كيف يتحول الألم في الروح والإختناق بالفقد إلى شفاء بالسرد
رانية وشحة
تاريخ النشر: 15/08/23 | 18:11لوّحتُ دائماً ورفعت كلتا يداي علّ أحدهم يراني وسط هذه الجموع الغفيرة من الخواطر والكلمات. ربما كنتُ بحاجة إلى فرصة، ربما أيضاً إلى الكثير من الاجتهاد، لكنها كانت رصاصة واحدة لم تقتل فقط شقيقي الشهيد بل قتلت معه آمال كثيرة وأحلام، قتلت كثيراً من الأهل والأصدقاء والأحبة وقتلتني أيضاً. بقيت كذلك حيناً إلى أن قذفتني أمواج الحزن على شاطيء الرواية. سرد الألم يخيط جراح الروح ويجعلها تتماثل للقبول والتسليم بقضاء الله ونواميس هذا الكون.
ونتاج هذه الرحلة من الصبر الكثير والجهد والقراءة والمتابعة كانت رواية المسافة صفر والتي تحكي سيرة شقيقي الشهيد فادي وشحة.
وهذه شهادتي في الرواية
زاحمتُ المتحلقينَ الكُثرَ حولَهُ، كانت قدمايَ بالكادِ تحملُ جسدي المرتجف، وعِندما نظرتُ إلى جسدِه بذلكَ الجرحِ القديمِ يتوسطُ جبهتَهُ سالَ من عينايَ قلبي. لقد كانَ فادي المُسجى على ذلكَ الفراشِ وقد ابتلعَ نصفَ رأسِهِ ضماداً أبيضَ في غرفةِ إنعاش مستشفى رام الله الحكومي. أخي الذي أمهَلنا تسعةَ عشَر يوماً لنمارسَ طقوسَ البكاءِ والحزنِ قبل أن يترجلَ.
محظوظٌ هو من يجدُ طريقهُ لمجابهةِ هذا الوحشِ العملاقِ من الحزنِ الذي يُطلقُ أنيابه في ثنايا الروحِ عند فقدِ عزيز. ولأنَ الحُزنَ هو جزءٌ أساسيٌ في حياةِ الإنسان فقد تم التعبيرُ عنه بمختلفِ الوسائل، منها الغناءُ والشعرُ والأدبُ والموسيقى والفن. أما عن طريقتي أنا فقد كانت التعبيرُ بالكتابة، لأن التعبيرَ عنِ الحُزنِ يقهرُ الألم، وقد اخترت أن أكتبَ سيرة حياة شقيقي الشهيد لأنَ في الكتابةِ علاجٌ للروح ومتنفس.
كثيراً ما حثني الأصدقاءُ والأهلُ على الاستمرارِ في الكتابةِ فلديَ الموهبة، ولدي العديد من الأعمال الأدبية التي تجسدت كأعمال فنية على المسرح، منها ملحُ الأرض، الريس عن يافا وأهلها ولديَ أيضاً بوابة السماء، الرواية التي حيّدت الكتابة فيها عندما حلّت بي وبعائلتي فجيعة الفقد. كانت الأحداث مجتمعة تحثني على البوح، فقد أُعطيتُ البطلَ والاحداثَ والرواية. لدي جعبةٌ ممتلئةٌ بالأحداث والذكريات ولدي هذه الفرصةُ لتقديمِ أقلَ ما يجبُ لروح الشهيد.
استعنتُ بذكرياتي معه وبذكرياتِ أفرادِ عائلتي، وبذكرياتِ أصدقاء فادي في السجن وخارجه، وبسجلاتِ مستشفى رام الله الحكومي، وأرشيفِ الصليبِ الأحمرِ، وبالشبكة العنكبوتية.
ابتدأتُ رحلةَ القراءة في الأيامِ الأولى من تاريخِ إصابته في الخامسَ عشرَ من شهر أيار منَ العامِ الفين وواحد وعشرين إلى نهايةِ شهرِ كانونَ الثاني من العامِ ألفين وثلاثَ وعشرين. توزعت لوحاتُ الرواية وغطت فترة الطفولة والشباب، ودارت أحداثها خارج السجن وداخله. تعمدت أن تحتوي بعض لوحات الرواية على الحوار باللغة العامية لكي تكون لغة الرواية أقرب إلى ذهن الأجيال الشابه مخاطبةً فيها الحس الشعبي والهوية الجمعية.
منحتني الكتابة عن حياة فادي فرصة التعرف أكثر على الأحداث التي عاشها، فسيطر على روحي الحزن والألم الشديدين في بعض اللوحات، فيما سيطر شعوراً بالفخر والامتنان في لوحات أخرى. سلّطت بعض لوحات الرواية الضوء على ظروف الاعتقال التي يعيشها الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي من تحقيق وتعذيب وممارسة العنف المتفجر والملجوم عليهم، إلى محطات الإضراب عن الطعام، وبعض الأحلام.
لم يكن الشهيد فادي وشحة مجرد مقاوم اختار أن يمضي حياته في مقارعة الاحتلال بأبسط الطرق وأعقدها، ممارساً حقه الطبيعي في رفض هذا الوجود القسري وتلك المنظومة الاحتلالية بمسمياتها، بل كان إنساناً له حياة خاصة وأحلاماً منعته ظروف المطاردة والاعتقال والإصابة في بعض الأحيان من تحقيقها، فكانت المسافة بين الطريق إلى تحقيق أحد أهم هذه الأحلام ورصاصة القناص هي الصفر، فيما كانت أيضاً عتبة النص ومفتاحه لأن صورة فادي مشتبكاً مع المحتل من مسافة صفر هي أول ما يتبادر إلى الأذهان عندما يذكر اسمه .
آمن الشهيد فادي بأن الاشتباك مع العدو يتم أولاً بقراءة أنفاسه، وبحبس دفقات الهواء العابر بالمنتصف وجعله شاهداً على اشتباك الحق مع الباطل والحضور الطاغي بالحضور الهش والتاريخ المزيف. لقد كان الاشتباك هوية وطنية بالنسبة لروحه، وقد شابه في ظروف حياته كثيراً من الأحرار مداد فلسطين المحتلة.
فادي وشحة الطالب الجامعي الذي لم تمهله سياسة الاحتلال فرصةً لاستكمال حياته الأكاديمية، كما فعلت مع طلاب كثر غيره ممن طالتهم رصاصات الغدر منهية حياتهم وأحلامهم، ناهيك عن سياسة الاعتقال التي تمارسها ضد طلبة الجامعات الفلسطينية.
في الثالث عشر من شهر أيلول للعام الفان واثنان وعشرون هاتفَ مكتب الشرطة العسكرية الإسرائيلي للتحقيقات عائلتي وأخبرهم بأن ملف الشهيد فادي وشحة قد تم تحويله إلى النيابة العامة العسكرية، وكان القرار هو إغلاق الملف دون أي إجراءات قانونية بحق المصدر العسكري. هل تُراها السيدة فرانشيسكا البانيز المقررة الخاصة للجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة قد ضَمَّنت في تقريرها حول أوضاع التعليم وحماية الحريات لطلاب الجامعات في الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى مجلس حقوق الإنسان اسم الطالب فادي وشحة الذي حرمه المحتل ليس فقط من الحرية، انما من الحياة أيضاً.
مضت سنتان اثنتان منذ استشهاد بطل روايتي، خيمت فيهما سحابة الحزن الثقيل والقت بظلالها على أفراد عائلتي، وعلى روح كل من عرف فادي وشحة من قريب أو بعيد. عانت والدتي نتيجة حزنها الشديد لفقد فلذة كبدها، شتى صنوف الانتكاسات والأمراض التي يتسبب بها الحزن، مؤثراً على ميكانيزمات الحياة لهذا الجسد. كما ظل الحزن يتجاذب أحبته من حين إلى آخر.
كان فادي حاضراً في العديد من المناسبات الوطنية والاجتماعية، وكان عصياً التصديق بأن هذا الشاب المشتبك بالفطرة قد ترجل.
ممتنة شديد الامتنان لهذه الموهبة في الكتابة التي منحني الله، والتي مكنتني من التعامل مع الخسارة والحزن بشجاعة وايجابية، وإضاءة محطات في سيرة حياة شقيقي، تخلد اسمه، فيبقى قدوة للأجيال الحرة من بعده وتلك العين الجارحة التي تظهر أسفل اللثام الأسود على وجه الخلود.