إستراتيجية عظمى لتحقيق الحلم الصيني

تاريخ النشر: 26/12/14 | 9:59

الكتابة عن الصين متعة لا تعادلها إلا متعة الكتابة عن أشخاص نحبهم واشتقنا لهم أو أشياء نتعلق بها وهي ليست معنا. أليست متعة الكتابة عن دولة كانت على امتداد ثمانية عشر قرنا الاقتصاد الأقوى في العالم، قبل أن تتكالب عليها القوى الغربية، لتفتك بها وتذلها كما لم تذل دولة أو أمة أخرى.
هذه الدولة، أو هذه الأمة، خرج كبراؤها قبل أيام ليعلنوا أنهم انتهوا من التخطيط لتحقيق هدفين «مئويين»، هدفان يتحققان في قرن واحد. أولهما يتحقق في العام 2020 عندما يصل دخل الفرد الصيني إلى مستوى متوسط دخل الفرد في المجتمعات المتقدمة، وثانيهما يتحقق في العام 2050، عندما يصير الاقتصاد الصيني الأكبر في العالم. عندئذ يحق للصين أن تستأنف مسيرة، يعتقدون أنها خالدة.
كانت الأسابيع الأخيرة حافلة بكل ما يهم المتابع للشأن الصيني. فللمرة الأولى وأمام ألوف الخبراء المهتمين بتطور الصين، أعلن الرئيس «شي»، التخلي عن الالتزام بحكمة قائد الانفتاح ومشيد الدولة الحديثة الرئيس دينغ تشاو بنغ. كانت الحكمة أو بمعنى أدق «الوصية» تقضى بأن يسلك حكام الصين من بعده سلوك التواضع في السياسة الخارجية وعدم الاستعجال في بناء الدولة لتصبح الدولة الأعظم اقتصادا. لم يؤمن الرئيس دينغ بضرورة التدخل بقوة أو بسرعة لتنفيذ خطط التنمية والانطلاق، بل اختار العمل بقاعدة اتركوا المياه تتدفق وتسلك مساراتها التي تراها مناسبة حتى تتساوى كل المستويات، وحتى تصل إلى مستواها الذي تستحقه وهو الذي تفرضه الطبيعة والتاريخ وإرادة التغيير.
ولأول مرة، خلال عقود عديدة، يخرج خبراء وسياسيون من الحزب الشيوعي الصيني ليؤكدوا بشكل أو بآخر، أنهم اقتنعوا بأن حملات التوعية والتوجيه التي كانت محل فخر الحزب الشيوعي الصيني بين أقرانه من الأحزاب الأشهر في العالم، لم تعد مجدية. السبب ببساطة شديدة وبحسب رأي المنظرين في الحزب، هو أن «المواطن تغير». هذا المواطن، وربما ليس في الصين فقط، له مطالب ومنشغل بقضايا ومؤمن بأفكار ويلتهي بممارسات وتفضيلات، كلها تختلف عن مثيلاتها عند مواطن الأربعينيات من القرن السابق، أي مواطن في مرحلة قيام الدولة الحديثة، وعند مواطن الستينيات، أي مواطن مرحلة الثورة الثقافية، بل وحتى مواطن التسعينيات. لم تعد ممكنة، مهمة إقناع الإنسان العادي بأن الحزب الشيوعي الصيني شريف ونظيف، ولكن يمكن إقناع هذا المواطن بأن هذا الحزب ما زال قادرا على تلبية مطالبه اليوم وطمأنته على مستقبله ومستقبل أولاده، وما زالت لديه الكفاءة لصياغة «الحلم الصيني» وتحقيقه.
ولأول مرة، على امتداد ثلاثين عاما، يعلن في الصين عن بدء مرحلة التغيير الجذري في توجهات الاقتصاد الصيني من مرحلة الانتاج للتصدير إلى مرحلة الانتاج للاستهلاك. بمعنى آخر، لن يجري تعريف الصين بعد اليوم بالمصنع الكبير حيث العمال بالملايين ووظيفتهم إنتاج سلع تستهلكها شعوب أخرى. من حق الصينيين الآن أن يحصلوا على مكافأة مناسبة لجهود الثلاثين عاما، هذه المكافأة هي الاستمتاع بما ينتجون. هذا التحول في العقيدة الاقتصادية للصين يعني أيضا أن المسؤولين الصينيين صاروا على ثقة من أن الصين قادرة على أن تحقق في العام 2020 أول هدف من هدفي القرن وفي العام 2050 الهدف الثاني، والأعظم.
انطلق المؤتمر وكان يضم خبراء وباحثين وأعضاء مراكز للعصف الفكري وسفراء حاليين وسابقين وأساتذة علاقات دولية وممثلي شركات كبرى ومصالح اقتصادية قوية. كان انعقاده فرصة للاستماع إلى وجهات نظر متعددة في السياسة الخارجية، وفرصة أكبر للحصول على «توافق وطني عام» على الخطوط العامة للسياسة الخارجية للصين في المرحلة القادمة. وقد أرسى المؤتمر وخطاب رئيس الدولة، أسس ومعالم الاستراتيجية العظمى التي اخترت منها النقاط التالية:
أولا، انتهاء العمل بتوجيه الرئيس دينغ تشاو بنغ، والبدء فورا بوضع سياسات أقل تواضعا وأخذ قرارات أشد حسما وحزما. نجحت توصية الرئيس دينغ وحققت أغراضها فتغيرت الصين وصعدت إلى مرتبة أعلى تستحق عندها رؤية جديدة.
ثانيا، لن تكون التنمية الاقتصادية هدف السياسة الخارجية كما كانت خلال مرحلة النهوض. أهداف السياسة الخارجية يجب من الآن فصاعدا أن تتجاوز تحقيق نسب نمو أعلى، إلى تحقيق «الحلم الصيني» بتغيير سمعة الصين من مجتمع ينتج للتصدير إلى مجتمع ينتج ليستهلك ويسعد ويعيش المستوى الأفضل.
ثالثا، هذا التغيير في الأهداف يتطلب تغييرا مماثلا في الجوهر والأدوات والأساليب. السياسة الخارجية الصينية ستعتمد منذ الآن على أساليب صينية وأدوات صينية وأفكار صينية، لذلك تقررت زيادة استخدام القوى الناعمة الصينية. كثيرون في الصين لم يؤمنوا عبر القرون بأن ثقافتهم «عالمية»، ثقافة تستعصي على التبشير بها أو الترويج لها. ساد هذا الاعتقاد في عصور كان المفكرون وبخاصة «البيروقراطيون الماندرين» يعتقدون أن الصين هي العالم، وما يقع خارج حدودها هو خارج الحضارة وبعيد تماما عن فكر الصين وثقافتها.
خلال النهوض وتوسع الأسواق، أي خلال تجربة السنوات القليلة الماضية، اتضح أن اللغة الصينية صارت في بعض بلاد العالم اللغة الأجنبية الأولى. انتشرت معاهد «كونفوشيوس» الثقافية تنافس وتتفوق في بعض الأحيان على «المجلس البريطاني» و»الاليانس فرانسيز» و»جوته» و»ثيرفانتس»، التي تروج للثقافات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية على التوالي. للصين الآن ثلاثمئة معهد، وتقضي الاستراتيجية الجديدة بزيادتها إلى 1000 معهد حول العالم.
رابعا، اتضح ميل الاستراتيجية الجديدة نحو رفض سياسات الأحلاف، وإقرار مبدأ الشراكات بديلا للأحلاف. كانت الصين مثل معظم الدول النامية ضحية سياسات الأحلاف، ولا شك أن قادتها لن يغفروا للغرب حصاره الاقتصادي الطويل للصين الشعبية والأذى الذي لحق بشعبها. في الوقت نفسه، يدرك المسؤولون الصينيون حقيقة أخرى، وهي أن إقامة الأحلاف سياسة كلفت الدول العظمى الكثير، ماديا ومعنويا. يكفي النظر إلى مجمل ما تكلفته الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي من أموال ومصالح ومصادر قوة وإمكانات بشرية من أجل المحافظة على أحلاف عسكرية وسياسية تأتمر بأمرها.
خامسا، تحددت أمور خمسة غير قابلة للتغيير، أو بمعنى أدق، تحرص الصين على ألا يمسها التغيير وهي:
ــ السعي الدائم من جانب الصين لتشجيع الدول الكبرى والناهضة على إقامة نظام دولي متعدد الاقطاب.
ــ العولمة مسيرة مستمرة، ولن تتوقف، ولا يجب أن تتوقف.
ــ السعي المتواصل والمتصاعد من ناحية الصين لإصلاح مؤسسات النظام العالمي الراهن.
ــ لا أمل كبيرا في أن يحدث تغيير جذري في الوضع الإقليمي المحيط بالصين، ولا تفكير أو سعي لتغييره.
ــ إصرار متجدد على المحافظة على إقليم آسيا ــ الباسيفيكي، متمتعا بالسلام.
سادسا، ترتب الصين في استراتيجيتها الجديدة مواقع الدول في اهتماماتها الخارجية بحسب الجدول الآتي: دول الجوار، أي اليابان والهند واستراليا ودول جنوب شرق آسيا وروسيا، وبعدها تأتي القوى الدولية الكبرى، مثل أميركا وبريطانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي وألمانيا. تليهما دول العالم النامي، وهذه تستعد لها الصين بآليات جديدة وخطط لبناء مؤسسات «دولية» مختلفة عن المؤسسات القائمة.
سابعا، بالنسبة للشرق الأوسط، يبدو أن مزاج الحرص والحذر قد تغلب على كل إغراءات التدخل للمساهمة في حل مشكلات الإقليم. واقع الأمر، من وجهة نظري، هو أن الصين مصابة بما يشبه «شيزوفرانية ديبلوماسية»، فالشرق الأوسط هو الإقليم الأكثر أهمية اقتصادية كمصدر للطاقة التي تحتاجها الصين، وفى الوقت نفسه، هو الإقليم الأشد توترا ومشكلاته هي الأعقد والأصعب والأخطر، وخبرة الصين فيه محدودة. وربما كان أحد أهداف التركيز على مشروع طريق الحرير في الاستراتيجية الصينية الجديدة هو الالتفاف حول حالة اللامبالاة الصينية تجاه تفاصيل مشكلات الشرق الأوسط، ومحاولة خلق «شراكات» في الإقليم ترفع عن الصين عبء التدخل في مشكلات المنطقة.
لا أحد، في الصين أو في الغرب وفي روسيا، غافل عن حقيقة أن الصين لن تفلح في إقناع العالم الخارجي بأن وصولها إلى مقاعد القيادة الدولية لن يجعلها دولة عظمى، بالمعنى السيئ للكلمة. لقد كان الرئيس أوباما الأسرع بين زعماء الغرب لتوجيه النصح إلى الصين، وأظن أنه صادق في نصيحته، وفي تحذيرها من أن رئيسها «شي» يسرع الخطى بأكثر مما كان متوقعا ومما تعود عليه العالم الخارجي. أميركا ودول كثيرة تخشى الصعود المتسارع للصين. وأظن أن هذه الدول تتابع بدرجة الاهتمام ذاته «الاستراتيجية العظمى» التي ينتهجها الرئيس أوباما أيضاً، وهدفها أن يرسو بالسفينة الأميركية بسلام وهدوء، بعد رحلة قرابة القرنين من التوسع والازدهار والقيادة الدولية.
أتصور أنه من المفيد قراءة خطاب الرئيس الصيني في المؤتمر الثاني للسياسة الخارجية الصينية على ضوء السياسات الأميركية الراهنة. فالرئيس الصيني يبدو كمن يحاول مساعدة أوباما ليكون انحدار أميركا متدرجا وهادئا وسلميا. على الجانب الآخر يبدو الرئيس الأميركي كمن يحاول إرشاد القيادة الصينية لتتجنب تسريع صعود بلادها. الكل يدرك حق الإدراك أن التاريخ حافل بالأمثلة عن كوارث تسبب فيها سقوط مفاجئ وعنيف أو صعود مفاجئ وعنيف لإمبراطورية أو قوة أعظم. الصين تعلم هذه الحقيقة، وأميركا أيضا، ونحن كذلك.
جميل مطر -السفير
mat

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة