البئر العجيبة
تاريخ النشر: 25/12/14 | 13:35يحكى أنه كان لامرأة بنتان، أحداهما دائمة العمل والابتسام، واسمها ” أمينة “، والثانية دائمة الغضب والصياح، اسمها ” جميلة “. وكانت أمينة المبتسمة النشيطة تساعد أمها دائماً في كل عمل. أما جميلة العابسة، فكانت كسولة تتهرب من أي عمل.
كانت أمينة تحلب الأبقار وتنظف البيت وتصنع الزبدة والجبن وتخبز الخبز وتغزل الصوف. أما جميلة فلم تكن تحلب أو تنظف أو تغزل أو تقوم بأي عمل. وإذا ذهبت أمينة إلى السوق أو إلى المدينة المجاورة لشراء بعض حاجات المنزل من طعام أو أدوات، كانت جميلة تترك البيت من غير تنظيف، ووعاء الخبز فارغاً.
وذات صباح، توجهت أمينة المبتسمة إلى البئر لإحضار ماء بالدلو وركعت على حافة البئر، ومالت بجسمها فوق فتحتها لتسحب الدلو إلى خارجها، لكنها مالت بجسمها أكثر مما يجب ففقدت توازنها، وسقطت في البئر. وأخذت تسقط وتسقط إلى أسفل وأسفل. فقدت المسكينة وعيها. فلما أفاقت وجدت نفسها راقدة فوق حشائش خضراء يانعة في حديقة واسعة، تغمرها أشعة الشمس المشرقة، وتمتلئ بآلاف الورود الحمراء. وكم دهشت أمينة عندما وجدت دلو الماء ممتلئا بجوارها.
وقفت الفتاة ونفضت العشب عن ثيابها، فشاهدت ممراً وسط الورود والحشائش. وقبل أن تخطو خطوة باتجاه الممر، سمعت الورد الأحمر يناديها ويقول: ” انتظري… العطش يقتلنا والماء بجوارك… امنحينا الحياة برش الماء علينا.”
تلفتت أمينة حولها، فوجدت الحديقة تمتلئ بآلاف الورود الحمراء، ومع ذلك لم تتردد في أن تستجيب لدعوة الورد الظمآن. رفعت الفتاة الدلو وأخذت تملأ كفيها بالماء وترشه على الزهور الحمراء. وتنتقل مبتسمة من مكان إلى مكان تروي ذلك العدد الهائل من الورد الأحمر.
وأخيرا فرغ الدلو من الماء، لكنها كانت قد منحت الماء لكل أزهار الحديقة. وعادت تتابع السير في الممر الذي كانت قد رأته، فسمعت الورد الأحمر يضحك ويقول: “ليجعل الله لوني الأحمر في وجنتيك ولا يجعله في عينيك!!”
سألت أمينة نفسها في حيرة: ” إلى أين سيؤدي بي السير في هذا الطريق؟ ” وفجأة رأت فرناً تشتعل النار في أسفله، وفي أعلاه عدد كبير من أرغفة الخبز الناضجة. ودهشت الفتاة إذ لم تجد أحدا بجوار الفرن … وزادت دهشتها عندما نادتها الأرغفة من داخل الفرن في رجاء: ” نرجوك … أخرجينا من هنا، وإلاّ احترقنا تماماً… لقد نضجنا من زمن طويل.”
عندئذ تقدمت الفتاة المبتسمة من الفرن وأمسكت بقضيب من الحديد وجدته بجواره، وأخرجت الخبز رغيفا بعد رغيف. ثم استأنفت سيرها.
عندئذ همس الفرن:” ليجعل الله لون قلب الخبز الأبيض في بشرتك ولا يجعله في شعرك. ”
واصلت الفتاة سيرها، إلى أن مرت بشجرة برتقال امتلأت أغصانها بالبرتقال الأصفر الكبير. ودهشت الفتاة لهذا العدد الكبير من البرتقال الناضج، وزادت دهشتها عندما نادتها شجرة البرتقال قائلة : ” أرجوك … هزّيني .. هزّي أغصاني من فضلك.. لقد نضج برتقالي من زمن طويل، وسيفسد إذا ظل فوق أغصاني.. ”
لم تتردد الفتاة المبتسمة، وهزت الشجرة، فتساقط البرتقال كالسيل. ثم استأنفت سيرها والشجرة تهمس : ” ليجعل الله لون برتقالي الأصفر في شعرك ولا يجعله في بشرتك.”
استأنفت الأخت المبتسمة سيرها، إلى أن وصلت إلى منزل صغير غريب الشكل تغطّي جُدُرَه مربعاتٌ بيضاء وسوداء، وقد أطلّت من إحدى نوافذه امرأة عجوز قبيحة الشكل. وعندما تطلعت أمينة إلى أعلى ورأت المرأة العجوز، ملأ الخوف قلبها، وأخذت تجري. لكن العجوز نادتها بصوت لطيف: ” لا تخافي يا ابنتي العزيزة. أدخلي منزلي، وتعالي نتحدث معا.”
ورغم القبح الذي كان عليه وجه العجوز، فقد بدت ملامحها بشوشة وصوتها يفيض طيبة ورقة، فزال خوف الفتاة، ودخلت المنزل. وعرضت العجوز على أمينة المبتسمة أن تعيش معها في منزلها وقالت لها: ” يمكنك أن تساعديني في أعمال البيت، واذا وجدت منك المعونة الصادقة، سأعاملك كأنك ابنتي الحقيقية.”
وافقت الأخت المبتسمة على أن تبقى في منزل السيدة العجوز.
قالت السيدة العجوز: ” يمكنك أن تقومي بكل أعمال المنزل. فإذا قمت بها بطريقة ترضيني فستجدين عندي كل ما تحتاجين إليه. وأهمّ ما أوصيك به أن تعتني بفراشي عناية خاصة. إن عظامي هشة رقيقة، وإذا لم يكن الفراش ليّنا مستوياً، فسيؤلمني جسمي ولن أستطيع النوم.”
أقبلت أمينة على العمل بأمانة وإخلاص بعد أن أحست بعطف السيدة العجوز وطيبتها وحلاوة حديثها. وأدّت الفتاة كل أعمال المنزل برضا وإتقان، خاصة تسوية سرير السيدة العجوز.
أعجبت السيدة العجوز بالطريقة التي كانت تسوّي بها الفتاة المبتسمة سريرها، كما أعجبتها طريقة الفتاة في القيام بكل أعمال المنزل, فعاملتها بكل حب وحنان، وأعطتها كل ما تريد.
هكذا عاشت أمينة أياماً سعيدة، ولم تسمع خلالها كلمة قاسية. ولكن بعد فترة من هذه الحياة الهانئة، أحست الفتاة بحنين إلى أسرتها وبيتها، فشعرت بالحزن والاكتئاب.
ورغم الفارق الكبير بين الحياة المريحة التي منحتها كل أسباب السعادة في بيت العجوز، وبين الحياة القاسية في بيت أمها، فقد ذهبت إلى السيدة العجوز وقالت لها: ” لقد لقيت منك كل معاملة طيبة أثناء إقامتي هنا. لقد عاملتني كأنني ابنتك، لكنني أشعر بحنين شديد إلى أمي وأختي، لذلك أرجوك أن تسمحي لي بالعودة إلى أهلي.”
قالت السيدة العجوز: ” يسرني أنك ترغبين في العودة إلى أهلك يا أمينة! أيتها الفتاة المبتسمة . إن هذا وفاء منك لهم. وما أجمل الوفاء للأهل والأصدقاء. كما كنت وفية لي وأمينة على خدمتي… هيا تعالي معي.”
أمسكت العجوز بيد أمينة وقادتها إلى المكان الذي وجدت فيه الفتاة نفسها بعد أن سقطت في البئر. والتفتت العجوز ناحية البئر وقالت: ” يا بئر … يا بئر .. اجعليها تلبس الذهب الكثير. يا بئر… يا بئر… اجعليها تلبس الحرير الكثير.”
وما إن قالت العجوز هذه الكلمات حتى وجدت الفتاة نفسها ترتدي ملابس فاخرة من الحرير الغالي، وانهمر فوقها سيل من قطع النقود الذهبية، التصقت بكل أجزاء الملابس الحريرية الفاخرة حتى غطّى الذهب الفتاة من قمة رأسها حتى أطراف قدميها.
قالت السيدة العجوز: ” هذا الذهب كله لك، خذيه معك. فهو المكافأة التي تستحقينها مقابل عملك معي ومساعدتك لي.”
وفجأة اختفت العجوز، ووجدت أمينة نفسها في الطريق بالقرب من دار أهلها. وما إن بلغت فناء البيت حتى رأت الديك يقف على السور. وعندما رأى الفتاة المبتسمة يغطيها الذهب، وقد أحمرّ خدّاها وابيضت بشرتها وأصفرّ شعر رأسها، صفّق بجناحيه وصاح : ” كوكو … كوكو .. لقد عادت إلينا فتاتنا الذهبية.”
دخلت أمينة إلى أمها وأختها وأخذت تحكي لهما ما حدث لها، وقالت: ” لقد عشت في بيت سيدة عجوز، عاملتني بكل حب وحنان. لقد اعتبرتني كابنتها. إن كل هذه القطع الذهبية هي مكافأتي على الخدمات التي قدمتها إليها. خذي يا أمي كل هذا الذهب وسنعيش به سعداء معاً.
عندما سمعت جميلة، الأخت العابسة قصة أختها، ورأت الثروة العظيمة التي عادت بها، أرادت أن يكون لها مثلها، وشجعتها الأم قائلة :” اذهبي أنت أيضا يا جميلة لتعودي بالذهب.”
انطلقت جميلة العابسة، وجرت إلى حافة البئر، ثم قفزت داخلها وحدث لجميلة ما حدث لأمينة. فعندما فتحت جميلة عينيها، وجدت نفسها فوق حشائش الحديقة الواسعة وسط الورد الأحمر وبجوارها دلو الماء. وكانت تريد أن تصل بأقصى سرعة إلى منزل السيدة العجوز، لكنها مع ذلك سمعت الورد الأحمر يطلب منها أن ترشه بالماء. وتلفتت جميلة حولها وعبست ثم قالت :” كيف أستطيع أن أروي كل هذا العدد الضخم من الورد؟ هذا عمل شاق يستغرق مني وقتا طويلا، وأنا أريد أن أصل بسرعة إلى بيت السيدة العجوز.” وتركت الماء في الدلو وتركت الورد الأحمر يعاني العطش والذبول، وهرولت في الطريق إلى منزل السيدة العجوز. فهمس الورد الأحمر خلفها قائلا :” ليجعل الله لوني الأحمر في عينيك ولا يجعله في وجنتيك.”
وصلت جميلة إلى الفرن، وسمعت الخبز يناديها راجياً إياها أن تخرجه قبل أن يحترق، ولكن جميلة قالت في عبوس: ” أخاف أن تحترق أصابعي أو تتسخ ملابسي.” وتركت الخبز يحترق في الفرن . فهمس الفرن خلفها: “ليجعل الله قلب الخبز الأبيض في شعرك ولا يجعله في بشرتك” .
وعندما قابلت شجرة البرتقال وسمعتها تقول: “من فضلك هزّيني.” استمرت جميلة في سيرها وهي تقول عابسة: ” سوف يقع البرتقال فوق رأسي ويؤلمني”. وتركت البرتقال يفسد فوق الشجرة. وهمست الشجرة خلفها:” ليجعل الله لون برتقالي الأصفر في بشرتك ولا يجعله في شعرك”.
وصلت جميلة العابسة إلى بيت السيدة العجوز، لكنها لم تشعر بأي خوف عندما وجدتها تطل من النافذة. فدعت العجوز جميلة العابسة أن تعيش معها وتساعدها، ووعدت الفتاة بأن تساعد العجوز، لكن أفكارها كانت منصرفة إلى قطع الذهب التي ستنالها في مقابل عملها.
أطلعت العجوز جميلة على كل ما يجب أن تعمله في المنزل. وفي اليوم الأول استجابت جميلة لطلبات السيدة العجوز، مدفوعة بأمل الحصول على الذهب الكثير، وقامت بتسوية الفراش كما يجب.
لكن في اليوم التالي، أخذت تتكاسل وتهمل في واجباتها، وتتظاهر بأنها تقوم بإعداد الفراش من غير أن تفعل شيئاً حقيقياً.
وفي اليوم الثالث، لم تعد تتظاهر بالعمل، بل استيقظت متأخرة، ثم بحثت عن مكان تختفي فيه عن بصر السيدة العجوز لتفكر في الذهب، ونسيت العمل. فنادتها السيدة العجوز وسألتها عن سبب امتناعها عن العمل، فعبست جميلة وقالت: ” لماذا تطلبين مني أن أعمل؟ إن فراشك ليّن ومريح، فما الداعي لأن أقوم بتسويته كل يوم؟ والبيت لا تظهر فيه القذارة، فلماذا أنظفه؟ سأستريح اليوم من العمل.. ”
وعندما ذهبت السيدة العجوز إلى غرفة جميلة، وجدتها مستلقية في كسل على فراشها، فقالت لها: ” انهضي أيتها الفتاة، اليوم تعودين إلى منزلك”.
لم تكن جميلة تريد أن تسمع إلا هذه العبارة، فقالت في نفسها: ” سأحصل الآن على الذهب”.
أمسكت العجوز بيد الفتاة العابسة، وقادتها إلى جوار البئر وقالت: ” يا بئر… يا بئر… اجعليها تلبس الحبر الكثير … يا بئر … يا بئر … اجعليها تلبس الخيش الكثير.”
وما إن قالت العجوز هذه الكلمات حتى وجدت نفسها ترتدي ملابس خشنة من الخيش القاتم، وقد انهمر فوقها سيل من صبغة سوداء التصقت بشعرها وكل جسمها وملابسها.
وقالت السيدة العجوز: ” هذه الصبغة السوداء هي المكافأة التي تستحقينها مقابل عملك معي ومساعدتك لي”. وفجأة اختفت العجوز، ووجدت الفتاة نفسها في الطريق بالقرب من دارها. وعلى سور فناء البيت شاهد الديك الفتاة العابسة حمراء العينين، بيضاء الشعر، صفراء الوجه، تغطّيها الصبغة السوداء. فصفق بجناحيه وصاح: كو كو. لقد عادت إلينا فتاتنا السوداء.”
وظلت البقع السوداء عالقة بالفتاة العابسة الكسولة إلى أن تعلمت كيف تتخلى عن الكسل والعبوس. لكنها لم تتعلم إلا بعد سنوات طويلة….