محمود شقير، مسيرة أدبيّة تُوِّجت بجائزة فلسطين العالميّة للآداب
صباح بشير
تاريخ النشر: 26/06/24 | 7:07الأديب القدير محمود شقير، رائد الإبداع الفلسطينيّ لعقود خلت، هو عميد الأدباء بحقّ، توِّجت مسيرته بجائزة فلسطين العالمية للآداب، وهو فوز وتكريم مستحقّ؛ لقامة أدبيّة شامخة، أسهمت في إثراء الأدب العربيّ بأعمالها القيّمة.
لقد أنتج شقير أدبا غنيّا بالمعاني والقيَم الإنسانيّة، وكانت القدس حاضرة في أعماله دائما، رمزا لصموده وإيمانه بقيَم الحريّة والعدالة، ففي كلّ سطر يكتبه تشرق القدس بنبضها، حاملة عبق التّاريخ، تشارك في الأحداث وتؤثّر في مسار شخوص العمل، وتتألّق بأسوارها العتيقة، بأحيائها وشوارعها وأزقّتها، وأصوات أذانها الّتي تعانق السماء، وأجراس كنائسها الّتي تُرنّم لحن المحبّة والتّسامح، وأحلام أطفالها الّذين يحلمون بمستقبل واعد وسلام وكرامة، وما هذا إلّا غيض من فيض، فكلّ سطر يكتبه عنها، هو بمثابة لوحة فنيّة تجسّد جمالها ورونقها وحزنها وفرحها.
في عام 2009، وفي إحدى النّدوات الّتي أقيمت في مدينة القدس آنذاك، التقيت بالأديب شقير الّذي حلّ ضيفا على النّدوة في حينها، فحظيت بشرف الحضور والاستماع إليه، وخلال النّدوة أتيحت لي الفرصة لطرح بعض الأسئلة عليه، كان منها: لو كنت وزيرا للثّقافة الفلسطينيّة، ماذا كنت ستغير؟
في تلك الفترة، سادت أنباء عن ترشيح سابق للأديب شقير لهذا المنصب، الأمر الّذي زاد من شغف الحضور بمعرفة آرائه حول الموضوع، وبالطّبع أجاب شقير بحكمة وتبصّر، شارحا رؤيته للتّغيير المنشود في المشهد الثّقافيّ الفلسطينيّ، وبعد انتهاء النّدوة، تقدّمت منه وطلبت إجراء حوار معه، لنشره في مجلة “المنارة”، الّتي كنت أكتب فيها آنذاك، ونشره أيضا في صفحة الباحث الرّاحل رائد الدّبس، وهي صفحة “مبدعون فلسطينيون”، وبكلّ تواضع، رحّب الأستاذ شقير بطلبي ما زاد من إعجابي بشخصيّته.
قبل عامين، عندما أنهيت كتابة روايتي “رحلة إلى ذات امرأة” شرّفني، بكتابة التّظهير على غلاف الرّواية، بعد أن قرأها وأرسل لي بعض الملاحظات الثمينة حولها، في نفس الفترة أيضا، شاركت في زيارة خاصّة نظّمها نادي حيفا الثّقافي والأستاذ فؤاد نقّارة، للأديب محمود شقير في بيته العامر في مدينة القدس.
كان هذا اللّقاء، لقاء استثنائيّا غنيّا بالحوار والنّقاش، حيث أتيحت لي فرصة محاورته مجدّدا، عبر حلقة مسجّلة نشرت لاحقا على موقع يوتيوب وعلى فيسبوك، وخلال تلك الزّيارة استمعنا إلى حكايات ومواقف من مسيرته الأدبيّة الحافلة بالإنجازات، وبالطّبع اغتنمت الفرصة للتّعبير عن تقديري وإعجابي بأدبه.
أتت تلك الزّيارة بعد أن تمّ تكريمه في نادي حيفا الثّقافيّ عام (2017م)، وهو بحقّ، يستحقّ كلّ التّقدير، فهو مثال للكاتب المعطاء، الملتزم والمبدع، وها هو اليوم بعد عقود من العطاء والكتابة، يغدو كشمس ثقافيّة تضيء سماء الأدب، وهو بلا شكّ مقاوم يحمل القلم ليدافع به عن قضيّة شعبه وهموم مجتمعه، فيبرز ببراعة مكوّنات المجتمع الثقافيّة، ويعبّر عنها بلغة جزلة حرّة. ولا ننسى فضله على كثير من مبدعينا وكتّابنا، فقد أطرى عليهم بمقالاته، وشجّعهم وسلّط الضّوء على كتاباتهم، ودقّق الكثير منها دعما وتحفيزا لهم، فهو مثال يحتذى به، وملهم لكلّ من يسعى إلى الإبداع والتّعبير عن هويّته بفخر واعتزاز.
لقد قرأت له الكثير، ولطالما أسرتني أعماله كما غيري من القرّاء، أبهرني بسحر القصّة القصيرة جدّا، فقصصه كقطرات النّدى، هادئة ورقيقة ورشيقة، هي قصيرة، لكنّها غنيّة بالمعنى، مكثّفة بالتّجارب الإنسانيّة، وموحية بمشاعر عميقة.
على سبيل المثال لا الحصر، في مجموعتيه القصصيّتين “حليب الضّحى” و “سقوف الرّغبة”، جمع بين فنّي الرّواية والقصّة بإتقان فريد، أبدع في هذا اللّون السرديّ الأدبيّ، وأتاح للقارئ أن يقرأ النّص كاملا كرواية، وأتاح له أيضا أن يقرأ أيّ قصّة على حدة، دون أن يخّل ذلك بالبناء السرديّ.
مجموعة “حليب الضّحى”، تشبه لوحة غنيّة بالألوان والمشاعر والأفكار، بين طيّاتها حكايات تلامس أوتار القصيدة النّثريّة، وتبحر بالقارئ في رحلة عبر ذاكرة المكان وتأخذه إلى أزمنة خلت، وإلى عالم التأمّل والتّفاعل، ليغدو شريكا في القصّة وفاعلا في أحداثها.
في مجموعته “سقوف الرّغبة”، يقدّم شقير تجربة قصصيّة فريدة، حيث يكتب القصص على شكل متتاليّات متداخلة، ملتزمة بشروط القصّة القصيرة، لكنها تتجاوزها من خلال اختيار شخصيّة واحدة لكلّ القصص، مع الاستعانة أحيانا بشخصيّة ثانية تؤدّي دورا محدّدا.
هذا الأسلوب منح العمل بعدا روائيّا دون أن يثقله بتعدّد الشّخوص.
تنقلنا هذه القصص القصيرة جدا، الّتي تكمّل بعضها البعض، وتتداخل فيما بينها؛ لتشكّل لوحة سرديّة متقنة، في رحلة تلامس الرّوح، فكلّ قصّة تبسط للأخرى فكرة، لتنتج رابطا يكوّن في التقائه سردا يقارب النَفَس الرّوائيّ.
في كتاب “أكثر من حبّ”، يتبادل شقير الرّسائل مع الأديبة حزامة حبايب، بلغة إنسانيّة عذبة وأسلوب مشوّق، فتتهادى بينهما كلمات صادقة تحمل همومهما وآمالهما، وهموم الوطن والإبداع والحياة.
كانت تلك الرّسائل مرآة عاكسة لتفكيرهما، حيث تحدّثا عن مكابدات الكتابة وصعوباتها، وسعيهما الدّؤوب نحو التميّز والإبداع، ولم يخفيا خوفهما من الفشل، بل كان ذلك دافعا لهما لمراجعة أعمالهما مرارا وتكرارا قبل النّشر، سعيا وراء الكمال.
من هنا، فكتاب “أكثر من حبّ” ليس مجرّد مجموعة رسائل، بل هو رحلة عبر دروب الإبداع والصّداقة والهموم الإنسانيّة، هو كتاب أنيق، يؤكّد على أهميّة التّعاون والتّواصل بين المثقّفين.
في الرّواية الّتي وجّهها إلى اليافعين “غسّان كنفاني، إلى الأبد”، تجلّى إبداع شقير في استخدامه الذّكيّ لتقنيّة المونولوج الدّاخلي.
سمحت هذه التقنيّة للقارئ بالغوص في أعماق نفس البطل، ومشاركة مشاعره وأفكاره، ممّا أضفى على الرّواية أبعادا جديدة وعمقا إنسانيّا مؤثّرا، فهذا الحوار الدّاخليّ بين الكاتب والطّفل السّاكن في داخله، جسّد شخصيّة هذا الطّفل ببراعة، لدرجة الشّعور أنّها شخصيّة رئيسيّة فعّالة، من جيل مختلف آخر، إذ يتحدّث هذا الطّفل ويجادل، ويعبّر عن نفسه كيافع يقرأ لكنفاني بكل حبّ، ويعرض الكثير من المعلومات عن مواقفه وسماته الفكريّة، وأعماله الأدبيّة والفنّيّة؛ ليتيح للقارئ الصّغير فرصة التعرّف على كنفاني.
خلاصة القول، فالأديب محمود شقير مدرسة أدبيّة بحدّ ذاته، أثرى الأدب العربيّ بأعمال ستبقى حاضرة في ذاكرة القرّاء جيلا بعد جيل.
نعتزّ بهذه القامة الأدبيّة الكبيرة الّتي نتعلّم منها كلّ يوم، نعبّر عن فخرنا بمسيرته الملهمة، ونشكره على عطائه الأدبيّ والثّقافيّ الغزير.
أطال الله في عمره ومتّعه بالصّحة والعافية.