لا اعداء دائمين في السياسة

جواد بولس

تاريخ النشر: 16/05/25 | 8:02

منذ لحظة اعادة انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، يعيش العالم حالة من القلق وعدم اليقين. وقد ساعدت تصريحاته المتتالية، في شؤون السياسة والاقتصاد، على ترسيخ هذه المشاعر وانتظار ما سيفعله في اليوم التالي.

سوف تتأثر منطقتنا، من دون أدنى شك، بسياسات ادارة ترامب المعلنة والمضمرة، وتشهد على هذا زيارته الحالية للملكة العربية السعودية ولدولتي قطر والامارات. بيد أن الرهان على وجهة هذه التغييرات وطبيعتها وعلى نتائجها السياسية الحقيقية، غير ممكن حاليا لانه ما زال قيد التخطيط والاعداد.

من اللافت متابعة التفاعلات السياسية والنقاشات الجارية داخل اسرائيل حول علاقة “أمريكا الترامبية” الجديدة “باسرائيل البيبية” الجديدة. ولقد كثرت التحليلات التي تتناول شخصية ترامب والتساؤلات ما اذا كان قد غيّر مواقفه تجاه اسرائيل بشكل استراتيجي، كما يخمن ويخشى بعض الاسرائيليين، أم أن الامور بقيت كما كانت، وما نراه في هذه الايام هو مشهد عابر لكنه حقيقي، تكمن دوافعه بنزق رئيس مصاب بنرجسية مفرطة لم يتحمل بجاحة بنيامين نتنياهو تجاهه ولا أسلوبه المراوغ والمستهتر بأطباع زعيم يشعر أنه امبراطور العالم.

لم يكن توقيت الزيارة ولا ما سبقها من تصريحات مجرد صدفة؛ ولا يجوز تسخيفها، بناء على مشاهد ومفارقات زيارة ترامب للسعودية خلال فترة ولايته السابقة، ببضعة جمل ساخرة تصف دوافع مجيئه هذه المرة أيضا كي يضحك على العرب “ويحلب خزائنهم” ويعود حليفا لاسرائيل يساندها رغم ما فعلته وتفعله ضد الفلسطينيين. الحقيقة هي ان ادارة ترامب بحاجة للمال وللاستثمارات الخليجية وهذا الهدف ستوفره لها الزيارة كما قرأنا. ولكن قد لا تبرم هذه الصفقات من دون أن تؤخذ المستجدات التي طرأت على منطقة الشرق الاوسط في الحسبان، لا سيما ما جرى ويجري داخل لبنان بعد هزيمة حزب الله، وما جرى ويجري في سوريا بعد سقوط نظام بشار الاسد، وتأثير ذلك على ايران وغيرها من دول المنطقة.

يأتي ترامب الى الرياض ويعرف أنها ترغب وتستطيع أن تلعب دورا قياديا حقيقيا ومؤثرا في “لم شمل” الدول العربية الاسلامية السنية، وفي نفس الوقت تعلن عن دعمها للجهود الرامية الى التوصل لمعادلة سلمية مع النظام الايراني، الذي يبدي بدوره رغبة وميلا لانجاح هذه الامكانية. يحضر وهو يعرف أن أنظمة الحكم العربية، خاصة في المملكة العربية السعودية، بحاجة الى توفير الاستقرار السياسي في المنطقة، ويعرف ان هذا الاستقرار لن يتوفر الا بتوفر عدة معطيات وشروط، أهمها ضرورة ايجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، فبدونه قد تستمر ابادة شعب فلسطين وتبقى حرائق الشرق مشتعلة.

أفترض أن هنالك تفاصيلَ كثيرة لهذه الزيارة لم يجرِ الحديث عنها علنا وستبقى طي الارشيفات المكتومة؛ واقرأ ما يُكتب داخل اسرائيل والخوف من امكانية تخلي النظام الامريكي عن بديهية كون اسرائيل، او على الاقل حكومتها الحالية، حليفة استراتيجية وحيدة في الشرق الأوسط؛ وأقرأ أيضا ما يكتب وينشر في الاعلام العربي، وجلّه اعلام مجنّد ويتبع أهواء وسياط أسياده، وأعرف أن جميع الاحتمالات السيئة تجاه مصير القضية الفلسطينية ما زالت واردة؛ ففلسطين قد خبرت من مآسيها منذ أكثر من مائة عام، وحشية الغرب وكذب العرب وغدر الأعاريب.

كل الاحتمالات واردة لكنني، مع كل التوجس، أشعر بأننا مقبلين على ايقاف المجزرة ضد الفلسطينيين خاصة بعد ان بدأت محافل واسعة في العالم تقتنع بأن الفلسطينيين هم ضحية مجازر الحاضر، وان اسرائيل، بسبب جرائمها الوحشية ضدهم، تستحق خسارة مكانتها كضحية التاريخ المعاصر الوحيدة وتستحق أيضا رفع الحصانة التي حمتها طيلة العقود الماضية ومنعت محاكمة المسؤولين فيها عن الجرائم التي اقترفوها بحق الفلسطينيين. قد نشهد، اذا صدق هذا التصور، بداية طريق جديد سيبدأ بتنفيذ حل وفق إطار ترامب – بن سلمان والذي يقضي بعودة جميع الرهائن في مرحلة واحدة، وانهاء الحرب، وانسحاب إسرائيلي من غزة، واطلاق سراح الاسرى الفلسطينيين. ويبقى الخوف مما سيتلو ذلك على طريق توسيع اتفاقيات توسيع اتفاقيات ابراهام لتشمل دولا جديدة وتحديدا سوريا تحت نظام الجولاني؛ والمخفي أعظم.

لا يمكن الكتابة عن القضية الفلسطينية من دون استحضار المحطات التي مرّت عليها عبر التاريخ المعاصر، وكيف تجاذبتها الانظمة العربية وحاولت احتضانها في بعض المراحل “بحب خانق” كاحتضان الدببة الجائعة، لكن هذه العجالة لا تكفي. لكننا نستطيع ان نذكّر بعودة هذه المنافسة بعد ان تضعضعت مكانة “منظمة التحرير الفلسطينية ” وتم ترسيخ دور “حركة المقاومة الاسلامية- حماس” كجهة شرعية تتصرف كقيّم على شؤون غزة ومصيرها ومصير أهلها بعد انتهاء الحرب عليها. فحماس تفاوض فرنجة الامريكان “وكفارها ” مباشرة، وتوافق على منحهم جنديا محتجزا لديها، يحمل الجنسية الامريكية، كبادرة لحسن النية.

لقد أعادتنا المحنة الفلسطينية الداخلية الى ذاك الزمن القبيح، حين كانت “روح القضية الفلسطينية” رهينة مهينة تتجاذبها الأنظمة العربية والاسلامية وتقدمها أضاحي لاسرائيل ولامريكا .

يتطلع الفلسطينيون لما يجري في الرياض وفي داخل دول الخليج عموما بتشكك يصاحبه أمل. فقد توجهت القيادة الفلسطينية من رام الله لحكام السعودية وعلى رأسهم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان واستجارت بنفوذه وطالبوه بأن يقف مع فلسطين ويدعم حقها. ووعدتهم السعودية بألا تطبع مع اسرائيل قبل أن ينال الفلسطينيون حقوقهم بالدولة وبالاستقلال، وهذا ما أعلنه الأمير محمد يوم الاربعاء حين صرح مؤكدا على “ان المستقبل الذي نتطلع اليه من خلال تحقيق أهداف التنمية المستدامة، يتطلب وجود بيئة مستقرة وآمنة. ونحن مدركون حجم التحديات التي تواجهها منطقتنا، ونسعى معكم فخامة الرئيس وبالتعاون مع أشقائنا في دول مجلس التعاون الخليجي لوقف التصعيد في المنطقة وانهاء الحرب في غزة وايجاد حل دائم وشامل للقضية الفلسطينية وفقا لمبادرة السلام العربية والقرارات الدولية ذات الصلة بما يحقق الأمن والسلام لشعوب المنطقة”.

ورغم وضوح الكلام لصالح الفلسطينيين، لا يمكن التأكد من نتائج الزيارة وتأثيرها المحتمل، مع أن ترامب نفسه أكد على أن “لا أعداء دائمين في السياسة فمصالح أمريكا أولا؛ وهذه ستؤمنها الأموال والاستثمارات الخليجية، وترتيب بضعة أوراق هامة، مثل دفع السعودية الى مقدمة هرم الحلفاء، قد يكون على حساب قطر واخواتها، ووضع قواعد تعامل جديدة مع نتنياهو وحكومته، واحتواء سوريا عن طريق تدجين نظام الشرع “الاسلامي الثائر”؛ الذي رأيناه في مشهد قد خلق بلبلة واحراجا داخل الحركات الاسلامية التي هللت لقدوم الشرع / الجولاني على أجنحة الاسلام قاهرا “الفرنجة” والصليبيين. لقد نجحت الزيارة بزج الكثيرين، ليس الحركات الاسلامية وحسب، في مشاهد محرجة وملتبسة قد تتضح تداعياتها ونتائجها قريبا.

فلننتظر اذن فإن الغد لناظره قريب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة