أزمنة محمود شقير مرّة أخرى
جميل السلحوت
تاريخ النشر: 27/08/22 | 11:21من يقرأ الجزء الثّاني “تلك الأزمنة” من سيرة الأديب الكبير محمود شقير مرة واحدة لا يرتوي منها، ولا من جماليّاتها، فالأديب شقير الذي خبر فنون الكتابة وأجادها، لا يزال وهو يسير بخطى ثابته لينهي عامه الثّاني والثّمانين من عمره المديد في عنفوان عطائه الأدبيّ، فلديه مخزون ثقافيّ كبير يزداد يوما بعد يوم، ويدفعه إلى مزيد من التّجريب فيبدع جديدا بعد جديد، وكأنّي به نبع عطاء لا ينضب.
والجزء الثّاني من سيرته الذّاتيّة الصّادر مؤخّرا عن دار نوفل في بيروت، يطغى فيه عنصر التّشويق، فيأسر القارئ ولا يتركه حتّى يقرأه دفعة واحدة. فهل جاء محمود شقير بجديد في هذا الكتاب؟
وبقراءة محايدة متمعنّة فاحصة نجد أنّ شقير قد ضمّن سيرته الذّاتيّة مواضيع لم يطرقها غيره ممّن كتبوا عن سيرتهم الذّاتيّة أو كتبوا سِيَرًا غيريّة. ومن الجديد الذي جاء في سيرة شقير هذه تركيزه في الكتابة عن أحفاده، فحفيده” مهدي” الذي يحظى بمكانة خاصّة في قلب ووجدان جدّه لما يتحلّى به من ذكاء لافت، له نصيب في هذا الكتاب استحوذ على عشرات الصّفحات، وعشرات الحكايات والأحداث التي سردها جدّه عنه بشغف كبير. صحيح أنّ هناك كتّابا ومنهم محمود شقير نفسه كتبوا قصصا وروايات عن أحفادهم وإليهم، لكنّ من كتبوا منهم عن أحفادهم في سيرهم الذّاتية مرّوا عليهم مرّ الكرام، كأن يذكروا تاريخ ميلادهم أو عن فرحتهم بميلادهم، لكن -وحسب معلوماتي المتواضعة- لم يخصّص أيّ منهم – الكتّاب- صفحات في سيرهم الذّاتيّة عن أحفادهم. والقارئ لسيرة الأديب شقير سيجد أنّه كتب عن أحفاده كلّهم، لكنّ الحظوة كانت من نصيب الحفيد “مهدي”، وكأنّي بمهدي قد استنهض الطّفل الذي يسكن وجدان جدّه الأديب شقير الذي عرفناه مبدعا متميّزا في القصص والرّوايات للأطفال وللفتيات وللفتيان، وفي تقديري أنّ كتابة الأديب شقير عن الأحفاد يأتي كتأكيد منه على استمراريّة الحياة.
أمينة ومعاناة الأديب شقير
والقارئ لـ “تلك الأزمنة” سيجد أنّ الأديب شقير قد خصّص منها عشرات الصفحات عن ابنته أمينة المولودة عام 1975، والتي أصيبت وهي في العشرينات من عمرها بمرض لا شفاء منه”ضمور العضلات” حتّى أصبحت طريحة الفراش، مع أنّ والدها بذل جهودا كبيرة في علاجها دون جدوى، فكتب بكلمات تنضح ألما ووجعا عن يوميّات مرضها. ولأمينة واسمها ذكريات مؤلمة في وجدان وذاكرة والدها، فقد سمّاها “أمينة”، ليستعيد اسم شقيقته أمينة التي تصغره بأربع سنوات تقريبا، والتي توفّيت أثناء المخاض وهي في الواحدة والعشرين من عمرها، وتركت وجعا في قلوب والديها وأشقّائها وشقيقاتها.
وقد كتب الأديب شقير عن لوعة فراق شقيقته “أمينة” حتّى قبل أن تولد ابنته “أمينة” وواصل الكتابة عن الشّقيقة والبنت في أكثر من كتاب من مؤّلّفاته، وها هو يعود إليهما في كتابه عن سيرته الذّاتيّة، حيث مرّ سريعا على وفاة شقيقته “أمينة”، وتوسّع واستطرد في الكتابة عن ابنته ” أمينة”، ولا غرابة في ذلك، فالشّقيقة توفّيت منذ ما يزيد على سبعة وخمسين عاما، لكن معاناة الابنة” أمينة” مع هذا المرض الذي لا شفاء منه لا تزال قائمة، ويتألّم والداها ولا يستطيعان عمل شيء لها سوى العناية الفائقة التي يوفّرانها لها.
الوعي الكافي
معروف أنّ الأديب شقير يحمل فكرا يساريّا ماركسيّا، وقد ذكر في سيرته أنّه انتمى للحزب الشّيوعيّ الأردنيّ، ثمّ للحزب الشّيوعي الفلسطينيّ-حزب الشعب الآن-، وشغل عضوية اللجنة المركزية فيه، لكنّه يتحلّى بوعي كاف، ليستوعب التّعدّدية الفكريّة الموجودة على السّاحة الفلسطينيّة، لذا نجده يراسل بمودّة متناهية عددا من الأسرى الفلسطينيّين من اتّجاهات مختلفة، ومنهم مروان البرغوثي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، احمد سعادات الأمين العام للجبهة الشّعبيّة، باسم خندقجي عضو اللجنة المركزيّة لحزب الشّعب، الشّيخ محمّد أبو طير القيادي في حركة حماس، حسام زهدي شاهين مؤسس وقائد حركة الشّبيبة الفتحاويّة.
كما أنّه كتب بإعجاب عن زملاء وأصدقاء ورفاق منهم من رحلوا ومنهم لا يزالون على قيد الحياة من اتّجاهات مختلفة.
محمود شقير والغياب
في سيرة محمود شقير هذه يلاحظ القارئ فيما بين السّطور أنّ أديبنا يفكّر كثيرا بالموت في هذا العمر، وهذا أمر طبيعيّ لمن هم في عمر الشّيخوخة، فجميع البشر يدركون أنّ نهاية الأحياء هي الموت، والأديب شقير بدأ كتابة الجزء الثّاني من سيرته بعد أن تعدّى السّابعة والسّبعين من عمره بنصف عام، وحلمه أن يعيش حتّى الثّمانين، ولما اقترب من الثّمانين، قال بأنه قد يعيش عاما أو عامين أو عشرة أعوام في أحسن الأحوال، ومع أمنياتنا له بأن يعيش ضعف هذه السّنين وهو في تمام الصّحّة والعافية، فإنّه عندما يبلغ التّسعين سيطلب المزيد، فالحياة عزيزة رغم أنّها مجرّد رحلة قصيرة شاقّة وممتعة. فهل لجأ أديبنا شقير إلى رثاء نفسه دون أن ينتبه لذلك في كتابه هذا، كما فعل محمود درويش وهو يدري في رائعته”في حضرة الغياب”؟