نفحاتٌ من رحاب البيت العتيق 4
تاريخ النشر: 13/01/12 | 23:44المدينة المنوّرة :حل يوم الرحيل عن مكة المكرمة، وحرمها الشريف، فتوجهنا الى المدينة المنوّرة، وجوها اللطيف، بدأنا نقطع المسافات الطويلة فجالت في خاطري بعض ذكريات الطفولة، عندما تعلمنا قصة الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة، وكيف ارتسمت في خيالي أن المسافة بينهما لا تتعدى بضعة أميال – ربما كان من التقصير أنني لم أبحث في هذا المجال – نظرت حولي فلم أرَ غير أرض سوداء، تحنوعليها سماء زرقاء، الجبال راسخة، ضخمة شامخة، لا يكسوها غير اللون الاسود، حتى السهل ليس فيه شيء من التراب، فيه حجارة سوداء يلفها السراب.سهولٌ،صخورٌ جبال، لا شجرَ فيها ولا ظلال.
إغرورقت عيناي بالدموع، وقلتها بصوت مسموع : “أحبك يا رسول الله”. من نحن ؟ وأين نحن منك يا حبيب الله ؟ يا من قطعت هذه المسافات، حاملاً آخر الرسالات، فتبعك كفار مكة ليقتلوك من حقدهم، ويبقوا في غيِّهم وضلالهم، واختبأت في غار صغير أنت وصاحبك، وتحديت قوتهم بإيمانك وتوكلك. هنيئاً لك يا غار ثور .. ! يا من طاف بأرجائك النور عندما مكث فيك الرسول الكريم، ليتقي شر أعداء الدين القويم، قريش ومن والاها من القبائل، ممن نصبوا لك الشراك والحبائل.
الله ..! يا سيدي يا رسول الله..! لولا ايمانك العميق ما مكثت في الغار أنت والصِّدِّيق.. ولَمَا أجبته عندما تيقن من اقتراب الاعداء، وخاف من وقوع البلاء، إجابتك التي تقطر إيمانا وسنا :” لا تحزن إن الله معنا”. فقط الدموع تغسل حزني وألمي على هذه الهجرة الصعبة، من بين الأهل والصحبة، فقد رفضت المال والجاه، وأقبلت على حب الله، فتكفل الله أن يكرمك ومن الناس أن يعصمك، وخرجت وصاحبك من الغار سالمين وأكملتما المسيرة غانمين.
كم تحملت يا سيدي من الصعوبات، وكم تكبدت المشقات، فقط لكي تحمي هذه الديانه، وتبلّغها لنا بكل أمانة.. !
فهل نحمل نحن أمانة محبتك، والإخلاص لسنتك..!؟ وظلت نفسي تحدثني وتحاورني حتى تسهّل علي مشقة الأسفار، وصعوبة الإنتظار. وبعد ساعات من السفر، وأنا على أحر من الجمر، وبعد قطع مئات من الأميال في هذا القفر، لكي أتشرف بزيارة مدينة سيد الإيمان والصبر، بدأت تبدو على جانبي الطريق بعض نباتات الصحراء الشائكة التي تُذَكِرُ باللون الأخضر، وظهور بعض السحب التي تبشّر باحتمال سقوط المطر. وظهرت بعض اللافتات التي تشيربإقترابنا من مدينة النور، وبدأ القلب يخفق خفقات البهجة والسرور، وبدأت تلوح بيوت المدينة من بعيد، فتذكرني بذلك الحدث السعيد، ويتردد في ذاكرتي ذلك النشيد، الذي استقبل فيه الأنصار الأبرار موكب سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) النبي المختار:
طـــــلع البدر علينا من ثنيات الــوداع
وجـــب الشـــكر علينا ما دعــا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة مرحباً يا خير داع
وصار الركب يقترب، وصار القلب يضرب،والعيون تدور، في فلك المدينة الرشيدة، تبحث عن القبة السعيدة، والمآدن المديدة، وكانت المدينة تتشح بوشاح الشفق، وتزداد جمالاً في الأفق..
ودخلنا المدينة..! ألله..! جبنا شوارعها، والعيون تبحث عن القبة الخضراء ومآذن جامعها.. فلاحت القبة والمآذن للناظرين، ترتفع ويرتفع معها التهليل والتكبير والصلاة والتسليم على سيد الأنبياء والمرسلين، هنيئاً لك أيتها القبة الخضراء، يا من تحتضنين خاتم الأنبياء، ويشع في سمائك النور والبهاء.
ونزلنا في المدينة ..! وتوجهنا إلى المسجد النبوي الشريف بلا توانٍ، نسابق الدقائق والثواني، لأداء صلاة المغرب، فدخلنا من البوابة، ودخلت في القلوب سكينة ومهابة..
ألله ..! هذا المسجد ليس ككل المساجد.. هنا سيد البشرية راقد.. هنا تلتقي الأجساد والأرواح.. هذه الساحات الرحبة، ترمز إلى صدره الرحب الطافح بالمحبة.. وهذه المظلات والأنوار اللامعة، ترمز إلى مظلة الإسلام الجامعة. دخلنا المسجد وتاه ناظراي في جماله المتعدد، الأرض جميلة، والأعمدة جميلة، والسقف جميل، والرسم جميل، والنور ساطع.. والصوت ساجع… في رفع الأذان، وترتيل القرآن، للقرآن هنا جَرْس يختلف، لكل كلمة وحرف هنا وقع في القلب، يجعل الدموع تنذرف، وأديت الصلاة والقلب في مناجاة.. ثم انتظرت ساعة الزيارة، لقبر حوى جوهر الطهارة .. والله لا ادري كيف حملتني قدماي، كنت اشعر ببرودة وقشعريرة وخدر، كلما اقتربت من المكان الذي يحوي خير بني البشر ..
“السلام عليك يا حبيبي يا رسول الله”، رددها اللسان، وأرسلتها اليدان، ورافقتها العينان، وكأني أسمع رد السلام، من روضة المقام..
يا ألله ..! أين أنا..؟ في قطعة من السماء ..؟! في روضة من رياض الجنة الغناء..؟! أنا أقف أمام الحضرة المحمدية…؟ أيُّ كرامةٍ وأيُّ هدية..!
أصابتني قشعريرة، عندما حدثتني السريرة، بانني في حضرة الرسول الخاتم.. مَن أنا..؟ مَن أنا حتى أقف بين يديه…؟وقد شاهدت بعين خيالي الصعوبات التي حطّت عليه، وتخيّلت طريقه من مكة إلى المدينة، بأنها طريق من طرق الجنة.. ألَيْسَ الجزاءُمِن جنس العمل..؟ أليس هو من هدانا إلى طريق الجنة..؟
خرجت من المسجد والدموع تغسل الشعور بالتعب والحزن .. وفي اليوم التالي أكرمني الله بزيارة جبل أُحُد، الذي لإخلاص المهاجرين والأنصار قد شهد.. هنا كانت مدرسة الجهاد في سبيل الله،من سيدي رسول الله وأتباعه أحباء الله. ثم زرت مسجد قُباء –أول مسجد بني في الإسلام- ولم تغب عن ناظري صورة الفرح الذي استقبل فيه الرسول (صلى الله عليه وسلم) عند وصوله إلى المدينة، وصورة التآخي والتسامح التي ملأت المدينة، عندما أقام فيها. ثم كيف توالى الإنتصار، وانتشار الدين القيِّم في سائر البلاد والأمصار.
المدينة المنوّرة …! حقاً إنها منوّرة…! فهي منوّرة بساكنها الكريم، ومنوّرة بأهلها الأنصار، ومهاجريها الأبرار، في الليل والنهار، واللهِ..! إن لها بهاءً في النهار، فإن أرضها وبيوتها وسماءها مُنَوَّرة، وليلها وضَّاء، يملأ المدينة نوراً وبهاء ..
إنها المدينة المنوّرة، وستبقى – ان شاء الله – منوّرهبأنوارهاالبهيّة، وبأنوار الحضرة المحمديّة (صلى الله عليه وسلم).
بقلم : الحاجة نبيهة راشد جبارين