[ريتّا] وزجاجةُ الفَرَحْ بقلم خالد جمعة
تاريخ النشر: 25/03/15 | 1:32الزُّجاجاتُ الكثيرةُ المصفوفةُ في السوبر ماركت الغريب في آخر شارع بيت [ريتّا]، كانَ مُزدَحِماً في ذلكَ اليوم، لهذا عادتْ [ريتّا] بالنُّقودِ أكثرَ من مرّة إلى أمِّها لأنَّها لم تستطع الوصولَ إلى داخل السّوبر ماركت، فقد كانَ الغدُ يومَ العيد، والنّاسُ تشتري الفرح من السوبر ماركت الذي يبيع الأحاسيسَ والتصرّفات في زجاجاتٍ مُلوّنةْ.
وقد تسألون، ولماذا لم تشترِ أمّ [ريتّا] الفرحَ في اليوم السّابق قبلَ أن يزدحِمَ النّاسُ على بابِ السوبر ماركت، في الحقيقة أنّ أمّ [ريتّا] كانت تعرفُ أن السوبر ماركت سيكونُ مزدحماً وهي فعلاً اشترت كمية من زجاجات الفرح، لكنّ زوجَها عادَ من العمل حزيناً لأن صديقَهُ كانَ مريضاً جدّاً، فأعطَتْهُ الزُّجاجاتِ التي اشترتْها كيْ يفرَحَ، لأنَّها لم تكن تحبُّ رؤية زوجِها أو ابنتِها في حالة حزن، ولأنَّ زوجَها كان حزيناً جدّاً فقد شربَ كلَّ الزُّجاجات التي كانت أعدّتها ليوم العيد.
وهناكَ سببٌ آخر طبعاً، وهو أنَّ [ريتّا] وأمَّها لا يحبّان الفرح القديم، بل يحبّان الفرح طازجاً، لهذا فقد كانا يفضّلانَ شراءَ الفرح قبلَ استعمالِهِ مباشرة، لأنّ طعمَهُ يختلفُ حين يكونُ قديماً.
بعدَ أن ذهبت [ريتّا] إلى السوبر ماركت أربع مرّات، استطاعتْ أخيراً أن تصلَ إلى الرّفوف في الدّاخل، غضِبَتْ حينَ اكتشفت أنّهم غيّروا مكانَ زجاجاتِ الفرح، فكانَ عليها أن تفحَصَ كلّ الرفوف كي تكتشفَ أين وضعوها، لأنَّ عمّال السوبر ماركت كانوا مشغولين ولا يستطيعون الإجابة عن الأسئلة من كلّ الزّبائن.
حمَلَتْ [ريتّا] سلّةً صغيرة وبدأت رحلَتَها في السوبر ماركت، وأوَّل ما شاهدته كانّ رفَّ الزّجاجات الخضراء المعبّأة بالبكاء، وهي تتذّكر أنّ صديقتَها كانت تحملُ دائماً زجاجة بكاء صغيرة في حقيبتها، كانت تستعملها كلما سألتها المعلّمة عن الواجبِ المدرسيّ، وطبعاً هناك بعض النّاس يستعملونَه في الجنازات حين يموت أقاربهم، أمّا الزّجاجات الصّفراء في الرّف العلوي فكانت زجاجات الحقد، وفي الحقيقة لم تكن [ريتّا] تفهم لماذا يمكن أن يشتري شخص زجاجة حقد، إنّ النّاس غريبون فعلاً.
ورأت وراء الرفّ الذي تقف أمامَهُ ولداً يسرقُ زجاجةَ ضَحِكٍ ويشربُها قبلَ أن يكتشفَهُ صاحبُ السوبر ماركت، لكنّهُ كان ولداً غبيّاً، لأنّهُ بمجرّدِ أن شربَ قليلاً من السّائل الأبيض، أخذ يضحكُ بشكل غير معقول، وهذا طبعاً لأنّ الزّجاجة التي فتحها كانت مخصصة لضحك الكبار، فلم يتحمّلها جسدُهُ الصّغير، فكادَ يختنِقُ من شدّةِ الضَّحك حتّى أن [ريتّا] ابتسمت من منظرِه وهو يتمرّغُ على الأرضِ ويرفعُ قدميهِ في الهواء، وبسرعة عرف العاملون في السوبر ماركت السّبب، فأحضروا زجاجةَ هدوء وأجبروهُ على أن يشربَ ملعقتين من الهدوء حتى يعود إلى حالتِهِ الطّبيعيّة.
واصلت [ريتّا] المشيَ وهي تنظرُ إلى الرُّفوف، زجاجات رقص، زجاجات جوع، زجاجات جنون، زجاجات اكتئاب، زجاجات متعة، لكنّها لم تجد زجاجات الفرح التي تبحث عنها، ويبدو كأنَّ النّاس اشترتها كلّها، لكنّها لم تيأس، بل واصَلَت البحث، لأنّها فكّرت أنّ البائع قد يكون قد وضعَ زجاجاتِ الفرحِ في آخر السوبر ماركت لكي يمرَّ النّاسُ على كلِّ الزّجاجات وَيَرَوْها قبل أن يصلوا إلى زجاجات الفرح، لأنها الأكثر مبيعاً، وهذا ما كانت ستفعله هي لو أنها كانت صاحبة السوبر ماركت.
حينَ مرّت بجوار زجاجات نسيان الأحزان، قرّرت أن تشتري واحدة وتهديها لمعلّمتها، لأنَّ ابنَها وابنتها سافرا ليكملا تعليمهما في بلادٍ أخرى، فكانت حزينة دائماً منذ أن سافرا، وهي تحبّ معلّمتها كثيراً خصوصاً من يومِ أنْ دعتها على حفلة نجاحِ ابنِها، ويومَها تذوَّقت [ريتّا] لأوَّل مرّة شرابَ السّعادة وشراب الاستمتاع بالموسيقى، وكثيرا من المشروبات الأخرى التي جعلتها تحسُّ بالسّعادة ولم تكن تعرف أسماءَها.
وكما توقّعت [ريتّا] فعلاً، وجدَت زجاجات الفرحِ في آخر رفٍّ في السوبر ماركت، لم تبق سوى أربع زجاجات، لكنّها على أيّ حال لم تكن تحتاج أكثر من أربع زجاجات، فهذا يكفيها، فأخذت تتناولُ الزُّجاجاتِ وتضعُها في سلّتها، وفي تلك اللحظة، وقفت بجوارِها امرأة عجوز، تمسك بيدها صبيّا صغيرا لم يبدُ عليه أنَّه تجاوز السَّادسة من العمر، وأخذت المرأة تنظر إلى الزُّجاجات في يدِ [ريتّا] وهي تضعها في السّلة، بينما بقيّة الرّف خالٍ من زجاجات الفرح، ولمحت [ريتّا] دمعة تترقرقُ في عينِ السّيّدة العجوز.
سألتها [ريتّا]: لماذا تبكين يا خالتي؟
مَسَحَتْ العجوزُ دمعَتَها بطرف كُمِّ ثوبِها، وشعرَتْ بالخجَل لأن [ريتّا] رأتها وهي تبكي، لكنها قالت: آسفة يا ابنتي، لكنّي أسكنُ في قرية بعيدة، لهذا تأخرتُ في القدومِ إلى المدينة، وبحثتُ عن زجاجات الفرح في كل سوبر ماركت قابَلْتُهُ، وهذا كان المكان الأخير الذي سأبحثُ فيه قبل أن أعودَ إلى القرية، لأن آخر المواصلات سيعود بعد عشر دقائق. سألت [ريتّا] بدهشة وهي تنظرُ إلى الولد الذي كانَ صامتاً طوال الوقت: وهل أنت حزينة إلى هذا الحدّ لكي تبحثي عن زجاجات الفرح بكل هذا الإصرار؟
قالت العجوز: ليس من أجلي يا ابنتي، هذا الولدُ هو حفيدي، وهو يتيمٌ، ولم يفرَحْ منذ العام الماضي، وكنت أريدُهُ أن يفرح في العيد.
مدّت ريتا يدَها بالسلّةِ إلى العجوز، ولم تعطِها فرصةً لأن ترفض، وقالت: في الحقيقة إنَّ عندنا في البيت زجاجات فرح كثيرة، لكنّي اشتريت زجاجاتٍ أكثر لأنّي توقّعت أن يأتينا ضيوف غداً، قالت [ريتّا] هذا وذهبت إلى الصّندوق ودفعت ثمن زجاجة نسيان الأحزان وعادت إلى البيت.
في الواقع، لقد كانت ريتّا خائفة من تأنيب أمّها حين تعودُ إلى البيت، لكنّها مع ذلك أخبرت أمَّها بالحقيقة، وكان أبوها جالساً يشاهدُ مسلسله المفضل: دودة بثلاث عيون، فتركَ أبوها المسلسل ووقف إلى جوارِ أمّها ومدّ الأبوان أيديهما واحتضنا [ريتّا] بحبٍّ كبير، وقالَ أبوها وهو ينظرُ إليها بسعادة: وأي فرحٍ أكبر من أن أرى ابنتي تمنعُ الفرحَ عن نفسِها كي تجعل الآخرين يفرحون؟ في الحقيقة أن ما فعلتِهِ اليوم، يساوي عندي شربَ صندوق زجاجات فرح كامل.
في تلكَ الليلة لم تكن [ريتّا] بحاجة إلى أن تشرب جرعةً من زجاجة الأحلام الجميلة، فبدون هذه الجرعة ظلت [ريتّا] تحلم أحلاماً ساحرةً حتّى الصّباح.
بقلم خالد جمعة