“ستسافرون ولأي حُلم؟”

تاريخ النشر: 16/07/14 | 2:51

كنت أنتظر عند زقاق في مخيّم شاتيلا، بينما ذهبت زميلتي لتسأل أين يقع قبر غسّان كنفاني. هناك، أخذتني جدارية متواضعة على حائطٍ مُنهك، كُتب فيها اقتباس لمحمود درويش: “ستُسافرون ولأي حُلم؟”. التقطت صورةً وأشرت لزميلتي إلى أن هذه الجداريّة كان عليها أن تكون عنواناً لفعاليّات “السفير العربي” التي جئنا لأجلها: “حلم: نحن في العام 2054”. لكننا لم نتوقّع أن يتحوّل هذا الاقتباس عنوانًا لما هو أكبر من ذلك.

على باب سجن الجلمة طلبوا منّي قبل أن أخرج توقيع ورقة ما تفصّل القوانين التي اتهمت بمخالفتها. ابتسمت طويلاً حين قرأت أن تهمة زيارة “البلد العدو” تأتي بموجب قانون المُتسللين – القانون الذي سنّته إسرائيل في الخمسينيّات لتمنع اللاجئين الفلسطينيين من العودة إلى أراضيهم. هذه القوانين التي سُنّت لتقمع، تنقلب على من وضعها. لأنها بدل أن تردعك، باتت تذكرك أن حقّك وحلمك في زيارة بيروت، هو ذاته حقّك وحلمك في أن تعود إلى قريتك المهجّرة – البروة.

لا شكّ في الجوهر العنصري للأجهزة الأمنيّة التي لا تلتفت لصحافي يهودي خالف قانونا ما بينما تلاحق صحافيا آخر لأنه عربي. لكنّ الأهم من ذلك هو حق العربيّ الفلسطيني ـ لأنّه عربيّ فلسطيني له مكانة وحقوق تاريخية ـ في أن يتواصل مع فضائه العربيّ حيث أهلنا وأصدقاؤنا وزملاؤنا. وهناك ما هو أهم من ذلك كلّه: معنى هذا التواصل الأساسي هو تواصل الإنسان مع ذاته، مع الواقع المادّي الذي كوّن هويّته الذاتيّة وشخصيّته. بيروت حملت قدراً هائلاً من قصّتنا نحن الفلسطينيين، خاصةً لأنها ممنوعة. لقد عاش فيها الأبطال الذين حاكوا مخيلة طفولتنا، الأحداث المركزيّة التي كنا نتشوّق لنسمع عنها، كلها كانت في بيروت. “الخروج من بيروت” حدث تاريخيّ في الفترة التي كانت فيها هذه المدينة عاصمةً لـ”الوطن المعنويّ”. وكان الخروج منها بداية التنازل عن المعنويّ العادل والبحث عن فُتات دولة على فُتات أرض.

قصّتنا في بيروت حاكت دراما تاريخيّة تمكّننا من تخيّل ماضينا المشترك كشعب. وهي قصّة خلّفت إسقاطات سياسيّة تشكّل واقعنا الذي نعيشه اليوم. ولكن ما ينقص الصورة لتكتمل هو المستقبل. وأن يصنع شعب مستقبله، يعني أن يُمسك بأحلامه ويُنزلها من السماء إلى أرض الواقع، وأن يكون الناس هناك، عند نقطة التماس بين الواقع والحلم، ليشهدوا ارتطام المستقبل بالحاضر، وليشهدوا الاصطدام ويشتركوا به، حتى وإن كان مكلفاً أو مخيفاً. هذه المجازفات هي التي تجعل الناس في مجتمعنا صانعين لمستقبلهم.

ليست القضيّة قضيّة شخص. كان يُمكن أن يبدّلني في زيارة بيروت أي زميل أو صديق أو رفيق. ما يجعل القضية على أهميتها هو ما ينتظم من تضامن وموقف موحد لا تأتأة فيه، من عمل مؤسساتي مهنيّ، ومن تحرّك عاطفيّ صادق. هذا الانتظام (المهني والعاطفي في آن) هو العمود الفقري لهذه القضيّة وكل قضيّة، وعليه أن يحمل قضايا أكثر منها إلحاحاً مثل استمرار هدم البيوت ومحاولات التجنيد للخدمة العسكريّة، وهي أولويّاتنا كمجتمع فلسطيني في الداخل برأيي.
لقد كان الدعم أقوى مما كنت أتخيّله. أعرف أصدقائي ولم أقلق ولم أخف. كنت متأكداً من الدعم الهائل، وان كلا منهم يعرف دوره ويساهم بطريقته. كنت متأكداً من أن الأصدقاء في “السفير العربي”، د. نهلة الشهال وزينب ترحيني وآدم شمس الدين، يقومون بدورهم لأجل قضيّتنا بالالتزام ذاته والطاقة والحرارة اللتين لمستهما منهم في لبنان. وكنت متأكداً من أن زملائي وأصدقائي في مركز عدالة يعملون كما أعرفهم وأكثر. ان المحامين آرام محاميد، فادي خوري وسوسن زهر يعملون دون توقّف لنبش كل تفصيل قانونيّ صغير يُمكنه أن يفكّ عني القيد بأسرع ما يمكن، وان العزيزين صلاح محسن وتوم مهاجر من الطاقم الإعلاميّ لعدالة يصلون الليل بالنهار لتنكشف للعالم عدالة القضيّة التي ندافع عنها. كنت أعرف أن الرفاق الذين وقفت معهم وخلفهم في الشوارع قبل أشهر لن يتركوا أخاً في الزنازين من دون أن يقرعوا الجدران لأجله. وكنت أعرف أن عائلتي، أبي أمي وأخي، يتمتعون بكل الصلابة المبدئية. كنت متأكدًا من كل هذا، لكنّي لم أتخيّله بهذه القوّة والمحبّة والطاقة المذهلة.
“ستسافرون، ولأي حلمٍ؟” قال الجدار في شاتيلا. تضيق القضيّة ان نُجيب أننا سنسافر إلى بيروت. لكنها تتسع إن قلنا إننا سنجعل الأحلام تنزل إلى أرضنا وتصير واقعاً. آن للأحلام أن تتحقق. آن لنا أن نحققها.
بقلم مجد كيال – السفير

yttt
رسمة لمخيم شاتيلا – لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة