قراءتي لقصيدة ” تداخل” للشاعر الفلسطيني صلاح الفقيه

خالدية أبو جبل

تاريخ النشر: 30/09/22 | 7:44

قراءتي لقصيدة ” تداخل” للشاعر الفلسطيني
صلاح الفقيه
(لانك وحدك اصل الحكايه
لانك انت وقبل اتضاح الوسيلة  غايه
فكيف اكذب آلاء ربي
وانت وآلاء ربك ٱيه )
مدخل قوي ثائر يأخذنا لقصيدة أشبه بمعزوفة طويلة تلملم ما تبعثر من شتات المساء ، تضعه حزمة في راحة القمر لتضيء على خيوط تجاذبتها التساؤلات والحيرة والحب والأمل.
تطالعنا القصيدة منذ البداية بهذا الوجه المتسائل و”المتشائل” في آن
فهي ليست بحالة حب وعشق وغزل باكثر منها
حالة إيمان وجودي واحترام للمرأة وتبجييل مكانتها منذ البدء، بالتلميح لآية خلقها ( حسب الرواية الدينية ، أنها خُلقت من ضلع الرجل)
فكيف لا تكون من خلقها الله بهذه الطريقة
آية، وكيف لا تكون والرجل في مجال نبض واحد يستوي فيه  الايقاع صعودا ونزول؟
” فكيف أكذب آية ربي
وأنت وآلاء ربي آية”
فهل حقّا لم يُكّذب بآية ربك ولا بآلائه، شاعرنا القدير ؟
ومن هذا التحليق الوجودي ، يغوص الشاعر في اعماق ذاته ، يستدعيها في حوار يبحث من خلاله عن نفسه التائهة، لنلمس قيمة روحية
تعيش في قاع الشاعر تتمثل في الأمن والاستقرار والسلام، التي يهفو أن تنتصر على كل فساد.
” هل تهت عني
هل خرجت من التردد كي أرمم رايتي
ما خضت حرباً وانتصرت على أحد
ما سرت في درب واكملت المسير
وما انتميت إلى بلد
أسندت ظهري  للمياه
فشاكستني
واستفقت على الزبد
ووجدت نفسي في الحياة
كنقطةٍ كلية اللاشيء في رحم الابد
ببراعةمذهلة يجعلنا نسمع أنفاس الأمل تغرق في الماء،ونسمع وقع أقدام السأم وهي تحطم
اضلاعه، حتى تُحيله الى
” نقطة كلّية اللاشي في رحم الأبد”
…..
هل تهت عني
كي اراك
كشاعرٍ
نسي العروض
وخانه الايقاع
فاختلق البداية
يا انت يا لحني انتظرتك
عازفٌ يحتاج عينيك لكي يضبط نايه )
ينتقل الى حواره مع محبوبته، فيُخاطبها بذات السؤال”هل تهت عني؟”
وهو تكرار مقصود الدلالة ، فعدا عن إضفاء العبارة جو موسيقي استفهامي خاص، فالطاقة
الايحائية الخاصة بها، والتي ترمي بتلك المشاعر والأحاسيس المبهمة التي تتداعى لدى سماعها،
فندرك ان محبوبته ليست أقل منه ضياعا، وإن كانت سببا من أسباب نسيانه العروض والايقاع،
لينسكب لحن عشقها في حروف جعلت الكلمات في الجمال آية.
” يا أنت يا لحني انتظرتك
عازف يحتاج عينيك لكي يضبط نايه”
عبارة غزلية شاعرية تُشّع إحساسًا رحيبا بالجمال البريء الذي لا تُحدّه حدود مادية ملموسة، تتجلى فيها المرأة بكامل أنوثتها
وطغيان الهامها.

هي رشفة عشق متواضعة صبتّ اليها نفسه،
لكنه مدرك أنها أمل عصيّ على التحقيق،
فهو في أعماق جُبّ والدلاء تحاصره وتسّد
عليه كل طريق،
في الجب أدلوا ألف دلوٍ فوق راسي
لست اذكر
هل صعدت انا
وهل كلي  صعد
بعضي يئن
كتائهٍ يختال في عبث الوجود
أضاع ما اخفى
وأخفى ما وجد
طوراـ يحارب  ما يرتله الحواة
وتارةّ من دون وعيٍ
كلما هتفوا سجد
في الليل يعبد ما يخاف
وعندما يصحو
يحطم ما عبد
فمن خلال تشخيص ساحر، يُحول الشاعر هذا المقطع من القصيدة” في الجُبّ” -مستدعيًا الرواية الدينيه قصة النبي يوسف وأخوته حين ألقوا به في البئر-  يحولها الى مسرحٍ
عجيب تجوس في أنحائه كلّ معاني الوحشة والخراب، فالسأم نفسه تتردد أنفاسه فيه، والقهر
ذاته يتجسد حقيقة ساخطة أليمة، بحيث نكاد نراه باعيننا وهو يُحطم بالنهار ما  بالليل عبّد!
وهي دلالة رائعة موفقة لما نعيشه من ازدواجية وقلق ، بين كل ما هو روحاني نلوذ به في الليل حيث  الظلام و المجهول ، وبين ما هو علماني ننتصر به على اصنام الفكر ووهم العقول!
وهي باي حال دعوة للتمرد على كل فكر بائد وقيد.
….
(هذا انا
من دون حبٍ
لا أرى بحراً لاعبره
ولا سفناً وراية
منفاي همسك
في البراري
فانا راعي ظباءٍ
يجمع النعناع عن خديك كي
يرشف شايه)
في جمع بين نقيضين جميل يُقدم لنا هويته
التي تعيش الجدب والقحل بدون حب، وتقتنصه لو كان في البراري حيث يستعذب المنفى بوجود همسات الحبيب،
وكم هو بديع تراسل الحواس في هذا المقطع من القصيدة ، حيث تجاوبت الالوان والروائح والأصوات والمذاق في وحدة عميقة،
ما بين رشاقة ظبية وهمسٍ وخضرة ورائحة نعناع وخَفرِ خدٍّ ونكهة شاي، يثملُ عاشق
راى في الحب غاية ووسيلة!
هي لحظات اشبه بالحلم الجميل يخرج فيها الشاعر من الحياة ليعود اليها محملا بالاسئلة والشكوك …
يا ايها الرجل البسيط
اواثقٌ مما تراه ؟
وهل عرفت حقيقة المشي الطويل
إلى دهاليز النحاة ؟
سجنوك في اللغة الهزيلة
كي يرقصك الحواة
وذهبت تبحث عن ضلوعك في الاغاني
قبل أن تأتي اليك الريح بالفوضى
وتخدعك الشفاه
كم كنت سوسنة
ولكن المغني
لم يجد في العطر وجهته فتاه…
كما بدأ بالتساؤل ينتهي بالتساؤل بل بالتشكيك بما يراه، وبما فرضته عليه دهاليز النحاة، التي تقتضي منه أن يصوغ مشاعره وما يعصف بذهنه في لغة على اتساعها ضاقت بمكنونات نفسه وافكاره.
تنتهي القصيدة هذه النهاية الأليمة التي تردنا الى بدايتها، حيث كانت البداية عند آية اسمها حواء – المرأة ، وانتهت بالبحث عن الآية ، حواء – المرأة.
“ذهبت تبحث عن ضلوعك في الاغاني”
والضلوع تعني المرأة ، إشارة لطريقة الخلق-
وحسب رايي المتواضع فهذه العبارة أجمل ما قيل في انتقاد وضع مجتمعنا الذي تغنى في المرأة ومجدها شعرا ولحنا واغنية، وأساء لها
في الواقع، حتى باتت كالنغمةالتائهة في الاغنية
يتوه من يبحث عنها هناك لانها أصل اللحن.
وطويل طريق من يتبع مسار العطر ، لانها السوسنة أصل العطر .
….
عمل فني عظيم ضمّ مجموعة من الايحاءات المتشابكة المتنامية غير المحدودة، وُظفت في تداخل بديع لعمق الفكر وابداع الوجد.
لا يمكن القول فيه الا شكرا لك شاعرنا على هذا
الابداع.
خالدية أبو جبل
طرعان، الجليل الفلسطيني
19آب2022

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة