رمضان الجمع والشمل

تاريخ النشر: 09/07/14 | 10:00

رمضان يجمعنا على مائدة الافطار، والطيبات، والاكل الحلال وتعليم أبنائنا آداب الطعام وسنن الصيام، والشكر لله على النعم (وبالشكر تدوم النعم) فهي نعمة ونعمة، نعمة الغذاء للبدن، ونعمة الصيام للروح، (وَلَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُم) وقد نزلت بنا نعمة ووفقنا الله للعبادة والطاعة، وما أحلى الجمع ما بين غذاء البدن وغذاء الروح، فانظر اين اقامك في زمن رمضان بركة وتوفيقا… فهل من مشمر؟
رمضان يجمعنا على صلاة التراويح خلف إمام واحد، إذا كبّر نُكَبِّر وإذا ركع نركع، وإذا سجد نسجد، نصلي الركعات الثمانية (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرَاً فَهُوَ خَيْرٌ لَه) ومن زاد على ذلك (إِنَّ نَاشِئَةَ الَلَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئَاً وَأَقْوَمُ قِيلَاً)، هذا اللمّ والشمل على العبادة، العائلة، العيلة بالليلة تتوجه نحو المسجد (قلبٌ معلقٌ بالمساجد..) الزوج والزوجة والأولاد والبنات، وما أحلى لمّ الشمل (في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيها اسْمُه…).

رمضان يجمعنا على القرآن بالقرآن، “شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فيه القرآن هدى للناس….” فهو شهر القرآن، يجمع العائلة لتقرأ جزئها أو حزبها أو تراجع حفظها، أو تسمع لآيات قرآنية بالتدبر والتأثر، فتجد نفسها عند قوله تعالى:(حافظوا على الصلوات، والصلاة الوسطى..) وتجد حالها عند قوله تعالى: (أدعوني أستجب لكم) وتعرف إيمانها (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك….) وترفع شكواها (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) وتربيّ ولدها (يا أيها الذين آمنوا أنفسكم وأهليكم…) وتسعى لنصرة دينها (إن تنصروا الله ينصركم).. وتجتمع لتقلع جور الظالمين وعدوان المعتدين وكيد الماكرين، ومكر المنافقين والمفسدين.
رمضان يجمعنا مع أيام العزة والكرامة، النصر والشهادة، في معركة بدر الكبرى، في معركة عين جالوت، في فتح مكة، هي أيام أعزّ الله فيها الإسلام وأذلّ فيها الكفر والكافرين، الشرك والمشركين، هي نقاط فاصلة، الانتصار على العدو دون نظر إلى العدد والجنس واللون، بل هي النوعية التي انتصرت على نفسها، وشحذت روحها ونجحت في الامتحان الأول وهو الانتصار على الشهوات، فحقق الله بها النصر على الباطل وجيشه (وَكَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله..) هي قليلة العدد ولكنها كثيرة الإيمان واليقين وحسن الظن بالله، هي عددها قليل ولكن أهدافها عظيمة وغايتها الله، وسبيلها الجهاد وإحقاق الحق، فما أجمل لمّ الشمل، وجمع العيلة على أيام النصر في تاريخنا وإسلامنا لنضيء نورا وأملا وتفاؤلا وبشرى خير لحاضرنا ومستقبلنا.
رمضان يجمعنا (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبَّكُمْ فَاعْبُدُون) جمعنا رمضان في عبادة رب العالمين على وقع نداء “الله أكبر، الله أكبر” في البيت إفطار، وفي المسجد قيام، وفي النهار صيام، وفي القلب إيمان، كما جمعتها الجراحات والآلام والدماء، فجرح سوريا والشام، وجرح غزة الأبية وجرح القدس الشريف، وجرح الأقصى المبارك، وجراح مصر الكنانة، وجراح ليبيا المختار، وجراح بغداد العلماء والخلفاء، وجراح بورما، وأفريقيا الوسطى، وجراح تركستان وما شابه ذلك، فالدين جمعها، والدماء جمعها، والجرح لمّ شملها، ولو بتأثر القلب كحد ادنى، بانكسار المنكر، وهذا اضعف الإيمان، فما أجمل البيت والعيلة التي تلمّ شمل الأمة في بيتها لتداوي جراحها بالدعاء للجرحى، والرحمة للشهداء، والنصر للمرابطين.
رمضان يجمعنا وإن تباعد الزمن بيننا، وتجاهل مكان سكننا، فما أطيب اللقاء مع الأولاد والأحفاد، والتقارب والانسجام بين أفراد الأسرة الواحدة، على أرحام وصلة، وحب ومودة ورحمة وإن كان سبب الفرقة الحقد والحسد فإن يعقوب قال لأبنائه (لَا تَيْأَسُوا مِنْ رَّوْحِ الله…) وقال لهم يوسف (هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بَيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُون) فلما عرفوه في هذه اللحظة الحاسمة قال لهم (لَا تَثْرَيبَ عَلَيْكُم اليَوْمَ يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين) وانتهى حزن يعقوب (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) فدخل أولاد يعقوب المدينة فرحين مستبشرين وسبقهم البشير الذي كان يحمل قميص يوسف فألقاه على وجه يعقوب فارتد بصيرا، وشع النور، ورأى السماء والأرض والجمال والربيع ويوسف عليه السلام (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم) ما أروع لمّ الشمل بين الأب وابنه، الأم وابنتها، بين الزوجين، بين الأخوة والأخوات، وما أطيب الجمع واللقاء مع التسامح والتغافر والتناصح.

ومن أقرب الصور الى الجمع ولمّ الشمل والوقفة الواحدة لنصرة المستضعفين والمرابطين وأهل العلم والإيمان، والأمة الإسلامية، وقضايا المسلمين وتثبيت البيت المسلم أن ندع أبنائنا ونساءنا وأنفسنا ثم نبتهل ثم ندعو ثم نتضرع فنجعل دعاءنا لصلاح أنفسنا وبيوتنا وذرياتنا حتى تجتمع الذرية يوم القيامة (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) قال ابن كثير: يخبر تعالى بفضله وكرمه ولطفه بخلقه وإحسانه، أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم بالإيمان، ألحقنا بآبائهم في المنزلة، وإن لم يبلغوا عملهم لتقر أعين الآباء بالأبناء في منازلهم، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه.

الشيخ محمود اغبارية
رئيس لجنة نشر الدعوة القطرية

m7modeghbarih

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة