الحلم الاخضر

تاريخ النشر: 25/12/14 | 13:25

خَضْرانُ ، وَرَغْمَ أنَّ قلبَهُ يحبُّ النُّورَ والجمال ، مثلَ بقيَّةِ أفرادِ جنسِهِ خضرِ البشرة ، ورغمَ أنَّهُ عبقريٌّ مثلهُم بلْ يفوقُهم فطنَةً وذكاءً ، ويحبُّ الخيرَ والسَّلامَ والسَّكينَة ، تمامًا كما يحبُّون ، إلا أنَّ هناكَ ما يعكرُ صَفْوَ حياتِهِ ويجعلُهُ دائمَ الشُّرودِ والتَّفكير : ما هو مصدرُ هذا اللَّونِ الغريبِ الضَّاربِ إلى لونِ التُّرابِ ، والذي يكسو بشرتَهُ ؟

في هذا الكوكبِ البعيدِ ، حيثُ يعيشُ خضرانُ وأبناءُ جنسِهِ ، منذُ آلافِ السِّنين ، الجميعُ منهمكونَ في البناءِ والاختراعِ والاكتشافِ وتلوينِ المكان بألوان الفرحِ والرَّاحةِ والأمان ، والابتسامةُ لا تفارقُ الوُجوهَ . لا نزاعات ولا حروب ولا خلافات ولا أحزان . فقط وجهُ خضران ، الطِّفلِ الأذكى على سطحِ الكوكبِ الأخضر ، كانَ مُمْتقعًا وشاحبًا ، وسؤالٌ حائرٌ يدورُ فوقَ ملامحِ وجهِهِ باستمرار: ” لماذا لوْني ليسَ أخْضَر مثل لونِهم ” ؟

وَخَضْرانُ ، لم يضايقْهُ أحَدٌ ولمْ يسخَرْ منْهُ أيٌّ كان . لم يعاملْهُ أقاربُهُ ومعارفُهُ بطريقَةٍ مختلفَة ، بل بالعكسِ ، كان الجميعُ يحيطونَه بودِّهِم وَاحترامِهم . كلُّ ما كانَ يهمُّهُم في كيفيَّة التَّعاملِ معهُ : إنَّه الأذكى بينَ الجميع . كانوا يردُّونَ عليه قائلين : ” لونُك أخضر أو بنِّيٌّ أو أسودُ أو أحمر لا يهمُّ ، الأهمُّ أنَّ لونَ قلبِك بلا شكٍّ ، أبيضُ كالحليب .لا تُعْطِ هذا الأمر أكثر مما يستحِقُّ ” . لكنَّ خضران ، قلبُهُ الأبيض لم يهدأ ، ولم يستكِنْ وظلَّ السُّؤالُ يتقلَّبُ في داخلِهِ منغِّصًا عليهِ سيرَ حياتِهِ . لم يتركْ بابًا من أبوابِ الحُكماء ، الَّا وَطَرَقَهُ . ولم يَدَعَْ أيَّا من كتبِ تاريخِ كوكبِهِ الّا وَزارَ صفحاتِهِ . فتَّشَ في كتبِ الطِّبِّ والعلوم والاكتشافات والجغرافيا والفلك وكلِّ الموسوعات … ولا نتيجة . لا ذكر لأيِّ مخلوق بنِّيِّ البشرة ، يشبهُهُ ، موجودٌ في هذا الكَوْن . وليسَ من طبعِ خضران الاسْتسلام ، ففي بلادِهِ يتعلَّمونَ منذُ الصِّغرِ ، أنَّ الاستسلامَ والإحباطَ واليأسَ والمستحيلَ ، هيَ كلماتٌ لا وجودَ لَها في قواميسِهِم ، ويتعلَّمون أيضا أنَّ قلبَ المخلوق ” الأخضر ” ، يكتظُّ بمئاتٍ من الأدراج السِّريَّة ، المليئة بالحبِّ والقوَّةِ والرَّغبةِ في الحياة ، وما عليهم فقط الا أن يفتحوا الدُّرْجَ المناسِبَ ، حتَّى تتدفَّق منه أنهر المحبَّة إلى دمائهم وتختلطُ بها. فكَّر خضران طويلا ، حتَّى قرَّرَ في نهايةِ المطاف أن يقوم بزيارة الشّيخ ” طاطور ” . الشّيخ ” طاطور ” أمسى عجوزًا واهيًا ومريضًا . وقد يموتُ في أيِّ وقت ، وعندَها لن ينفَعَ النَّدمُ . فموتُهُ قد يفقِدُ خضران خيط الأملَ الأخير ، في اكتشاف سرِّ هذِهِ ” اللَّعنة ” الغريبة التي أصابته دونًا عن غيره .

وصلَ خضرانُ البيتَ المقصودَ لاهثًا ، خائرَ القوى . كان عليه أن يصعَدَ طريقًا وَعِرَة ، في قِمَّتِها يقعُ بيتُ الشّيخ ” طاطور ” المتواضع المتربِّع على سفحِ التلة . دقَّ خضرانُ دقاتٍ خفيفةً على بيتِ الشَّيخ الهَرِمِ ، لكنَّ أحدًا لمْ يردّْ . دقَّ مرَّة ثانيَة وَثالثَة وَرابعَة …أرادَ أنْ يترُكَ بيتَ الشَّيخِ ، لِيزورَهُ في مرَّة قادمَة . إلا أنَّ خضران خشِيَ أن تخونَهُ شجاعتُهُ التي اسْتَجْمَعَها وجاءَت به إلى هُنا ، فلا يعودُ مرَّة أخرى . قالوا له : لا تَزُرِ الشَّيْخَ ” طاطور ” ، إنَّهُ مُسِنٌّ غريبُ الأطوار ، حكيمٌ نعم ، لكنَّه طاعنٌ في السِّنِّ ما يجعلُهُ يتفوَّهُ بأمور عجيبة من وحيِ الخيالِ . إنَّه عجوزٌ خرف . أصاخَ السَّمْعَ ، لكنَّ البيتَ ظلَّ صامِتا . دفعَ البابَ الخشبيَّ برفقٍ ، فانْفتَحَ مصدِرًا صريرًا مُزعجًا .نادى خضران بصوتٍ خافِتٍ : ” شيخ طاطور ” ، ” شيخ طاطور ” .تأملَّ خضران أرجاءَ الغرفةِ الواسعةِ التي انفتحَ عليها البابُ .وَوَقَفَ مشدوهًا امامَ مئاتِ الكتبِ المكدَّسَةِ فوقَ الرُّفوف . كتبَ بكافَّة الأشكال والأحجام . وعشراتٌ من الكتبِ موزَّعَةٌ في كلِّ مكان . بعضُها على الطاولةِ وأخرى متناثرة هنا وهناك على أرضيَّة الغرفة وعلى حافَّة الشُّبَّاك . ورائحةٌ قويَّة تنبعثُ منها ، تذكِّر برائحةِ الكتبِ الصفراء القديمةِ المختلطةِ برائحةِ الرُّطوبةِ والعطن .صناديق كثيرة مغلقة وأدوات غريبة لا يعرف لها استعمالا ، بعضُها يشبهُ أدوات الفلكيِّين القُدَماء ، كما رآها في كتبِ تأريخ الفلكِ . إحداها مثبتة على رفِّ نافذةٍ مفتوحة , باتِّجاه السَّماء . إنَّها ماسورةٌ طويلةٌ معدنيَّةُ اللَّون تنطلقُ مِن مُنتصفِها ماسورةٌ أخرى بقطر أضْيَقَ . وفي نهايتِها ثبتت حلقة سوداء اللون .تهالك خضران على أقرب كرسي . وقرَّر أنْ ينتظرَ عودةَ الشَّيخ فلا بدَّ أنَّه في الجوار .ويا للهَوْلِ … لقد أحسَّ خضران بنفسِهِ يسافرُ بسرعةٍ خياليَّة ، عَبَرَ الفضاءَ . يقطعُ مسافاتٍ شاسِعةً بلمحِ البَصَر . وأخيرًا وجدَ نفسَهُ يطيرُ فوقَ يابسةٍ تشبهُ يابسةَ كوكبِهِ ، جبال وبحار وأنهار ومدن وعمارات وبنايات ومزارع و…. مخلوقات تسير على قدمين اثنتين … مخلوقات لها رأس وعينان وأطراف كَتلكَ التي يملكُها ، و… لم يصدِّقْ خضران ما تراهُ عيناه : إنَّها مخلوقات تحمل نفسَ لونِهِ .خفقَ قلبُ خضران بقوَّة … رقصَ رقصَةَ الفرحِ . وأخيرًا ها هو يصلُ إلى المكان الذي ينتمي إليه . يا للسَّعادَة . هبطَ خضران في شارعٍ ما ، سارَ وسطَ الشَّارع مصفرُا طربًا ، ووصلَ الى نهايةِ الشَّارع ، فاذا بمجموعةٍ منَ المخلوقاتِ التُّرابيَّة تُحلق حول شاشة عريضة تبثُّ النَّشْرَةَ الإخباريَّة .إنْدَسَّ ” خضران ” بينهُم وجلسَ يتابعُ معهم الأخبار بِاهتمام .قتلٌ وضحايا ونزاعاتٌ وشجاراتٌ وسفكُ دِماء وحروبٌ وسرقاتٌ وعنفٌ … ثمَّ نشبَ جدالٌ بينَ اثنين من الحاضرين ، حولَ أحد الأخبار ، سرعان ما تحوَّل إلى شتائمَ وسبابٍ وَاشْتَبَكَ الاثنان بالأيدي و… إذا هؤلاء هم ” البشريُّون ” الذي ذَكرهُم الشّيخ ” طاطور “في إحدى شطحاتِ خيالِهِ ، مؤكِّدا أنَّ الكوكبَ الأخضر ليس الكوكبَ الوحيدَ المأهولَ بالسُّكَّان ، فاتَّهَمَهُ الجميعُ بالخرف . أحَسَّ خضران بِيَدِ ثقيلَةٍ تهبطُ على كَتفِهِ وتهزُّهُ بِعنفٍ . فتحَ عينيهِ فإذْ بالشَّيخِ ” طاطور ” يقفُ أمامَهُ مبتسمًا .هَبَّ خضران منْ مكانِهِ على الكرسي ، في بيت الشَّيخ ” طاطور ” وأطلقَ لِساقَيْهِ العَنان . نزلَ خضران التلَّة متقافزًا مرِحـًا ، عانقَ الشَّجَرَ والزَّهْرَ والفراشاتِ ، قبّـلَ وَجْهَ الشَّمسِ وضحكَ في وجْهِ أرنبةٍ بريَّةٍ فرَّتْ منْ أمامِهِ فزِعَةً . ثمَّ شَرَع يُدَنْدِنُ لحنًا موسيقيًّا يحبُّهُ حتَّى وَجَدَ نفسَهُ أخيرا يصرُخُ بِقُوَّةٍ : يا لَها من مسكينَةٍ تلكَ القلوب الخالية من أدراجِ الحُبِّ … وكم يلزمُها منَ الجهدِ والألحانِ حتَّى تصلح أنْ تكونَ من سكَّانِ الكوكبِ الأخضر .

08

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة