قراءة في رواية “صابر” للكاتب سليم دبور بقلم: زياد جيوسي

تاريخ النشر: 07/12/14 | 10:46

“أمرهم غريب، يغرسون حقنهم المنوِّمة في رحم الوريد، يطعنون بطن ذراعي بقسوة وكأنه خُلق من حديد، يفرغون سم النشوة ثم ينتشون الحقن بقلوب ميتة وكأنهم مسمارٌ من جدار عنيد.. ينتشونها ويبتسمون معجبين بمهاراتهم المميزة، ومهللين لصمتي العجيب”.

حين قرأت هذه الفقرة في بداية الفصل الأول من رواية (صابر) للروائي سليم دبور ومن إصدارات دار الجندي للنشر في القدس 2013 الطبعة الأولى، كنت أحتضن الرواية بين يديّ أثناء عودتي لرام الله، وأقرأ وأسجل الملاحظات طوال الطريق، فقد شدتني هذه الفقرة التي تتفوق على مقاطع شِعرية نقرؤها، وكانت مع العنوان حافزاً لي لأن أقرأ الرواية بنهم وعطش، فالرواية كفن أدبي تعتبر من أجمل أنواع السرد النثري، وهي لم تكن معروفة في العصور الوسطى، وعرفت في المنطقة العربية بعد الترجمات للعديد من الروايات مع بدايات القرن الماضي حسب العديد من آراء الباحثين والنقاد، وعرفت الرواية بأشكالها المختلفة من السيرة الذاتية وصولاً للرواية السياسية والعقائدية، ومروراً بروايات الخيال العلمي والروايات البوليسية والاجتماعية والتاريخية، وهي مجموعة من الأفكار والصور التي دارت في ذهن الكاتب وعبّر عنها بالكتابة بأسلوب قصصي طويل وجميل، مختلفة عن القصة بتعدد الفصول، ووجود شخصيات عديدة رئيسة وثانوية، وكل شخصية لها دورها في الرواية.

ومن هنا كانت بدايات قراءتي للرواية التي كان صابر يتحدث فيها عن مأساة الفلسطيني في ظل الواقع العربي المرير، وعن خضوع قادة هذا الواقع للأجنبي ورفضهم لأبناء جلدتهم، وفي الفصل الأول يطرح مجموعة كبيرة من الأسئلة تضع الإصبع على الجرح، وخلال الرواية يطرح رأيه وقناعاته الشخصية في العديد من القضايا ومنها: الإضرابات خلال الانتفاضة وتصفية العملاء والعمليات الاستشهادية وأساليب المقاومة العنفية واللاعنفية، وهو حدد المكان الرئيس بمخيم الجلزون الذي يسكنه عدد كبير من اللاجئين الذين طردوا من العمق الفلسطيني من بلداتهم، والمخيم شهد حالات نضالية متميزة وعدد ليس بالقليل من الشهداء والجرحى والأسرى، وتعرض لقسوة الاحتلال وبشاعته، ولعل هذا المخيم الذي ترك أثره على روح الكاتب وهو الذي ولد فيه وعاش في أزقته وعايش الأحداث للانتفاضة فيه، لعب دوراً أساساً ليكون هو قاعدة الانطلاق والمكان للرواية، والزمان فترة الانتفاضة حتى توقيع اتفاقية أوسلو، مع ملاحظة مهمة أن الكاتب من مواليد 1970، والرواية أنجزت في أيلول/ سبتمبر 1993 حين كان الكاتب شاباً في مقتبل العمر، والرواية صدرت بعد عشرين عاماً من إنهائها بحيث أثار ذلك في ذهني التساؤل، فالرواية بلغت ما يقارب خمسمائة صفحة بخط صغير، وهي رواية زخمة بالأفكار والأحداث والآراء، وكتبت بأسلوب قوي من حيث الفكرة ومن حيث الصياغة والمحتوى، واعتمدت أسلوب السهل الممتنع، فكم هي الفترة الزمنية التي احتاجتها الرواية من الكاتب مقارنة بعمره حين أنهاها؟ علماً أنها العمل الروائي الأول له، ولماذا تأخر بنشرها كل هذه الفترة الزمنية؟

صابر.. لقب أطلق على الفلسطيني لصبره على كل الظلم الذي يقع ووقع عليه، سواء من الاحتلال الصهيوني أو من ظلم ذوي القربى، وفي الرواية كان صابر الشخصية الرئيسة، وهو حسبما قرأت واستنتجت هو رمز للشعب الفلسطيني الذي تعرض للظلم الأكبر، ممثلاً بشخصية صابر الفرد الذي لا يتوقف عن طرح الأسئلة الفلسفية على مستوى الإنسانية والبشر ولا يحصرها بفلسطينيته، فهو يتساءل: “ما هو سلاحنا كبشر؟”، ويعتبر أن العقل البشري قاد الإنسان إلى الدمار لاستخدامه في اكتشافات أسلحة الدمار الشامل واستخدام القوة والعنف والظلم بدلاً من أن يوجه للحب، فلا يمتلك إلا أن يلوم والده الذي أتى به إلى “عالم مكتظ بالظلم والفساد”، وهو الصابر الذي زرع الحب ولم يحصد سوى الكره، وهو اللاجئ ابن المخيم الذي يعيش الفقر المدقع فلا تنفعه شهادة دراسية للعمل ولا تطعمه الخبز، فيبدأ بسلسلة من الانتقادات للحياة والمجتمع، كاشفاً الغطاء عن القشور التي يحياها البشر في مجتمعهم، متحدثاً عن حياة المخيم من انعدام فرص العمل وصولاً للمعاناة من الاحتلال، مروراً بالزيف الذي يحياه المجتمع، ماراً ببعض الانتقادات غير المباشرة لبعض من قرارات قيادة الانتفاضة الأولى وللقيادة الفلسطينية ومنها قرارات الإضرابات التجارية في ظل توقف العمال عن العمل، وتثور في داخله التساؤلات حين يسمع لأول مرة عن عملية استشهادية ضد الأمريكان في لبنان، ويتساءل عن الحرام والحلال، وهل يجوز قتل المدنيين خارج الخدمة العسكرية في مثل هذه العمليات ومدى جدواها، علما أنه يرى بنفسه كيف يتم اعتقال المواطنين والتنكيل بهم وقتل الأطفال وهدم البيوت ومنع الحوامل من الوصول للمشافي للولادة حتى يستشهدن من ممارسات الاحتلال على الحواجز، كما يطرح الكثير من العادات الاجتماعية ومن أهمها غلاء المهور مع ارتفاع نسبة العنوسة وعزوف الشباب عن الزواج، إضافة إلى البعض السلوكات القليلة في مجتمعنا كعقوق الأب.

الرواية خلال رحلة الألم الفلسطينية اعتمدت على العديد من الشخصيات الرئيسة إضافة إلى الشخصيات الثانوية، فصابر اعتمد والده الفلسطيني الذي توفي في الثلج تاركاً إياه يعاني الفقر والوحدة وذل الاحتلال محوراً أساساً في الرواية، وهنا رأيت شخصية الوالد رمزاً للتاريخ الفلسطيني، وصابر طوال الرواية يخاطبه ويحدثه عما يعاني وعما يشاهد، وصابر مثَّل في الرواية شخصية الشاب الفلسطيني الذي عانى وتعب وعمل بكل الأعمال المضنية ليساعد أسرته ويكمل دراسته بتفوق، والذي تعرض للضرب والتنكيل من قوات الاحتلال عدة مرات وأصيب برصاصه مرتين، وتعرض للاعتقال والأسر، ومع ذلك لا يجد فرصة للعمل تناسب تفوقه وتحصيله العلمي الجامعي، وهو في وحدته وألمه يلتقي شخصية الكهل (أبو العبد) فيصبحا صديقين رغم فاصل العمر الكبير، وليمثل كل منهم بشخصيته فصولاً من حكاية شعب فلسطين.

وهناك شخصية (أبو العبد) الذي يظنه الناس بخيلاً ومخبولاً وهو الفقير المعدم وصاحب الفلسفة والحكاية الطويلة، والذي يرى أن العمليات الاستشهادية بطولة ويمكن لو نفذت في فلسطين أن تخلق حالة من توازن الرعب تجبر الاحتلال على التراجع، ويناقش صابر بنقاش العقل والمنطق، ويروي حكايته التي هي حكاية الأرض والنكبة والهجرة القسرية، فهو من شهد مقتل والده على يد اليهود الصهاينة بعينيه، وهو من شهد وفاة أمه جوعاً وعطشاً أثناء الهجرة اثر احتلال فلسطين في العام 1948، وهو من شهد وفاة شقيقته الوحيدة فاطمة مع زوجها أثناء محاولتهم السفر للخارج بهجرة غير شرعية، وهو الذي بلغ هذا العمر ما بلغ ويتعاون مع شباب الانتفاضة ويرقب لهم الطرق من خيمته ليقوموا بواجباتهم النضالية، فهم من يحركون نبض الشارع ومن يوزعون المواد التموينية، ومن يحاكمون العملاء وينفذون بهم الأحكام الثورية، ومَثل (أبو العبد) شخصية تجمع عدة أجيال مع بعضها، ذاكرة الطفولة وعنفوان الشباب وحكمة الشيوخ.

أما الشخصيات الثانوية فكانت كثيرة وكل منها أعطى إضاءة على واقع الفلسطينيين تحت الاحتلال، والكثير منها له نهاية تسرد بعض من حكايات الشعب، ومنهم من أعطى فكرة عن معاناة الفلسطيني في ظل الأنظمة العربية، فمن أعطوا إضاءة عن واقع الفلسطيني تحت الاحتلال منهم الطفل محمد كثير التساؤلات حول الاحتلال والواقع، كما لم ينس الكاتب شخصية جرعوش المجنون، فقلما خلت حارة أو مخيم من مثل هذه الشخصية، وكذلك شخصية شريف العميل لقوات الاحتلال والذي قام باختطافه وتصفيته شباب الانتفاضة، ووالدته التي طلبت فقط حين شهدت إعدامه فقط أن يتم دفنه وإن لم يجدوا قبراً: “ارموا جيفته على أية مزبلة”، إضافة إلى شخصية نضال وهو مناضل شاب يمتلك وعياً جيداً، وتعرض للاعتقالات مرات عديدة، ويتميز بشعبية كبيرة في المخيم، ولا يتوقف عن مساندة الفقراء والمحتاجين، وهو من وقف بجانب صابر لإخراجه من الحالة المادية الصعبة بمشاركته في محل تجاري ومساعدات للزواج، وأستاذ الفلسفة الذي لم يجد عملاً فعمل راعياً للغنم مقنعاً نفسه أن الأنبياء عملوا رعاة للأغنام، وفاطمة ابنة (أبو العبد).

ومن الشخصيات التي عانت من الدول العربية سعيد الذي كان شاعراً ومعلماً، وأصيب بالجنون من المعاناة وإبعاده عن بيته وزوجته واعتقاله لتشابه الأسماء، ونفيه من سوريا لدول عربية عدة ترفض استقباله حتى يعيش فترة في الجو وفي المطارات، وهذه الشخصية تكررت في الواقع الفلسطيني كثيراً، وشخصية الحلاق الذي ينقل كل أخبار المخيم وحكاياتهم.

الحب والحرب فصل أساس في الرواية، فالحرب قائمة من احتلال فلسطين واستمرار الاحتلال واشتعال الانتفاضة واستمرار الحرب خلالها ضد الجماهير الفلسطينية بالقتل والاعتقالات والتنكيل، والحب الذي يشتعل في قلب صابر تجاه حفيدة (أبو العبد) صاحبة الروح المتمردة والجمال الصارخ والتي مثلت صراع الأفكار بين الأجيال، بين الجد (أبو العبد) والحفيدة، هذا الحب الصامت الذي ينتهي بالزواج بأقل تكاليف وبفرح صامت احتراماً لدماء الشهداء، ولكن ما أن يمر أسبوع على الزواج حتى يكون صابر بالمعتقل بتهم لا علاقة له بها، فينقلنا لفصل مهم من معاناة الفلسطيني في المعتقلات من التعذيب إلى غرف العملاء والتي يعترض على تسميتها بالاسم المتداول (غرف العصافير) لأن العصافير جميلة ورقيقة ويفضل تسميتها بغرف العار، ووسائل محاولات الاحتلال إسقاط المعتقلين في بدايات اعتقالهم بالجنس والتهديد، لينقلنا للمحاكمات الصورية وظروف الأسرى بالسجون مستخدماً عدة شخصيات ثانوية تعبر عن حالات الأسرى مثل يوسف الأسير المناضل وإبراهيم الذي يظن نفسه في فندق خمسة نجوم الذي اعتقل صدفة ولا يعرف عن المعتقلات شيئاً، وشخصية (أبو محمد) العجوز والذي شكل مفاجئة غير متوقعة في الرواية، كما ظهرت شخصية أسامة العائد من أمريكا أيضاً بعد خروج صابر من المعتقل، وهنا أترك للقارئ الذي يريد أن يقرأ الرواية أن يعرف عن هذه الشخصيات ومفاجئتها وحكاياتها، علماً أني لم أجد مبرراً لوالديهما بإخفائهما حتى يظهرا بهذا الشكل الذي ظهرا به، ومن وجهة نظري فإن عدم ظهور هاتين الشخصيتين لم يكن ليترك أثراً كبيراً على الرواية، إلا إذا قصد الكاتب إظهار مسائل أخرى في الرواية من خلالها. وبشكل عام هناك العديد من الشخصيات الثانوية كان يمكن الاستغناء عنها.

لفت نظري أن الكاتب أشار إلى أن الناس في المخيم حين خرج من السجن وهو قد اعتقل بعيدا عن بيته فوجئوا به، وكانوا يظنونه قد استشهد في عملية استشهادية، علماً أن له موقفاً ضد هذه العمليات، ولم يتوقع أحد أنه في السجن حتى زوجته، وهذه نقطة غريبة ففي الانتفاضة الأولى لم تتم أية عملية استشهادية، والعملية الأولى كانت في 16 نيسان 1993 في فترة المفاوضات بين م ت ف، والكيان الصهيوني وقبل التوقيع النهائي على اتفاقية اوسلوا بخمسة شهور، ولم يتم استخدام هذه العمليات بعد ذلك إلا بعد اتفاقية اوسلوا لأسباب سياسية من الجهات المنفذة، وكان أي معتقل يعرف به الصليب الأحمر ويصدر لذويه شهادة تفيد باعتقاله إن كان محكوماً أو موقوفاً، وليس معقولاً أن يستشهد شخص بعملية استشهادية ولا يُعرف من هو، وقضية صابر ليست بالقضية المهمة ولا المخيفة حتى يخفيه الاحتلال عن العالم، وهو كان بين معتقلين في السجن، ويمكنه أن يرسل خبراً لأسرته بوجوده في المعتقل حتى لو لم يرى الصليب الأحمر، ورغم أن ما نقرأه رواية وليس كتاب تاريخ، وفي الرواية هناك مجال خصب لخيال الكاتب كما فعل حين استحضر شخصية آدم أبو البشرية خلال الحلم وجعله يجول معه العالم ويلتقي شخصيات كثيرة تصدمه بما حل بأبنائه، إلا أن الوقائع لا يمكن تغييرها كما في هذه النقطة ويجب أن لا يجنح خيال الكاتب بما يخالف المعروف والمعلوم.

الخاتمة للرواية تأتي بعد توقيع اتفاقية أوسلو مباشرة وفرح الناس بها في البداية، وكأنه يقول: هذه الاتفاقية ليست لمصلحة الشعب الفلسطيني وستسبب له الكوارث، ولذا أترك الخاتمة للقارئ أيضا ليقدر صواب رأي الكاتب أم لا، مختتماً الحديث بقول صابر في النهاية: “أنا أيوب يا أبي، نعم أيوب، لا! لست أيوب، أنا زيوس. نعم، زيوس لا! لست زيوس. أنا سيزيف، نعم، أنا سيزيف هذا العصر، أنا من تحدى الصخرة، أنا سيزيف، نعم سيزيف يا مجانين هذا العصر… سأنام طويلاً، ربما أشهرا أو سنوات، وحين يذوب الثلج ويظهر ما كان مخفياً، سأعود.. حتماً لأروي لك الجديد..”، مستخدماً ثلاثة شخصيات، فهو يرى أنه (كشعب) صبر أكثر من النبي أيوب، وهو أقوى من زيوس الذي هو إله السماء والصاعقة في الميثولوجيا الإغريقية، ويشبه نفسه بأنه سيزيف رمز العذاب الأبدي الذي عاقبه زيوس كبير الآلهة بأن يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، وكلما اقترب من القمة سقطت إلى الواد، فيعاود المحاولة من جديد بدون كلل أو ملل .

(رام الله 24/11/2014)
unnamed

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة