حرب الألوان على مقام الشيخ سمعان

تاريخ النشر: 01/12/10 | 10:46

الشيخ كمال خطيب – نائب رئيس الحركة الاسلامية

لسنا من دعاة بناء المقامات على أهل القبور ولا تعظيم أصحابها، فهم قد أفضوا إلى الله سبحانه، وهو أعلم بهم وهو أرحم بهم، حتى وإن كانوا من المشاهير والشهداء والأولياء، ومع اعتزازنا بمشايخنا وشهدائنا وصالحينا إلا أن شغلنا واهتمامنا إنما هو بالأحياء من أبناء شعبنا وأمتنا.

ولكن حين يكون للأموات دورٌ في إسناد التاريخ والحفاظ على الهوية وتفنيد ادعاءات المغتصبين والمحتلين كما هو في الحالة الفلسطينية، عندها يصبح للأموات نصيبٌ وافر من الاهتمام وتصبح المقابر محل انشغال.

ولأن المؤسسة الإسرائيلية قد أعلنتها حربًا شعواء على الأموات وعلى الأحياء من أبناء شعبنا؛ فراحت تهدم بيوتهم وقراهم أحياء، ثم تلاحقهم لتهدم بيوتهم أمواتًا (قبورهم) في محاولة منها لطمس معالم وهوية هذه الأرض وتزوير التاريخ والجغرافيا، فإننا نعتز في الحركة الإسلامية -ونحن نفهم الإسلام فهمًا شموليًا- ومع انشغالنا بقضايا وهموم شعبنا السياسية والاجتماعية والتعليمية والصحية، بأننا لم ننس -بل أولينا اهتمامًا- المقابر والأموات، لأن هذه المقابر هي الشاهد والدليل الباهر على هوية هذه الأرض أمام تزييف المزيفين وقراصنة التاريخ والجغرافيا.

وبرز هذا جليًا في هذه الأيام فيما يحصل في مقبرة مأمن الله في القدس، وما حصل وما يزال في مقابر الشيخ مونس وزرنوقة وطاسو وبلد الشيخ وطبريا وغيرها.

مقام الشيخ سمعان، وخلال سَيْرك من الشمال متجهًا جنوبًا، وحين وصولك جنوبي مدينة الطيبة في المثلث الجنوبي فإنك إذا نظرت يسارًا حيث أراضي قرية كفرسابا الفلسطينية المهجرة سترى مقامًا عليه قبة، هذه القبة تكون مرة خضراء، ثم تراها في مرة ثانية زرقاء اللون، هذا المشهد قد يتكرر أكثر من مرة بل لعلها مرات كثيرة خلال أشهر قليلة.

ويزول العجب إذا عرفت السبب؛ والسبب أن “مؤسسة الأقصى للوقف والتراث”، ومن خلال مندوبيها وأبناء الحركة الإسلامية في قرى المثلث الجنوبي، قد قاموا منذ سنوات بترميم هذا المقام وصيانته، وهو الذي يعود لشيخ فاضل ورجل صالح اسمه الشيخ سمعان، وهو الذي توفي ودفن في ذلك المكان قبل مائتي سنة، أي في الفترة العثمانية، كما قالت “سلطة الآثار الإسرائيلية” في رسالتها التي أرسلتها إلى المحكمة الشرعية في مدينة الطيبة يوم 8/11/2006. وكان من مظاهر الترميم طلي القبة بالدهان الأخضر بعد ترميمها. ولم تمض مدة قصيرة وإذا بمجموعات يهودية متدينة وتحت جنح الظلام تتسلل إلى ذلك المقام وتضع فيه الشموع وتقوم بطلاء القبة باللون الأزرق بدل الأخضر، ثم تكتب على باب المقام أنه قبر “שמעון = צדיק” الصدّيق “شمعون”، هكذا هي القرصنة في جنح الليل وفي وضح النهار، ثم لم يتردد مندوبو “مؤسسة الأقصى” وأبناء الحركة الإسلامية في إزالة كل هذه المظاهر وإعادة طلي القبة باللون الأخضر، حفاظًا على هوية صاحب القبر، وأعاد اللصوص والخفافيش الكرة مرة ثانية وثالثة، وهكذا في مشهد مستمر من معركة الألوان في مقام الشيخ سمعان، مع التأكيد أن هناك وثائق رسمية صدرت عن “سلطة الآثار الإسرائيلية” تؤكد أن هذا القبر هو لرجل مسلم اسمه سمعان وليس ليهودي اسمه “شمعون الصدّيق”، ومع ذلك فإن “سلطة الآثار” هذه تصمت ولا تتدخل لحسم الأمور.

إن القضية ليست قضية اللون؛ فاللون الأزرق لون جميل جدًا وهو يستعمل كثيرًا في الفن المعماري الإسلامي، وإنما هي الهوية التي يريد أولئك الغزاة أن يفرضوها على صاحب المقام، بل وعلى الأرض التي يقوم عليها، إنها كفرسابا التي اغتصبوها وبنوا عليها “كفارسابا”، ومن هنا تأتي أهمية عدم الرضوخ والتسليم بالأمر الواقع، ليصبح اللون ذا دلالة، فهم يريدونه أزرق، ونحن نـُصّر أن يكون أخضر، فهكذا هي بعض معاني الصراع على الهوية والتاريخ والجغرافيا في هذه الأرض المباركة.

وإن معركة الألوان في مقام الشيخ سمعان هي جبهة من جبهات الصراع بين الفلسطينيين وبين المشروع الصهيوني الاحتلالي، حيث وبقوة السلاح وبحماية القانون والمحاكم الإسرائيلية الظالمة وبالإرادة السياسية العنصرية يتم السيطرة على مواقع فلسطينية هي ليست للأموات، بل إنها بيوت الأحياء، كما حصل ويحصل في حي الشيخ جراح في القدس، من طرد عائلات فلسطينية تسكن في هذه البيوت قبل الاحتلال، ثم يتم إسكان يهود مكانهم، بينما يُلقى بهم في العراء كما هو حال عائلات الكرد وحنون وغاوي وقِرّش وغيرهم.

ولقد كتب المدعو “عادي آربيل” مقالًا في صحيفة “هآريتس” يوم الأربعاء 11/8/2010 تحت عنوان “לא שייח גיראח _ שמעון צדיק”، أي ليس الشيخ الجراح وإنما “شمعون الصدّيق”، إنه ينسف هوية حي من أحياء القدس العريقة بزعم أن في المكان قبرا لشخص يهودي اسمه “الصدّيق شمعون”، فهم لا يفترون على الماضي فحسب، بل إنهم يعتدون على الحاضر، وهم لم يعتدوا على الأموات في قبورهم فحسب، بل إنهم يعتدون على الأحياء في بيوتهم فيطردونهم منها.

إنهم يكذبون الكذبة ثم يصدقونها، ويظنون أن استمرار ترديدهم للكذبة سيجعل الناس يصدقونها ويتعاملون معها على أنها الحقيقة بعينها، هكذا فعلوا مع الشيخ سمعان وهكذا يفعلون مع الشيخ جراح، بل وهكذا يفعلون مع المسجد الأقصى المبارك والزعم أن حائط البراق هو من آثار هيكلهم الثاني، وأن المسجد الأقصى قد بُنيَ على أنقاضه لذلك فلا بد من هدم الأقصى لإعادة بناء الهيكل.

وإن الناظر إلى خارطة الوطن الفلسطيني سيجد العديد من المواقع التي اغتصبوها وفرضوا عليها أسماءً من عند أنفسهم وتحمل دلالات دينية، في محاولة منهم لطمس التاريخ والجغرافيا مع أنهم في قرارة أنفسهم يعرفون أنهم يكذبون على أنفسهم وعلى الناس. ولقد تذكرت قصة الصديقَيْن الشقيَّيْن، وقد كانا عاطليْن عن العمل، وإنما عملهما وحرفتهما البطالة والشقاوة، وبينما هما يتسلقان يومًا في البراري إذ هاجمهما دبورٌ يريد أن يلدغ أحدهما، فتمكنا منه فقتلاه، ثم أمسك كل منهما بعود وراح يقلب به الدبورَ الميتَ يُمنة ويُسرة، فكان أن خطرت لأحدهما خاطرة فقال لصاحبه: “ما رأيك لو أننا دفنا هذا الدبور وبنينا عليه حجارة على شكل قبر، ثم بنينا فوقه بناءً ووضعنا عليه أقمشة وأسرجنا عنده قناديل، ثم نشيع بين الناس أن هذا مقام رجل صالح اسمه الشيخ دبور”.

وهذا ما كان، وحيث الجهل والتعلق بالقبور وكثرة البدع فقد انتشرت بين سكان المنطقة الأحاديث عن مقام الشيخ دبور، وأنه ببركته يشفي المرضى ويساعد النساء العواقر على الولادة، ويقرب الأزواج إلى بعضهم البعض، ويعين على الرزق، وكانت كل امرأة تأتي إلى المقام تتصدق بالمال، تلقي به داخل المقام، وتأتي بالهدايا والعطايا للفقراء الذين يأتون إلى مقام الشيخ دبور، وما أن يترك الناس المقام حتى يأتي الشقيّان ويأخذان ما وضعه الناس، وهما يضحكان ملء الفم من كذبة “الشيخ دبور” التي ابتدعاها، وكثر المال بين يدي الشقيَّيْن مما كانا يأخذانه من ذلك المكان، فكان أن دبت بينهما الخصومة، وقد اتهم أحدهما الآخر أنه يغافله ويأتي للمكان فيأخذ المال بدون علم الآخر، فما كان من المتهم إلا أن أقسم قائلًا: “أقسم بالله وبقبر سيدي الشيخ دبور أني لم آخذ المال”، فضحك الشقي الثاني قائلًا له: “تقسم بالشيخ دبور يا كذاب؟! ألم ندفن الدبور بأيدينا؟ فكيف أصبح شيخًا واسمه دبور؟!”، إنهما كذبا الكذبة وصدقاها، وهذا حال المؤسسة الصهيونية السياسية والدينية وهي تقوم باغتصاب المواقع وإطلاق الأسماء عليها، ثم يتعاملون معها أنها الحقيقة بعينها، مع علمهم بكذب وزيف ادعائهم في نسبة هذه المواقع إليهم.

وهذا ما يحصل الآن في مقبرة “مأمن الله” التاريخية في القدس، والتي احتلت عام 1948م وكانت مساحتها تزيد عن 200 دونم، وفيها قبور لصحابة كرام من عهد الفتح العمري للقدس الشريف، وظلت هي المقبرة الرئيسة للقدس الشريف، حتى جاء الاحتلال الذي قام باغتصاب المقبرة وسجلها تحت ما سُمّي “دائرة أراضي إسرائيل”، وبنى فوق القبور مركز شرطة ومركزًا إعلاميًا وفندقًا وحديقة عامة، ولم يبق منها سوى عشرين دونمًا تخطط بلدية الاحتلال أن تبني عليها مجمعا للمحاكم ومركز سموه “مركز التسامح الإنساني” ثم وحدة مراحيض عامة، نعم؛ مراحيض فوق مقبرة مأمن الله ومحاكم ستحكم بـ”العدل” بين الناس ومركز للتسامح، وأي تسامح يكون لمّا تنبش القبور ويبنى فوقها مركز عمراني؟!.

وإن هجمة الاحتلال الإسرائيلي المسعورة وهدم مئات القبور في مقبرة “مأمن الله” التاريخية، الذي تنفذه بلدية الاحتلال، يأتي بغطاء من الجهاز القضائي والسياسي الإسرائيلي، أي الحكومة الإسرائيلية، لإزالة ذلك الأثر والموقع الذي يشهد لتاريخ وجغرافيا ذلك المكان.

والمفارقة العجيبة أنه في نفس الوقت الذي تقوم فيه المؤسسة الإسرائيلية بتجريف وهدم وتدمير مقبرة “مأمن الله”، فإن هناك مشروعًا ضخمًا لصيانة وتوسيع المقبرة اليهودية الواقعة في جبل الزيتون بين الأحياء الفلسطينية؛ رأس العامود والطور وغيرها، ذلك المشروع الذي أقرته حكومة “نتنياهو” في شهر 11/2009، وهو بتمويل مباشر من مكتب رئيس الحكومة “بنيامين نتنياهو”.

أليست مفارقة عجيبة ومضحكة أن يتم في آن واحد، وبقرار من نفس الجهة، تدمير وتجريف ونبش المقبرة الإسلامية الواقعة في غربي القدس، وصيانة وتوسيع وتسييج المقبرة اليهودية الواقعة شرقي القدس، وتكون الكذبة الكبرى منهم؛ أن الحركة الإسلامية تريد السيطرة على أراض تملكها “دائرة أراضي إسرائيل” اسمها حديقة الاستقلال.. حتى الاسم تم تغييره؛ المقصود مقبرة “مأمن الله”، ولم يخجلوا من أنفسهم وكذبوا كذبتهم أن الحركة الإسلامية تريد السيطرة.. على ماذا؟ على قبور!.

نعم.. إننا لا ننكر أن صيانتنا للقبور وأن حفاظنا على المقبرة هو جزء من معركة الهوية والتاريخ والجغرافيا بيننا كفلسطينيين وبين المشروع الصهيوني، وإننا في الحركة الإسلامية نعتز ولا نختبئ خلف أي شعار، ونؤكد أن الحفاظ على المقبرة هو حفاظ على هوية الأرض وعلى تاريخ القدس ومستقبل القدس، وإننا نعمل ونسعى للحفاظ على ذلك التاريخ.

والغريب واللافت أنه ورغم اعتراض ورفض وتنديد جهات إسلامية رسمية وشعبية بهذه الجريمة وهذا الاعتداء على مقبرة “مأمن الله”، وهذا ما كان من موقف فضيلة القاضي أحمد ناطور، رئيس محكمة الاستئناف الشرعية العليا، والسيد محمد زيدان، رئيس لجنة المتابعة العليا لشؤون المواطنين العرب، إلا أننا لم نسمع أي مسؤول إسرائيلي يصغي إلى صوت العقل والمنطق وينادي بضرورة إيقاف هذه الجريمة.

والأنكى من ذلك أن رئيس المؤسسة الاسرائيلية “شمعون بيرس” كان ضمن الصامتين بل المنخرسين، حيث لم ينبس ببنت شفة ضد جريمة تدمير القبور وجرفها، لا بل إنه وكما قال المثل “بقتل القتيل وبمشي بجنازته”، فإنه قام بتوجيه الدعوات لقيادات وشخصيات إسلامية رسمية وشعبية لتناول الإفطار الرمضاني على مائدته يوم الثلاثاء الأخير 17/8/2010. وإنني هنا أسجل وباعتزاز الموقف المشرف والأصيل الذي وقفه السيد محمد زيدان، رئيس لجنة المتابعة العليا لشؤون المواطنين العرب، والذي أرسل رسالة إلى “شمعون بيرس”، يعتذر فيها عن تلبية الدعوة للإفطار الرمضاني، موضحًا أن السبب في ذلك هو قيام المؤسسة الإسرائيلية بتجريف وهدم مقبرة “مأمن الله” واقتلاع واجتثاث قرية العراقيب وهدم البيوت العربية والمطاردات السياسية، دون أن يُسمع للداعي -رئيس المؤسسة الإسرائيلية- أي موقف أو محاولة منه لوقف هذه الهجمة السلطوية العنصرية ضد أبناء شعبنا.

هل الذين يهدمون قبور أجدادنا في أول يوم من شهر رمضان هم فعلًا يحترمون رمضان والصائمين؟ هل الذين يقتلعون قرية العراقيب للمرة الثالثة قبل رمضان بيوم واحد، ويتركون أهلها الصائمين لحر الشمس بلا بيت يؤويهم، هم فعلًا يحترمون رمضان؟!.

وإنني في الوقت الذي أحيّي فيه السيد محمد زيدان على هذه الوقفة المشرفة؛ فإنني أشد على يديه وهو يلبي نداء موتانا من الصحابة والتابعين والعلماء والشهداء في مقبرة “مأمن الله”، وهو يلبي آهات أهل العراقيب من الأطفال والنساء الذين ألقي بهم تحت حر الشمس بلا مأوى، فرفض دعوة “شمعون بيرس” للإفطار على مائدته لصالح نصرة قضايا شعبه.

هل هذا قدرنا مع “شمعون”؟! مرة يكون صِدّيقًا ويريد طمس معالمنا، ومرة يكون سياسيًا ويريد قتل مشاعرنا.. ولكنه يبقى “شمعون” إياه، الذي يعتدي علينا في مقبرة “مأمن الله” وفي الشيخ جراح وفي مقام الشيخ سمعان، وفي شهر رمضان. وإنها في الحقيقة ليست معركة الألوان؛ وإنما هي معركة الأوطان التي لن نفرط فيها ولن نـُقرَّ فيها لظالم مهما بلغت قوته وبطشه، وإنها الأيام ستحكم بيننا وبين القوم الظالمين، وإن غدًا لناظره قريب.

رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولأخي الشيخ رائد بالمغفرة

(والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة