حوار مع الفنان التشكيلي سعيد العفاسي
تاريخ النشر: 18/02/12 | 1:47بقلم حميد طولست ـ موقع ديوان العرب
من المغرب وبالضبط من إحدى مدنه الشهيرة التي تحتفل هذا العام بما كان لها من تاريخ مجيد، وما أسهمت به لتقدم الحضارة الإنسانية، من فاس أقدم للقراء فنانا تشكيليا مميزا يجمع بين القصة والمقال والكثير من الأنواع الأدبية الأخرى، يتنقل بين الألوان والكلمات لينسج لنا نصوصا إبداعية ولوحات مثيرة تصف سمات البيئة المغربية بكل ما فيها من قيم حضارية وإنسانية. ما حققه سعيد العفاسي من إبداع متجدد، وحضور فاعل دائم في المعارض الفنية المحلية والعربية، ليثير الدهشة والإعجاب. لم يأتيه هذا التميز إلا بعد أن تعب في تكوين وتطوير نفسه في ظروف صعبة، دخلنا إلى عالمه الفني والإنساني وتهنا في مرسمه بين إنتاجاته، وحصلنا منه على هذه الإجابات.
1 ـ سؤال لابد منه..من هو سعيد العفاسي؟
أجد حيرة كبيرة في استجلاء هذا السؤال القصير والذي يحمل في طياته مفازات كبيرة، لن أفي نفسي حقا، هذا يقودني إلى الحديث عن الفيلسوف جان بول سارتر، الذي يؤكد على حالة قلق الفرد الإنساني في بحثه عن المعنى وعن تكامله الشخصي في عالم لا يقدم أي تفسير متماسك ومقبول للأشياء في ذاتها أو السبب في وجود الأشياء في ذلك الوجود الإنساني ذاته، وقد تحدث سارتر عن أن الوجود اسبق على الماهية، أي أن الإنسان ليست له طبيعة يمكن أن تحدد عن من هو وماذا يريد وماذا يجب عليه أن يفعل، وإنما يتحتم على العكس أن يحدد كل شخص ذاته بذاته ومن لحظة لأخرى، لأن طبيعة الإنسان تتحدد تبعا لتصوره هو لنفسه وإدراكه لذاته بعد أن يوجد،
ومن الإجرام في حق الذات أن يسمح الشخص للآخرين بتعريفه أو تحديده، سواء أكان هؤلاء الآخرين هم من المقربون أو العدو أو المجتمع، لأن السماح للآخرين بتحديده فيه تقييد لحريته أو حتى إلغائها تماما، هل أتحدث عن الوجود المادي وهو عدم، أم أتحدث عن الوجود الروحي وهو لم يكتمل بعد، في كلا الحالات يتبدى الأمور أكثر تعقيدا، لأنني عند نفسي غيري عند عدو وغيري عند صديقي وعيري عند الآخر، وأتمنى أن لا أعرف من أكون، لأن الحياة هي رحلة البحث عمن نكون، وإذا استطعت أن أعرف، فتلك حمالة لا أطيقها، لكن يقولون بأنني فنان تشكيلي وكاتب صحفي وفوضوي بمفهوم الفوضوية عند جاك برودون، وعندما أتأمل آثاري الفنية أحس بأن لي وجودا ملموسا يتنفسه الآخرون، وأستمتع به،
2 ـ كيف كانت بدايتك مع الفن التشكيلي؟
ربما لأن الموهبة كانت تسكنني منذ الصغر، إذ أتذكر أنني كنت مشاغبا في المدرسة والبيت، أرسم في كل مكان في الطاولة في الكتاب في الدفاتر، وأعبث بالصباغة في كل اتجاه، ولا أجد ذاتيتي إلا مع السند والصباغة، وهذا ما فرض عليه عزلة منذ الصغر، لأن أترابي كانت لهم هوايات مشتركة أما أنا فاخترت الوحدة، من خلال اختياري للرسم، بالإضافة على كوني مدين للمعلمة سعيدة أبو العلام لأنها منحتني من حيث لا تدري مبادئ التدبر والتفكير والحرص على ما أريد وفي كل ما أريد، لقد جعلتني أفكر في النموذج الأعلى، ووجدتها صادقة في تلقينها في شخصيتها بل حتى في ابتسامتها التي كانت تحفزني على المزيد من المثابرة، عندما ولجت إعدادية اللمطيين بحي عين أزليتن، كان عمي الكفيف يسكن في منزل الطلبة المكفوفين بنفس الحي، وهكذا كنت أتردد على هذه الجامعة المتنوعة، وكنت العين التي تقرأ لهم جميع الكتب، الفلسفية، الدينية، الأدبية، الشرعية، التراثية، القانونية، الشعرية، التاريخية…
وكنت كثير الأسئلة، وهذا ما جعلني مقربا من جميع الطلبة المكفوفين، والأكثر من هذا حرصت على الاقتراب منهم ومحاولة فهمهم، تصور معي لقد دخلت الجامعة وأنا في 14 سنة من عمري، من خلال قراءة المقررات والكتب والمشاركة في امتحاناتهم، بهذه الدار تعمقت رؤيتي للأشياء، إذ لم أعد أنظر بعيني بل ببصيرتي، وبدأت الألوان والخطوط تتشابك والأشكال تتبرعم، واتسعت دائرة معارفي بفضل الدردشات والقراءات والحوار والجلسات الرفيعة التي كانت تدار في هذه الدار، هذا التكوين دفعني إلى البحث عن معارف أخرى، في الكتب التراثية والتاريخية والروايات العالمية، وهذا ما حفزني على دخول عالم الصحافة من خلال اعتمادي مراسلا صحفيا للعديد من الجرائد الوطنية والمجلات المشرقية، حتى اكتسبت قراء ومتتبعين، ومسارا امتاز بالجدية والموضوعية والمصداقية، وقد توّجته بإصدار كتاب (اضاءات في الفن التشكيلي) وكتابات عديدة، وتكريما لهؤلاء المكفوفين الأساتذة سوف يصدر لي كتابا يحمل عنوان (التفكير بالعين)، لكن الرسم دفعني إلى التسجيل في المدرسة التقنية للفنون التشكيلية بالدار البيضاء، وبها تلقيت مبادئ الضوء والظل وتفكيك الوحدات اللونية، والإطلاع على تقنيات وتجارب متعددة ومختلفة، وبعدها مباشرة التحقت بشركة منسوجات الشمال كمصمم لرسومات الأثواب. بعد تجربة الموهبة والدراسة، جاءت تجربة البحث عن الذات، والعمل على صقل التجربة بالمزيد من الرسم والاحتكاك بالتجارب الآخرين، وبدأت تتشكل الرؤية المستقبلية.
3 ـ ما هي المدارس التي تأثر بها العفاسي في مساره الفني؟
في المدرسة التقنية للفنون التشكيلية بالدار البيضاء، تلقينا العديد من الدروس، وانفتحنا على كل المدارس الفنية المتاحة، وعلى تجارب الفنانين العالمين والرواد، في البداية كنت متأثرا بالواقعية وهذا تأثر عادي، لأن الجمهور يريد ما هو قريب إلى ذاته وإلى فهمه وإلى محيطه، بصريا مفاهيميا، ولأن المتلقي بالمغرب لازال قاصرا، في ظل انعدام المعارض التشكيلية بشكل مكثف وفي غياب سياسة واضحة المعالم تعتني بالمبدعين الشباب وتدفعهم إلى المزيد من الإبداع والبحث عن تطوير أسلوبهم وتقنياتهم، لأن السياسات السابقة في المجال ذاته كانت تحتضن الفنانين المعروفين وتهمش الشباب، وهذا كان إجحافا في حق الفنان والمتلقي، أخر المسيرة التشكيلية بالمغرب لسنوات. التأثر لم يدم طويلا بفضل الرغبة الملحة في البحث عن الذاتية في الفن، رغم أنني انتقلت بعد ذلك على العديد من المدارس والاتجاهات الفنية لتطوير أسلوبي أولا والبحث عن صيغة تلائم ثقافتي ومعارفي ثانيا، وعندما أفكر مليا في الأمر أجد نفسي متأثرا بجميع المدارس، وهذا أمر عادي إذ يصعب علي التخلص في مرة واحدة لسنوات من المداومة والمعاشرة والتقصي.
تأثرت بالواقعية، والانطباعية، والتأثيرية، والتجريدية، والتكعيبية، والتنقيطية، وبالفن المعاصر، والبيرفرمونس، ولاند أرت.. ولم يؤثر في أي اتجاه، لكن ما أحس به حقيقة هو عندما أنجز عملا فنيا وأربط فيه بين ما هو تقني وفكري، وهذا وحده يعطيني مسافة كبيرة لتطويع اللوحة إلى درجة الكشف عما تريده دوني، ويصبح لها استقلالها الشكلي والفكري بعيدا عني. رغم أنني قليل الإنتاج، كثير الاهتمام بالتنظير والبحث في المفاهيم التي تساعد الفن التشكيلي على الانخراط في التنمية الفكرية والتقنية.
4 ـ كيف توازن بين العفاسي الإنسان والعفاسي التشكيلي؟
ليس هناك فرق بينهما، هما واحد إذا لم أقل هما أنا، التشكيل أصبح حياتي، به أفكر، به أعيش، به أتنفس، به أتواصل، به وفيه أعيش، مسألة كوني كاتبا صحفيا وفنانا تشكيليا وفاعلا جمعويا وناقدا تشكيليا وممثلا، جعلت مني البعض في الكل، فأنا فرد في صيغة جمع، أرتب كل شيء بدقة وأجعل لكي مقام مقال وأعطي لكل موهبة وقتها وحقها، فعندما أتعب من التشكيل أذهب إلى القراءة، وعندما أتعب من القراءة أذهب إلى المسرح، وعندما أتعب من المسرح أذهب إلى الصحافة والكتابة الشعرية والقصصية، وعندما أتعب أذهب إلى العمل الجمعوي لأنني أترأس المرصد الجهوي للمعرفة والتواصل، كل هذا له الحق في، ولا أنكر بأن الفن طبع نفسيتي بالصرامة الفوضوية، ومنحني القدرة على الحرية أكثر، وجعلني أكثر انشغالا، ومؤخرا بدأت أئد بعض المواهب وأخبئها إلى حين، وكما قلت فانفتاحي المبكر على مختلف أشكال الآداب والقراءات والتصورات في دار المكفوفين جعلت مني جمعا في فرد،وأنا مدين جدا لهؤلاء الأساتذة الذين دربوني على القراءة ومنحوني الرغبة في البحث والسؤال.
الدورة التكوينية لفنون المسرح، جمعية الوردزاغ .. 8-2011
5 ـ كيف تواجه فظاعة الواقع المر المحيط بكل فنان؟
الفنان هو الذي يتأثر بما حوله ويؤثر فيه، وذلك راجع لرهافة حسه ودقة ملاحظاته وقراءته للأشياء بأسلوب آخر يتضح في فنه وأعماله، وأعتقد أنه إذا لم يكن هناك واقع فضيع فلن يكون هناك فن، الفن مرتبط بالواقع ومنه يستمد قوته وتعابيره، وإلا فلسنا في حاجة إلى الفن، شخصيا أتابع هذا الواقع وأذوبه في داخلي واعمل على طحنه لكي أحوله إلى أعمال فنية،أرضي بها أنانيتي وشخصيتي، ثم أمتع بها المتلقي، الحياة لوحة كبيرة ندخل إليها ببراءة ونخرج محملين بأشياء كثيرة، كل حسب قدره، لتصبح اللوحة متعددة القراءات والتأويلات، ونعلقها في المنزل لكي نستلهم منها العبر.
6 ـ هل استطعت كفنان تشكيلي أن تراكم أعمالا فنية لها بصمات خاصة بالعفاسي؟
أكيد هذا ما يطمح غليه كل فنان مبدع، لكنني لم أصل بعد على مستوى الرضا عن أعمالي وتجربتي،وأتمنى أن لا أصل إلى تلك الحقيقة، لأنني وببساطة إذا وصلت سأكون قد انتهيت، أنجزت أعمالا منها من هاجر ومنها من سافر ومنها من ينتظر موسم الهجرة، وأتذكر كل لوحة بعشق خاص، ففي كل واحدة ذكرى ما وقصة تسكن عمقي ولا يعرف مفاتيحها إلى سعيد العفاسي، بصماتي كانت واضحة من خلال المعرض الفردية والجماعية، ومن خلال مقالات عديدة عن التشكيل نشرت في الجرائد الوطنية والجهوية والمجلات العربية، وقد توجتها بكتابين هامين في حياتي: ” اضاءات في الفن التشكيلي” و” التفكير بالعين”، والحياة لا تزال مفتوحة
على غارب العطاء والبحث.
نخبة من تلاميذ اعدادية كثامة الذين شخصوا مسرحية هزلية رائعة بمناسبة الاسبوع الثقافي للإعدادية 2011
7 ـ نظمت العديد من المعارض المتميزة بمدينة فاس وخارجها، فما هي القيمة المضافة التي أتت بها؟ وهل تمكنت من تكوين جمهورا وعشاقا له، أم أنه مقتصر بالمشتغلين به فقط؟ ما سبب عزوف الجماهير عن معارض الفن التشكيليّ؟وما هي الخطوات التي قمت بها للرقي بهذا الفن حتى يصبح فنا جماهيريا؟
من خلال المرصد الجهوي للمعرفة والتواصل استطعت معية المكتب المركزي، وشركاءنا: البنك الشعبي لفاس تازة و الجماعة الحضرية لفاس و ولاية فاس بولمان ووزارة الثقافة، استطعنا أن أحقق مكسبا هاما لمدينة فاس، وهو ملتقى فاس للوحة، والذي سنقدم طبعته السابعة في 2009 في حلة: “مهرجان فاس السابع للفنون التشكيلية” فبعد النجاح التنظيمي والإعلامي والمكي والكيفي، أردنا أن نرقي هذا العمل إلى درجة مهرجان لكي ينسجم وحاجيات فاس التشكيلية، وذلك بمشاركات تشكيليين مغاربة ومن دول عربية وأجنبية، وقيمته تكمن في انفتاحه على مختلف التجارب والأعمار الفنية، طبعا استطعنا أن نرتقي بذوق الجمهور وأن ندربه على مشاهدة اللوحات المختلفة، ونحن بذلك كسبنا جمهورا عاشقا متذوقا، وأصبح المهرجان سنة مؤكدة في البرنامج السنوي لمدينة فاس،ولقاء سنويا لمساءلة المسيرة التشكيلية بفاس، والجمهور ليس هو الذي يعزف عن المعارض، بل قلة المعارض هي التي تساهم في عزوفه، فقبل 2003 لم تكن لفاس قاعة صالحة للعرض، لقد عاشت المدينة في غربة مع التشكيل أما اليوم فهناك العديد من القاعات الصالحة للعرض وبمواصفات جيدة، يستطيع الجمهور أن يحج إليها، على الأقل معرض في الشهر، أي 12 معرض في السنة، في أفق الرفع من عدد الزيارة والتلقي.
أعتقد أن التشكيل هو الفن الوحيد الذي يمكن أن يقال عنه جماهيريا، ففي كل مكان التشكيل يواجهنا، فقط يلزمنا أن نرب أعيننا على المشاهدة الجيدة وعلى الإبصار في عمق الأشياء المحيطة بنا، التشكيل هو أقرب الفنون إلى الجمهور، وحتى الفنان التشكيلي ذاته يجب أن يقترب إلى نبض الجمهور وأن ينصت إلى حركات المجتمع وأن يعكس ذلك في إعماله بأساليب وتقنيات مختلفة، لكن بفكر يساعد على القراءة ورفع الحجب اللونية والشكيلية، أكيد أن الجمهور العادي لن يفهم كثيرا في التشكيل، بقدر ما سيفهم في الشعر، فالشعر مادة مرتبطة باللغة، أما التشكيل فمرتبط بالأوان والأحجام والأشكال، ويصبح في بعض الحالات عصيا على الفهم حتى عند الدارسين لأن الفنان وحده هو الذي يمكن أن يعطينا مفتاح اللوحة، ولا أقول أن يشرحها، فتلك مهمة غير موكولة إليهن وكم من شروحه قدمها الجمهور كانت أقوى من الفنان نفسه، فالعملية مرتبطة أساسا بالاستطيقا، والتشكيل عموما يحتاج إلى مراس في المشاهدة وتتبع العمال الفنية من أجل تكوين نظرة تساعد على الفهم والتتبع، وحتى تاريخ الفنون التشكيلية بالمغرب حديث العهد، وهو بحاجة إلى التراكم وإثارة النقاش والكتابات، ولا يمكن أن نقول العكس، فالفن التشكيلي يأخذ طريقه نحو الانتشار والتعريف به، إلا أنه يحتاج إلى سلاح الإبصار وليس المشاهدة، وكذا إلى من يقتني اللوحات، قصد مساعدة الفنان وتحفيزه على المزيد من الإبداع والاستمرارية، فالفنان يتنفس بأعماله ويعيش بها، وكم من فنان ماتت لوحاته معه وكم من فنان مات مع أعماله.
8 ـ هل حقا تشعر بعزلة اللوحة التشكيلية أمام الأشكال الفنية الأخرى؟
ليس تماما، ربما لأن الفنان التشكيلي يتنج عمله في عزلة عن الآخرين، وهذا هو السبب الذي يسمونه بالعزلة، لكن هذا ليس حقيقيا، اللوحة لا تشعر بالعزلة، فهي تتضمن ما لا يتصور عقل وتنفتح على المحيطين الخارجي والداخلي، من خلال الأفكار والأشكال التي تتيح العديد من القراءات والتأويلات، والفن التشكيل هو الفن الأكثر انتشارا وظهورا في الحياة العادية، فالتشكيل يوجهنا في كل لحظة وحين بل نحن جزء كبير منه، ولا يمكن الفصل بين الحياة والتشكيل بدونه لا يستقيم أي مكان ولا يتنفس إلا بالتشكيل، إذن فكرة العزلة هي وهم كبير، في الشعر يوجد التشكيل وفي الرواية والمسرحية وفي القصة عموما في كل الأجناس الأدبية والفكرية، يمكن أن نتحدث عن عزلة اللوحة إذا لم تجد من يقتنيها ويعطيها حياة أخرى، وأعتقد الفاعلين الاقتصاديين إذا انفتحوا على اللوحة بالاقتناء فلن تكون هناك عزلة أو غربة، أما إذا راكم الفنان الكثير من الأعمال دون أن يجد من يقتنيها فتلك أزمة نعيشها باستمرار، وقد تنعكس سلبا على الحياة الشخصية للفنان، فهو يتنفس من خلال اللوحة واللوحة تكتمل حياتها عندما تبتعد عن منتجها..