الهوية الفلسطينية في شعري

تاريخ النشر: 19/05/14 | 7:50

من سيرتـي الذاتـيـة:

في هذه الأيام الفلسطينية الشائكة، وفي الذكرى تلو ذكرى، وفي العبرة والاستعبار أرى أن من حق قرائي علي أن يعرفوا أين أنا من القضية، وذلك في غمرة التشكيك والتساؤل والتصنيفات عامة،
واتفق أن توجهت لي طالبة جامعية تعد للقب الثاني بأن أساعدها في الإجابة عن السؤال:
كيف ظهرت الهوية الفلسطينية في شعري؟
فإليها وإلى محبي فلسطين أعيد نشر صفحات من سيرتي الذاتية التي كتبتها بمناسبة بلوغي السبعين.
…………………………………………….
الهوية الفلسطينية في شعري
إن الهوية الفلسطينية بارزة في كتاباتي الشعرية، وذلك عبر التجليات التالية:

• ذكر الاسم”فلسطين” مباشرة وغير مباشرة، تعبيرًا عن الانتماء والهوية.

*ذكر الأماكن والمواقع الفلسطينية من خلال إبراز النغمة التي تشي بالألم، وخاصة وصف قرى مهدمة ومهجورة من خلال تبيان المأساة التي ألمت بالشعب الفلسطيني.

*رثاء بعض الشخصيات الوطنية الفلسطينية.

*التركيز على بعض المترددات (الموتيفات) الفلسطينية نحو:
“الشهيد”،”الأرض”،”العَلَم”……
***
1- ذكر”فلسطين”:
قلت في مطلع قصيدتي”حبي فلسطيني” :
الأرض أرضي وليس الشوق يبريني
الشوق يحدو إلى حبي فلسطيني
(خاطرتي والضوء، ص5)
ففي هذه القصيدة تحدثت عن نشأتي في وطني وعن حكاية المعاناة التي كانت:
فشردوها قرى كانت برغدتها….. من بروة،بصة،ميعار دامون
أنى نظرت مئات مثلها نزحت….. أمام ناظرنا أطلال قاقون
يا أهلها أهلنا يا طير منزلنا….. اقرأ سلامي على أحزان محزون
وهذه القصيدة طويلة تتحدث عن عمق الانتماء، وفيها حكاية التشريد، وكيف أن أهالي عين غزال (من أقربائنا) حضروا إلى منزلنا بجموعهم الكثيرة الحزينة.

ويظهر اسم”فلسطين” في عدة قصائد كذلك:
ففي قصيدة”الخلاص من نهر الظمأ” التي تنبأت تمامًا بالانتفاضة –كما أرى- وكانت قد كتبت في كانون الأول 1987 م، قبل أيام من اندلاع الانتفاضة، قلت:
“ويصير الطفل معبأ
ويتكاثر أطفال ورجال ونساء وصبايا
والكل فلسطين وحكايا

وفلسطين أحرفها تجمع مذخورًا لغويّا
أحرفها تتكرر في نطق الطفل
أول ما ناغى أمه
يأتي هذا”الأبيض”- هذا الزاعم أن فلسطين – فلسطين
فلسط يــ يـ يـ يـ ن بلاده
(الخروج من النهر ص 19)

بالطبع فاِن في لفظة”فلسطين” ما يدل على عمق غضب” الراوي الشاعر”، ومدى اتصاله بأرضها.

وقد جعلت”التطريز” أو”الأكروستك” في قصيدتي “جميلة”- أي أن أوائل السطور تجمع كلمة “فلسطين”، وما زلت أذكر كيف ولدت القصيدة، ففي سفري من مجيدو إلى حيفا كنت أشاهد على يميني سلسلة الجبال والهضاب والمنخفضات، ومن العجيب أنني وجدتها تؤلف معا بتضاريسها لفظة”فلسطين” فالّفت على التو:

حروفها قرأتها على شفاهها:
ففـجرها لصوتها ترتيلة الأعياد
ولـؤلؤ بصمتها يضمها
سـعدت عندما رأيتها
طيورها ترافق الأولاد
يـجمعون الورد والأحلام
ونــورهم مسلسل الكلام
(الأعمال الكاملة،المجلد الأول ص 238)
(لاحظ إبراز الحروف في صدر كل سطر)

وعندما خاطبت الطلاب في قصيدتي”المعلمون والأبناء” لخصت تجربة المعلمين – وأنا منهم:
فلسطين على ساحات قلبي…. برسم النصر يعلو للسماء
فيورق دوحنا فجرًا نديًّا….. ويزهر صوتنا نبض الفداء
(قبلة بعد الفراق،ص 38)
***

2- المكان الفلسطيني:
كتبت قصائد كثيرة فيها ذكر للمواقع وفيها التحام بالمكان،وخصصت قصائد خاصة عن القدس (أربع قصائد) وقيسارية وعكا ويافا وحيفا (انظر الأعمال الكاملة ص256،237،236…… وكذلك”ما قبل البعد”،ص 27،26،172،8)
قلت في قصيدة لي عن القدس:

“وسر القدس يشرق في سرائرنا”
(ما قبل البعد،9)

وتُظهر لغة (نحن) الانتماء والمشاركة العميقة، غير أن لغة المفرد”أنا” تظهر كذلك للتعبير عن هذا الحلم بالتواصل:
“ وأنا امضي في كل سبيل
بيدي سبحة
من زيتون الأعلاق”
(ن. م،ص18)

وتحدثت في”حيفا” عن رفقة الدرب الذين تفرقوا أيدي فلسطين:
بحضن البحر يا حيفا….. قرأنا سورة الحب
نطل عليك من أعلى….. ونذكر رفقة الدرب
(إلى الآفاق، ص 42)

وكنت أذكرها تمامًا كما أذكر موج يافا:

ليافا إذ يعانق شاطئيـــــــــها….. توالي الموج في ذكرى انتزاحي
(الأعمال الشعرية.م 1، ص256)

وقد عبرت في أكثر من قصيدة – وبسخرية – عن هذا التحريف في الأسماء الذي برع فيه المعتدي، فعين حوض تصبح (عين هود) وإجزم تغدو (كيرم مهرال) وقس على هذين……
(انظر”الخروج من النهر”،من 19)

وقد وقفت على أطلال الديار في عين غزال وإجزم والسنديانة، ومما سجلته من عذاباتي قصيدة “عذاب المدى”، فقلت وأنا أصف بناية كانت مدرسة في”ماضي الزمان” :

“أطفالنا مضوا
الآخرون من أتوا مكانهم
وجرحنا درى به طير يرف فوق إجزم..”
(خاطرتي والضوء، ص 14)
هذا الانتماء انعكس أيضًا في خطابي للناقد إحسان عباس – ابن عين غزال وهو قريب لي، فقلت:
“ وجدتي عائشة
تلك التي أعطت أبي عينين زرقاوين
خالتك التي
ظلت تعيد
“لا بد للغريب أن يعود”.

وتظل قصيدة”الشيخ والبحر” التي تتحدث عن مسجد قيسارية الذي أضحى – بقدرة ظالم- حانة، وهناك يعترف الراوي الشاعر أنه – طلب كأسا” ليذكر أو ينسى… يذكر….. يجتر مهانة”. والقصيدة تقع في خمسة مقاطع رقّمتها أو رتبتها حسب الحروف: ب،ل،ا،د،ي، وما أجملها إذ تُجمع!

إن أنس لا أنس باقة بلدي، فقد كتبت لها أنشودة مطلعها:
يا باقتي يا حلوتي تألقي كالنجمة
ولم أنس بئر باقة إحدى معالمها، فختمت بالقول:
جعل الإله الماء كنز حياتنا….. فتباركت بئر وكانت موطنــــا
(أحب الناس، ص 31-33)
***

3- رثاء الشخصيات الوطنية الفلسطينية:
ما من مرثية كتبتها إلا وأظهرت فيها البعد الوطني، وكم بالحري إذا كانت القصائد أصلاً قد كتبت لرثاء وطنيين بارزين مثل راشد حسين وعصام السرطاوي وعبد اللطيف الطيباوي وسامي مرعي وفهد القواسمي (الأعمال الكاملة، من 159،360، 303، 305، 306)، وكذلك أبو جهاد (قبلة بعد الفراق،ص 15)، وتوفيق زياد (لما فقدت معناها الأسماء، ص80)، وإبراهيم بيادسة (أحب الناس، ص 76)، وغيرهم..
قلت مخاطبًا أبا جهاد:
“ غدا أبا جهاد
غدا تعود
شوق أمطار تحن إلى المطر
غدا تعود
إلى روابينا فداء”

وفي خطابي لسامي مرعي وهو صديق لي،وكان يسكن قرية عرعرة القريبة من بلدي قلت:
هذي فلسطين التي قدستـــــــها….. مدت معانـــــــــقة إليك فمًا، يدا
هذي فلسطين التي أحببتــها….. حملت على صدر شريطًا اســودا
***
• التركيز على بعض المترددات (الموتيفات)الفلسطينية:

لاحظ خلدون الشيخ علي في كتابه “صورة الشهيد الفلسطيني في أشعار فاروق مواسي” (منشورات المركز الفلسطيني للثقافة والإعلام – جنين،1995م) أن لفظة”الشهيد” لدي بارزة، وأن وصفي لها فيه نوع من التقديس، فيقول:
“…. الشهداء عند مواسي لا يموتون، بل يطلون ممتدين، يطربون الذاكرة الفلسطينية الواعية بالألحان المقدسة، يتصاعدون نحو النجوم، يحملون معهم كل الأفكار النقية، ويقتلون الطوفان القوي لليأس..” (ص20)

اما”الأرض” فلا تكاد تخلو قصيدة من لفظها ذكرًا أو إيماء، بل إن بعض القصائد عن الحبيبة فيها ما يرمز للأرض، وفيها هذا الدمج المتماثل الذي شرع نوافذه أولا شاعرنا أبو سلمى.
وقصائدي الثلاث عن يوم الأرض (ديوان”يا وطني” ص3-17) تؤكد على هذا الارتباط بالأرض والإنسان الفلسطيني عليها، كما أن القصائد عن كفر قاسم وعن العذاب اليومي الذي يمارس علينا كلها كانت دليلاً واضحًا على هذه الهوية التي أشعر أنها غُمطت وقُمعت في غفلة من الزمن. وفي تقديري أن قصيدتي عن مصطفى كبها وذاكرة الوطن فيها هذا العشق الذي أتجاوب فيه وهذا النشاط في معرفة التفاصيل الفلسطينية، بالإضافة إلى القصيدة عن”المفتاح” الذي يحفظه اللاجئ، و”الجدار” الذي يضيق الخناق، وكأنه أفعى تساورنا. (أحب الناس، 17، 23،26)

أما العلم الفلسطيني فقد أشرت إليه تعميمًا –أولاً في قصيدة كنت أطمح أن تُختار لتكون النشيد الوطني الفلسطيني (هكذا عبرت عن ذلك في أكثر من لقاء /حوار في أوائل التسعينيات)، والقصيدة هي بعنوان”تتويج”:
الأمل المخضرّ على صفحة قلبي
يسألني يومًا… يومًـا عن دربي
يسألني هل أملك
أن أحفظ عِرضي
أن أعشق أرضي
والأمل المخضر يقول”نعم”
البسمة تزهر في عين الأطفال
وتغطي كل ألم
والهمة تشرق في عزم رجال
ويكون علم……
(الأعمال الكاملة، ص87)

وصفت العلم الفلسطيني في أكثر من قصيدة، فقلت في قصيدتي”فهد القواسمي والوعد”:
يرفرف فــي ذرا وطنــــــي…… بـــعيـــن عيونـــنا يــــــــبدو
فخضرة لونـــــــــه الزاهي……. بآمال الفـــدا تحـــــــــــــــدو
وأبيضه بلون الطــــــــــهر………. أنقى صـــــفوه الـــــود
وأحمره دم قــــــــان……. هـــــو النيـــــران والشهــــد
وأسوده يذكـــــــر مــــــــا…… يـــلاقــــــي غــــادر وغــــــد
(ن. م، ص306)

وفي موضع آخر قلت:
أعلام أمـــتنـــا خــــــفاقــة أبدا…. نرنــو لـــها أملاً، والرمــــز لـــم يـــغب
فــي أخضـــــر اللون آمال بدوحتنا……… في أحمـــر اللـــون دم دافـــق اللهـــــــب
فـي أسود اللون عباس بيارقـــــهــم…… في أبيض اللون من صافي الهوى الرغب
(ن. م،ص267)

وقد عبرت عن عمق هذا الانتماء في قصيدتي”مجلس الأحبة” حيث أهديتها إلى أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني- الذي انعقد في عمان في أوائل الثمانينات، فقلت:
عيوننا تراقب الخطى
وخطونا يسابق المنى
في أرضنا الخصبــه
نقايض الأحبة الوفاء
وقبلة على جبين متعب أمين
يسير في ثقــــه
القدس من أسراره
إن لم تكن حبه
(الأعمال الكاملة، ص268)

وتمضي القصيدة في خطابها”يا أخوتي” حتى تتداخل في لغة (نحن) وما أنا إلا جزء منها:
“على شفاه طفلنا وشيخنا
فينتشي شبابنا مضاعف الهوى
في رحلة النوى
الله يا وطن”

***
ثمة ملاحظة لا بد من ذكرها:
إن البعد القومي (العربي) لا يكاد يظهر في قصائدي، اللهم إلا هذه الومضات التاريخية هنا وهناك، ففي رثاء لعبد الناصر قلت:
هو درس قد ثقفناه
هو حب وشربناه
(الأعمال الكاملة. م 1، ص27)

أما”بكائية ليست كالبكاء” فهي في رثاء عبد المنعم رياض، فقلت بنوع من المشاركة العميقة: ”يا أمَّـــــهُ يا أمنا !”.
ولكن مع هذه المشاركة تظل فلسطين في نفس القصيدة لها وقعها الحاد:
فلــــسطين معاناتي ووجدي…… وموتي ثم بعثي سرمــديـا
فلسطين هي الشهد المصفى…… ونخل يسقط الرطب الجَنيا
(ن. م، ص31)

وقصيدتي “ندّ على أضرحة عراقية” فيها بكاء على الأمجاد العربية التي تُداس:
من أعماق الأحزان استفتيت فؤادي
هل تقدر أن تثبت في وجه الإعصار
السافح دم حساسيني.. وورودي
(ما قبل البعد، ص 29)

وقد ظهرت عاطفتي الدينية الوطنية في أكثر من قصيده نحو”القدس“ من وحي السيرة النبوية (الأعمال الكاملة ص236، 232).
***
اما نغمة” الكنعانية” التي أخذت تتردد كثيرًا في العقود الأخيرة فليس لها إلا أثر واحد في قصائدي وهو استخدام لفظة (يبوس)، وذلك في الرد على الرسائل:
-” من أي زمان أنت أيا شاهد؟
– اسأل تلك الزيتونه
أعرفها منذ يبوس”

وهذا الاستخدام كان للدلالة على الرسوخ والقدامــة.

ويعود السبب في أن إغفالي البعد الكنعاني هو بسبب ضرورة إغفال مسألة ” الحق التاريخي” الذي يدعيه الآخر. فأنا لا ألجأ إلى تكذيب التاريخ الآخر بتاريخ مواز أو أسبق، وإنما اردعه أولاً بالواقع والتواصل وبالارتباط الحميم بالآن وهنا.
……………………………………….
من كتابي “أقواس من سيرتي الذاتيـة” ط2. طولكرم: مطبعة ابن خلدون- 2011، ص 61- 69.

أ. د فاروق مواسي

faroq

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة