بوّاباتُ العالم

تاريخ النشر: 16/06/14 | 19:26

نحتاجُ، عمّا قريبٍ، إلى صمتِ “لاو تسي”. فالذين لا يعرفون يثرثرون، والذين يعرفون يلوذون بالصمت.
لكن لا وقتَ الآنَ للصمتِ، ولا وقتَ للإصاخةِ إلى عويلِ طفلٍ انكسرَ المونديالُ على شاشةِ بيتهِ المنسوف.
لا وقتَ الآن لتِلاوةِ صلاةِ الميّتِ على الميّتِ ولا لصلاةِ الرحمةِ على الأحياء، ولا لجمعِ رمادِ ضفيرةٍ في كيسٍ من رُخام.
نحتاجُ الآنَ إلى ضخِّ الأدرينالينَ في عروقِنا، كي نقومَ مثلَ موجةٍ مكسيكيةٍ.
هللويا هللويا.
نحتاجُ الآن إلى أوتارٍ من التيتانيوم، بخفةِ ريشةٍ وقوةِ الفولاذِ، نشدُّ بها حناجرَنا لنهتفَ حتى البُحَّةِ.
أُوولا أُوولا.
نحتاجُ الآنَ إلى ساعةٍ تطيرُ في سرعةٍ تُلامسُ سُرعةَ الضوءِ، لإطالةِ الليلِ ساعاتٍ تتيحُ لنا رؤيةَ تمريرتيْن ورأسيَّتيْن وركلتيْن وتصويبتيْن.
نحتاجُ الآن إلى ثيابٍ من ذهبٍ، وقلنسوةٍ من لُجيْنٍ، لتؤولَ الصبايا الجميلاتُ إلى ما يشبهُ الكأسَ المقدّسة.
لا وقتَ الآن للصمتِ، ولا لمسيرةِ دمعةٍ بينَ العينِ وتجعيدةٍ حولَ الشفاهِ، أو بينَ رمشٍ مُتعبٍ وغمازةٍ في قلبِ الوجنة اليمنى. سنبكي الآنَ من نشوةٍ عارمةٍ منشورةٍ على اهتزازاتِ الشِّباك.
لا وقتَ لتأطيرِ صورةٍ بالأبيض والأسود، بوشاحٍ من الكُحلِ، على ما تبقى من حائطٍ.
لا وقتَ في هذا الوقتِ لكتابةِ مرثيَّةٍ للطائرِ المذبوحِ بسكينِ خالتِه وجفافِ وجهِ أبيه.

“أنا الطائرُ الأخضرْ
“أنا همسُ الجفونِ على حلُمٍ هاربٍ
“ولازمةُ المراثي والأغاني
“وفؤادُ ثاكلةٍ مُبعثرْ.

“أنا الطائرُ الأسمرْ.
“أنا خالٌ فوقَ صَفصافٍ
“يبكي على بَرَدى.
“أنا رفرفةٌ على دُمَّرْ.

“أنا الطائرُ الأحمرْ.
“خالتي تذبحُني بين وريديْنِ
“وأبي يأكلُ لحمي المُتبّلِ بدمعِ أختي.
“وعمّي يشربُ ثمَّ يسكرْ.

“أنا الطائرُ الأخضرْ
“ومزيِّنُ العسكرْ
“ونبضُ النجومِ على سقفِ دِجنيرو
“كُرةٌ وأقدامٌ وأعقابٌ وبحرٌ من عيونٍ، وكرٌّ وفَرّْ

أنا الطائرُ الأغبرْ.
“اسمي نسيمٌ أو وسيمٌ
“أو ما جمعتمْ من حروفٍ
“أو ما تساقطَ أو ما تكسّرْ.

“أنا الطائرُ الأشقرْ
“يا ليتَ ريحاً من جهةِ الصّبا
“تحملُ ما تبقى من عظامي على إيقاعِ فيلٍ
“وتدفنُها في ما مضى أو تيسّرْ.

“أنا الطائرُ الذي لا لونَ لهُ
“فعذراً إن كان صوتي
“يخدشُ أنغامِ خصْرٍ لولَبيٍّ
يلتوي على شغفٍ على خِنصَرْ”

“أنا الطائرُ الشرقيُّ
“فعفواً إن شوّشتْ سقسقتي
“ضربَ الطبولِ على رقصةِ السامبا
أو إن عكّرتْ لوزَكُمُ المُقشّرْ.”

لا وقتَ للصمتِ في هذا الوقت.
لا وقتَ للوقتِ المُبذّرِ على صلاةِ الموت.
لا وقتَ الآنَ لشآمٍ ولا لبغدادَ ولا لداحسَ ولا لالتفاتةٍ إلى عنقٍ تحزُّ ولا غُرَّةٍ تُجزٌّ.
لا وقتَ لتوزيعِ المياهِ المعدنيّةِ على عطَشِ مقاديشو، ولا لتمريرِ سلّةٍ من البندورةِ الخجولةِ على أكواخ البرازيل.

دعونا الآن نلهو بما يشبهُ الأرضَ، ندكُّ بها شِباكَ العدوِّ وبواباتِ روما وساحلِ العاج.
دعونا نُلغي قانونَ الجاذبيةِ، لكي تسقطَ الكرةُ كما تشاءُ، ووقتما تشاءُ، في الزوايا البعيدةِ وفي قلوبِ العاشقين والعاشقات.
هللويا هللويا.
دعونا الآن نقفزُ عن الجدارِ الفاصل بين الجحيمِ والجنةِ بركنيّةٍ تشبِهُ الموْزَ أو سقفَ معبدٍ هندوسيٍّ.
دعونا نعبرُ الروبيكون والثيمز والأمازونَ والمسيسيبي بركلةٍ متقنةٍ.
دعونا الآن نغيّرُ الكونَ، بتسديدةٍ من ماجلّانَ أو رأسيّةٍ من كوبرنيكوس، تنقلُ الأرضَ إلى غيرِ المجرّة.

لا وقتَ الآن لصمت النهايات وصمتِ القبور.
فلا جندُ الرومان قادرون، بأحذيتِهم الخفيفة اللطيفة، على صدِّ برميلٍ من البارود.
ولا بمقدورِ دُيوكِ باريسَ القبضُ على طائرةٍ نفاثةٍ.
ولا يستطيعُ الشبانُ المنحدرون من جميلةَ أن يكسروا السيوفَ المصلَّتةَ على الرقاب.
ولا بمقدورِ نجومِ لندنَ هزمَ شياطينَ تتعاركُ على صدرِ عائشة.
وما بإمكان رؤوس الحربةِ أن يكسروا خوذةَ الدكتاتور وأن يخترقوا درْعَ النظام العالمي.
وليسَ بمقدور طفلٍ في المعرةَ أن يصفِّقَ لأبناء بيليه ومارادونا وبيكنباور وزيدان، لأن تلفزيونَه احترق مع غرفتِهِ وكتُبِهِ وطابتِهِ ويديْه.

سنصمتُ، عما قريب، حين نلقي ثرثرتنا في الطريقِ إلى “لاو تسي”.
أما الآن فسوف نفرحُ كثيراً.
كلُّ العقولِ معلَّقةٌ بأقدامِ اللاعبين.
كلُّ العيون معلقةٌ على المسافات بين العشبِ الأخضر وما بين عارضيتيْن.
كلُّ القلوبِ مفتوحةٌ على لا شيء، ما عدا ما يشبهُ البطيخةَ المملوءةَ بالفراغ.
كأسُ العالم.
هللويا هللويا.

كارنيفال. تعالوْا نشهقُ ونعلّقُ عيوَننا على ثغورنا المنفرجة وعلى حركاتِ رونالدو وميسي ونايمار وروبين وكاباني وموللر وأوزيل وراموس وهوندا.
فلكلٍّ آلهتُهُ.
الآنَ خرجت آلهةُ الأولمب وسومر وأورشليم وبابلَ والغانج وثيبا وأصفهان والبحار والصحارى في استراحةٍ، وسلّمتْ مفاتيحَ الدنيا المُحدْودِبةِ مثلَ كرةِ الفوتبول.
لكلٍّ إلٰهُهُ ولو ليومٍ واحدٍ أو تسعين دقيقة.

هي، إن شئتم وإن لم نشأْ، تقلباتُ اللغة وألاعيبُها.
كأس العالم.
كأس…….العالم.
إملأ الفراغ وأعربْ ما تبدّلَ من ورقٍ وما مات من الكلام.
“كاس أمِّ العالم”. ولا تلفزيون في الشرفةِ المحروقةِ.
كاس فراغ العالم.
“كاس أخت العالم”.
كلامٌ نابٍ وشتيمةٌ وانتكاسٌ في مسألةِ الجنوسة؟ يجوزُ. فحين يسيرُ مليارٌ وراءَ عروسين، في عُرسٍ كونيٍّ، لا يكفي أن تسيرَ أرملةٌ وكلبٌ أعرج وراء تابوت ابنِها.

World Cup 2014.
War Cup 2014.
Whore cup 2014.

هكذا يقول الطائرُ الذي لا لونَ لهُ ولهُ كلُّ لون.

فعسى أن يرفعَ آلهةُ المونديال أحذيتَهم الرهيفَةَ، الملوَّنةَ بما يشرحُ الصدورَ، ويدوسون على ثرثرةِ الجهلِ والقسوةِ.

وإلى أن يحينَ موعدُ الصمتِ، تعالوْا نحبُّهم بما تبقى لنا من قلوب.
تعالوْا نصفقُ لهم بما تبقى لنا من راحاتٍ.
ونهتفُ لهم بما تبقى لنا من حناجر.
تعالوا نشاهدُ حركاتِهم الحلزونية على ما تبقى من شاشاتٍ في ما تبقى من بيوت.
تعالوا نغمرُهم بما تبقى من نورِ العيون.
تعالوْا نفرحُ بما تبقى من قدرةٍ على الحزن.
تعالوْا نتذكرُ إيماءةَ باولو روسي.
تعالوا نضحكُ بما تبقى من قدرةٍ على البكاء.
وتعالوْا
نذرفُ دمعةً بما تبقّى من قُدرةٍ على الفرح.

بقلم: فريد قاسم غانم
01

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة