قراءة في رواية رحلة إلى ذات امرأة للكاتبة المقدسيّة صباح بشير.

عفيف قاووق – لبنان

تاريخ النشر: 25/06/23 | 7:29

رحلة إلى ذات امرأة باكورة إنتاج الكاتبة المقدسيّة صباح بشيرالتي صدرت مؤخرا عن مكتبة ودار الشامل للنّشر والتّوزيع، هي رحلة البحث عن الذات التي تشظّت نتيجة التّقاليد والأعراف العائليّة والمُجتمعيّة التي عادة ما تكون المرأة او الأنثى بشكل عام أولى ضحاياها.
تتمحور معظم أحداث الرّواية حول حنان الشّخصيّة الرئيسة والتي عانت الكثير من التّفكير النّمطيّ لوالدتها وتصفها بأنها ” كانت من النمط القديم في تفكيرها الاجتماعي،وكأنّها تورثنا ما ورثته عن والدتها وجدّتها، كلّ شيء تطوّر من حولنا إلاّ تفكير أمّي”. وتضيف :” لم تكن جاهلة، لكنها كانت صنيعة مجتمع لا يرحم، تردّد الأمثال الشعبيّة ليل نهار وتريدنا أن نعيشها كقوانين ملزمة لا نحيد عنها..(ص19)
تناولت الكاتبة في روايتها العديد من المحاور والقضايا الجدليّة، ومنها: الزّواج التقليديّ غير المتكافىء، قضايا الطلاق وأسبابه وآثاره، عقدة العمر والخوف من العنوسة، نظرة المجتمع لولادة الصبّي والبنت والتّفريق بينهما إضافة إلى تطرقها للحديث ولو بشكل مخفف عن الحياة المجتمعيّة والتّسامح الدّيني وغيرها من المواضيع كالعنف الأسري والتّسامح الدّيني والتّعاضد في المجتمع الفلسطينيّ.
وسنحاول فيما يلي الإضاءة على هذه المحاور:
– قضيّة الزواج التقليديّ الذي غالبا ما يتم دون سابق معرفة بين العروسين، كما فعلت حنان الفتاة وهي على أبواب الدراسة الجامعيّة عندما فوضّت والدها باتّخاذ القرار الذي يراه مناسبا وانصاعت لرغبة الأهل بالزواج من عمر، الذي لم يكمل تعليمه ويعيش في منزل العائلة مكتفياَ بإيجاد وظيفة ثابتة له. وغالبا ما يتغاضى الأهل عن ضرورة توفر شرط التكافؤ بين العروسين لناحية المستوى التّعليمي والثقافيّ وأيضا لناحية التّقارب الفكريّ، بينهما وهي من أهم الشّروط الواجب توافرها لبناء أسرة ناجحة وبغيابها تهتز العلاقة بين الزوجين وتصل الى حد الإفتراق، وهذا ما ظهر جلياً عندما لم ينظر عمر لأيّ كتاب من الكتب التي أمسكت حنان بها لتحدّثه عنها، لكنه بدا وكأنه مغيّب وفي عالم آخر، ولا يفهم او يكترث لما تقول، كما أبدى استهجانه ورفضه بأن تستمع خطيبته او تتابع لبعض البرامج الإذاعيّة والأغاني معتبرا ذلك مضيعة للوقت.
– مسألة الطّلاق وقد نجحت الكاتبة إلى حد بعيد في تناولها من مختلف الجوانب، فالطلاق كما تراه والدة حنان هو من المحرّمات التي لا يمكن القبول بها، فطلاق البنت غير مسموح به وهو عار يلاحق سمعة المرأة، فواقع المرأة المطلّقة سيّء والنّظرة إليها أسوأ. وتبرز الكاتبة توجس الأهل من مسألة الطّلاق وخوفهم من أن يصبحوا عرضة لكلام الناس، تقول والدة حنان مبررة رفضها للطّلاق:” ألا ترين في ذلك تقليلا لقدرنا وقيمتنا؟ يا ويلنا سيلوكون سيرتك وسيرتنا بالحقّ والباطل”.
وفي سياق متصل أضاءت الكاتبة على الآثار السلبية للطّلاق وما تدفعة المطلقة من أثمان يطال سمعتها وكرامتها، سيّما وأن الرّجل ولكي يخفي فشله ومسؤوليته عن انهيار زواجه يلجأ إلى تشويه سمعة مطلّقته وقذفها بأبشع التهم، وهذا ما فعله عمر طليق حنان عندما إدعى زوراً أمام أهلها ورفيقاتها بأنّها “كانت كثيرة التّذمّر والسّخط وتبقى عابسة شاكية باستمرار، راقبتها عن كثب واكتشفتُ خيانتها وقذارتها لقد كانت على علاقة برجل آخر”(ص162). هذا التّشويه الممنهج لسمعة حنان المطلّقة، كان لا بد من أن يؤثر سلبا على وظيفتها فقد واجهتها مسؤولة الدار الذي تعمل به بالقول: ” أستمحيك عذرا، فوجودك أصبح يشكّل إحراجا لي. وأطلب منك بشكل شخصيّ تقديم استقالتك ونصيحتي لكِ بحلّ مشاكلك مع طليقك الذي يتحدث إلى زميلاتك الموظفات بطريقة غير لائقة عنك وعن أخلاقك”(ص187)
وفيما يشبه النقد او الإعتراض لما هو شائع في التّعامل مع قضية الطّلاق وكيف يستند البعض على بعض النّصوص الدينيّة ويفسرها على هواه وفقا لمصلحته، وفي ظلال المجتمع الذكوريّ ولغاية في نفسه يتمسك البعض وإمعانا في قهر الزّوجة ببعض الأحاديث التي تمنحه السّلطة والقيادة على امرأته بغض النّظر عن صحة هذه الأحاديث من عدمها، ومنها “إذا دعا الرّجل امرأته إلى فراشه فأبت، لعنتها الملائكة حتى تصبح” أو “أيّما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير بأس، فحرام عليها رائحة الجنّة”.. انطلاقا من ذلك تتساءل حنان ” هل حرام على المرأة طلب الطلاّق من زوجها وحلال عليه أن يطلّقها ساعة يشاء؟ وهل يمكن إثبات جريمة الاغتصاب الزّوجيّ وهي ترتكب في غرف النّوم المغلقة واللّحظات الخاصّة؟ (ص142).
– العنف المنزلي والأسري: عندما يفقد الزّواج صفة الشّراكة الحقيقيّة لبناء حياة سعيدة وعائلة صالحة، تطفو الخلافات الزوجيّة على السّطح وينتج عنها ظاهرة ما يُسمّى بالعنف المنزلي وهي الظّاهرة التي تبدو مستشرية في مجتمعاتنا، وقد أشارت الكاتبة لهذا في تعامل عمر مع زوجته حنان وإقدامه على كيّل الضّربات لها حتى وقعت على الارض مغشيّا عليها، ولم يكتفِ بذلك بل تشارك مع والدته إمعانا في إذلالها بأن أقدما على حرق وإتلاف الكتب التي تحتفظ بها بحجة أن هذه الكتب قد أفسدتها مشيرا بيده إلى الورق الممزق طالبا منها بأن تنظف هذه القمامة وأردف قائلا :” أنا رجل البيت ستبقى كلمتي هي الأولى والأخيرة، سأعمل على تطويعك وستنفذين ما أطلب منك رغم أنفك (ص147).
– عقدة العمر والخوف من العنوسة: محور آخر تناولته الرّواية وهو مسألة عقدة العمر والخوف من العنوسة والذي غالبا ما يكون أحد الأسباب المؤدية لزيجات متسرعة غير متكافئة فقط للهروب من فخ العنوسة. تقول سميّة إحدى صديقات حنان: ” نحن الفتيات نعاني عقدة العمر، فالفتاة عانس في نظر الناس إن لم تتزوّج، يصبح عدم زواجها قضيّة رأي عامّ تثرثر بها الأفواه” (ص38).
في هذا الشأن تورد الكاتبة كيف أن البعض من الأهل يسارع إلى تزويج البنت ولو بالإكراه وإرغامها على القبول بمن لا ترغب به، دون أن يراعوا حقيقة مشاعرها، وكنموذج عن هذه الحالة كانت أسماء التي أحبت شابا لكن أهلها رفضوا هذا الحبّ وقاموا بتزويجها من رجل ثريّ طاعن في السّنّ على خلاف رغبتها، فكانت النّتيجة المأساة لهذا الزواج أن أصبحت أسماء لاحقا من عداد المطلقات وعرضة لثرثرات النّساء يشتمنها ويصفنها بالعاهرة وأنّها أصبحت من بنات اللّيل. فكثرت الظنون بشأنها بأنّها ما زالت تلتقي حبيبها الأوّل سرّا، كما أنّها لم تسلم من سياط والدها الذي يعود متسلّلا إلى بيته مترنّحا ثملا في وقت متأخر من اللّيل لينهال عليها بالضرب معتبرا انّها جلبت له الخزّي والعار، وقد منعته أنانيّته وهيمنته الذّكوريّة من الموافقة على تزويجها ممّن تحبّ، فقام بإحراقها دون أن يرفّ له جفن تحت ما يسمّى بجريمة الشّرف.
– التمييز بين الجنسين الصبّي والبنت: ما هو مسموح للصبّي غير متاح أمام البنت فالخروج من البيت يكون فقط للضّرورة واللّعب في ساحة الحّي ممنوع والبنات لا يلعبن إلاّ في البيت، ذكوريّة طاغيّة بشكل لافت في مجتمعاتنا العربيّة سيّما فيما يخُصّ النظرة والتّمييز بين الجنسين الصبّي والبنت، ولا تزال الأمثال الشعبيّة يتردد صداها عند الكثيرين وتُملي عليهم تصرّفاتهم وقراراتهم ومن هذه الأمثال: “همّ البنات للممات”، “عقربتين في الحيط ولا بنتين في البيت”، “البنت بتجيب العار وبتدخّل العدو في الدّار”.
هذه الأمثال وغيرها تجعل من ولادة الصبّي أمنية ومطلبا عند العديد من الأمهات والمفارقة أن هذه الأم التي تتمنى ولادة الصبّي هي أساسا أنثى! تقول والدة عمر” لقد زوجنا عمر ليمتلىء بيتنا بالأولاد الذّكور، يبدو أنّكِ لا تنجبين إلا الإناث”.
كما تناولت الرّواية مسألة الأسرة والتّباين فيما بين أفرادها متخذة من أسرة حنان المثل والمثال، فالوالد كان منفتحا ويمتاز بدرجة لا بأس بها من الوعيّ وهذا ظهر من خلال تعاطفه مع ابنته حنان في محنتها وطلاقها وكذلك كان متفهما لزواجها الثاني لاحقا من نادر الذي التقت به في باريس، أما شخصيّة الوالدة فقد ظهرت بصورة تقليديّة تهتم بآراء النّاس وتولي اهتماما شديدا بوجهات نظرهم ظنا منها أنّها بذلك تحافظ على العائلة وسمعتها ولو على حساب سعادة وهناء أولادها، وأخيرا غادة الأخت الصغرى لحنان فقد أعماها الحسد ولم تمنعها غيرتها من الاتّفاق مع طليق أختها ومساندته بغير وجه حق في بث الشّكوك والشّائعات المغرضة التي تطال أختها وقذفها بأبشع التُهم.
– في إشارة لافتة تبرز الرّواية شخصيّة ماري وهي الصديقة الأقرب لحنان، ويلاحظ بأنّ ماري وهي الفتاة المسيحيّة تتمتع بقدر عال من الذّكاء والوعيّ ظهر من خلال مناقشاتها مع حنان وإبداء رأيها فيما وصلت إليه فتقول: ” أنت السّبب يا حنان، لقد وصل بك الحياء إلى درجة لا تطاق، والأمر كله بيدك، فالتحلّي بخصلة تقدير الآخرين ومشاعرهم والحياء منهم وأخذهم بالحسبان تعدّى الحدّ اللازم عندك، وهذا ما يعيق خطواتك، عليك بمعالجة الأمر وتعلّم الرّفض، تعلّمي أن تقولي لا”. وفي تعليقها على موضوع الزّواج تقول ماري: ” تخيفني فكرة الزّواج العشوائيّ، للأسف نعيش في مجتمع لم تتطوّر أفكاره، صحيح أننّي لم أتزوج حتى اليوم؛ لكنّني لا أشعر بالخوف على نفسي، سأنجو من تلك الأفكار، سأتعلّم وأعمل وأصبح فعّالة في المجتمع لتحقيق أهدافي التي طالما حلمت بها”.
نلاحظ أن ماري أحسنت الاختيار ونجحت في زواجها بعكس صديقتها حنان التي أخفقت في تجربتيّ زواج، وهنا نطرح السّؤال هل التربيّة والتّقاليد وسلطة الأهل التي لا تُرّد هي السبب وراء فشل حنان، وهل أن مساحة الحريّة في التّفكير والاختيار الممنوحة من قبل الأهل لصديقتها ماري هي التي أوصلتها لبر الأمان؟.
– المعاناة الفلسطينيّة: ولأن الأماكن كالبشر لها أحضانها التي تهبنا الكثير من الحميمية والحنين، كان لا بدّ للكاتبة المقدسيّة صباح بشير من أن تُحضِر المكان في روايتها، والمكان الأقرب والأحبّ على قلبها هو مدينة القدس عندما وصلت أوّل الدّرج في باب العامود أجمل الأبواب في سور المدينة الشّامخة، وفي هذا تقول: ” دخلنا باب العامود، وكأنّي أدخل في عمق الزّمن والتّاريخ، يأسرني هذا المكان، أشعر أنّي أتنفسه وأمتلىء به؛ لأعود إليه كما الابن الضّال، يحدثني وأحدثه، يحتويني وأحتويه” (ص58).
وإلى جانب مدينة القدس وأسواقها، حضرت المعاناة الفلسطينيّة أيضا من خلال الحديث عن الإنتفاضة الأولى والأحداث السّاخنة والمظاهرات والاحتجاجات اليوميّة التي تملأ المدن والقرى الفلسطينيّة وأعراس الشّهداء التي لا تتوقف، ومن جملة الشّهداء كان الشاب خالد ابن ام ابراهيم الذي وقع خبر استشهاده عليها كالصّاعقة، ركضت بلا وعي لتحتضن فلذة كبدها، والمرارة تعتصر قلبها، كان ملفوفا بالعلم الفلسطينيّ ككلّ الشهداء، وقد تجمع سكّان الحيّ أمام بيتها بحزنهم على الشّهيد الذي أستشهد وهو يحمل جرحه النّازف، وبيده الأخرى يحمل الوطن.
ختاما نقول أنّ حنان التي دفعت بداية ثمن حياءها وانصياعها التّام لرغبة الأهل والأعراف المجتمعيّة وخرجت بزواج فاشل مع عمر، فإنها وللمرّة الثانيّة دفعت ثمن انبهارها بشخصيّة نادر وتصديقها له تقول “رغم كل هذا الحبّ الذي منحته إياه، لم يفكر أن يغيّر أسلوب حياته التي كان يخفيها عنّي. وها أنا أدفع ثمن ابتسامته غاليا، فأنا امراة بقلب طفل، هل كان ذنبي أنّي أحببت وصدّقت؟ وهل الصدّق في الحّب ذنب”؟
ولأن العقل لا يستفيق إلاّ بعد أن يُصفع تختم حنان رحلتها إلى الذّات وتقرر العودة إلى نفسها وموطنها وإن كانت هذه العودة مشتهاة وحزينة في ذات الوقت، لتقول بلسان كل فلسطيني يتوق للعودة: “أيها الفلسطينيّ..تعال وانزع غربتك الملطّخة بأوجاع الحياة، تأكّد من نبضات مدينتك ولا تغادرها، فهي تتألّم بصمت، وتشعر بفقدان أبنائها كلّما طال غيابهم عنها.”
أخيرا وعلى أمل أن تكون حنان قد أكتشفت ذاتها، نبارك للكاتبة صباح بشير هذا الأثر الأدبيّ الذي يشكل باكورة نتاجها ونتمنى لها المزيد من التّألق والنّجاح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة