الدّموع القاتلة
تاريخ النشر: 08/07/15 | 0:50” 1 ”
تَملمَلَتْ أنثى الأخطبوط، في مخبأها، وسطَ شقّ بينَ الصُّخور، فقد كان شعورُها، باقتراب موعدِ وضعِ البيضِ، يزدادُ ساعةً بعد ساعة.
وخرجتْ من الشَّقّ، وقد تملَّكَها فرحٌ مشوبٌ بالقلقِ، وراحتْ تزحفُ على الصُّخور، متمسٍّكةً بالمصَّاصاتِ الموجودةِ في القسمِ الأسفلِ من أذرعِها الثّمانية الطَّويلة.
وتركت الصُّخورَ، متحرِّكةً في الماء، كطائرةٍ نفَّاثة، فهيَ تبتلعُ الماءَ، ثمَّ تنفثُهُ بقوَّةٍ، فتندفع بسرعة إلى الوراء.
ووقعتْ عيناها الكبيرتان على سلطعون يسير ببطءٍ وحذرٍ فوقَ رمالِ القاعِ. ورغم شُعورِها بالجوعِ أعرضَتْ عنه، ومضَتْ مبتعدة، تبحثُ عن مكانٍ مناسبٍ، تضع فيه بيضَها.
وَتراءَى لها السَّلطعون، الذي رأتهُ من مَخبأها، قبلَ أيَّام، وقتها انطلقتْ نحوَهُ في الحالِ، ونشرت فوقَهُ أذرعَها الثَّمانية كالمظلّة، ثمَّ دفعته إلى فكَّيها القويَّين، الشَّبيهين بمنقار الببغاء، وأسرعت به إلى مخبأها، حيث سحقته بأسنانها الصغيرة، التي تغطي لسانها الخشن الكاشط.
ولاحت صخورُ، تكادُ تختفي بين الأعشابِ البحريَّة، فمضت تسبحُ في موازاتِها، لعلَّها تجد مكاناً ملائماً، تضع فيه بيضها.
ولمحت شقّاً بين تلك الصُّخور، فتقدَّمت منه، متأمِّلة إيَِّاه بعينيها الكبيرتين. وتوقَّفت لحظات، نعم، هذا مكان ملائم، من هنا سيخرج صغارها إلى الحياة. وسرعان ما وضعت بيضها المغلف بغشاء رخويّ، وألصقته بسطح الشقّ، ثم استوت فوقه، تحرسه بحذر شديد، وشراسة أشدّ.
وبدأ ضوء النّهار، الذي يصل شحيحاً إلى هذه المنطقة من الأعماق، يخفت شيئاً فشيئاً، حتى تلاشى، وساد الظلام. وأغمضت أنثى الأخطبوط عينيها الكبيرتين، المتعبتين، وتراءى لها صغارها يخرجون من البيض، كما خرجت ذات يوم، هي وأخوتها وأخواتها، مندفعين إلى الحياة.
” 2 ”
مرّت أيامُها، في الأعماقِ، كما يمرُّ الحلمُ. خرجتْ من البيضةِ، وَنَجَتْ من المفترسين، الذين تعجُّ بهم الأعماق، نمت، كبرت، وتعلمت الكثير، تعلمت كيف تقلد ما يخدم أهدافها، فهي شجيرة عشبيّة مرّة، ومرّة صخرة، أو ثعبان، أو نجم بحر، بل وحتّى كتلة من الشّعاب المرجانيّة.
وابتسمتْ حينَ تذكّرت، أوّلَ سمكةٍ صغيرة اصطادتْها، نعم، وكأن هذا حدث اليوم، وليس قبل فترة طويلة. لقد لمحت تلك السمكة مقبلة من بعيد، فتحولت إلى شجيرة بحرية، وما إن مرت السمكة الصغيرة بها، حتى عادت إخطبوطاً أمسك بالسمكة الصغيرة، والتهمها.
وهاهي، قبل أيّام، تصير صخرة، حين أقبل قريدس ” روبيان ” وتوقّف على مقربة منها، وفجأة تحرّكت الصّخرة، ومدّت أذرعها الثّمانية، تمسك بالقريدس، وتدفعه إلى فكّيها القويّين ولسانها المليء بالأسنان الصّغيرة.
ويبدو أنّ القريدس لم يشبعها، فراحت تتلفّت باحثة عمّا تسكت به جوعها. وتجمّدت مرعوبة، حين لمحت من بعيد، سمكة قرش ضخمة، تشقّ الماء باتّجاهها، وأدركت بأنّها لن تستطيعَ الهرب، فملجأها بعيد بعض الشّيء، وسمكة القرش سريعة جداً، وعلى الفور، تحوّلت إلى ثعبان بحر سام، وما إن وقعت عينا القرش عليه، حتّى توقّف بسرعة، فأكثر ما يخشاه هذا السّفاح، هو ثعبان البحر السّام، وعلى الفور، استدار بسرعة، وشقّ الماء كالسّهم، لائذاً بالفرار.
” 3 ”
بصعوبة بالغة، فتحت أنثى الأخطبوط عينيها الكبيرتين المنطفئتين، لعلّها ترى حلم حياتها، آه لم يحنِ الأوانُ بعد، لكنّه يقترب بالتّأكيد، وسيحلّ عاجلاً أو آجلاً.
وأدارت عينيها في ما حولها، إنّه النّهار مرّة أخرى، فهاهو ضياؤه، رغم شحّته، يغمر الصّخور والنّباتات ورمال القاع، والكثير من الكائنات البحريّة.
وعلى الرّمال، لمحت سلطعون يسير ببطء وحذر، وتمنّت أن تسرع إليه، للمرّة الأخيرة، وتتمتّع بمذاقه الطّيب، لكن هيهات، لن تترك بيضها، مهما كان السّبب.
وتطلّعت إلى بيضها، الملتصق بسطح الشقّ، بعينيها المتعبتين المنطفئتين، ترى كم مضى، منذ أن وضعتها هنا ؟ آه، لابدّ أنه مرّ وقت طويل، طويل جداً، ولابدّ أيضاً، أنّ أوان الفقس قد اقترب.
وتمايلت خائرة القوى، وحاولت أن تتماسك، لكن دون جدوى. وهزّت رأسها، كلا، لن تستسلم، لابدّ أن ترى صغارها يخرجون من البيض، ويندفعون إلى الحياة، و.. والتمعت شعلة في عينيها، كما يلتمع برق في ليلة مظلمة، وخفق قلبها فرحاً، فها هي، كما في الحلم، ترى صغارَها يخرجون من البيض بالعشرات، بل بالمئات، ويندفعون إلى المياه، دون أن يلتفت أحد منهم إليها.
وهنا تهاوت على الرّمال كتلة رخوة، والدّموع تنبثق من عينيها، وتستلّ الحياة منها شيئاً فشيئاً. وأغمضت عينيها المنطفئتين، وقد داخلَها شيء من الارتياح، فها هي تعود إلى أعماق البحر، مع العشرات، بل المئات، من صغارها، الذين خرجوا تواً من البيض.
الأخطبوط: حيوان رخوي، يسكن أعماق البحار، ويسمّى المقلد، حياة الأنثى بالغة القصر، فهي حين يفقس بيضها، تبكي بدموع سامة، تفرزها من غدد في عينيها، فتسبب موتها.
الاديب العراقي طلال حسن