زاد المجاهدة التقوى
تاريخ النشر: 31/07/15 | 15:10لقد جاءت التقوى في المصادر الإسلامية تحت عنوان زاد السير والسلوك وتهذيب النفس بشكل واسع ومكرر، وقد تسمى أحياناً بالورع. واعتبر القرآن الكريم أنّ التقوى هي أفضل زاد للإنسان في سفره إلى الله: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (البقرة/ 197)، وقد ورد ذكرها في مئات المصادر. ومواعظ قادة الدين مليئة بالتوصية بالورع والتقوى وبيان صفة المتقين. وقد اعتبرها أمير المؤمنين (ع) على رأس سلسلة الأخلاق الحميدة! فقال: “التقى رئيس الأخلاق”. والتقوى من “الوقاية”، وتأتي هنا بمعنى صيانة النفس والجسد من خلال إطاعة الأوامر الإلهية والاجتناب عن معاصيه. ويفهم من موارد استعمال كلمتي التقوى والورع أنّ مفهوم التقوى أوسع من مفهوم الورع ويشمل فعل الواجبات وترك المحرمات. في حال أنّ مفهوم الورع له جنبة منفية بمعنى أنّه ينظر إلى الاجتناب عن الحرام، ولكنه بالدلالة الالتزامية يتضمن فعل الواجبات. وتشير بعض الروايات إلى مفهوم مشترك ودور متشابه لهذين المصطلحين، فقد جاء في قول عليّ (ع): “الورع اجتناب” و”التقوى اجتناب” ويقول أيضاً في تأثيرهما في صلاح النفس وإصلاحها: “سبب صلاح النفس الورع” و”التقوى مفتاح الصلاح”. وعلى كلّ حال فإنّ من المسّلم به انّ حقيقة التقوى والورع بالمفهوم الذي أشير إليه. هو أنهما زاد الإنسان في السفر المعنوي وأحد أركان طي مدارج الكمال وبدونهما لا يمكن الوصول إلى أي من المقامات. يقول الرسول الأكرم (ص) لأبي ذر الغفاري: “عليك بتقوى الله فإنّها رأس الأمر كلّه”. وينبغي القول إنّ للتقوى مدارج ومراحل، وقد عُبر عن هذه المراحل في أحاديث قادة الدين بالتقوى (العامة) أي (الابتعاد عن المحرمات) وبالتقوى (الخاصة) وهي (الترك حتى للمباحات التي تلهي عن ذكر الله) ثمّ التقوى (خاص الخاص) وهي (الإشاحة بالوجه عن غير الله). وقد ذكرت مراتب ودرجات قلبية وعملية للتقوى، أشار إليها القرآن فقال: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج/ 32)، (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) (آل عمران/ 102)، (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن/ 16)، فالآية الأولى تقصد تقوى القلب. والثانية تقصد أكمل مراحل للتقوى، والأخيرة تقصد مراحلها كلّها. ومع الالتفات إلى هذه النقطة يمكن القول إنّ بعض مراحل التقوى هي هدف بحد ذاتها وبعضها الآخر مقدمة لغيره من أجل الوصول من المرحلة الأدنى إلى المرحلة الأعلى. واختلاف هذه المراتب يتبع درجات الإيمان عند الأفراد. ولسنا بصدد تفصيلها هنا، بل نشير إلى بيان الدور الأساس للتقوى وطريق تحصيلها وتأثيرها في تهذيب النفس والكمال الإنساني ونتائجها المثمرة. تحصيل التقوى وآثارها: لا يمكن إيجاد ملكة التقوى وتحصيلها إلّا على ضوء الإيمان بالله والخوف منه. ويصرّح القرآن الكريم بأنّ الخوف من الله والعقوبة الإلهية وحدها عامل مانع من ارتكاب الذنب، وهو الركن الأصلي للتقوى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات/ 40-41). فكلما اعتبر الإنسان أنّ الله تعالى ناظر إلى سرّه وخفاياه وأفعاله وأعماله، وكلما رأى نفسه في محضر الربوبية. وهو يؤمن بعقاب الله وجزائه فإنّه سوف يسعى إلى تصحيح نفسه من التلوثات. يقول عليّ (ع): “اتقوا الله الذي إن قلتم سمع وإن أضمرتم علم”، ويقول أيضاً في إشارة إلى تأثير الاعتقاد بالجنة والنار في الرقابة على الميول النفسانية: “مَن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات”، و”مَن أشفق من النار اجتنب المحرمات”. كما أنّ للتمرين على ترك المعاصي دور مؤثر في الحصول على التقوى والورع، وقد جرى التأكيد على ذلك في الروايات، يقول الإمام الصادق (ع): “أغلق أبواب جوارحك عما يقع ضرره في قلبك ويذهب بوجاهتك عند الله تعالى ويعقب الحسرة والندامة يوم القيامة والحياء عما اجترحت من السيئات”. ويشير عليّ (ع) إلى تبعات المعاصي، وأنّ لذة المعصية سريعة الانقضاء وليس من مقتضى العقل أن يسبب الإنسان لنفسه العقوبة الأبدية من أجل لذة سريعة الانقضاء، فيقول (ع): “اذكروا عند المعاصي انقطاع اللذات وبقاء التبعات”. ومن جملة العوامل التي تهيء لسلطة الشيطان وعدم التقوى، النظر غير المشروع الذي حذرت منه الآيات والروايات، يقول القرآن الكريم: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) (النور/ 30). وروي عن الإمام عليّ (ع): “ليس في الجوارح أقل شكراً من العين، فلا تعطوها سؤلها فتشغلكم عن ذكر الله”، ويقول عيسى بن مريم (ع) لحواريه: “إياكم والنظر إلى المحذورات فإنّها بذر الشهوات ونبات الفسق”. إنّ التطهر من هذه الأوساخ والتحرر من قيود المذلة يكمن في المعالجة الأساسية للنفس وفي العلم والعمل النافعين. أما العمل، فبالرياضات الشرعية ومخالفة النفس مدة من الزمن بحيث نصرفها عن الحب المفرط للدنيا وعن التبعية للشهوات والأهواء النفسانية، حتى تتعود على الخير والكمالات. ثمار التقوى: كما يفهم من الآيات والروايات؛ فإنّ التقوى هي أرضية للتجليات المعنوية والإيمانية والحصول على صفاء النفس والوضوح في الرؤية وكمال الإنسان أكثر فأكثر، وخلاصه من مخالب المصاعب والأسر في الماديات، وسلامة الدين والدنيا. يقول القرآن الكريم في مقام بيان دور التقوى في الوضوح وتحصيل نور البصيرة للمؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) (الأنفال/ 29)، ويقول أيضاً في تأثير التقوى في الخلاص من المصاعب والاطمئنان إلى كسب الرزق غير المتوقع: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (الطلاق/ 2-3). وعن عليّ (ع): “اعلموا عباد الله أنّ التقوى دار حصن عزيز والفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله ولا يحرز من لجأ إليه، ألا وبالتقوى تقطع حمة الخطايا وباليقين تدرك الغاية القصوى”، وفي كلام آخر له (ع) يقول: “ألا وإنّ الخطايا خيل شُمسٌ حمل عليها أهلها وخلعت لجُمها فتقحمت بهم في النار. ألا وإنّ التقوى مطايا ذُللٌ حُمل عليها أهلها وأعطوا أزمتها فسارت بهم الهوينا حتى أوردتهم الجنة”. كذلك فإنّ التقوى عامل مؤثر في تثبيت العقائد وتربية الفضائل وقبول الأعمال الصالحة. يقول القرآن في تأكيده على هذا المطلب: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة/ 27). فالخشية من الحقّ سبحانه، التي لها التأثير التام في تقوى النفوس هي من العوامل الكبيرة لإصلاح النفس، وذات دور في إصابة الأعمال وحسنها وكمالها. لأنّ التقوى مضافاً إلى أنّها من العوامل الكبيرة في إصلاح النفس، تكون ذات قدرة فعّالة في تأثير الأعمال القلبية والقالبية – الظاهرية – للإنسان، وتكون سبباً لقبولها أيضاً. كما يقول الله تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ). والتقوى هي أيضاً زاد الآخرة، وتزيين النفس بالتقوى هو تزكيتها ورشدها الذي يضمن بقاءها بصورة سالمة وفطرية وبعيدة عن الآفات، فتنمو غرسة سعادة الآخرة في النفس، يقول القرآن الكريم: (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ) (البقرة/ 197).