أحمد حسين:وطن يرتفع على سارية شعر

تاريخ النشر: 10/12/12 | 9:52

وقف على قبر شقيقه الشاعر الراحل راشد حسين، وترك للغته الفذة وصوره الشعرية فرصة لإعادة النبض قليلا في الجسد المسجى تحت بصره، لعل الغائب قسرا يرمش فرحا استجابة لملاك الشعر الذي تعود أن يغفو على كتفيه، وبجوار الصمت الأبدي للقامة المديدة العائدة من نيويورك ومنفى الغربة إلى تراب الوطن، لمعت لغة أحمد حسين ومفرداته بجوار بلاغة الصمت لشقيقه راشد قبل أن يخطفه من قاع القبر ويحلق به على سارية شعر في السماء:

جــددت عـــهـــدك والـــعــهــود وفــاء””””’ إنا علــى درب الكفــاح سـواء

نــــم فــــي ثــراك فلـــست أول عـاشق’ ‘ ”’ قتلته أعين أرضــه النــجــلاء

مــاذا يـــرد علــيـــهم أن يــــــخــتــفي””””” رجل وملء الســـاحة الأبــناء

مـــيـــلاد مــوتـك مــوعــد لـم تــخـطه””””’ من قبلك الأحرار والشــرفاء

وصــــباح’ نــعــيك صــيحة لـن تنتهي””””’ ما دام يسقط حــولك الشــهداء’

الحـــــب تـــعـرفـه وكـنــــت نـبـيـــــه”””””’ والساح صمت والقلوب خـواء”

الــحــب تــعـــرفـه أمـــا حـــدثــتــنـــا ” ”””’ أغلى’ أماني العاشقــين عـطاء

أعـطـيـت جـهد الـموسريـن ولـم يـكــن””””” في شـعـبـنا عـند الـفدى فـقراء

من كــان يـختلـــس الفــــداء فــــانــنــا ”””” منذ الــفداء الأهل والأبناء

شعب المصيبة، نحن في عصر زنــت””””’ فيه الحضارة وانزوى الشرفاء’

جــوع الـــمديــنــة مـــد فــينا نــابـــــه’ ””””’ حتى تساوى الأهل والأعــداء

ان كـــان قـــصدهم دمـــي، فــليشربوا””””’ لكن أرضى الغول والــعنقـاء

ستظــل فـــي عــصب الزمـــان فـــجاءة””””” تــهفو لــها الأســماع والأنباء

سنظـــل نـحمــل وجـــه عودتنــا كمـــا””””” تقع الظـلال وتحمــل الأسماء

قـــدر علــيــنــا أن تـــســيل دمـــاؤنـــا’ ”””” وعليهم ان يرغــمــوا ويسـاؤا

شـــعــبي الــنذير لأمــة مــنـــكــوبـــة”””””” يودي بها الخصيان والزعماء’

مـــوتـــــوا، أما مــل الزمان غباءكم’ ””””’ نصــف الــمــنية غفلة وغبـاء

لا تـــاس ان فقــد الـــمغني صـــوتــــه”””””’ أو ضـيعت كلماتـها الـخطبـاء

أرضى القــصيد صــحائف مـــنشــورة””””” للناظــرين وشعــبى’ القــراء

حيفــا علــى شفــة الخليـــج قـصــيــدة””””” هيهات يكتب مثـلها الشــعراء

ونــداء يـــافــا قــد سمـــعــت نــداءهــا””””” والــمــوج رواح بـــه غـــداء

تتلـــقــف الشـطـــآن وقــــع حــروفـــه ”””” فيــلمــها عن رملــها الغربـاء’

بـــاقــون مــا بقــي الــتــراب وعــائــد’ ”””” من شرد .. الأموات والأحياء

شــتقـــوا ازار الأرض تــظهــر تحتــه””””” سمــراء فــحماويـــة حــسنـاء

حلــو لـــثام الـــقدس تشــرق خــلـــفــه””””” أرض فلسطـينيـــة وســـمــــاء

لا بــأس هـــذي الأرض باقيــة هــــنــا””””” وسنكتب التاريخ كـــيف نــشاء

جــددت عــهــدك والــعــهــود وفـــــاء””””” أنا على درب الـــكفــاح سـواء

نــم فــي ثــراك فــكـل صــباح مـوعــد””””’ أو ينتهي الأصبــاح والأمســاء

نسج أحمد قصيدته التي تتفجر حبا منذ ثلاثة وثلاثين عاما، ليلقي بها وهجا تحت أقدام شقيقه الشاعر الراحل راشد.. لم ينقطع عن زيارته طوال هذه السنوات القاسية، كان يتأمل فيها دوما شعر راشد الذي نقش على جدار قبره ولاصق قلبه:

للحب نحو القلب درب واحد ولموطني في القلب مائة مدخل

وجاء في نقش آخر من شعر الراحل:

سنفهم الصخر إن لم يفهم البشر إن الشعوب إذا هبت ستنتصر

عاش سنوات عمره المديد على إيقاع الشعر والأدب، من أين بدأت مسيرة الكاتب والشاعر والمعلم أحمد حسين:

ولد العام 1938 في بلدة مصمص الواقعة في المنطقة المعروفة باسم المثلث الفلسطيني، لكنه عاش عشر سنوات من طفولته في مدينة حيفا وغادرها قسرا مع مئات آلاف المشردين عقب النكبة الكبرى وسقوط البلاد بقبضة المحتل:’امتلك والدي بقالة في شارع الجرينة الواقع بالمركز التجاري لمدينة حيفا، وأقمنا بمنزل في جوار البقالة، لكن والدتي وحيدة أهلها كانت تعود أثناء فترة حملها إلى القرية لتضع جنينها في بيت عائلتها وبجوار والدتها. التحقتُ مبكرا في مدرسة التهذيب والمواساة ثم مدرسة الوحدة وأيضا مدرسة البرج. دخلتُ المدرسة وأنا أجيد القراءة تماما، ذلك أن والدي كان مثقفا تقليديا وقد امتلك مكتبة صغيرة تمتلئ بالكتب المميزة، ووفر لي ولشقيقي راشد اشتراكا بمجلتين مصريتين: الكشكول والبعكوكة، وكنتُ حريصا على قراءتهما بانتظام، فيما أثارت الكتب شغفي بالقراءة. أذكرُ شخصية معلمي الأستاذ الكيلاني التي تميزت بالحزم الشديد، كان يبذل أقصى جهد لرفع المستوى التعليمي للطلبة، لاحظ أستاذي قدرتي الجيدة على القراءة وطلب مني الانتقال إلى صف أعلى بعد أن دقق في قراءة منشور يتضمن وقائع حصر ارث’.

أصر أحمد على أن حياته فقط من فصلين: طفولة سعيدة سحقتها النكبة ودمرت ذكرياتها الجميلة عندما بلغ سن العاشرة، وفصل آخر يمتد منذ 62 عاما ولا يعني له شيئا وقد عايش فيه كل تقلبات الاحتلال وأوجاعه المؤلمة:’كل ذكرياتي الجميلة مرتبطة بطفولتي المبكرة وتشكل حقيقة عالمي الشخصي حتى اليوم، وأستمد منها ما يشحذ أشعاري وكتاباتي، وغالبا ما تعود ذاكرتي للوراء لتلتقط صورا للعلاقة الحميمة بين مدينة حيفا التي ترعرعت فيها ومنازل أفراد العائلة الكبيرة في قرى مصمص واللجون وأم الفحم حيث البساتين التي يمتلك بعضها أعمامي’.

أنهى دراسته في بلدة أم الفحم ثم تابع دراسته الثانوية في الناصرة:’أنهيتُ دراستي الثانوية العام 1960 وتعينتُ لمدة عام كمعلم إضافي أتنقل من مدرسة إلى أخرى في مدارس أم الفحم، المشيرفة وزلفة، وبقيتُ في سلك التعليم حتى التقاعد القسري عام 1989′.

غادر التعليم عقب ‘اتفاق صفقة’، حسب تعبيره، مع وزارة المعارف الإسرائيلية على خلفية مشكلة بخصوص مجموعته القصصية التي أصدرتها له جمعية الصوت تحت عنوان ‘الوجه والعجيزة’. اعتبر مسؤول في وزارة المعارف مجموعته القصصية ‘تحريضا على دولة إسرائيل’ وبدأ إجراءات لعزل مؤلف أحمد من وظيفته:’طلب مني المسؤول الإسرائيلي نسخة من الكتاب، رفضتُ توفيرها له. تطورت القضية وتواصلت المواجهات الكتابية مع وزارة المعارف على مدار فترة من الزمن، حتى قيام مجموعة من مفتشي المعارف بالتوسط وعرضوا علي صيغة للتقاعد من الوظيفة، وقد حصلتُ على تقاعدي بكامل شروطي’.

أصدر أول ديوان شعر عام 1978 بعنوان ‘زمن الخوف’ ونشر فيه مجموعة متميزة من أشعاره الوطنية وقصائد رثاء لشخصيات وطنية. أصدر بعد ذلك ديوان ‘ترنيمة الرب المنتظر’ وروائية شعرية بعنوان ‘الخروج من الزمن الهجري’ وأصدرت له مؤسسة كنعان ديوانه الشعري ‘بالحزن أفرح من جديد’ وأصدر كتابا بعنوان ‘قراءات في ساحة الإعدام’ وأكمل تجميع رسائله للشاعر الراحل محمود درويش لإصدار قريبا في كتاب. وللشاعر أحمد قصائد متناثرة ومنشورة بشكل منفرد وفي مواقع مختلفة يمكن تجميعها في دواوين شعر عديدة.

اعترف أحمد أنه لم يواظب على الكتابة بصورة مستمرة إلا بعد رحيل شقيقه الشاعر راشد حسين في نيويورك العام 1977. ولد راشد عام 1936 في قرية مصمص باعتباره البكر الأول للأسرة، تعلم في مدارس حيفا الابتدائية ثم تابع دراسته عقب النكبة في أم الفحم وأكمل تعليمه في مدينة الناصرة قبل أن يغادر فلسطين العام 1964 ويعيش متنقلا بين لبنان وسوريا والولايات المتحدة الأميركية:’استشهد في نيويورك اثر حريق داهم شقته أثناء نومه فأختنق من الدخان، وبعد جهود مضنية على مدار أيام، سمحت سلطات الاحتلال بدفن جثمانه في مقبرة بلدته مصمص’.

برز راشد حسين كشاعر للمقاومة مطلع الستينات، وكان محررا للصحيفة الناطقة باسم ‘حركة الأرض’ قبل أن تتعرض للمساءلة واعتقال قياداتها ومطاردة كوادرها. أصدر راشد ديوانه الأول ‘مع الفجر’ وجاء ديوانه الثاني بعنوان ‘صواريخ’ وأصدر ديوانه الثالث عقب مغادرته فلسطين وجاء تحت عنوان ‘أنا الأرض لا تحرميني المطر’ فيما أعادت لجنة إحياء تراث راشد حسين إصدار ديوانه الأخير بإضافة بعض قصائده المكتملة التي كتبها في المنفى قبل رحيله:’أجمل قصائد محمود درويش كتبها في رثاء راشد حسين بعنوان كان ما سوف يكون. كانت علاقة وطيدة جدا وقديمة تجمعهما، كان الشاعران يشاركان معا في الأمسيات الثقافية والاجتماعات الجماهيرية، ولا زلتُ أذكر جملة عابرة لدرويش يختصر فيها العلاقة بينهما في تلك المرحلة: راشد كان شاعرا تلميذا وكنتُ تلميذا شاعرا’.

قبض درويش في قصيدته كان ما سوف يكون على الجمر وهو يستعيد صور صديقه الراحل راشد حسين:

”منذ عشرين سنهْ

وأنا أعرفه في الأربعينْ

وطويلا كنشيد ساحليّ , حزينْ

كان يأتينا كسيف من نبيذ . كان يمضي كنهايات صلاه

كان يرمي شعرَه في مطعم ‘ خريستو’

وعكا كلها تصحو من النوم ِ

وتمشي في المياه

وجاء في مقطع رثائي آخر:

ابن فلاحين من ضلع فلسطينَ

جنوبيّ

نقي مثل دوري

قويّ

فاتحُ الصوت

كبير القدمين

واسع الكف . فقير كفراشه

أسمر حتى التداعي

وعريض المنكبين

ويرى أبعد من بوابة السجن

يرى أقرب من أطروحة الفن

يرى الغيمة في خوذة جنديّ

يرانا , ويرى كرت الإعاشة .

وبسيطٌ .. في المقاهي واللغة

ويحب الناي والبيرةَ

لم يأخذ من الألفاظ إلا أبسط الألفاظ

سهلا كان كالماء.

بسيطا كعشاء الفقراء .

واختتم درويش قصيدة رثائه الطويلة:

يهذي خارج الذكرى : أنا الحامل عبءَ الأرض,

والمنقذ من هذا الضلال . الفتيات انتعلت روحي

وسارت . والعصافير بنت عشاً على صوتي وشفتني

وطارت في المدى ..

لم يتغيّر أيُّ شيء

والأغاني شردتني شردتني

ليس هذا زمني .

لا . ليس هذا وطني

لا ليس هذا بدني .

كان ما سوف يكونُ.

فضحته السنبلة

ثم أهدته السنونو

لرياح القتلهْ

سجل أحمد خلافا فكريا مع الشاعر محمود درويش، وفرق بينهما الاتجاه السياسي والرؤية الأيديولوجية، في حين اقترب أحمد من الفكر القومي العربي وأبدى تأييدا لحركة الأرض التي تأسست مطلع الستينات لمواجهة الاحتلال، أيد درويش رؤية الحزب الشيوعي الإسرائيلي بالتعايش اليهودي العربي على أرض فلسطين:’عندما أصدر درويش ديوانه الأول عصافير بلا أجنحة، عرض المذيع عرفان أبو أحمد لتقديم مراجعة في برنامج ثقافي كان يشرف عليه في الإذاعة الإسرائيلية. قدمتُ نقدا للديوان في تسجيل إذاعي بمنزل في مدينة حيفا، تناولت فيه مدى تأثر درويش بمجموعة من الشعراء العرب وخاصة نزار قباني. غضب درويش بشدة، التقينا في حيفا وحاولنا حل المشكلة، لكنه ظل على موقفه غاضبا وغادر البلاد وبقينا على خلاف. بعد عودته في أعقاب اتفاقيات اوسلو، أصدر مجلة الكرمل الثقافية الفصلية، وهاتفني من أجل إعداد ملف يتناول نتاجي الأدبي، جهزتُ النصوص وأرسلتها، لكنها لسوء الحظ لم تصل رام الله وضاعت في الطريق. اتصل مرة أخرى منفعلا لمراجعتي بمضمون نقدي للرثاء الذي كتبه عن الراحل اميل حبيبي، وجاء نقدي تحت عنوان تأبين النص في نص التأبين. رحل درويش دون أن نلتقي وقد رثيته بنص نثري قصير سجل له موهبته الإبداعية الفذة وبراعته المتميزة في بناء القصيدة، وتمنيتُ أن يدفن في مسقط رأسه البروة قرب عكا، لكن من يقنع المؤسسة الفلسطينية التي عثرت على شهيد تفتخر به ويوفر لها مصدرا للرزق الثقافي والسياسي؟. كتبتُ ثلاثة نصوص خاصة بالشاعر درويش، وقد جاءت بصيغة رسائل تنبض حزنا على شاعر بحجمه لم يصعد إلى أعلى سقف بقضية شعبه، وأفكرُ جديا بإصدار النصوص الثلاثة: رسالة على زجاج النافذة، أنت كما تبدو الآن وتأبين النص في نص التأبين ضمن كتيب خلال الفترة القصيرة القادمة’.

اشتبك أحمد حسين عبر المقالة والقصيدة والمواجهة المباشرة مع كبار أدباء وشعراء الحزب الشيوعي الإسرائيلي على قاعدة مطالبتهم بالحقوق المدنية لفلسطيني 48 في حين أن حقوقهم وطنية قومية تستهدف حقهم في التخلص من المحتل والعودة إلى قراهم المدمرة. خلقت له رؤيته السياسية والأدبية المتداخلة في نسيج البُعد القومي العربي والماركسي العلمي، معسكرا من الخصوم في الوسط الثقافي العربي المرتبط بالحزب الشيوعي، بل تعرض لمحاصرة قاسية في محاولة جادة لتهميشه وإبعاده قسرا عن الحياة الثقافية المتمركزة حول مؤسسة الحزب الشيوعي الإسرائيلي في الوسط العربي:’الحقوق المدنية شكل من أشكال التطبيع مع المؤسسة الصهيونية وتستهدف الاندماج بدولة الاحتلال، في حين أن العلاقة مع مؤسسات الكيان علاقة جدلية جوهرها النفي المتبادل، وتتطلب هذه الرؤية من مثقفي المقاومة وشعرائها التمسك بكل ذرة تراب وعدم التفريط بها، وليس التطبيع والتزييف وبلوغ أسوا درجات الاشمئزاز بالموافقة على المقاومة بالأجر وقبول تسلم راتب تفرغ سنوي من مؤسسة دولة الاحتلال. أحترم جدا الشاعر الراحل توفيق زياد رغم خلافي السياسي معه، وقد تجادلنا منذ زمن طويل في مقر الأمم المتحدة في نيويورك حول وقائع القضية الفلسطينية، وتوفيق فلسطيني صميم يهتم بعروبته قبل كل شيء لكن ظرفا خاصا حكم بقائه مع سياسة الحزب الشيوعي، وأعتقد أن الصدق في موقفه الوطني كان يعوض النقص في البناء الفني لقصيدته. لكن اميل حبيبي ليس روائيا ولا يمتلك مهارة البناء الفني للرواية، وهو قارئ تراث بامتياز ويجيد اللغة العربية وقارئ ماهر للجاحظ، وكاتب لوقائع اليوميات السياسية، وتمكن من جمع هذه الخيوط وأضاف لها رتوشا ليسجل فيها رواياته، وقد تلقفها العرب باعتبارها أسطورة إبداعية’.

منذ عامين تعرض أحمد إلى جلطة دماغية شلت طرفه الأيسر لكنها عجزت عن هزيمة الشعر العذب في قلبه، وقد غرقت صوره الشعرية في بحر واسع تنهل منه عسل الغزل، ولمعت آخر قصيدة طويلة فوق بحر الغزل وقد رشقها بدم قلبه تحت عنوان ‘عشق’ وجاء في مقطع منها:

من قصيدة ‘ عشق ‘

1

راحلة ً كالسحابةَ

لا شيء يوقفها غير موتي .

سمعتُ انكسار خطاي

على صخر غيبتها :

لا غيابَ

إذا لم يكن أحد بانتظاركَ

كل الملاحم تبدأ من مولد الراوية .

صغيرٌ هو الموت ُ

أكبر منه انكسار الثكالى على الميت ِ

لكنه قارب مثقل بطقوس الوداع ِ

وميناؤه آخر الوهم ِ

لاشيء إلا رحيل السحابة صيفا ً

على عطش الماء في الساقية .

أطيل مكوث رحيلك بالوهم ِ

أحيا لأحمل موتك ِ

ماذا أريدُ

سوى أن يطول ابتعادك عني

ليقترب القرب أكثرْ ؟

ولست الوحيد الذي يحمل النعش َ

لكنهم يسرعون إلى القبر ِ،

حين يطول الرثاء

تصير الجنازة أقصرْ .

وهذا أوان الرجوع إلى الكهف ِ

طال مكوث الجنازات فينا

يقولونَ :

في دمنا تستحم المدارات ُ

يصحو عليه الصباح ُ

ويغفو المساء ُ،

ونسهر نحن على صيفه ِ

من يعزي الثكالى سوى الثاكلين َ ،

سنمحو دماء العصافير ِ

عن صدر هذا العذاب الطويل ِ

لقد خذلتنا الحكاية ُ

حتى دماء الشهيد الأخيرْ .

وأنت فلسطين ُ

أرض المعاصي النبيلة ِ

لؤلؤة الروح فوق جبين الحكاية ِ

تعطي القلوب التي عشقتْ وجهها

زينة للجياد التي عشقتْ ليلها

فأي سماء وأي نبي وأي امرأة !

وأية خمر بدون كؤوس ٍ

تدار على صدرها

ليلة َالراحلين َ

يديرون كأس الخلاص على الميتين !

هي الجسد الروح ُ

قُدْس الخطيئة في شارع الأنبياء الطويلِ

إلى الخمر والخبز والفاكهة ْ

ولحم القرابين فى مخدع الله ِ

يغسل كل خطايا الجسدْ

بماء تعمدت ِ الروح فيه ِ

وأعطتْ طفولتها للخراف التي

أرضعتها الذئاب أمومتها في المعابد ِ

تغرس أنياب طِيبتها في الجياع ِ

فمن علم الروح حب الدماء ِ

سوى الجوع ِ،

منذا تُرى

علم الجوع أكل الجياع ؟

ومن قصيدة ‘عزف منفرد ‘

متى كان ها الصباح جميلا ، وكنت أنا

سيدا للرعاة الذين يمدون قطعانهم في

الحكاية نحو العشاء الأخير ، ومن أين

جاء الرعاة الذين يعدون أغنامهم

كالنقود ، ولا يحسنون الصلاة لرب

المراعي ؟

ومن قصيدة ‘رباعيات الغياب ‘

لا مفرَّ من البَنَفسَجِ

راحلونَ إلى الأبدْ.

هذا المساءُ ملاءَةٌ

لسريرِ عاشِقَةٍ تنام لوحدِها .

ما كُلُّ اُمسيَةٍ جوادٌ

بعدَ هذا اليوم يصهَلُ في الحنينِ

ولا بلدْ.

تبدو الحِكايَةُ عندَ آخِرها نٌعاسْ .

هل يترُكُ الراوي القتيلَ على الدماءِ

بدون مرثِيَةٍ

كانّا لَم نَكُن وَطَناً

عَلى الدُنيا وناسْ !!

من كل ناحيةٍ أتََوْا

شيباً وشبّاناً وأطفالاَ

ومَنْياً للحُروبِ القادمه .

ولكُلِّ ناحيةٍ مَضَوْا

شيباً وشبّاناً وأطفالاَ

ومَنْياً للنُزوحِ

على ملاءات السرير الناعمة .

لا شيءَ أجمَلُ منكِ

وَيلُ العاشقينَ من الغيابْ

إنَّ الذين عََرَفتِهمْ

ماتوا على خَشَبِ المنافي

لم يَعُد حتى التُرابُ

إلى التُرابْ .

بقلم بسام الكعبي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة