دراسة لكتاب شطحات للأديب الشاعر معين شلبية
تاريخ النشر: 20/05/14 | 12:12هذا الكتابُ هو المجموعة ُ الثالثة ُ التي يُصدرها الشَّاعرُ والأديبُ ” معين شلبيَّه ” من قرية المغار الجليليَّة. سبقَ وأن أصدرَ من قبلهِ كتابين هما:
1) الموجة عودة، شعر – سنة 1989.
2) مساء ضيِّق – نثر – سنة 1995.
والشَّاعرُ معين شلبيّه يكتبُ الشعرَ والنثرَ والخواطر والمقالات السياسيَّة والأدبيَّة والإجتماعيَّة منذ فترةٍ طويلةٍ، ويُعتبرُ من الشُّعراءِ والكتاب المُبدعين والمُمَيَّزين فنيًّا على الصَّعيد الأدبي المحلِّي.
مدخل: إنَّ كتابَهُ الذي بين أيدينا الآن ” شطحات ” هو في النثر، يحوي العديدَ من المقالاتِ والخواطر والشَّطحاتِ الادبيَّةِ سبقَ وأن نشرَ معظمها في الصُّحفِ والمجلاتِ المحليَّةِ.
تمتازُ كتابات الشَّاعر” معين شلبيّه “، وخاصَّة ً في هذه المجموعةِ، بالعذوبةِ والرَّشاقةِ وبالجمال ِاللفظي وبالتعابيرالمموسقة وبالرّومانسيَّةِ الشَّفافةِ وبالتكثيف والإيجازوالإبتعاد عن اللغو والتكرار، وأعني بالتكثيف من الصُّور الشعريَّةِ المُلوَّنة الخلاَّبة، وتمتازُ وتتحلَّى كتاباتهُ أيضا بالعُمق والبُعدِ المعنوي والفلسفي وبالخيال ِ المُجنَّح الميتافيزيكي الحالم، وبالرَّمزيّة والغموض. كما أننا نجدُ في جميع كتاباتِهِ (الشعريَّة والنثريَّة) عنصرَ التشويق والجاذبيَّة والإثارة.. حيثُ تثيرُ كوامنَ لواعِجنا ووجدانِنا وتجذبنا بلهفةٍ لنقرأها بشغفٍ كاملة ً حتى نهايتها بالرُّغم أنَّ قسمًا لا بأس بهِ منها مستغرقٌ في الغموض والفلسفةِ والإبهام. وكتاباتهُ لها طابعٌ سحريٌّ مميَّزٌ وعبقٌ وأريجٌ أخَّاذ ٌ يسحرُ العقولَ والالبابَ ويُحرِّكُ اعماقَ الضَّمير والوجدان. وبالإضافةِ إلى ذلك الجمال اللفظي والسِّحر البلاغي الذي تتحلَّى بها وهذا ما يُميِّزهُ عن غيرهِ من الكتَّاب المحلِّيٍِّين. ونجدُ عندهُ أيضًا الجانبَ التثقيفي والتعليمي والحكمة في جميع ما يكتبهُ ممزوجًا ومتحدًا مع الجوانب والأبعاد الرُّوحيّة والادبيَّة والمعنويَّة والفنيَّة. يقولُ مثلا في صفحة 26 في مقال بعنوان: “عن النص الطيب”: (” وهذا أنّ حضور النص بإيماضةٍ مضمونةٍ وألق شكلانيتهِ وتجليات ماضويتهِ يفرض محاولة توظيفهِ من أجل فتح نوافذ الإبداع في مطبخ الحداثةِ لكي تصبحَ علاقة المؤدي بالمتلقي علاقة تحبل بالدهشةِ، بالتواصل، والتأصيل والتجريب، بعيدا بعيدا عن الثغرات والنواقص والإنحرافات والسلوك المشبوه والنص الأجوف… بعيدا بعيدا عن التشويه العقلي والعاطفي، والإقتراب من خامات التوافق الإنساني، الحريَّة، الصدق، الحقيقة، العطاء، والقوة الخلاقة للنسق الجديد.
ويقولُ أيضًا في مقدمة الكتاب صفحة 1: (” الثقافة والأنوثة نهران عاجيَّان في غابات رخام… وأنا مشتاق بينهما، إلى رائحةِ امرأة.. تبهرني، وإلى كتابةٍ تحترقُ بنار الأحلام – معين “).
يتناولُ معين شلبية في هذا الكتاب، من خلال الخواطر والمقالات، جميعَ الأمور والمواضيع التي تهمُّ المواطن العربي والفلسطيني خاصّة ً، سواءً داخل الوطن او خارجه ويُعالجُ همومَهُ وآمالهُ وأحلامه وأفراحهُ وأحزانهُ ومآسيه وتطلعاته المستقبيليّة وفيما يتعلَّق في جدوى وجودهِ وكيانهِ… وَيُعبِّرُ بصدق ٍ وبحنكةٍ في ما يكتبهُ عن هذه القضايا..عن الإنسان العربي، وأحيانا يستعمل أسلوبَ السخرية ممزوجا بالحزن والفرح الآدمي والغضب الطفولي. ونجدُ بذرة َ الأمل والتفاؤُل تشرئِبُّ من ثنايا وطيَّاتِ هذه الشطحاتِ الصوفيَّة والمقالاتِ والخواطر البلاغيَّة المموسقة والمترعة بشذا الجمال والإبداع الفني. يقولُ مثلا في خاطرةٍ لهُ: (“عن حالة تناغم ” – صفحة 54):
(” أنني أنثى تعيشُ حالة َ التناغم الشّديد ” حالة الإنسجام الكلي – الروح،الجسد، والعقل، حالة الفكر والفن والجمال. حالة التألق، التوهُّج والإحتجاج، إلى أنثى تُعشعِشُ شقوق الروح، تحرّكُ بحيراتي الراكدة، ترسلُ أمواجها نحو الأفق الممكن، ثمَّ يحرقني بندى آهاتها ولعنة شالها الوردي، إلى أنثى تسيل أزرارها إن مسَّها حلمٌ، أنا حلمي، أنا حلمٌ وذكرياتٌ آتية. إليها أبعثُ باقةِ وردٍ ومحبَّة.. دفتر حنيني وأوجاعي.. وأسأل: هل ما زالَ الحبُّ ممكنا ؟ وهل ما زالَ الحبُّ ضروريًّا ؟ لستُ أدري !؟ “).
ويكتبُ معين أيضًا عن العناصر السلبيَّة التي تعملُ على تشويه طابع المجتمع وانطلاقاته الإبداعيَّة والحضاريَّة والإنسانيَّة، فيقولُ: (“هنالك بعض الفيروسات الإجتماعيَّة تجتمعُ سويَّة في الآونة الأخيرة وتقف وراء مشاريع ومخططات مستنقعيَّة من أجل غزو خيمتنا الحضاريَّة…عليكم بالمصل الواقي ضدّ الإلتهابات الفكريّةِ). ويكتبُ أيضًا عن النفاق الإجتماعي – وهذا ما نلمسهُ بشكل ٍ يومي وبوضوح ٍ في مجتمعِنا، يقول: (” بعضُ الجراذين والحرابين في المؤسَّسات يمارسون مسح الجوخ وفرق تسد، وهذه الظاهرة تسدُّ النفوسَ وتثيرُ القرفَ والإشمئزاز، ولكنها أخيرًا سترسلُ أصحابهَا في البريد المسَجَّل إلى مزبلةِ التاريخ… المطلوب أن تتوقف عمليَّات الهبوط الخلقي “).
إنَّهُ لأسلوبٌ تهكُّميٌّ لاذعٌ وجميلٌ يصيبُ كبدَ الحقيقة المأساويَّة التي نعيشُها نحنُ كشعب وكتاب ومُثقفين وأدباء وشعراء في الداخل يٌعانونَ على جميع الأصعدة والمجالات. ويقولُ معين أيضًا في مقال ٍ لهُ عن سياسةِ التعتيم (صفحة 27) ما يلي: (” إنَّ سياسة التعتيم السَّائدة في الفترةِ الأخيرة تجعلُ الحالة َ العامَّة َ تفرغ ُ من بلاغتها، تتفكَّكُ وتصبحُ كالطعام التمة. وعندما تنظرُ فجأة ً وترى أن كلَّ الوجوه تحوَّلت إلى أقنعةٍ مزيَّفة، وتراها تسقطُ رويدًا رويدًا في مستنقع الخيانةِ وتراها تلهثُ وراءِ النرجسةِ والدَّوس على حقوق الآخرين، عندها تتسعُ لحظة ُ النهايةِ ِ لديكَ وتكبرُ مساحات شاسعة ٌ من خيبةِ الأمل، الجفاء والمرارة… وتقولُ: إنهُ الضَّعف البشري “). إنهُ لموضوعٌ مههمٌّ جدًّا وحسَّاس قلائلُ من الأدباء والشعراء الذين تطرَّقوا إليهِ وكتبوا عنهُ.
ويكتبُ معين أيضا عن الوضع الإقتصادي بأسلوبٍ على شكل نكتةٍ ترفيهيَّة -(صفحة 27): (” إن أردتَ أن تعرفَ الوضعَ الإقتصادي لشخص ٍ ما.. لا تنظر إلى ملابسهِ !! وإنما انظر إلى ملابس زوجتِهِ “).
ويكتبُ عن الوجوهِ المستعارة (عن خيبة الأمل) – صفحة 39).
وكتبَ عن الحبِّ الحقيقي صفحة 34… الحب الروحاني المتبادل حيث يقولُ: (” هو يعيشُ حالة َ التألق والتوهُّج والصراع الحضاري، إنهُ بين ذراعها، هي…تعيشُ حالة َ سموِّ الإخلاص وريشة الروح والعشق الممزوج بالأمومةِ، إنها بين ذراعيهِ “). وفي خاطرة لهُ عن طفولةٍ أخرى صفحة 49، فيقولُ فيها: (” أبحثُ عن طفولةٍ اخرى وعن رحلة أخرى فوق أجنحةِ الندى ودفءِ الياسمين، فلماذا أنتَ جرحي وروحي وجنوني ؟ يا امرأة ً تعذبني وتفرحني وتحملني في مهبِّ الأنوثة.. يا امرأةً إليها أكتبُ على رعشةِ سحابة، وجعي، شعري، ونبيذي، “).
ونجدُ معين شلبيّه مستغرقا في الفلسفةِ عندما يكتبُ عن الحقيقةِ والعدالةِ، فيقول – صفحة 49: ” ليست هناك حقيقة مطلقة على الأرض، فالحقيقة المطقة هي الحقيقة الرَّبانيَّة المحكمة، باستطاعتنا أن نلمسَ جانبا واحدا من الحقيقة ويفلتُ جانب آخر، وإدراكنا لهذا الموضوع يطرحُ عنصر المتشابه في السطح. وبمعنى آخر يطفوعلى السطح دون الغوص عميقا. إنَّ الإيمان بنسبيَّةِ المعرفةِ يدعنا نكفُّ عن فكرةِ الحقيقةِ المطلفة…لانَّ الحقيقة َ متعدِّدة الجوانب والعدالة مثقوبة وليسَ لها معنى نسبيتها أننا نبتهلُ سبر أغوارها “).
وفي تناولهِ للقضايا القوميّة والوطنيّة لا نجدُ أروعَ من قولهِ- صفحة 50: (” إلى شعب شُرِّدَ عن وطنهِ، وخذلهُ المجتمعُ الدولي عندما أرادَ ممارسة َ حقهِ في الوجود ودفاعه عن أرضهِ وعرضهِ. إلى شعب شربَ كأس المذَّة والهوان وجارَ عليهِ الزمان وأرتُكِبَ بحقِّهِ أبشعَ الجرائم وسكبَ عليهِ الغُبنُ والقهرُ ومارسَ المُحتلُّ ضدَّهُ انتهاكَ الأعرافِ الإنسانيَّة والقانونيَّة وغيره من غياب الضمير والدمار الشَّامل إلى…هذا الشَّعب ألفُ تحيَّة، وقد أثبتَ التاريخ أنَّهُ لا يمكنُ أن يضيعَ الحقُّ ما دامَ وراءَهُ مطالب… واللهُ يُمهِلُ ولا يُهمِلُ. أنتِ فلسطين… أم البدايات… أم النهايات.. “).
وقد أعجبني مقالٌ لمعين بعنوان: ” عن حمير الشُّغل “- يتحدَّثُ فيهِ عن الذين أخذوا المراكزَ العالية شكليًّا وحققوا الكثيرَ من الكماسب الماديَّة من دون أيَّةِ معرفةٍ أو كفاءات ومؤهِّلات. وفي نفس الوقت نجدُ الأشخاص الأفذاذ والمتعلمين وأصحاب الكفاءات والأهل لكلِّ شيىء موجودين وراء الكوايس وفى طيِّ النسيان يُمارَسُ ضدَّهم كلُّ أنواع التعتيم والتشويش وإغلاق أبواب المعيشة والرزق والإنطلاق الثقافي والإبداعي، فلا أحدٌ يسمعُ عنهمم شيئا إطلاقا.، فيقولُ (صفحة 24):
(” قبل أن تموت نفسك في العمل، لماذا ينجح المتسلقون ويفشل حمير الشغل ؟ “). ليست هذه دعوة لتحريضك على نفسك، ولا هي خطة سريعة لأشعال نارالحرب الأهليَّة بأعماقك، إنها دعوة خاصَّة جدًّا للأنقياءِ في هذه الأرض. خطابٌ مباشر إلى كلِّ الذين يتمتعون بكلِّ المهارات العقليَّة والنفسيّة والفنيَّة والفكريّة التي تؤهلهم لتشغيل أعلى المناصب، ومع ذلك فهم يجلسون بجوار الحيط يمضغون الغيض، يرون الدُّون فوق وهم تحت، يرون الزمن يجري وهم وقوف. الحياة تمضي وهم يُردَّدون طيلة الوقت انهم مظلومون لأنهم لا يجيدون فن الانحناء وعلم الفساد وأصول لعبة النفاق. لا تنسَ هذا الكلام يا صديقي فقد قرأتهُ منذ مدَّة وجيزةٍ ولن أنساهُ “).
نحنُ نلمسُ في الكثير من كتابات معيين شلبيّه النفسَ الدرويشي… أي أنهُ متأثرٌ بعض الشيىء بشاعر فلسطين الكبير محمود درويش، وقد لمَّحَ معين بذلك عندما قال في كتابهِ (صفحة 75 ” عن رحم المأساة “): (” لقد ولدتُ من رحم المأساة وأنا أعاني حبيبتي وأعانق شمسَ الشاعر الكبير محمود درويش… فهل أكونُ مدينة الشعراء يوما “).
وفي مقدمةِ كتابه ” شطحات” نجدُ تواردَ الخواطر والتشابه في الأسلوب بينه وبين محمود درويش، حيث يقولُ معين: (” والكتابة لديّ، تسوية ٌ أخلاقيَّة بين تجربتي الإنسانيَّة وبين شهوة هاجس البحث عن سؤال الحريَّة، الحقيقة، والعدالة، في مناخ استثنائي ذاتي وشمولي، يبدأ من الصرخة الأولى ويمتدُّ نحو التصاعد الغامض للمتوتر،الحائر، المقاوم، والقلق الذي لا يتوقف على حال ٍ، من أجل بناء تجانس كينوني بين الجماعي والفردي، بين الأنا والآخ، بين العشق والمرأة، بين الأرض والطبيعة والوطن. ولكن، يبقى سؤال الكتابة مبحرا في الأزرق كما يبدو… معاناة لا شفاء منها.. إلخ). أي أننا نلمسُ بوضوح الطابعَ الفلسفي والإستغراق في الغموض والرَّمزيَّة كما هو عند محمود درويش. ونجدُ معين شلبيّه أيضا
متأثرًا أيضا بالأديب العربي المهجري الكبير ” جبران خليل جبران “… خاصَّة في خواطره حيث نراها مترعة ً بالعذوبة والجمال اللفظي والأسلوب الشائق وبالرومانسيَّة الحالمة وبنكهة مميَّزة. ولكن معين شلبيه رغم تأثرهِ بهما (بمحمود وبجبران)- كما يبدو – وبغيرهما من الكتاب والشعراء الكبار- العرب – والأجانب والعالميِّين (حيث يمتلكُ ثقافة واسعة جدا واطلاعا على جميع الكنوز والذخائر الأدبية) فنرى له أسلوبا مستقلا منفردا مميزا وتوجُّها مختلفا عن غيره من الكتاب والشعراء (محليًّا وخارجا). فالتأثر شيىء طبيعي وكل شاعر أو أديب مهما كان كبيرا وعظيما فلا بدَّ أن يكون قد تأثرَ بغيره من الكتاب والشعراء ممن سبقوه وجاؤوا قبلهُ. ولكن هنالك فرق كبير بين التأثر وبين التقليد.. وأنا شخصيًّا أعتبرُ الشاعرَ والأديب معين شلبيِّه مبتكرا مبدعا إلى أبعد الحدود ومجدّدا بكلِّ معنى الكلمة، غير مقلد للغير، لقد شقَّ طريقه الأدبي الفني الإبداعي بجهد وإصرار ورويَّة وتعمّق وحقَّقَ الإنجازَ الكبير في هذا المضمار الفني. وكتاباتهُ (النثريَّة والشعريَّة) تمتازُ بمستواها الراقي وبالأسلوب الشائق العذب المموسق وبالبعد المعنوي والفكري والفني والبلاغي والفلسفي وبالبعد القومي والإنساني والأممي الشامل.
– وأخيرا: مهما كتبنا عن هذا الأديب والشاعر القدير (معين شلبيّه) لا نعطيه حقة وما يستحقهُ، ولاأستطيعُ بهذه المقالةِ الصَّغيرة أن أعبِّرَ وأشملَ كلَّ شيىءٍ فيما يتعلَّقُ بكتاباتِهِ وتقييم مستواها وأبعادِها وتموُّجاتِها الفنيَّةِ، وآملُ في مقالاتٍ أخرى أن أركّزَ الأضواءَ على جوانب أخرى عديدة لم أتطرَّق إليها في كتاباتهِ النثريَّة والشعريَّة.
حاتم جوعية