نهاية شيخ البحر

تاريخ النشر: 15/09/15 | 4:33

ما كدت أستقر في بغداد، حتى نسيت ما صادفني من أهوال في رحلتي السابقة وعاودني حنيني إلى البحر. فقصدت البصرة مع جماعة من المسافرين والتجار، وركبنا مركبا راح يتنقل بنا في البحار ويرسو في الموانئ حيث نبيع ونشتري، ونتفرج على بلاد الله الواسعة، ونتعرف بسكانها وأحوال معيشتهم، وأساليب حياتهم.
في صباح يوم، وبينما كان المركب يسير بنا في جو صاف جميل، ونحن نتحدث ونتسامر على متنه، إذا بريح عاتية تهب فجأة، فيهتز بنا المركب اهتزازاً شديداً، وينقلب بعضنا فوق بعض، ويسيطر علينا الذعر.
وما هي إلا دقائق حتى رأينا الأمواج تغمر المركب وتهدده بالغرق. فألقيت بنفسي إلى البحر، واستسلمت للأمواج العاتية أصارعها وتصارعني، وهي تسير بي وتدفعني إلى المصير المجهول.
لم تدم بي الحال طويلاً، فقد دفعتني الأمواج إلى جزيرة كبيرة، عذبة المياه، غزيرة الفاكهة، طيبة الهواء، فسرت في أنحائها أستنشق هواءها المنعش فرحا بنجاتي من الهلاك.
فجأة لاح لي عن بعد رجل يرتدي ثياباً فاخرة، وهو يسير بسرعة، وقد جلس فوق كتفيه شيخ عجوز، قد لف رجليه حول رقبته، وهو يضربه بهما بشدة وقسوة ليزيد من سرعته في السير.
ناديتهما بأعلى صوتي فلم يسمعا، فأسرعت في السير لعلي ألتقي بهما. لكن رجلي المتعبتين لم تمكناني من اللحاق بهما فسرت في الجزيرة على غير هدى لعلي أصادفهما مرة أخرى، ولكن محاولاتي باتت بلا جدوى، فتسلقت شجرة، وكان التعب قد أخذ مني كل مأخذ، واتخذت لي مكانا بين جذوعها الكثيفة.
وبعد ساعات، استيقظت فوجدت نفسي مقيداً بالحبال، وحولي مجموعة من الرجال قد أوقدوا النار وراحوا يصفقون لواحد منهم كان يرقص بحماسة ورشاقة، وهو يقذف بالسهام إلى الهواء ويلتقطها ببراعة فائقة.
دهشت لهذه الحال التي صرت إليها، وتساءلت في نفسي عمن يكون هؤلاء الرجال، ولماذا قيدوني بالحبال؟ ورحت أحاول التخلص من قيودي بحذر شديد مخافة أن ينتبهوا لي فيلقوا بي إلى النار، حتى استطعت بعد جهد كبير التخلص من قيودي. ولكن أحدهم لمحني فصرخ في رفاقه: هيا، إن ” شيخ البحر” قد فك قيوده وهو يحاول الهرب.
أسرع الرجال إلي والشرر يقدح من عيونهم، وأنزلوني عن الشجرة وأنا أرتجف من الهلع.. وفي هذه اللحظة، ظهرت من بين جموعهم شابة صغيرة جميلة، وأمرتهم بألا يمسوني بأذى قائلة لهم: إن هذا إنسان كريم، وليس هو ” شيخ البحر” الذي تبحثون عنه.
أجلسني الرجال قرب النار، فسرى الدفء في عروقي، ثم قدموا لي الطعام والشراب، وسألوني عن قصتي فحكيت لهم ما حدث لي منذ ركوبي المركب في البصرة حتى غرقه قرب هذه الجزيرة.
تعجبوا من ذلك غاية العجب. ثم قصوا علي قصتهم، وعرفت من الشابة الجميلة أن اسمها ” رباب “، وأنها ابنة تاجر كبير، وهؤلاء هم حرسه وأتباعه، وأنهم خلال رحلتهم في البحر جنحت بهم السفينة قرب شاطئ الجزيرة، فنزلوا حتى يتم إصلاحها. ولكن والدها لسوء الحظ وقع في قبضة ” شيخ البحر “، وهو رجل عجوز شرير بالرغم مما يبدو عليه من ملامح الطيبة والوداعة.
يغري بمظهره المخادع من يصادفه، فيطلب إليه أن يساعده ويحمله على كتفيه إلى عين الماء، وسرعان ما يطبق على رقبته بساقيه القويتين، ويرغمه على أن يتنقل به بين الأشجار ليل نهار، ولا يدعه حتى يتركه جثة هامدة لا حراك بها.
قالت “رباب”: لقد فتشت مع رجالي الجزيرة طولاً وعرضاً، فلم نجد لشيخ البحر ظلاً، وإني بتّ أخشى على والدي من الهلاك.
فطمأنتها، ورحت مع رجالها نتعاون في وضع خطة لإنقاذ التاجر المسكين. فاخترنا عدة مواقع في الجزيرة، وربطنا فيها الحبال المعقودة بطريقة تجعل ” شيخ البحر ” إذا ارتطم بها يهوي فوق كتفي التاجر الذي يجد الفرصة سانحة للهرب.
بعد أن درّبت الرجال على استخدام هذه الحبال وزعتهم على المواقع، في حين اخترت أنا شجرة عالية الأغصان صعدت إليها مع “رباب” لنكون على بيّنة مما يجري في قطاع كبير من الجزيرة.
حدثتني ” رباب “، ونحن نجول بأعيننا في كل الاتجاهات، أن ” شيخ البحر ” رجل صلب، يتمتع بقوة خارقة، قد تجعل التغلب عليه مسألة صعبة للغاية. وقد تتعرض حياة والدها للخطر الجسيم.
طمأنت خاطرها، محاولاً تخفيف ما يساورها من قلق على حياة والدها. وفجأة لاح لنا “شيخ البحر” مطبقا على فريسته، وهو يسير بسرعة هائلة بين الأشجار. فأسرعنا بإعداد الفخ القريب. وعندما بات على مقربة منه شددنا الحبل فأطبقت العقدة على رقبته، فأخذ يقاوم ويتململ، في حين شد من التفاف ساقيه القويتين على عنق التاجر المسكين.
لم تستطع “رباب” أن تحتمل منظر والدها وقد ازداد ألمه، فتركت الحبل من يدها، مما سهل لشيخ البحر الإفلات وهو يضرب بقدميه ظهر التاجر ليواصل السير، ويبتعد به داخل الجزيرة.
أخفقت خطتنا، فبكت “رباب” وانتحبت واستسلمت لليأس، ولكني طيبت خاطرها.. ومضيت وحدي أجول في الجزيرة بحثا عن ” شيخ البحر ” لأتقدم إليه بلطف واحترام، وأعرض استعدادي لحمله على كتفي بدلا من هذا الرجل الضعيف المتعب، وأثناء انتقاله إلى كتفي أتحرك فجأة وأتركه يسقط على الأرض، ثم أهجم عليه وأقيده بالحبال..
لكن “شيخ البحر” كان أمكر مني، فلم أشعر إلا وهو فوق كتفي، يلف ساقيه حول رقبتي، ويضربني بقدميه لأنطلق به في سرعة بين الأشجار.
وهكذا وقعت في شرك هذا العجوز الشرير، فمضيت أحمله فوق كتفي، وأتلقى الضربات الموجعة من قدميه إذا توقفت عن السير أو تمهلت لحظة لأستريح!
في هذا الأثناء، عثر الرجال على سيدهم التاجر المسكين فأخذوه للراحة والعلاج، ولكن “رباب” لم تنسني. فوضعت لي عند شجرة الصفصاف كثيرا من أنواع الطعام لآخذ منها حاجتي وأنا أواصل السير بغير توقف.
وخلال أيام كانت “رباب” بمعاونة رجال والدها الأشداء قد أعدوا خطة لإنقاذي قرب شجرة الصفصاف، إذ جهزوا من جذوع الأشجار الضخمة حواجز على شكل أقواس النصر لا يزيد ارتفاعها على طول قامتي..
ما كدت أرى ذلك حتى أدركت الخطة، فأسرعت بالمرور من تحت هذه الحواجز التي راح يصطدم بها رأس ” شيخ البحر ” فصاح متألما، وشدد من ضغط ساقيه حول رقبتي.. ولكنني تحملت الأذى، وأخذت أجري ذهابا وإيابا تحت الحواجز، وفي كل مرة كان يصاب رأسه بضربة جديدة حتى سالت دماؤه، فسقط من فوق كتفي إلى الأرض فاقد الوعي.
أسرعت ” رباب” ووالدها والرجال يهنئونني بالنجاة والانتصار. ثم أعدوا وليمة فاخرة، احتفاء بي، وأكرموني غاية في الإكرام، وعرضوا علي أن أرافقهم في طريق عودتهم إلى بلادهم لأشاركهم فرحهم بالعودة سالمين، ولحضور حفل زواج ” رباب ” من ابن عمها ” هشام “.
وصلنا البلاد سالمين، واستمتعت في ضيافتهم أياماً جميلة عذبة. وبعد أيام، وكان حنيني إلى بلدي قد بلغ مداه، مرت سفينة بالميناء، وكانت قاصدة البصرة، فركبتها بعد ما ودعت مضيفي، وعدت إلى بلادي وأنا في أهدأ حال وأنعم بال

L

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة