سيناريوهات 2023: تصعيد نسبي أم انهيار شامل؟

بقلم: هاني المصري

تاريخ النشر: 10/01/23 | 13:45

 
لا خلاف على أن هذا العام سيشهد تصعيدًا، والجدال حول مستوى التصعيد، وهل سيشمل ضمًا كاملًا، أم خطوات على طريق الضم، وهل سيشمل تهجيرًا كبيرًا أم جزئيًا، وهل سيتم اعتماد التقسيم الزماني والمكاني، كما جرى في العام الماضي، أم ستفرض المساواة باستخدام الأقصى بين المسلمين واليهود؟
ويعود ذلك إلى تولي حكومة متطرفة الحكم في إسرائيل، وهي تهدف إلى حسم الصراع مع الفلسطينيين، وليس إلى حله أو إدارته أو تقليصه، وتتصور أن بمقدورها تحقيق هذا الهدف؛ لأن الحقائق التي خلقتها الحكومات السابقة على الأرض، والأوضاع الفلسطينية والعربية والدولية تسمح بتحقيقه، فهي؛ أي الحكومة الكهانية، تراهن على أن ردود الأفعال على ما تخطط للقيام به يمكن احتواؤها، وهي تجادل أصلًا في أن اليمين الإسرائيلي أخطأ في السابق، ومنذ فترة طويلة، في تقدير ردود الأفعال الفلسطينية والعربية والدولية؛ حيث تصور أنها ستكون كبيرة، لذلك لم يستكمل تنفيذ الأهداف الصهيونية.
أي تصعيد سنشهده هذا العام، يتوقف على مدى رد الفعل الفلسطيني، وبالتالي العربي والإقليمي والدولي، وهل سيكون محدودًا أم بمستوى الخطر؟
لا نستطيع أن ننفي صحة تقدير موقف اليمين الإسرائيلي، بدليل أن الولايات المتحدة نقلت سفارتها من تل أبيب إلى القدس، واعترفت بضم إسرائيل لهضبة الجولان، وطرحت صفقة القرن، ولم تهبط الأرض على السماء، بل استمر الانقسام الفلسطيني وتعمق، مع تلويح بالوحدة وإجراء الانتخابات سرعان ما تبخر، وعقدت دول عربية عدة “معاهدات أبراهام” مع إسرائيل، وقامت قطر بمواصلة التطبيع الجزئي، وكذلك السعودية، وفي النهاية سلم الجميع بنقل السفارة وضم الجولان وتعايش معه.
 
تصنيف السيناريوهات
اعتمادًا على أحد مناهج التفكير الإستراتيجي والدراسات المستقبلية، تنقسم السيناريوهات المحتملة إلى خمسة سيناريوهات:
السيناريو الأول: بقاء الوضع الراهن، وهو عادة يحتل 50%. فقوة الأمر الواقع تجعله قويًا، إضافة إلى صعوبة التغيير، والخشية منه، والميل إلى المحافظة على ما هو في اليد، ما يعطيه نسبة كبيرة.
السيناريو الثاني: تحسن نسبي إيجابي، وهو يحتل نسبة 20%؜، وهو يحدث إذا كانت هناك عوامل ومؤشرات ومتغيرات حاصلة، أو يمكن أن تحصل وتدفع به.
السيناريو الثالث: تدهور نسبي سلبي، وهو يحتل أيضا نسبة 20%، وهو يحدث إذا كانت هناك عوامل ومؤشرات ومتغيرات حاصلة، أو يمكن أن تحصل وتدفع به.
السيناريو الرابع: سيناريو المعجزة، ونسبة تحققه لا تتجاوز 5%، ولكنه إذا تحقق فإنه يحدث تغييرًا إيجابيًا كبيرًا ونوعيًا.
السيناريو الخامس: سيناريو اللعنة، ونسبة تحققه لا تتجاوز 5%، ولكنه إذا تحقق يحدث تدهورًا نوعيًا كبيرًا.
يندرج سيناريو المعجزة أو سيناريو اللعنة ضمن “سيناريو قليل الاحتمال، ولكنه إذا تحقق فيحدث تغييرًا كبيرًا”، ومن الصعب التنبؤ به واستبعاد إمكانية حدوثه كليًا.
في السنوات الماضية، كانت التحليلات والتقديرات تتجه في الغالب عند تحليل مآل الأمور في الساحة الفلسطينية إلى ترجيح سيناريو الأمر الواقع وسيناريو التدهور النسبي، وأثبتت الأحداث صحة هذه التقديرات في معظم الحالات في السنوات السابقة، ولكنها أخفقت أيضًا في العديد من الحالات كما حصل بعد انتشار وباء الكورونا الذي مثل تجسيد سيناريو اللعنة، وترك تأثيرات سلبية كبيرة على مستويات عدة، وهو سيناريو مفاجئ ولم يكن متوقعًا، وأيضا أخفقت التحليلات والتوقعات في توقع الحرب الأوكرانية التي كان لها حتى الآن آثار وعواقب وخيمة، ولا تزال نتائجها وتداعياتها المحتملة في رحم المجهول.
 
السيناريوهات المتوقعة
سيناريو استمرار الأمر الواقع مستبعد، وسيناريو التصعيد هو الأقوى
سنجد أن هذا السيناريو لم يعد يحتل النسبة المعتادة، بل تراجع احتمال حدوثه كثيرًا، ويرجع ذلك، بصورة أساسية، إلى تبوء أكثر حكومة متطرفة وعنصرية منذ تأسيس إسرائيل، فهي تطرح برنامجًا متطرفًا يهدف إلى الضم والتهجير والتهويد، ومصادرة الأراضي واستعمارها واستيطانها، وتعميق الفصل العنصري، والعدوان العسكري، والمساس بالمقدسات، وخصوصًا تغيير مكانة الأقصى، وهو لا يميز بين الفلسطينيين ولا يستهدف منطقة دون أخرى، بل يستهدف كل الفلسطينيين في مختلف أماكن تواجدهم، وخصوصًا في الضفة الغربية، بما فيها القدس؛ حيث ستكون الضفة ميدان المعركة الرئيسي؛ إذ من المتوقع أن تجري خطوات كبيرة على طريق ضمها بالكامل. وسيترك توقيت الضم لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، “مع اختيار الوقت المناسب، ومع الأخذ بعين الاعتبار الحسابات القومية والديبلوماسية الدولية لإسرائيل”، وفق ما جاء حرفيًا في برنامج الحكومة الإسرائيلية.
ويستهدف برنامج الحكومة ما وراء الخط الأخضر؛ إذ سيشهد تهويدًا للنقب والجليل، والمضي في وضع الفلسطيني بين الولاء وسحب الجنسية والمزيد من الحقوق المدنية، بينما سيتعرض قطاع غزة لعدوان عسكري إذا لم يلتزم بمعادلة “هدوء مقابل تسهيلات”، وكذلك يستهدف الفلسطينيين في أماكن اللجوء والشتات، من خلال متابعة العمل السابق الذي سارت عليه الحكومات الإسرائيلية السابقة وتعميقه؛ بهدف تصفية قضية اللاجئين، ورفض حقهم في العودة والتعويض، وتغيير تعريف اللاجئ، وإلغاء وكالة غوث اللاجئين، أو تغيير طبيعة عملها وتفويضها؛ حيث تركز على توطين اللاجئين في المناطق التي هجروا إليها وتسهيل لجوئهم إلى بلدان لجوء جديدة.
 
تدهور نسبي أم انهيار شامل
يؤدي دورًا في تراجع نسبة حدوث هذا الاحتمال، وتقدم سيناريوهي التدهور النسبي أو الكبير “اللعنة”، أن العالم مشغول في قضايا أخرى، وأهمها الحرب الأوكرانية وتداعياتها الحاصلة والمحتملة، خصوصًا خطر تحولها إلى حرب عالمية أو حرب نووية، ولو محدودة، وما ترتب عليها من أزمات تتعلق بالطاقة والتضخم والغلاء، يضاف إلى ما سبق أزمة تايوان، والمخاطر المترتبة على الأوبئة وتغير المناخ والبيئة، وما يمكن أن تؤدي إليه من نشوء نظام عالمي جديد ثنائي القطبية أو متعدد الأقطاب، وستؤدي نتائج الحرب الأوكرانية دورًا في تسريع أو إبطاء الولادة العالم الجديد ورسم ملامحه، فالعالم المشغول لا يريد تهورًا شاملًا في فلسطين، ولكنه سيتعايش مع سيناريو التدهور النسبي. لذلك، لاحظنا أن نتنياهو هدّأ من روع وزرائه الأكثر تطرفًا بالقول “أعطوني سنتين”، في إشارة إلى الانتخابات الرئاسية الأميركية، والرهان على فوز مرشح الحزب الجمهوري؛ حيث سيفتح هذا الأبواب لتحقق سيناريو اللعنة.
إن الحكومة الإسرائيلية ترى في هذه اللحظة العالمية جمعة مشمشية، ستحاول أن تحقق فيها أقصى ما يمكن من مخططاتها وأهدافها قبل أن تمضي نحو التطبيق الشامل لبرنامجها إلى حين أن يتبلور النظام العالمي الجديد. وهنا، نتذكر أن الحركة الصهيونية استفادت من الأحداث والحروب العالمية الكبرى؛ إذ حصلت على وعد بلفور في الحرب العالمية الأولى، وأقامت إسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية، وعقدت اتفاق أوسلو بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وقيام النظام العالم أحادي القطبية، الذي انفردت فيه الولايات المتحدة الأميركية بالسيطرة على العالم. لذلك، يجب أن نحذر من عواقب ما يجري في العالم في هذه المرحلة.
 
عالم جديد لم تتضح معالمه
إذا انتصرت روسيا ومن يدعمها سيظهر العالم الجديد بسرعة، وسيكون عالمًا متعددًا الأقطاب أكثر احتمالًا، وإذا هزمت ستتراجع احتمالات ولادة هذا العالم الجديد، وسيطول عمر السيطرة الأميركية على العالم، وإذا كانت نتيجتها لا نصر واضحًا لطرف ولا هزيمة واضحة تلحق بالطرف الآخر، فستستمر المرحلة الانتقالية التي يعيشها العالم لفترة أخرى، وهذا يعني إما تكريس الوضع الراهن على ما هو عليه من دون اتفاق، مثلما حصل في الحرب الكورية، أو التوصل إلى تسوية لا تحقق فيها لا روسيا ولا أوكرانيا كل مطالبهما.
وهنا، من المهم التدقيق بأن الحسم بأي اتجاه ونهاية الحرب لا أحد يعرف متى ستحدث في هذا العام، أم يمكن أن تستمر الحرب وتحمل أوزارها للعام الذي يليه، وربما أكثر. فعلى سبيل المثال، ليس من المتوقع أن تستفيد فلسطين، إذا لم تكن نخبها ومؤسساتها قادرة على الاستفادة من الفرصة، أو على تقليل الأضرار من الأخطار المحدقة، ولا من المضمون أن تقف روسيا مع الفلسطينيين بشكل أكبر بشكل ملموس مما عليه الآن إذا لم تجد ما يشجعها على ذلك؛ لأن هذا سيعرضها لتحمل ثمن إضافي بخسارة إسرائيل التي تربطها معها علاقات جيدة.
 
الصين ليست في عجلة من أمرها
كما أن الصين لا يبدو أنها ستغير سريعًا موقفها التقليدي الداعم للحقوق الفلسطينية، والمنادي باستئناف المفاوضات، وعقد مؤتمر دولي، وستحتفظ بعلاقاتها الجيدة مع إسرائيل من دون دور أساسي فاعل، خصوصًا في ظل عدم وجود عوامل تدفعها إلى غير ذلك، مثل ربط الدول العربية أو بعضها لعلاقاتها المتنامية جدًا مع الصين بتفعيل الموقف الصيني إزاء القضية الفلسطينية. فالصين لا تزال ملتزمة بنظرية الصعود السلمي، ومتوقع أن تصعد موقفها في السنوات القادمة حول عنوان واحد، وهو تايوان.
 
إيران وحزب الله: الحرب مؤجلة إلا إذا فُرِضت
إذا انتقلنا إلى إيران، فسنجد أنه من غير المرجح أن تدفع الأمور نحو حرب مع إسرائيل من أجل فلسطين أو غيرها، إلا إذا بادرت إسرائيل إلى ذلك، وهذا يظهر من مراوحة المفاوضات حول الملف النووي بسبب تراجع الولايات المتحدة عن موقفها التفاوضي، وبسبب الأزمة الاقتصادية التي ترزح تحتها بسبب العقوبات المستمرة منذ عشرات السنين، وجرّاء الأحداث الاحتجاجية التي تشهدها إيران منذ أشهر عدة بعد مقتل الشابّة مهسا أميني، وأدت إلى نوع من التراجع في الموقف الإيراني المعتاد من الحجاب الكامل، ودور شرطة الأخلاق.
وما ينطبق على إيران ينسحب على حزب الله، الذي لن يدفع الأمور على الأغلب ومن دون استبعاد كلي إلى حرب، خصوصًا بعد ترسيم الحدود المائية، وما يشهده لبنان من وضع مأساوي وأزمات على أكثر من صعيد. لذلك، حدد زعيم حزب الله تهديده بالتدخل بكلمة “قد” يفجّر المنطقة، ولم يحسم بالأمر، وذلك ردًا على تصعيد إسرائيلي في الداخل الفلسطيني، خصوصًا تغيير مكانة الأقصى.
 
تركيا مشغولة بالانتخابات الرئاسية
أما تركيا فهي مشغولة بالانتخابات الحاسمة التي ستجري هذا العام، والتي يحضّر لها الرئيس رجب طيب أردوغان، من خلال الرقص على كل الحبال، وإعادة تحسين علاقاته مع مختلف الخصوم والأعداء، بما في ذلك التوجه إلى تسوية مع سوريا، وإعادة فتح السفارتين الإسرائيلية في أنقرة والتركية في تل أبيب، وسط توسيع وتنويع العلاقات المتعددة، وخصوصًا توسيع التبادل التجاري، مع توجيه النصح لحركة حماس وغيرها بتحديد وتنظيم تواجدها في تركيا.
 
العرب ما بين التطبيع والأزمات الداخلية، والأقصى ناقوس خطر
أما الدول العربية، خصوصًا الخليجية، فهي تحاول أن تستفيد من هوامش التنافس الأميركي الصيني، مع اتجاه متزايد نحو تنويع العلاقات، وليس استبدال الحليف الأميركي والغربي بالصين وروسيا، كما يروج أو يتمنى البعض.
إضافة إلى ما سبق، من الضروري معرفة أن هناك تطبيعًا عربيًا بين عدد من الدول العربية وإسرائيل، أخذ مع بعضها أبعادًا أكبر من التطبيع، ويمكن أن يتم مراجعتها في محاولة لثني الحكومة الإسرائيلية عن تطبيق برنامجها للأقصى، ويمكن أن تطبع السعودية بذريعة تأجيل الضم كما يلوح نتنياهو بذلك. كما أن هناك أزمات في عدد من الدول العربية، مثل مصر والأردن، تجعلها في وضع قابل للابتزاز، في الوقت الذي من المتوقع أن نشهد فيه بطئًا في عملية إعادة سوريا إلى الجامعة العربية، وإعادة المهجرين، وبدء عملية الإعمار، فما تزال سوريا على الرغم من الفشل في إسقاط النظام مطالبة بتلبية شروط حتى تعود للعب دورها السابق.
 
اللاعب الفلسطيني العامل الأهم، ولكنه غائب
يبقى اللاعب الفلسطيني العامل الأهم، الذي يشكل القاطرة القادرة على تحريك وتفعيل اللاعبين الإقليميين والدوليين، وهو غائب أو مغيب بسبب الانقسام والتوهان، وعدم بلورة مشروع وطني يناسب المرحلة الجديدة، ووضع إستراتيجيات قادرة على تحقيقه. لذا، فهو في وضع لا يحسد عليه. فالانقسام بين سلطتين وطرفين لا يزال سيد الموقف، أحدهما يخشى من المواجهة على الرغم من أنها مفروضة، ويلعب وفق قواعد اللعبة السابقة عندما كانت هناك عملية سلام، بل يكتفي بالمواجهة الديبلوماسية والقانونية الدولية مع إدراكه سقفها المحدود، ويتجنب المقاومة الشاملة وتوفير متطلباتها من رؤية شاملة، ومسار جديد، ووحدة على أساس شراكة حقيقية، وإرادة مستعدة للصمود والمواجهة.
أما الطرف الآخر فهو انتظاري من دون برنامج واضح، ويتذبذب بين الاضطرار للمواجهة أحيانًا، وانتظار استجابة الطرف الأول عبر اتفاق بينهما في أحيان أخرى، والمبادرة إلى المواجهة في حالات قليلة، أو يطالب باللجوء إلى الاحتكام إلى الانتخابات، مع إدراكه أن الانتخابات لم تكن ولن تكون الآن حلًا، بدليل أنها جرّبت وكانت منصة لوقوع الانقسام، وأصبحت الآن مستبعدة أكثر في ظل حكومة إسرائيلية لا تريد، أكثر بكثير من سابقاتها، استمرار أو تعميق أي مظهر للهوية الوطنية الفلسطينية والكيان الفلسطيني الموحد.
في هذا السياق، من المستبعد أن نشهد انتفاضة شاملة أو مقاومة واسعة في الضفة، أو تكرارًا لمعركة سيف القدس؛ لأن النظام السياسي ومكوناته، بما فيها فصائل المقاومة، غير مستعد لقيادة الانتفاضة وتصعيد المقاومة، ليس لإعطاء المدى اللازم لنضج مقاومة الضفة، وإنما لأن السلطة في غزة تقيد إمكانات اللجوء إلى المقاومة؛ نظرًا إلى الثمن الباهظ للجمع ما بين السلطة والمقاومة المسلحة، من أي مواجهة عسكرية في ظل الاختلال الفادح في موازين القوى، إضافة إلى استمرار التنسيق الأمني المعيق جدًا بين السلطة والاحتلال، وغياب أو ضعف العمق الإستراتيجي العربي والإقليمي والدولي الداعم للمقاومة المسلحة.
 
المقاومة بين خيارات أحلاها مر
طبعًا، ممكن أن تضطر المقاومة إلى تكرار معركة سيف القدس في حالات عدة، منها إذا قامت الحكومة الإسرائيلية بخطوات كبيرة إزاء تغيير مكانة الأقصى، أو الضم أو التهجير، أو ارتكاب مجازر كبيرة، أو إذا استدرجت المقاومة لحرب من خلال اغتيالات أو شن عدوان على غزة على خلفية تحميلها المسؤولية عن استمرار المقاومة وتصعيدها في الضفة. فالمقاومة بين نيران: المبادرة إلى المعركة العسكرية في وقت غير مناسب، أو التعرض لعدوان عسكري، أو المضي في مراكمة القوة وفي سياسة النأي بالنفس استجابة لحاجات الناس للعيش والتقاط الأنفاس، وانتظارًا لوقت ملائم يحدث بعد توفر الظرف المناسب لانخراط الأمة ومحور المقاومة في المعركة.
 
سيناريو التصعيد (التدهور النسبي)
يعد هذا السيناريو هو الأكثر احتمالًا في العامين القادمين، وهو يعني تدهور الأمور بشكل ملموس من دون انهيار كامل ولا انفجار يصعب السيطرة عليه، وذلك للأسباب الآتية:
أولًا: لأن الحكومة تحتاج إلى وقت حتى تغير النظام في إسرائيل؛ حتى يهيمن اليمين القومي والديني على مفاصل النظام السياسي وعلى الدولة العميقة، ويقضي على الهوامش الليبرالية والعلمانية، وما يتطلبه ذلك من تحجيم، وحتى إلغاء سلطة المحكمة العليا، وتغيير نظام التعليم، واستكمال خلق الحقائق على الأرض التي تجعل خطوة بحجم الضم القانوني للضفة أو مناطق (ج) ممكنة. كما هي بحاجة إلى السيطرة على الدولة العميقة التي تفضل التصرف وفق قواعد العمل المعمول بها، وستقاوم اتخاذ خطوات متطرفة مرة واحدة.
ثانيًا: أي خطوات دراماتيكية لن تضمن استمرار موقف القيادة الفلسطينية بالنمطية السائدة، بل قد تدفعها مضطرة إلى اتخاذ خطوات غير مألوفة نحو الوحدة وتغيير المسار، مثلما حصل بعد طرح صفقة ترامب، التي تم التراجع عنها فورًا بعد سقوط دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية؛ لأنها إذا لم تفعل ذلك فستكون معرضة جديًا للانهيار.
ثالثًا: ستعارض الإدارة الأمريكية الحالية أي خطوات إسرائيلية دراماتيكية، من دون أن تذهب إلى حد معاقبة إسرائيل بقوة إذا قامت بها، بل ستبذل جهودًا لمنعها من القيام بها؛ لأنها تخشى من أن يؤدي ذلك إلى انهيار الوضع الفلسطيني، وخصوصًا السلطة ومسار التسوية وما يسمى “حل الدولتين”، ويفتح الباب لحروب لا داعي لها وغير مطلوبة في الوقت الحالي، في ظل الحرب الأوكرانية والانشغال بملفات أخرى.
وهناك خشية من انهيار السلطة إذا واصلت الحكومة سياساتها العقابية ضد السلطة، بما فيها منع إقامة المشاريع في منطقة (ج)، وملاحقة المنظمات الحقوقية والأهلية، والاقتطاع من أموال المقاصة؛ حيث وقع بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية الإسرائيلي، على قرار باقتطاع 139 مليون شيكل من أموال الفلسطينيين. وقال في رده على سؤال حول ما إذا كان يخشى أن تؤدي مثل هذه الخطوات إلى انهيار السلطة: “بقدر ما تشجع السلطة الفلسطينية الإرهاب وهي عدو، فليس لدي مصلحة في استمرار وجودها”، موضحًا أن هذه هي بداية العقوبات. وقال أيضًا: “إن السيادة الإسرائيلية ستفرض على “يهودا والسامرة”، وعلى الفلسطينيين العيش بصفتهم سكانًا وليسوا مواطنين، وليديروا حياتهم اليومية من خلال إدارات محلية من دون أي مظاهر قومية”.
وما ينطبق على الولايات المتحدة ينطبق على أوروبا، وتحديدًا على عدد من البلدان الأوربية، مثل فرنسا وألمانيا وإسبانيا، التي تخشى من عواقب انهيار الوضع الفلسطيني على الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة، وما سيؤدي إليه من عدم استقرار في الأردن، وموجات جديدة من الهجرة إلى أوروبا.
رابعًا: إن الدول العربية، بما فيها وعلى رأسها الدول المطبعة والمستعدة للتطبيع، لن تقبل خطوات دراماتيكية إسرائيلية، خصوصًا فيما يتعلق بتغيير مكانة الأقصى، وهذا تبين من ردة الفعل الإماراتية على زيارة إيتمار بن غفير إلى الأقصى، وهذا يمكن أن يعرقل أو حتى يوقف قطار التطبيع، في ظل أن نتنياهو يعطي أولوية للتطبيع، فضلًا عن أن برنامج حكومته أكد ذلك، ويحاول أن يغري السعودية بالتطبيع من خلال تلويحه بتأجيل الضم، وقيام تحالف عربي إسرائيلي أميركي ضد إيران.
 
متى يمكن أن يحدث سيناريو المعجزة؟
يتحقق سيناريو المعجزة إذا اندلعت انتفاضة فلسطينية شاملة، تعتمد بشكل رئيسي على المقاومة الشعبية، من دون أن تستبعد المقاومة المسلحة، ولكن بشكل ثانوي؛ حيث تستخدم للدفاع عن النفس في حال شن عدوان عسكري على قطاع غزة، أو ضد اعتداءات قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين المسلحين، على أن يكون لهذه الانتفاضة هدف مركزي واقعي واحد، مثل إنهاء الاحتلال وإنجاز الاستقلال الوطني والسيادة لدولة فلسطين، كما تضع أهدافًا مباشرة وفرعية عديدة، مثل: وقف الاستعمار الاستيطاني والتصدي له في مختلف أماكن تواجده، خصوصًا في الضفة، والرباط في الأقصى والتصدي لاعتداءات ومخططات المستوطنين، ومنع تغيير مكانة الأقصى؛ أي منع استمرار وترسيم التقسيم الزماني والمكاني، وكذلك إحباط مخطط فرض المساواة بين اليهود والمسلمين، وحماية المناطق المعرضة للمصادرة والاستيطان والتهويد، وتوفير عوامل الصمود واستمرار التواجد الشعبي الفلسطيني والمقاومة الشاملة.
سيناريو المعجزة بحاجة إلى بلورة رؤية شاملة، وإحياء المشروع الوطني، وتبني إستراتيجيات مشتركة، ومؤسسة وطنية وقيادة وطنية واحدة، على أرضية إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، على أساس الشراكة، وهذا السيناريو مستبعد.
ويساعد على تحقيق هذا السيناريو حدوث تغير إيجابي في الوضع العربي، أو في بلدان عربية، أو في بلد عربي على الأقل من البلدان المؤثرة، وكذلك حدوث تغيير إيجابي إقليمي أو دولي، وهو سيناريو مستبعد هذا العام، ولكنه إذا تحقق فمن شأنه تغيير قواعد اللعبة كلها.
 
متى يمكن أن يحدث سيناريو اللعنة؟
يتحقق هذا السيناريو إذا استمر الوضع الحالي الداخلي الفلسطيني، وإذا تعمق الانقسام، ونشب صراع واقتتال فلسطيني على خلفية المنافسة على الخلافة يؤدي إلى فوضى وفلتان أمني، وتعددية في السلطات، وانهيار أو حل السلطة، بما يشق الطريق لبدائل عربية ودولية، وعودة الوصاية العربية على السكان تحت السيادة الإسرائيلية، في محاولة لتجنب تهجير ملايين الفلسطينيين، وهو وارد ضمن النتائج المحتملة لسياسات هذه الحكومة، ولكنه مستبعد على المدى المباشر؛ لأن وجود السلطة حاجة عربية وأميركية ودولية وإسرائيلية، وكما لاحظنا رفض نتنياهو ما طالب به بعض وزرائه باتخاذ إجراءات أشد ضد “الإرهاب الديبلوماسي”، الذي تشنه السلطة على إسرائيل في المحافل الدولية، وبلّغ السلطة في القنوات المفتوحة بأن إسرائيل لا تريد انهيارها. ويمكن أن يظهر هذا السيناريو من خلال اعتماد السلطة سياسة الانتظار والتكيف، واستبعاد المواجهة.
وأخيرًا، على الرغم مما تقدم، يمكن أن يكون تشكيل الحكومة الكهانية فرصة تاريخية لبداية هزيمة الحركة الصهيونية، إذا تم توفير مقومات المواجهة المطلوبة على أساس تبني تغيير المسار، وجعل الاحتلال ومن يدعمه يخسر. أما التكيّف والانتظار والمواجهة الشكلية أو المغامرة، فإنها تجعل سيناريو التصعيد يتقدم بسرعة أكبر نحو تحقق سيناريو اللعنة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة