قبر أبي …بقلم الأستاذ يوسف جمّال

تاريخ النشر: 21/09/14 | 19:11

جدي مات منذ ثلاثة عقود , ودفناه في حاكورتنا , الواقعة امام بيته القديم , كما اوصى . ويهودا الصراف كان حاضرا وبكى معنا بكاء مرا , على صديقه القديم ,ليؤكد لكل لنا انه منا وفينا , وأن الخبز والملح الذي تقاسماه لن سيظل يربطهم حتى وأن وارى التراب عظام جدي ..!
ولكن ما الذي قلب روحه , وبعد ذلك جلده ..!؟ هذ ربما يعرفه الشيطان وتوحده ..!
تذكرت – وانا أقلب صفحات تاريخ معه , حكاية قديمة كان قد رواهاى لي جدي , فربما تكون سبب تكالبه على قبره .ولنترك لجدي مهمة سرد الحاية الغريبة :
كنت معتادا على السفر, سائقا جمالي الى زمارين ,لأورد حمولتها من الزبل الى يهودي اسمه يهودا , اعتدت على مبادلته الزبل بالبرتقال الذي كان يقطقه من بيارته . اسافر نهاري , وابيت عنده سواد ليلتي , وعند الفجر , أصلي صلاة الصبح, وبعدها أسوق جمالي راجعا الئ بلدي ,وفي احدى المرات ,وصلت بيارته مع صلاة العشاء , فأنخت جمالي , وانزلت عنها ما تحمله من اكياس , وتوجهت الى بيت يهودا الذي يقع على طرف البيارة,وعندما اقتربت من البيت ,كانت زوجته في انتظاري على بابه , بحثت عنه حولها فلم أجده , فقلت في نفسي ربما أشغله أمر ما عن استقبالي , فلا بد له الا ان يظهر بعد لحظة , ولما سألتها عنه , أجابت أنه مسافر ولن يعود الا بعد عدة أيام ,ولما ىطلبت منها ان تفتح لي الغرفة التي كنت ابيت فيها في زياراتي السابقة , أجابت بشكل طبيعي : ” لا حاجة .. ستبيت عندي الليلة في مكان يهودا ..!!,”.
وهنا كان يتوقف جدي عن الكلام , كي يترك لموجة الغضب التي ,كانت تجتاح كيانه فرصة مغادرة خناقه .. فيحاول ان يجد شيئا من ماء ريقه كي يبلعه فلا يجد , فنلحقه بشربة ماء , تساعد في التخفيف من هيجانه .
” أنا أخوك يا أختي..! ” , “وينك يا عرعرة , والله ما بترد راسي الا أنت .! ” .كان يقول هذه الكلمات , ووجهه طافح بالثورة والتصميم والتحدي .
فعدت الى جمالي .. وسقتها فمشينا ,نخترق سواد الليل البهيم , فوصلت عرعرة مع آذان الصبح .. كان جدي ينهي كلامه , بتنهيدة تعلن خلاصه من كابوس ثقيل .!
ولكن لما بدأت أحداث قبر جدي .. بدأ بعض الخبثاء من أهل البلد “يلوكون ” قصة جدي مع اليهودية ,ويربطونها بما يتعرض قبره من اعتداءات .. ” ممكن جدك نام معها هذيك الليله ..! ” قال لي حسن الفارس ,بعد ان مر بالجنود الذين كانوا يحرسون القبر .. ” فحبلت منه وجابت يهودا .. !! ” أكمل محمد المسعود بخبث يقسم الظهر .. “رب أخ لم تلده امك ..! ” .
في البداية رأينا في زيارته لقبر جدي وبكائه عليه , تعبيرا لمشاعر حزن ,بنتها في قلبه سنين من الصداقة جمعته معه .. ولكن عندما أصبح يأتي مع مرافقين غرباء لم نرهم من قبل , يلبسون البسة سوداء غريبة , ويقومون بحركات أغرب , ويربطون أنفسهم بالحبال اثناء هذه الحركات , أوجسنا خيفة .. فسألناه عما يختفي وراء هذه الأمور المشبوهه .. فأجاب وهو يكور فمه صانعا منه وعاء لأبتسامة ,فيها استعطاف لسامعي كي يغضون البصر,عن عمل كريه فيه فائدة له يود فعله , ترافقها غمزة تقول ” في ألأمر فائدة للجميع .. ! ” .
فسكتنا سكوتا ..عرفنا بعد فوات ألأوان انه , سكوت الذين ينامون والماء يجري من تحت جنوبهم.. !
ولما ارتفع صوت الشاب سامي العلي يحذر من الطوفان الذي سيخرج من القبر , ولا بد من سد الخزق قبل ان يتحول الى خازوقا نقعد عليه ..! , وضعنا في آذاننا عجين من طين , وقلنا انه ” متبجح أخرق , وشبهناه بالغراب الذي لا صنعة له الا ” بالتبشير” بالخراب .
ولكن زيارات يهودا مع مجموعاته السوداء , بدأت تزداد وتطول .. تقدمت منه في احداها , فحضنني وقبل ان انطق بكلمة , وشدني جانبا , ولما اطمأن أننا أصبحنا لوحدنا ولا يرانا أحد , دس يده في جيبه , ومن ثم نقلها بخفة” صاحب مهنه” الى جيبي, ولما مددت يدي لأتبين آثار عدوانه عليها , أخرجتها تحمل “كبشة ” من الأواق الماليه ,ولما رأيتها , غامت الدنيا في وجهي , فرميتها في وجهه , وألحقتها ببصقة في صباحه , وصرخت به ” أتريد أن أكسب المال من بيع قبر أبي ..!؟ ” فبكى بين يدي واستعطفني قائلا ” والله انك ابن بار لأبيك .. هيك الاولاد ولا بلاش .. والله الي خلف ما مات .. الله يا ابو جمال ..!” , وانفجر ببكاء مرير .. فاحتتضنته بين يدي مشفقا عليه من لوعة حزنه على جدي.. وتذكرت قولة محمد المسعود ” رب أخ لك لم تلده أمك ..! ” .
بعد عدة اسابيع , وفي احد أيام الصيف , تفقدت بعيني – كعادتي كل صباح– ضريح جدي فصادت عيناي شبئا جديدا و مزروعا على الضريح .. فأسرعت لأتبين ألأمر , وعندما اقتربت منه , شاهدت لافتة حديدية باللون الأبيض مثبتة على عامود من الخشب , مغروس بتراب الضريح , كتب عليها بخط عبري أسود :
ضريح الراب: ” ميمون بن سلمون الفاسي . !! “.
اخذ مني وقتا خلته الدهر حتى استطعت ان الم أنفاسي , وأستوعب دلالات الكلمات السوداء , المكتوبة على اللافتة , فأخذت يداي تلطمان وجهي دون شفقة عليه , حتى أصابه التخدر , وتزاحمت تعابير اللعن والسباب , لتخرج من بين أسناني ,مستخدمة أشد كلمات القذع , لتكيلها ليهودا وجلدته , والظروف العاهرة ,التي جعلتنا نتعرف عليه او نرى وجهه , شعرت شعور المغدور الذي كواه الغدر , ورش الملح على حروقه الملتهبة .
قلعت اللافتة من الضريح , وبدأت “أخبط ” عليها بقدماي حتى كادت تغور في الأرض , فاقتلعتها مرة أخرى من ألأرض , وتناولت حجرا ,من الحجاة التي بني منها ضريح جدي , وبدات بتكسيرها متخذا من شاهد القبر قاعدة صلبة للتكسير , فأفرغت في تكسيرها كل غلي , واستمررت في دقها, حتى تحولت الى فتافيت من الخشب, تكاد لا ترى بالعين المجردة , أما الحديدة, فقد رميتها بعيدا , على طول يدي ..!
وفي المساء سمعت طرقا على باب البيت , ولما رأيت شبح يهودا أمامي ,”طرقت” الباب في وجهه , ولما عاد ليطرق الباب مرة أخرى بشكل متواصل , فتحته فدخل الى داخل البيت بعد ان دفعني من أمامه , وصاح قبل ان أرميه خارجا :
– الا تريد ان تفهم ان كل هذ ” بزنس ” ..!؟
– روح أعمل ” بزنس ” على قبر أبوك ..!! صرخت به من ” قحف ” رأسي ..
– أين اللافتة ..!؟ سأل مستجديا ..
– سرقها الرابي “ميمون ” ..!! قلت هازئا ..وألان أخرج من هنا ,ولا أريد أن أرى وجهك مرة أخرى , وان رأيتك مرة أخرى تفترب من ضريح جدي , قد يكون آخر أيام حياتك ..!أكملت وأنا أدفعه خارج البيت ..
وفي اليوم التالي عاد ترافقه قوات كبيرة من الشرطة ,قيدوني وأخذوني الى المعتقل .. ولما سألتهم عن سبب أعتقالي, بعد ان تعبوا من كيل لي الضربات واللكمات والأهانات ,” من تحت الزنار.. ومن فوقه.!” قال كبيرهم:
– تهمك كثيرة : دخول الى مكان ملك لغيرك بدون أذن , تخريب املاك الآخرين , الأعتداء على مقام مقدس !.
– ولكن هذا ضريح جدي ..!! هذا قبر جدي ..!! تعالت أصوات صرخاتي , وهم يسوقوني الى الزنزانة.
فبت ليلتي لا أرى سوى كتلا من السواد, تتصارع امام ناظري , وتتمرغ على قبر جدي ..1
وفي الصباح ساقوني الى غرفة ينيرها الظلام , ووضعوني على كرسي, شققته فنون العذاب التي كان يتلقاها مع نزلائه من السجناء , فأصبح يهدد بلفظ أنفاسه ألأخيرة ..وأمامي انتصبت طاولة عاصرت سجون تركيا .. فلم ان اتكأ عليها, خوفا من ان يتهموني باغتيال مقدساتهم .!
فقدت حاسة قياس الزمان , ولذلك لم أعرف ,ان كانوا قد اطالوا في غياب عني ام قصروا.. فتحوا الباب ودخلوا ,كانوا ثلاثة بينهم كبيرهم , عرفته من كثرت الملصقات,التي تلمع من صدره وكتفيه , وجلسوا امامي وراء الطاولة , نظرت الى وجوههم , فجحظت عيناي , وفتحت فمي ونسيت ان أغلقه ,وتجمدت كالمسحور, وخرجت مني تمتمة :
– يهودا ..!!؟
– لاتنطق ألا بأجوبة عن اسئلتنا .. هنا أنا ” يتسحاق حوفه ” .. ولست يهودا ..!
سألوني عن اللافتة ..فقلت لهم انني نظقت القبر من الأوساخ كما أفعل دائما .. ولما سألوني عنة القبر .. أجبتهم : ان هذا قبر جدي قبرته بيدي .. ولما قلت ,انك انت يا بهودا, شاركتني في دفنه ..!استشاط
غضبا وصرخ في وجهي : ” أغلق فمك ..والله لو نطقتها ثانية , لحطمت رأسك ..!
” فرشوا “أمامي ورقة , فيها تنازل مني عن قبر جدي ..فقلت لهم ان السماء أقرب لكم من هذا ..!! فأروني نجوم السماء مرسومة على سقف زنزانة السجن ..!
” بيتوني ” في سجنهم أياما , محاولين “كسري ” .. وبعد ان يئسوا مني , أطلقوا سراحي ..
ولما وصلت الى بيتي , وجدت قبر جدي مسجونا داخل سياج نصبوه حوله , يحيط به حراس منهم مدججين بالسلاح , وثبتوا عليه لافتة كبيرة ومضيئة, مكتوب عليها بالعبرية :” هذا قبر :الراب ميمون بن سلمون الفاسي..!” .
واما حاوت قلع الأعمدة والدخول , لقراءة الفاتحة على ضريح جدي , قيدوني وأرجعوني الى السحن , فأصبحت أنا والسجن سجينين صديقين حميمين , من كثرة تعدد لقاءاتنا .!
وفي أحدى المرات التي خرجت فيها من السجن , توجهت انظاري الى ناحية المقبرة , رأيت من بعيد رجلا يجلس بجانب قبر أبي , فتقدمت منه لأتبين الأمر , فهالني ما رأيت – لقد كان ..يهودا بلحمه وعظمه .. !! كان يبكي بكاء مرا .. كان يبكي على قبر أبي ..!!

بقلم الأستاذ يوسف جمّال

789

تعليق واحد

  1. قصة جميلة سلسة سهلة القراءة لكنها مدلولها اعمق
    انعكاس لواقع أليم طال زمانه
    رشاقة في نقل حقائق التاريخ المخفية المموهة
    وكذبة صارت حقيقة
    جميلة هي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة