صلة الأرحام في هدي النبي

تاريخ النشر: 27/09/14 | 16:41

من المفاهيم والقيم الخاطئة عند بعض الناس قولهم: نحن نزور من يزورنا، ونقطع من يقطعنا! ولسان حالهم كحال الذي يتمثل هذه الصفة الذميمة بقوله:

ولست بهياب لمــــن لا يهابنـي
ولســــت أرى مــا لا يــرى ليـا
فإن تدْنُ مني تدن منك مودتي
وإن تنـــأ عنـــي تلقنــي نائيــــا

وهذا الفهم بلا ريب مخالف لهدي وسنة النبي صلى الله عليه وسلم القائل: “ليس الواصل بالمكافئ، لكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها”(1).

فأصل الصلة في هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن تصل من قطعك، ولا تقتصر على صلة من وصلك؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم لعقبة بن عامر -رضي الله عنه-: “يا عقبة بن عامر، صل من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمن ظلمك”(2).

وعن أبى هريرة -رضي الله عنه- أن رجلاً قال: “يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عنهم ويجهلون علىَّ؟! فقال: لئن كنتَ كما قلتَ فكأنما تسفهم الملَّ (التراب الحار)، ولا يزال معك من الله ظهير (مُعين) عليهم ما دمت على ذلك”(3).

قال النووي: “… كأنما تطعمهم الرماد الحار، وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم، ولا شيء على هذا المحسن، بل ينالهم الإثم العظيم في قطيعته وإدخالهم الأذى عليه. وقيل معناه: إنك بالإحسان إليهم تخزيهم وتحقرهم في أنفسهم لكثرة إحسانك وقبيح فعلهم من الخزي والحقارة عند أنفسهم كمن يسف المل. وقيل: ذلك الذي يأكلونه من إحسانك كالملّ يحرق أحشاءهم”.

وصلة الرحم في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أمر واجب، وقاطعها آثم؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله”(4).

وما أسوأ حال من يقطع الله! ومن قطعه الله، فمن ذا الذي يصله؟!

وعن أبي بكرة -رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه بالعقوبة في الدنيا -مع ما يدخر له في الآخرة- مثل البغي وقطيعة الرحم”(5).

وقال صلى الله عليه وسلم: “لا يدخل الجنة قاطع رحم”(6).

وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن صلة الرحم من أسباب طول العمر وزيادة الرزق، فقال: “من سرَّه أن يُبْسط له في رزقه، وأن يُنسأ له في أثره (يؤخر له في عمره) فليصل رحمه”(7).

وعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: “إنه من أعطي حظه من الرفق، فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار”(8).

ومن أفضل الصدقات: الصدقة على ذي رحم، وهم أولى الناس بالصدقة. عن سلمان بن عامر الضبي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان صلة وصدقة”(9).

وعن جابر -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم: “ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا”(10).

قال النووي: “… في هذا الحديث فوائد: منها الابتداء في النفقة بالمذكور على هذا الترتيب، ومنها أن الحقوق والفضائل إذا تزاحمت قُدِّم الأوكد فالأوكد. ومنها أن الأفضل في صدقة التطوع أن ينوعها في جهات الخير ووجوه البر بحسب المصلحة، ولا ينحصر في جهة بعينها”.

وقد عُرِف النبي صلى الله عليه وسلم بصلة رحمه من قبل بعثته، كما جاء في صحيح البخاري من قول أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- في قصة بدء الوحي: “كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم…”.

والأمثلة التطبيقية من سيرة وحياة النبي صلى الله عليه وسلم في صلة الأرحام كثيرة، منها: دعوتهم إلى الخير، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو أرحامه إلى الله تعالى..

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: “لما نزلت هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، قام نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا بني كعب بن لؤي، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئًا غير أن لكم رحمًا سأبلها ببلالها”(11).

وفي رواية البخاري: جعل النبي صلى الله عليه وسلم يسمِّي “يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا…”.

ومن صور صلة الرحم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو لهم، ويثني عليهم، ويوصي بهم خيرًا، ويتألم لإيذاء أحد منهم..

عن زيد بن أرقم -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “… وأهل بيتي، أُذَّكِّرُكم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي”(12).
وعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- قال: “من آذى العباس فقد آذاني، إنما عم الرجل صنو أبيه”(13).

ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس أن يعلِّمه الله التأويل، والفقه في الدين.

وأثنى النبي صلى الله عليه وسلم على خاله سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- فقال: “هذا خالي، فليرني امرؤ خاله”(14).

وكان سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- من بني زهرة، وكانت أم النبي صلى الله عليه وسلم من بني زهرة؛ فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: “هذا خالي”.

وهذا الزبير بن العوام -رضي الله عنه- ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم يثني عليه فيقول: “لكل نبي حواري، وحواري الزبير”(15).

وكان صلى الله عليه وسلم يزور من يمرض منهم، ويدعو له؛ فعن عائشة بنت سعد أن أباها قال: “اشتكيت بمكة، فجاءني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني، ووضع يده على جبهتي ثم مسح صدري وبطني، ثم قال: اللهم اشف سعدًا، وأتمم له هجرته”(16).

لقد بلغ من أهمية صلة الرحم في هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم أن قرنها بالتوحيد، وجعلها من الأمور التي بُعِثَ من أجلها، كما في حديث عمرو بن عبسة -رضي الله عنه- لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: بأي شيء أرسلك الله؟ قال: “بكسر الأوثان، وصلة الرحم، وأن يُوحَّد الله لا يُشْرَك به شيء”(17).

ومن ثَمَّ فصلة الأرحام من أعظم القربات إلى الله وأجلّها، وقطيعتها من أعظم الذنوب وأخطرها، والمسلم في هذه الدنيا يجدّ في السير إلى رحاب جنة عرضها السموات والأرض، ومما يعينه في ذلك القيام بصلة الأرحام؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتثالاً لأمره.

02

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة