رحلة معاناة وشوق إلى رحاب المدينة المقدسة

تاريخ النشر: 06/09/10 | 11:29

بقلم سري بركات

تحت وطئة ومرارة الاحتلال يحيي الفلسطينيون من كل عام خلال شهر رمضان المبارك ليلة القدر في مدينة القدس، لتتحدى آلاف مؤلفة من جموع المصلين الإجراءات الأمنية المشددة التي تفرضها قوات الاحتلال حول محيط المدينة سعياً منها للتضييق ومنع المصلين الذين يأتون من كل حدب وصوب لإحياء هذه الليلة المباركة في بيت المقدس حتى صلاة الفجر… فهذه الليلة المباركة بالنسبة للفلسطينيين تتمتع بخصوصية وطعم آخر يختلف عن باقي مدن العالم العربي والإسلامي.

في طريقنا من مدينة رام الله باتجاه مدينة القدس وعلى بعد أمتار من حاجز قلنديا العسكري، كنا على موعد مع رحلة المعاناة والشوق التي يتكبدها عشرات الآف المصلين الفلسطينيين الذين كانوا ينتظرون بصبر وشوق السماح لهم بقطع الحاجز نحو قدس الأقداس استعداداً لإحياء هذه الليلة العظيمة والاعتكاف في رحاب المسجد الأقصى، لما لها من ثواب العبادة والمغفرة عند الله عز وجل.

وعلى مقربة من الحاجز انتشرت دوريات الجيش الإسرائيلي بشكل مكثف في كل مكان، وعيون الجنود تترصد وتراقب كل مايتحرك داخل وخارج الحاجز، بعض الجنود يدققون ويتفحصون هويات الفلسطينيين الذين اصطفوا في طابور طويل على أمل أن تسمح لهم قوات الاحتلال بدخول المدينة، والبعض الآخر من الجنود يراقب بحذر شديد وهم يضعون أيديهم على زناد بنادقهم استعداداً لأي طارئ قد يواجهونه هناك.

تصوير ابو رائد

وبفرحة ملؤها الشوق والحنين تقترب سميرة يوسف من مدينة نابلس 38 عاماً من الحاجز مع زوجها يوسف وأطفالها الأربعة لمشاركتهم إحياء ليلة القدر في القدس، وما أن وصلت سميرة من الجنود داخل الحاجز حتى طلب أحد الجنود أن تريه بطاقة هويتها وتصريح الدخول للمدينة، وبتردد وخوف تقول سميرة لا أملك تصريحاً لدخول القدس، فيشير الجندي بإصبعه ممنوع الدخول عودي من حيث أتيت، تصرخ سميرة لا.. لا.. أريد الدخول مع زوجي وأطفالي فليس من حقكم منعي، ومن دون رحمة وشفقة يصرخ الجندي في وجهها وهو يصوب بندقيته باتجاهها إرحلي من هنا.. إرحلي…، وبدموع ملؤها الحسرة والألم تودع سميرة زوجها وأطفالها الذين انهمرت دموعهم حسرة على الأم التي لن تستطيع مشاركتهم فرحة هذه الليلة… تمسح سميرة دموعها لتضم أطفالها وتقول “لا تحزنوا.. لا تحزنوا.. إذهبوا مع والدكم واحرصوا على أنفسكم، أنا سأكون بانتظاركم عند عودتكم للمنزل، ولا تنسوا أن تدعوا الله أن يلم شملنا بعد أن نزع الاحتلال فرحتنا، حسبي الله ونعم الوكيل”.

وليس ببعيد عن الحاجز وبالقرب من الجدار العازل الذي يحيط بالمدينة المقدسة يحاول بعض الشبان الفلسطينيين ممن لم يحالفهم الحظ وضاقت بهم السبل في قطع الحاجز أن يختلسوا النظر لعلهم يجدوا ضالتهم في العثور على مكان أو مخرج آخر يدخلون منه إلى المدينة.

وبحذر شديد يتجه أبو أحمد ابن الخامسة والثلاثين من مدينة رام الله ومعه عدد من أصدقائه إلى بوابة قريبة من الجدار بالقرب من ضاحية البريد ويجري مكالمة تلفونية مع أحد أصدقائه المقدسيين ليعطيه صورة عن وضعية الطريق ويطمئنه في عدم وجود جنود إسرائيليين في الجهة الأخرى من الجدار، وبعد الاطمئنان على خط سير الطريق وبخطوات سريعة يسارع فادي وهو يتصبب عرقاً في وضع سلم خشبي مع بعض الأصدقاء ونظرات الخوف تعتريهم من كل جانب، ليصعدوا واحداً تلو الآخر على الجدار وينزلوا لركوب أحدى الحافلات المتجه للمدينة. وعن تلك المغامرة المشوقة التي عايشناها مع أبو أحمد وأصدقائه يحدثنا قائلاً ” الله قدر ولطف… الحمد لله سارت الأمور على مايرام، فعلى الرغم من الخوف الذي تملكني أثناء صعودي الجدار خوفاً من إمساك جنود الاحتلال بي إلا أنني كنت مسروراً للمخاطرة في سبيل الوصول إلى المسجد الأقصى لإحياء هذه الليلة المباركة فمن حقي كفلسطيني أداء طقوس العبادة أينما شئت وفي أي وقت، فليس من حقهم منعنا من دخول القدس، فالبلد بلدنا قبل أن يأتوا أليها ويحتلوها”.

وعند وصولنا منطقة باب العمود انتشرت قوات على مداخل البلدة القديمة والأقصى وقاموا بنصب الحواجز المتنقلة للتدقيق في هويات المصلين، وأغلقت الشوارع الرئيسية أمام سير السيارات الخصوصية، حيث شهدت الطرق المحيطة بالقدس وأسواقها حركة نشطة، فكانت الحافلات التي تنقل المواطنين تملئ كافة الطرقات خارج أسوار البلدة القديمة، كما غصت الشوارع بالآلاف الزائرين من مناطق الضفة الغربية وأهلنا من عرب الداخل إضافة إلى مواطنيها المقدسيين، تحيط بهم أصوات الباعة المتجولين من كل جانب وفي كل زاوية وكل شارع، ومروراً بشارع الواد في طريقنا للمسجد الأقصى غطت زينة رمضان وفوانيسه النحاسية كافة المنازل والمحال التجارية ابتهاجاً وفرحة بالشهر الفضيل.

وفي الطريق ما بين شارع الواد وباب الناظر التقينا الحاج أبو أسعد من مدينة الخليل 55 عاماً الذي عبر عن سعادته في الوصول إلى القدس قائلاً “أنه بالرغم من التشديد والمعيقات الإسرائيلية التي تهدف للحد من دخولنا للمدينة وزيارة المسجد الأقصى وساعات الانتظار الطويلة على الحاجز إلا أنني مسرور جداً بالسماح لي بمرور الحاجز فهذه المرة الأولى التي أدخل فيها مدينة القدس منذ خمسة عشر عاماً لأحياء هذه الليلة المباركة، فأجر هذه الليلة العظيمة في رحاب المسجد الأقصى كبير عند الله تعالى”.

وبخطىً بطيئة يمشي الزوار في أزقة وشوارع البلدة القديمة يمتعون أنظارهم بحجارتها وبيوتها وأسواقها التي تروي تاريخ وأمجاد هذه المدينة العريقة، وهم يتلهفون بشوق شديد للوصول إلى باحات المسجد الأقصى لإحياء ليلة من الليالي التي فضلها الله عن باقي ليالي العام لقوله تعالى “ليلة القدر خير من ألف شهر”.

ولم تستطتع الحاجة أم محمد (76 عاماً)، من مدينة قلقيلية أن تخفي مشاعر فرحتها بوصولها إلى باحة قبة الصخرة قائلة والدموع تذرف من عينيها “لقد اجتزنا العديد من الحواجز والطرق الصعبة للوصول إلى القدس، فهذه الليلة تستحق منا كل العناء، وبحمد الله تعالى أخيراً استطعت الوصول إلى المسجد الأقصى، فأنا لا استطيع أن أعبر عن مدى فرحتي وسعادتي بوصولي إلى هنا”.

ولدى دخولنا باب الناظر مع رفع آذان العصر غصت باحات المسجد الأقصى بآلاف المصلين لآداء صلاة العصر، وبعد برهة من انتهاء الصلاة تنقلنا بين جموع المصلين التي ملئت كافة أرجاء المكان، فتارة ترى من يجلس ليقرأ القرآن الكريم، وتارة أخرى ترى من يجلس في مجالس وحلقات الذكر.

وعن صورة الأجواء الرمضانية في القدس بشكل عام وليلة القدر بشكل خاص تقول الحاجة زهرة الشوامرة التي جلست في باحة قبة الصخرة المشرفة أن أجواء رمضان في المدينة تختلف الآن عما كانت عليه في الماضي البعيد، حيث العادات والتقاليد عما كانت عليه في الماضي، إلا أن الاختلاف يكمن في المحاولات والممارسات الإسرائيلية المستمرة لطمس معالم المدينة والتضييق على أهلها من خلال سلخ المدينة عن محيطها ومنع الفلسطينيين من الوصول إلى المسجد الأقصى للصلاة فيه خصوصاً في شهر رمضان المبارك.

ومع الغروب يرفع آذان المغرب على صوت مدفع رمضان، أحد معالم القدس في الشهر الفضيل، ليهم الصائمون للصلاة وتلقي وجبات الإفطار التي تحضر للمواطنين في المسجد الأقصى. ومرة أخرى يتجمع المصلون مع اقتراب رفع آذان العشاء، وفجأة تدخل من كافة أبواب الأقصى جموع من الشيوخ والنساء والشبان والأطفال أفواجاً أفواجاً وتبدو على وجوههم علامات التعب والإنهاك من عناء السفر ومضايقات جنود الاحتلال لهم، ولكن ما أن تطئ أقدامهم باحات المسجد الأقصى تزول آثار الإنهاك ويختفي عناء السفر الذي تكبدوه في سبيل الوصول إلى الأقصى، لترتسم البسمة والفرحة على وجوههم من جديد وهم يستعدون لإحياء ليلة من أروع الليالي الرمضانية في رحاب بيت المقدس.

وما أن يرفع المؤذن آذان العشاء على صوت الله أكبر.. الله أكبر… حتى يتراص الحاضرون في صفوف وتملتئ الساحات والأروقة بجموع المصلين، وما أن تنتهي صلاة العشاء حتى تبدأ صلاة التراويح، وقبل نهاية الركعتين الأخيرتين يبدأ الأمام بالدعاء لنصرة القدس والمسجد الأقصى وتحريره من براثن الاحتلال، فتراى جموع المصلين يتضرعون للرحمن، رافعين أيديهم إلى السموات العلى.. يستصرخون بحناجرهم وهم يرددون من وراء الإمام… آمين… يالله … يا الله… مستجدين رب العاالمين أن يتقبل طاعتهم وعبادتهم.. لترى عيونهم تدمع من شدة الإيمان آملين من الله سبحانه وتعالى أن يفك كربهم ويزيد من أجرهم في ليلة من ليالي الشهر الفضيل وأعظمها قدراً عند الله العلي القدير، ومع انتهاء الصلاة تتفرق جموع المصلين للتتجمع في حلقات الذكر وقراءة القرأن والدعاء لأحياء، انتظاراً لقيام الليل… وبعد منتصف الليل تعود جموع المصلين للدعاء وطلب المغفرة والعفو من الغفار الرحيم على أمل في أن يستجيب لدعواهم في ليلة تفتح فيها أبواب السموات للمؤمنين المرابطين في بيت المقدس. وعند السحور يتجمع المعتكفون لأحضار وجبات السحور والجلوس معاً في مجموعات بانتظار صلاة الفجر.

ومع بزوغ الشمس يبدأ الحاضرون بتنظيف ساحات وباحات المسجد الأقصى لوداع ليلة من ليالي العشر الأواخر من شهر رمضان، عل الله تعالى أن يستجيب لهم في ليلة القدر بأن تغير الأحوال ويعيدها عليهم وهم في أحسن حال.

‫2 تعليقات

  1. الله يطعمنا الصلاة في المسجد الاقصى……. حلو كثير المقال وصور بتجنن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة