التربية بالقدوة الصالحة
تاريخ النشر: 15/04/15 | 9:51إننا اليوم في أمَسّ الحاجة إلى القدوة التي تجذب القلوب بصلاحها واستقامتها، وتصرفها عن التعلق بقدوات ليس لها رصيد أخلاقي أو معرفي، فالقدوة هي الأساس الذي يقوم عليه بناء المجتمع، وبقدر ما يكون الأساس متيناً يكون البناء راسخاً.
إنّ أسلوب التربية بالقدوة يعد أسلوباً مهماً من أساليب التربية والتوجيه، ابتداءً من مرحلة الطفولة، وهذا الأسلوب يستوجب من المُربي أن يعي أنّه موضع قُدوة، الأمر الذي يعني أن أفعاله وأقواله تحت رقابة دقيقة من جانب مَن يقوم بتربيتهم، وهذا يتطلب منه أن تتطابق أقواله مع أفعاله، وأن يحقق في نفسه ما يطالب به الآخرين. ونحن نجد في سيرة رسول الله (ص) دلائل تبيّن كيف استخدم (ص) القدوة الحسنة في تربية أصحابه – رضوان الله تعالى عليهم – فكان مربياً وهادياً قولاً وفعلاً بعمله وسلوكه الشخصي، ولا شك في أن تلك القدوة الأولى المتمثلة في رسول الله (ص) هي التي خرّجت أجيالاً حملت منهج الإسلام، سلوكاً وأخلاقاً وحقائق واقعة على مرّ العصور.
ان القدوة لها أثر كبير في التربية والسلوك يفوق أثر الكلام الجميل المنمّق، لأنّ الإنسان بطبعه يميل إلى تقليد الكبار والعظماء والاقتداء بهم، وأكثر الناس تأثراً بالقدوة الأطفال، لأنّهم يعتقدون صحة كلّ ما يفعله الكبار، وخاصة الآباء والمربين. جاء في موسوعة العناية بالطفل: “يبدأ الطفل في سن الثالثة يُدرك بوضوح أكثر أنّه من الذكور، وأنّه سيصبح يوماً ما رجلاً كأبيه، وهذا ما يحمله على الشعور بإعجاب خاص بأبيه وبغيره من الرجال والصبيان، إنّه يُراقبهم بدقة ويسعى جاهداً إلى التشبُّه بهم في مظهره وسلوكه ورغباته. بينما تُدرك الطفلة بنت الثالثة أنها ستصبح امرأة فتندفع إلى التشبّه بأمها وباقي النساء، إنّها تركز اهتمامها على الأعمال المنزلية والعناية بالدمى على هيئة عناية أمها بالمواليد وتقتفي أسلوبها بالتحدث إليها”.
مهمة الأنبياء (عليهم السلام):
القدوة، إذن، هي المؤثر الذي يُحرّك القلوب، ويستثير الهمم، ويؤثر في النفس أكثر من تأثير المواعظ والبيانات، يُزوّد المرء بقوة الاندفاع نحو العمل بمزيد من الهمة والعزيمة والتحمُّل الذي لا يمكن أن يتوافر في غياب مؤثر القدوة، ولذلك حينما جاء الأنبياء (عليهم السلام) بأمر ربهم لهداية الخلق لم تقتصر دعواتهم على التبليغ، لأنّ التبليغ وحده لا يُغني عن مثالٍ تربوي حيّ، يُجسّد بسلوكه وأخلاقه الأهداف والغايات والقيَم التي يدعو إليها، بل كانت مهمة الأنبياء الكبرى التي لا تعدلها مهمة، هي أن يكونوا قُدوة لأقوامهم في تطبيق المنهج الإلهي التربوي الذي جاؤوا به، لما للقدوة من أثر كبير جدّاً على سلوك الآخرين، ومن هنا تتعاظم المسؤولية على الآباء والمربين في أن يكونوا قدوة حسنة لمن حولهم، لأنّهم العنصر الأساسي المؤثر في عملية التربية، فالأبناء والطلاب يميلون إلى مُحاكاة آبائهم ومربّيهم، ويتطبعون بمجمل طبائعهم، ويتأثرون بالكثير من أخلاقهم وصفاتهم أكثر من تأثرهم بما يسمعونه من التوجيهات والنصائح. لذلك، لمّا اختار عمرو بن عتبة مؤدّب ولده، قال له: “ليكن أوّل إصلاحك لولدي إصلاحُك لنفسك، فإنّ عيونهم معقودةَ بعينيك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركتَ”. إلا أننا نجد اليوم كثيراً من الآباء والمربين يُجيدون بيان النصائح والتوجيهات، وهم أبعد الناس عمّا يقولون. وهذا التناقض بين القول والعمل يُعتبر من أكبر مشكلات الجيل المعاصر، لأنّه يُحدث فجوة بين الأب وابنه، سببها غياب المصداقية في السلوك، بالتالي تفقد النصائح أثرها.
المُربّي القدوة:
ينبغي أن يحرص المربي كلّ الحرص على أن يكون قدوة حسنة، وأن يُعلّم بحاله قبل أن يعلّم بمقاله، فإنّ الولد إذا وجد القدوة الفاسدة تربَّى على الانحراف والعصيان. وتتأكد القدوة عند الوالدين، لأنّ الولد الذي يرى والديه يكذبان لا يمكن أن يتعلّم الصدق، والولد الذي يرى أبويه يتعاملان بالقسوة والغلظة والجفاء لا يمكن أن يتعلم المودة والرحمة، وهكذا. وهذا يتطلب من الوالدين توفير الجو الديني والروحي في البيت الذي يعيشون فيه، وذلك بتطبيق أوامر الله تعالى أمام الطفل، فلا يأمرانه بطاعة ثمّ يرتكبان معصية. كما ينبغي أن يقوما بتأدية الشعائر الدينية أمام الأبناء كالصلاة والصوم وقراءة القرآن وذكر الله، لأنّ الطفل مفطور على مُحاكاة بيئته، وأخصّ بيئته أبويه وأهله، فحيثما كان الأبوان قُدوة صالحة، نشأ الجيل على ما نحب أن ينشأ عليه، وحيثما تخلّى الأبوان عن دورهما في التربية، كان الأولاد أكثر عرضة للضياع. وقد نَبَّه رسول الله (ص) لهذه القضية عندما رأى امرأة تنادي ولدها وهي تُومئ له بشيء في يدها، فخشي أن تكون يدها فارغة، فيكون هذا السلوك بداية تعلم الولد للكذب، فقال لها: “وما أردتِ أن تُعطيه؟” قالت: أعطيه تَمْراً. فقال: “أما إنك لو لم تُعطِهِ شيئاً كُتِبَتْ عليكِ كذبة”.
القُدوة الأولى:
الإنسان كلّما عَلَت منزلته ورتبته في المجتمع، توجّب عليه أن يُراقب أقواله وأفعاله مراقبة حثيثة، لأنّ عيون الناس تتعلق به. لذلك، لم يُؤثَر عن رسول الله (ص) أنّه فعل أمراً مشيناً، أو قال قبيحاً، أو ذكر شيئاً ولم يُطبّقه، بل كان أوّل آخذ بما يقوله، لأنّه كان يمثل القدوة الأولى لكل المسلمين وفي كلّ زمان ومكان. قال رسول الله (ص): “لقد أخِفْتُ في الله، وما يخافُ أحدٌ، ولقد أوذيتُ في الله، وما يؤذَى أحَدٌ، ولقد أتت عليَّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولِبِلال طعامٌ يأكُلُهُ ذو كَبِد إلّا شيءٌ يواريهِ إبْطُ بِلال”، فكان قدوةً في الصبر، وقدوة في الثبات، وقدوة في الشجاعة، وقدوة في الرحمة، وقدوة في اللين، وقدوة في السخاء، بل كان المثل الأعلى في كّل ما دعا إليه، فمثلاً: في غزوة الأحزاب، وفي ظل الظروف القاسية التي رافقت تلك الغزوة من شدة الجوع والبرد والتعب، جاءه ثلة من الصحابة وكشفوا عن بطونهم، فإذا بكل واحد منهم قد ربط على بطنه حجراً يُخفّف به ألم الجوع، فكشف لهم عن بطنه، فإذا به قد ربط عليه حجرين. فكان لهذه القدوة أثرها الواضح في ثباتهم وتحملهم، إذ اشتدت عزائمهم، فمازالوا يضربون الأرض بمعاولهم حتى أتمّوا حفر الخندق قبل وصول المشركين إلى ساحة المعركة.
أُسس مهمة:
لكي نُفعّل دور القدوة في حياتنا، لابدّ من مُراعاة الأسس التالية:
أوّلاً: العلم: فلا يمكن أن يصبح الإنسان قدوة صالحة بلا علم، لأنّ العلم يدفع في اتجاه اكتساب الصفات الراقية والخصال المحمودة، بشرط أن يتناغم علم المرء مع عمله، فالعلم بلا عمل لا يُفيد. لذلك، كان السلف الصالح لا يأخذون العلم إلا ممّن يعمل بعلمه. قال إبراهيم النخعي: “كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته، وإلى صلاته، وإلى حاله، ثمّ يأخذون عنه”.
ثانياً: حُسن الخُلق: كالصدق والأمانة واللين وحُسن الاستماع والبشاشة والتودُّد والكرم والشجاعة.. لأنّ الناس جُبلوا على حُب مَنْ أحسن إليهم، وكُره من أساء إليهم. بالتالي، لا يُمكن أن يتأثروا بإنسان سيئ الخُلق، وهذا ما يفسر انجذاب الناس إلى الأنبياء والصالحين، لأنّهم كانوا أحسن الناس أخلاقاً، قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران/ 159).
ثالثاً: التخلُّق بأخلاق الأنبياء: فهم القدوات الكاملة التي نَصَّبَها رَبّ العزّة، لتكون منارَاتِ يهتدي بها الناس، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ…) (يوسف/ 111). وكذلك التخلُّق بأخلاق الصالحين والصالحات في تاريخنا الإسلامي.
وكما أنّ للقدوة الصالحة ثَمَرَة دنيويّة تتمثل في نشر الخير وكسب ودّ الآخرين واحترامهم. كذلك لها ثمرة أخرويّة، وهي أنّ صاحب القدوة الصالحة له من عظيم الأجر والثواب الذي يصل إليه من تأثر الناس بفعله وقوله الشيء الكبير، فهي رفعة له في الدنيا والآخرة، قال الحسن: “مَن استطاع منكُم أن يكون إماماً لأهله، إماماً لحَيِّه، إماماً لمَن وراء ذلك، فإنّه ليس شيء يُؤخَذ عنك إلا كان لك منه نصيبٌ”، وكان من دُعاء الصالحين: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان/ 74).