يوميات امرأة تحت القصف

تاريخ النشر: 03/08/14 | 14:44

باح هدنة الأنثي عشر ساعة، السبت 26 تموز، عدنا للمنزل واتممنا برامجنا كما كنا قد خططنا لها.. والدتي ذهبت وعادت من كابوس البنك وبدوري بعدها جهزت أغراضي وقصدت مستشفى الشفاء.. في المنزل لا كهرباء ولا ماء، عبئنا مياه للإيفاء بالضروري المقتصد من احتياجاتنا من المحال (السوبرماركت) والجيران، وفطرنا فطوراً ناشفاً كما السالف من أيام في الفندق دون مطبخ وبشح في المياه… وانقضى يومنا حتى زودونا بالكهرباء الرئيسية من ال12 بعد منتصف الليل، سعدنا فيها لخمس ساعات حتى الصباح، بعد أيام من ثلاث ساعات كهرباء فقط أو ساعتين أو انعدامها إلا من مولد الفندق لقرابة الساعة…..
لكني لم اتمكن من اصلاح خط النت في المنزل وحتى اليوم ترفض الشركة ارسال مهندسين في ظل هذه الظروف حتى في أكذوبات الهدن المعلنة… لا سيما وعمارتنا والمجاورة المقصوفة تشترك في الخطوط
من طرائف وسخرية المواقف هذه الأيام، كنت أرد على كل من يسألني مستهجناً: هل حقاً عدتم للمنزل!، أجل وهذه المرة لا هروب بعدها ومن سيطلب مني الإخلاء سأقول له: أخلي أنت، أنا لن أخلي مجدداً! وهذه حقيقة رغبتي الجادة لكني مرغمة انصعت مجدداً لحرص أمي على ولداي.. سأوضح ذلك عندما أصل إليه..
وانتهت الهدنة في تلك الأثناء وعاد القصف المتوسط الشدة واعلنت هدنة أخرى في اليوم التالي من 9 إلى 9 ثاني يوم وفشلت، واعلن عن أخرى من الثانية بعد الظهر إلى مثليتها من أول أيام عيد الفطر… ولم تنجح تماماً بل على مضدد.. حيث في تمام الثانية وعشر دقائق بعد ظهر الأحد كنت العب والاعب عطايا على سريره في غرفته على (آي باده الصغير) وإذا بالقصف يتجدد على الخدمات الطبية في مجمع أنصار بشكل فجائي، فطار الزجاج الأعلى للشباك الملتصق بالحائط والذي لا يمكن نزعه إلا بخلعه لهذا لم نتمكن من ازالته بعد تكرار تكسر زجاجنا، ولامس جزيئاته كعب قدمي بجروح طفيفة (ولله الحمد) فتمسمرت مكاني لبرهة ولم أحضن وأخبئ عطاياي كما العادة ولم أصحو إلا على اجتداء إبراهيم الذي آتى إلينا مرعوباً ليتناولنا إلى ممرنا المنزلي (الآمن!) فتداركت نفسي وطلبت منه حمل أخيه بينما ما استطعت تحريك قدماي إلا بالقوة والسحب من وقع الضربة وليس من ألم الجروح البسيطة فيها، بينما كانت والدتي أثناء القصف تصلي ووعت على نفسها هي الأخرى في أخر الممر أمام باب المنزل الذي خلع هذه المرة.. اطمئننا على بعض، وحدنا الله وتشاهدنا كما العادة وشربنا الماء، وناديت حارس العمارة المقابلة ليساعد إبراهيم في دق الباب ورده، ونجحوا في ذلك مع إنه تشقق، واتممنا يومنا ما دام الجميع بخير بين الممر حين والإنتشار مسرعين في المنزل من الضجر حيناً أخر، حتى المساء أتت الكهربا مجدداً بعد ال12 من منتصف الليل، وبعدها بساعة بدأت الماء تعود إلى الصنابير تدريجياً، فأحتفلنا بها والدتي وأنا وقمنا بتنظيف كل البيت من بواقي الزجاج حتى صلاة الفجر، صليت ووالدتي وغفت هي، بينما اغتسلت أخر غسلة اعتيادية في ظل توفر الماء والكهرباء الرئيسية أي السخان معها! وبعدها كل ما فعلته بعد ليلة طويلة لم يغمض لي جفن فيها وأنا أفكر في عيد غزة هذا العام وصور أطفال وجرحى مستشفى الشفاء من عصر اليوم الفائت لا تفارقني، وأنتظر تهليللات العيد كما اعتدت انتظارها ومراقبة الوافدين إلى الجوامع، ولعل نفسي تسكن بها، من شباك إلى شرفة وأخرى حتى حان موعد صلاة وخطبة العيد… وهو حقيقة جل مأ انتظره منذ سنوات من العيد…. استمعت اليها عن بعد بصدى متواضع لأصوات الأطفال والمؤذنين، القادمين من عدة مساجد مجاورة مقصوفة ومدمرة والذين اجتمعوا في مسجد الأمين محمد (ص) وكان الجامع الوحيد المتبقي في المنطقة المجاورة حتى حينه!!، حيث حرمنا منذ أول الشهر الفضيل من الاستماع إلى الآذان لا سيما ما كنا نرتقبه من آذني الفجر والمغرب وكذلك صلاة التراويح، بعد قصف مسجد أنصار والمساجد الأخرى المجاورة… وكم كنت أتوق شوقاً لسماع الآذان في أي وقت وكل وقت من دقائق ضيقنا المستمرة هذه الأيام!
واستيقظ الجميع وعيادنا بعض بالقبل والإبتسامات المستحية، واهتممت بعطايا باستحمامه وهندامه (طبعاً بدون ملابس العيد لأني لم أفكر حتى في توفيرها هذا العام) بل عايدناهم نقداً لكي لا يفقد العيد كل عاداته ولعلهم بعد الحرب ينتفعون بها كما يرغبون، وارسلتهم معاً إبراهيم وعطايا كل إلى منزل جدته لمعايدتها.. ليتبقى من تقاليد العيد الدينية على الأقل صلة الرحم.. على الرغم من قسوة الظروف وأحوالنا
وفي غيابهما عن المنزل، كانت أصوات القصف على الزيتون والشجاعية والدخان البعيد المنبعث في السماء مدعاة للقلق الشديد، ارتحت نسبياً بعودة عطايا التي حرصت على أن تتم قبل انتهاء هدنة الثانية بعد الظهر المنقوصة، أما إبراهيم فبقي في منزل والده لقضاء ليلته هناك، مع إنه عندهم أكثر آمان في الموقع الجغرافي، لكن مشاعري كانت مرتبكة بين قلق وارتياح.
لم اتصل بأحد لأعايده ولا أي أحد، ومن اتصل بنا اتصل ليقول لنا الحمدلله على سلامتكم، خاصة كل من كان يرانا أسفل المنزل حتى اليوم من جيران وسوبرماركت ومكتب التكسيات.. وهنا أود شكر كل من عايدنا وارسل لنا نصاً أو هاتفياً أو فيسبوكياً على صندوق الوارد معايدته وأمنياته الطيبة بالعيد المبارك السعيد وأود أن تعذروني لن اتمكن من الرد عليها مع أمنياتي بالأفضل دوماً للجميع، لكننا نحن هنا حتى مع محاولاتنا الهزيلة من أجل أبناءنا لأن نبدو بخير، نسينا العيد الذي لم يفقد فقط بهجته بل معناه وإنسانيته وطفولته ونكهته وطعمه وآدميته وآمانه واساساته ووووكل شيئ يبنى عليه…… لم يتبقى منه في مخيلتنا إلا الآسى والمأسي…
عودة إلى ما بدأته في مدونة الحرب هذه… انتهت الهدنة، هدنة اليوم الأول من العيد المعلنة وبدأ يشتد ويشتد ويشتد القصف، ونسمع على مذياع المحمول عن بطولة المقاومة في مناطق المواجهة وعن ضحايانا وتجدد المجازر نتيجة القصف.. ويشتد القصف…
كانت ليلة القنابل المضيئة على منطقتنا بمجملها.. غرب غزة.. من تل الهوا والجامعات والشيخ عجلين والميناء وأنصار ومخيم الشاطئ… كان وقعها على أذننا أشد من القصف بالصواريخ ذاتها والألم يتكبدنا ويعتصرنا، وكنا نرتج وقلوبنا كانت ترتجف وتنتفض بمعنى الكلمة مع كل نزول لها، والتي لم تهدف فقط للإنارة للطائرات وارشادهم على أهدافهم بقدر ما كان الهدف منها افجاع الآمنين في بيوتهم من أطفال وأسر.. وبين جملة وجملة من القنابل المضيئة، لم تبارح الزنانات المزعجة سماؤنا وتحليق الطيران الحربي على علو منخفض ويستهدف العديد من المواقع وأهمها من القريب منا كان مجمع أنصار، ديوان القضاء، وبقصف متكرر عنيف الجامع الوحيد المتبقي (الآمين محمد ص) وختموها بعد الفجر وقبل بزوغ الضوء بثلاث غارات عنيفة على مبنى الصيادين في الميناء، ومع كل غارة كان وهج النار واللهيب الأحمر يخترق شبابيك منزلنا المكسر زجاجه، ونسمع أصوات تكسر زجاج المباني المجاورة لنا وللميناء من عنان حتى أبراج طيبة وأبو رمضان حتى فندق غزة الدولي الذي فرينا إليه مراراً نزل بمجمله!!، وهلع وصريخ النسوة والأطفال من الجيران الذين سارعوا إلى أسفل أبراجهم لا سيما برجي الأندلس والسوسي، واتصالنا أصدقاء وجيران ببعض لتفقد بعض، ونزول بيت جيراننا الجدد الذين سبق ودمر منزلهم المجاور، إلينا ليحتموا معنا وأطفالهم الثلاثة في ممر منزلنا لعلنا نواسي أطفالنا ونؤنسهم ببعض.. كانت صدمتهم هم وعطايا وهم أصغر منه في العمر أيضاً يصعب وصفها حقيقة وأفضل أن لا أفعل حتى لا أضعف ولا انهار… بقينا معاً وقتاً كافياً حتى بدأت تهدأ شدة القصف، أو لربما حتى انهكنا من السهر والقلق والخوف وكثرة ما تشبعت صدورنا من روائح الغازات التي استنشقناها، عادوا جيراننا أدراجهم وغفونا في أمكاننا دونما أن نشعر حتى كيف، دون حتى أن نقفل باب المنزل الذي تكسر مجدداً وتمزق أكثر، وكان هنالك أصوات لقصف بعيد وكنا نسمعها نيام لكننا ما عدنا نقوى على المكابرة والصحو أكثر، وأخر ما أذكره هو سحابات الدخان والحريق لا تزال تنبعث من الميناء حيث بنزين ومولدات وشِباك قوراب الصيادين التي قصفت في مبناهم الجديد في جزء الميناء الجديد… واستيقظنا على أثر صوت صاحب المنزل على الباب ينادينا وينتظر أن نصحو ليصلح لنا الباب ولباقي بيوت العمارة، وسمعته والدتي يحدث صديقه بأنهن نساء وحدهن فقط فلنبدأ من هنا لكن طبعاً بالعامية!!! وعلى ذات المشهد وحريق مشتعل من الغرب، وأخر أبعد لكنه أفظع لسحابات أكبر وأكثر قتامةً من الجنوب الشرقي ناتجة عن استهداف محطة توليد الكهرباء الوحيدة في غزة..
ومنذ حينها ما عدنا نحلم لا في 5 ساعات ولا ثلاث ولا حتى ساعة واحدة من الكهرباء الرئيسية تصل إلى منزلنا….

بقلم المحامي حسن صالح

2om

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة