مقالة :” حكايةُ الكونِ الجديدِ “

بقلم: حنين أمارة

تاريخ النشر: 25/12/23 | 8:52

تنتابنا أحيانا أفكارٌ موحشةٌ وهواجس غريبة تجعلنا نغرق في بحار عميقة من الأفكار المشوّشة حيث يكون الغموض عالقًا و المخاوف متربصة , لماذا ؟ حقا لا نعرف . بل من الممكن أننا نعرف ولكننا لا نعترف ! فذلك العالم من حولنا هو عالم غريب كأفلام هوليود المرعبة التي طالما كنّا نسترق بعض المشاهد منها خفيةً لنقنع أنفسنا بأننا لا نخشى الخيال فهو مجرد خيال لا يمكن أن يتجسد على أرض الواقع .
كنا ننجح في ذلك فعلاً ، لنقنع عقلنا الباطن بذلك ونتقدم مع الأيام في مسيرة حياتنا لتحقيق ذلك الواقع المنطقي الحقيقي ، حيث للمشاعر والأحساس وجود ، وللمثابرة والجدّ نتيجة تميز وفلاحٍ بلا ذرّة جحود ، فذلك الانسان المجتهد الفطن تزيّنه مكارم أخلاقه وسيرته العطرة وتكلّله انجازاته العلمية وثقافته الاجتماعية , لذا لا بدّ له أن يعتلي القمّة في عالمنا الواقعي القيميّ ، ولا بد لذلك الظالم المنحرف الكسول أن يقع في شرّ أعماله ويكون مصيره القاع للأسف …. ذلك هو العالم الواقعي الذي ذوّتناه طيلة أعوام وأعوام … ولكن أشباح الليل وهياكل الظلمات ما ارتأت أن تبقى خيالاً يستحيل وقوعه, بل اجتاحت حياتنا كذرّات غبار تُنثَرُ في العيون كلما هبّت ريح عاتية .
بتنا نشاهد تلك الأفلام الخيالية المرعبة دون أن نسترق بعض المشاهد لتشعرنا بالقوة كما كنّا في الماضي فاللحظات الخيالية تلك, أصبحت واقعًا ملموسًا فُرض علينا بكلّ مشاهده ، حتى استوطن فيها ليكوّن عالما جديدا بأركان جديدة البتة ، تجبرنا على التكيّف معها مهما كانت الظروف وتحمّلنا ما لا طاقة لنا به …. بل تجبرنا على محو كل تلك السنوات الزائفة التي حملت معها لحظات تضحية ومثابرة وبناء قيم كانت للواقع وسامُ شرف وعرفان للوصول الى برّ الأمان ،وتَقبّل ذلك العالم الخيالي المخيف الذي يهجو كل مثابر ويذمّ كل متشبث بالقيم لأنّ هذا الزمان هو ليس ذلك الزمن الجميل الذي كان، فميزان الحياة قد اختلّ وأصبحنا نعيش في زمان ليس كزماننا , زمانٌ قد اختلت فيه الموازين وتخبطت فيه العقول لتمسي أرواحنا في ضائقة صعبة حقًا ، تائهة حائرة فيما حولها من أشخاص ينتمون الى ذلك العالم الخيالي المرعب, يحملونه في عقولهم ويزرعونه في صدورهم كبذور نموّها سريع تكبر وتنمو وتنتشر في كلّ مكان …ترتوي بزخات الحقد الدفين ,سوادها حالك جدا وتبرز منها أشواك تلسع كلّ من تسوّلُ له نفسه أن يتحسّس ملمسها ، لقد باتت تلك اللحظات المرعبة في تلك الافلام الخيالية التي كانت مجرد لحظات تسلية لشحن قوانا على التحمل في أمر كله خيال بخيال ،لحظات واقعية مفروضة في عالم جديد له قواعده وأسسه وأمست عهدا جديدًا وحديثا بكلّ مقاييسه ….
في ظلّ مراكب النسيان والانطواء التي تقبع في مرافئ أنفسنا , وقد ابتعدنا عن كلّ ما يسمو به الانسان من أحاسيس ومشاعر توصله بمن حوله كما كان منذ الأزل حيث طغت الماديّة المتغطرسة على حياتنا لتجعلها جافّة مملّة تميل الى خاصيّة الجمود المتقلب نفضّل فيها المصلحة الشخصيّة عن كلّ أمر آخر , باتت دنيانا الآنية تخلو من تلك المشاعر الصادقة التي يفرح فيها المرء مع قرينه في مناسباته السعيدة فرحة خالصة أو يشاركه مصائبه بكلّ تضامن واحساس حقيقي ، عليّ أن لا أعمّم هذا الأمر على الجميع بل أرى ثلّة ممن رحمهم ربي ما زالوا يلملمون مشاعرهم الصادقة وكلماتهم التي تنبع من جوف الإنسانية الحقيقية لينثروها في جوانب الطرق ليتها تنبت اشتالا من الحقيقة فتتفرّع هنا وهناك ناشرة ظلّها الطيّب الجميل .
نحن في زمان تعمّه الغرابة في كلّ شيء , نحب أن نوصل ولا نصل , نعاتب الغائب ونغيب , نغضب لسماع الترّهات من أحدهم ونضحك عندما نهجو ونستغيب الآخرين , نجاهر بالمثالية العظمى ونحن من الخطّائين المختالين, نطالب باللاّ معقول وقليل من المعقول لدينا هو مجهول …
عجبا لأمر مجتمع متخبّط غريب , يسنّ قوانين وقواعد ولا يتبع بندًا واحدًا منها فالمجاهرة بالتعسّف والعجرفة صارت علنًا بل كادت تلتصق كوسام شرف على من يتبعها . تستوقفني مواقف عديدة حصلت في الزمن الذي مضى كأنها حدثت في كوكب آخر له قوانين أخرى وسكان أخر, فلا أجد في هذا الزمان خاصيات تتبع للزمن المنصرم بل أراه كوكبًا جديدا بسكان آخرين لهم ميزات أخرى لم تُعهد من قبل أبدًا.
الكون هو مكانٌ خلِق ليحتضن الجميع , فتتكون فيه دورة حياة كائنات تصارع من أجل البقاء لتبدأ رحلة كونيّة قدريّة منها القصير ومنها ما هو طويل الأمد وكلّ وفق تقدير الله . نتوق لذلك الزمان الذي كانت فيه مشاعر الصدق غالبة, ولتلك الرياحين التي كانت تعطّر أجواء الشوارع بعطرها , نشتاق لذلك الانسان الذي يعيش معنى الإنسانية حيث الحياة الوردية النقيّة البسيطة لا عتاب فيها ولا مشاعر متجمّدة بل تبثّ روحه العطاء والمشاركة وحبّ الآخرين لإنسانيتهم لا لدوافع أخرى مادية دنيوية , فقد طغت الماديّة على مسارات أساسية حسبناها قواعد ومثُل لا يمكن ازالتها ولكنّ شبح التعسّف والجمود الإنساني كان أقوى منها بكثير ليسطّر كلمته ويقرّ نمطًا خاصاً لحكاية كونٍ جديد .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة