قراءة في رواية “تعويذة الجليلة” للكاتب الأسير كميل أبو حنيش

خالديه أبو جبل

تاريخ النشر: 19/05/23 | 21:07

قراءة في رواية “تعويذة الجليلة”
للكاتب الأسير كميل أبو حنيش
الصادرة عن دار الشامل للنشر
طبعة اولى 2023
تقع الرواية في 309 صفحات من الحجم الوسط.
….
” لا يمكن آعادة الماضي إلى الوراء ولكن بالوسع الحفاظ على الذاكرة، كي يتسنى لها تصحيح الخلل
في وقتنا المستباح”ص١٢
عبارة قالتها الجليلة، والتي كتب الكاتب الأسير كميل أبو حنيش سيرتها الذاتية، لتُنجب هذه السيرة رواية أبنة عصرها، تُشكّل مرآة آبداعيّة للواقع الفلسطيني
بكل تداعياته، وتُسّجل التبدلات التي لحقت بالإنسان الفلسطيني، اجتماعيًا وثقافيًا تحت ظلم الاحتلال والتهجير واللجوء.
سارت الرواية بموازاة التاريخ، تقاطعت معه بمصداقية،وقربٍ لحقيقة العصر الذي نعيش فيه.
حيث تبدأ الرواية بمشهد سردي مجتزئٍ من زمن الرواية، ومن ثم يتم اللجوء إلى الاسترجاع قَصْدَ
تجسير البداية بما سبقها، حتى يتحقق الانسجام
مع أحداث منغرسة في ازمنة عدة لا زمن واحد.

الجليلة في رواية أبو حنيش، شخصية لها جذر واقعي، اتخذت لها نهجًا مستقلًا خاصًا بها، أدركت علاقتها مع ذاتها بوعيها المكتسب من المحيط العائلي
عبر التأثيرات والتقاليد.
نراها وكأنها استقلت عن الروائي وراحت تتفاعل مع
موضوع الرواية، تؤثر وتتأثر به، خاصة أن موضوع الرواية مُتغير وفي حالة حركة دائمة… وهذا ما انعكس على هذه الشخصية التي بقيت في حياة
وحركة حتى النهاية.
رافق الجليلة الكثير من العمل والقليل من الكلام وضجيج الشعارات الباهتة،فرأيناها تنطلق من نقطة البداية، وكم العوامل المُتغيرة والطارئة والمتنوعة للحد الذي لا يمكن تقدير التطورات والمصائر سلفًا.
فكانت مطاردتها من قبل الحارس اليهودي وهي في التاسعة من عمرها، بمثابة الحجر التي تُلقى في الماء ، إذ تُحدث دوائر متعافبة ومتسعة، إضافة إلى
أحداث أخرى تولد فعلا ورد فعل،
من شان أيّ من هذه الازمات والتحولات أن تنعكس على الجليلة وعلى شخصيات الرواية ، ويدفعها إلى

موقف آخر ويزيد دوائر أخرى.
طفلة تتعرض للمطاردة لتفتح عليها ابواب أسئلة كبيرة، حيث تسأل جدها:” ما الفارق بين اليهود والانجليز؟”
الحمى التي أصابتها إثر المطاردة، وكانت السبب
في قربها من الحجة عريفة ، المُقيمة في غرفة مغلقة،
وقد صوّر لها خيالها وباقي الأطفال أنها غرفة الغولة!
وما حصلت عليه من محبة ودلال ومعلومات ، وبالتالي تنال تعويذة الحجة عريفة – وما حملت من دلالات، لتبقى قلادة في عنقها حتى تُقلِدها بدورها لابنة حفيدها.
ثورة القسام 36 واستشهاده واستشهاد أمين
منقذها من الحارس اليهودي، الذي حفظت له في قلبها الصغير صورة فارس أحلامها….استشهاد أخيها
سعيد… زواجها من مصطفى أخ امين… نكبة ال48
وخذلان الانظمة العربية … الكذبة الكبرى رحيل لاسابيع أو أيام ونعود…. ودلالة بندقية مصطفى
الذاهبة للقتال بثلاث رصاصات… والاحتفاظ بها
للإشارة إلى مواصلة النضال والمقاومة…
درب الآلام في الهجرة وانضمام بشير الى حضنها ابنا لم تلده من رحمها ، بعد أن فقد جدته وعائلته من

قبل… وضعها لطفلها الذي أسمته عودة تيمنا بالعودة
وهي لاجئة في بيت اختها في نابلس…
كان اللجوء الحدث الاقسى الذي صقل عقل الجليلة
وقوى عودها، لتظهر لنا المرأة الفلسطينية بكامل جلالها هيبتها وقوتها وشراستها وعزيمتها، تُبصر بعين
زرقاء اليمامة، وتتجلّد بالصبر، وتتحلى بالحكمة، وتتجند بما ادّخرت من مال…
ترفض ان تبقى لاجئة تعيش في المخيم ، ليس كِبرًا
ولا تعاليًا، لكنه المبدأ السليم القوي..
حيث عملت الجليلة على كسر حاجز الهزيمة والانكسار في داخلها ، واستفزّت زوجها للنهوض من الهزيمة، لئلا يورث الانكسار والهزيمة لأبنائه…
“- علينا ألّا نظل منكسرين، يتعين علينا النهوض
على أقدامنا من جديد
– أريدك ان تتخلص من شعورك بالانكسار والذل حتى
يكون بوسعك النهوض”ص 68
ومثلُها من يُتبع الكلام بالفعل، فتقول:” ماذا لو اشترينا ارضًا وشيدنا فيها بيتًا؟”
وكان لها ما ارادت ، ومن هنا بنت الجليلة مملكتها التي جمعت ما بين الواقع والحلم، بين الوطن والعودة الى الوطن… وصارت هذه البقعة من الارض

مسرحًا تجري فيه الأحداث… وقد اعطت الشخصيات قوامًا حقيقيًا وساهمت في الإضفاء
على الأحداث والشخصيات نكهة تميّز الرواية…
جعلت بجدها وشغفها من هذه الارض قطعة من الجنة، وهي التي تؤمن أن هذه الارض جزء من بلادها ، ولم لا نعمرها ونزرعها الى أن يفرجها الله
ويمن علينا بالعودة الى ديارنا؟ ص 78
تتوالى انتصارات الجليلة وانجازاتها ، وتتوالى خيبات العرب وانكساراتهم ، وتبقى رجولة الرجال
في مهبّ رياح السياسة العربية المتهالكة ، كلما أشعلت شمعة تحمل بصيص أمل ، هبت عليها رياح
صفراء بائسة اخمدتها!
يُحيي عبد الناصر ما مات فيهم سنة ٥٦ ، تُميتهم نكسة ٦٧، ويأتي السادات ليعلن مراسم الدفن
في زيارته المشؤومة…
وتبقى الجليلة جليلة قوية تُنتج المحاصيل وتربي الابناء، حتى صارت ارضها قرية احتلت السهل والجبل، بالعمران والبناء…
وكان عنادها الأكبر وموقفها الاصلب في 67…
” لن نرحل مرة أخرى… يكفينا رحيل واحد وحنين واحد” ص 134

علّقت الجليلة مفتاح بيتها على الحائط رمزا للعودة،
وهي مؤمنة ان الابواب تتغير اقفالها إذا جرى السطو عليها وانتهاك حريتها، وقد يلجأ المغتصبون إلى هدم
البيت… لكن الصَّدفة التي حملتها حول عنقها، والتي
حملت في أحشائها صوت أمواج بحر يافا،وكأنها تقول: إن كسرتم الاقفال وأحرقتم الأبواب، وهدمتم البيوت، فهل باستطاعتكم اغتيال البحر أو أسره؟وفي هذا دلالة على عمق تفكير هذه الفلسطينية الجليلة والذي ينادي بتكاتف المقاومة وتطوير أساليب النضال ، تصاعدًا مع ما يقوم به المحتل من قتل واستبداد .
ذاقت من صنوف العذاب ألوان، عدا عن اللجوء والحنين للوطن والاهل، تجرعت مرّ غياب ابنها عودة،
الذي كان غيابه كالنحيب الدائم، وكانت عودته كوشم اليتم، فهو الذي التحق بالفصائل الفدائية
مقاوما متحمسًا، عاد يحمل وزر أوسلو البائس. بعد أن ترك زوجته عروسا في شهرها الثالث من الحمل…
وما كانت هذه العروس برمزيتها الا فلسطين الجريحة، التي خذلها “سلام الشجعان”
فقدت الجليلة زوجها بعد ان لم يعد يحتمل مرارة “معاهدة السلام” ومشقة فراق الابن، فقدت اثنين

من ابنائها،
وبقيت كما شجرة البلوط التي تتفيأ ظلها كل صباح وقبيل المساء، يلجأ الكل لحكمتها وادارتها، تحمي الفدائي ( وقصة الكهف خير دليل)، وتقوي عزيمة الأسير، وتدافع عن المقاومين
وتدعم المناضلين بالمال ، ولم ترضخ لا لسجن ولا لسجان.
عاشت الانتفاضة وآمنت بها وبما حققته من قلبٍ لأحوال الناس، وتحررٍ من خوفهم وقلة حيلتهم،
وآمنت وفرحت بما أكسبته الانتفاضة للمرأة التي تحسن دورها وباتت فاعلة أكثر في هذه الفعاليات
فمن يتحرر من خوفه يصنع المعجزات…
سطر المناضل المبدع كميل ابو حنيش بروايته
منذ ثلاثينيات القرن الفارط الى عشرينيات القرن الحالي، سيرة حياة امرأة إجتمعت فيها كل النساء الفلسطينيات الماجدات المقاومات امهات الاسرى والشهداء ، النساء اللواتي أعدن بناء الوطن بايديهن
وصمدن يوم ان عجز الرجال!
نساء أدركن ان العلاقة الحقيقةوالسليمة مع الوطن
ان نحيا فيه، ونرتبط معه بكل جزيئاته وأحواله،
وأن يكون هذا الوطن ملكنا فعلا، نحبه ويحبنا،

نحميه ويحمينا، وطنًا نقرأ فيه ماضينا وحاضرنا،
ذكرياتنا وأحلامنا، وأن ينتقل إلى الأبناء وطنًا أجمل
وأكثر دفئًا.
وطنًا نراه بعين القلب والعقل معا، لا كما يصوره الخيال او كما يصوره الآخر.
وما كانت رمزية العمر الطويل للجليلة وانتقال التعويذة من جدتها الحجة عريفة، لها ومن ثم الى ابنة حفيدها فادي ابن جيل الانتفاضة، إلّا لتقول لنا: أن الذاكرة الفلسطينية لا تموت ولا يفوت أوانها، ولا يمكن تجاوزها ، فهي التي حملت الآثار التفسية وتسللت
تغيراتها بالخفاء والعلن إلى الحقب التالية، وبالتالي
نتائجها الى الذاكرة، بما في ذلك رؤية المكان والعلاقة معه.

خطّ الاسير المناضل روايته بسردية امتلكت طاقة
متجددة تتفجر من داخلها، وكأن أودية تحتية عميقة
ترتق كل الجمل وتمدها بالحياة والإدهاش وسلطة الإخبار .
جاءت جملته السردية عامرة بالأسئلة والاستفهامات المشروعة التي تحفر عن مدلولات الحياة والزمن

وهي جملة بحث بامتياز تستدعي لبنائها الخبر والصورة وأيضا الحوار الذي لعب دورا بنائيا هامًا
في عكس التوتر والضجيج الداخلي للشخصيات،
حيث تصبح الافعال ذات شحنة قوية وهي تصهر استرجاعات الماضي الممتد بأبعاده وظلاله في الحاضر داخل مسافة فنية.

رواية بمضمونها وسردها المتين السلس بشخصياتها
وحوارها تصلح أن تكون مسلسلا تلفزيونيا
يروي سيرتنا الجمعية بصدق ، تشاهده وتعيشه الأجيال الشابة.

أبارك للكاتب الأسير الحر المناضل كميل ابو حنيش روايته
” تعويذة الجليلة”
على أمل قريب أن نبارك له بالحرية
باذن الله

خالديه أبو جبل
الجليل الفلسطيني
4/5/2023

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة