العظماء (25) عمر بن الخطّاب الثّائر، العادل والصّارم

تاريخ النشر: 13/01/22 | 13:01

بقلم: علي هيبي

لا بدّ من مفتتح ذاتيّ:
بدأت تنمو ميولي إلى حبّ القراءة والمعرفة منذ مرحلة التّعلّم الثّانويّة، في مدرسة “يني” العريقة في قرية “كفر ياسيف” الجليليّة، حيث كانت هذه المدرسة جامعة بمعنييْن: الأوّل هو أنّها كانت تجمع تحت أكناف علومها وثقافتها طلّابًا من سائر قرى “الجليل” ومدنه أيضًا، والثّاني أنّها كانت جامعة بمركزيّة معهدها العريق، ومن هذه المثابة كان لها سبق بارز في مستوى التّعليم والثّقافة والتّحصيل وكثرة المتعلّمين تنيف به عن كثير من القرى الّتي تكبرها بعدد السّكّان مثل “سخنين” وَ “طمرة”، وهما مدينتان اليوم، يقطن في كلّ منهما حوالي 35 ألف نسمة، أمّا “كفر ياسيف” القرية فلا يتعدّى عدد سكّانها 10 الآلاف، ولكنّها كانت مصدرًا ومصدِّرًا للمدرّسين، بحيث كان يخرج منهم في كلّ صباح العشرات بل المئات ليعلّموا في كثير من مدارس القرى القليلة في منطقة “الجليل”. ومع ندرة المدارس الثّانويّة في تلك الفترة، ومع ندرة المدارس كانت ثمّة ندرة في الكتب، بحيث كان العثور على كتاب أو قصّة أو رواية أمرًا عسيرًا، وإن تمّ ذلك في أوقات متباعدة فقد كان الكتاب ينتقل من بيت إلى بيت ومن يد وعين حتّى ينتهيا من قراءته إلى يد وعين أخرييْن. ورحم الله السّيّد “فؤاد دانيال” (1924 – 2013) من “النّاصرة” الّذي كان يملك دار نشر ومطبعة، وعلى رداءة الورق وسوء الطّباعة كانت هي المزوّد الأوّل والرّئيس للكتب من العالم العربيّ، ولذلك لا يمكن لأحد أن ينكر ريادته هذه ولا فضل مطبعته في هذا السّبق. من هذه الدّار والمطبعة عرفنا أسماء “نجيب محفوظ” (1912 – 2006) وقرأنا “زقاق المدق” وقرأنا “توفيق الحكيم” (1898 – 1987) وقصّة “عصفور من الشّرق” وَ “طه حسين” (1889 – 1973) ورواية “الأيّام” وعرفنا “كامل كيلاني” (1897 – 1959) وقصص الأطفال، وعرفنا الرّوايات الرّومانسيّة للكاتب “محمّد عبد الحليم عبدالله” (1913 – 1970) والرّوايات الإسلاميّة للكاتب المؤرّخ “جورجي زيدان” (1861 – 1914) وقصص “يوسف إدريس” (1927 – 1991) و”محمود تيمور” (1894 – 1973) وروايات “عبد الحميد جودة السّحّار” (1913 – 1974) و”الآلهة الممسوخة” رواية الرّوائيّة اللّبنانيّة “ليلى بعلبكي” (1934 – ما زالت حيّة) وغير ذلك من الكتب التّاريخيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة باللّغة العربيّة والمترجمة من لغات وآداب أخرى.
آباؤنا وأمّهاتنا:
وإذا كنتَ متميّزًا أو متفوّقًا في مدرسة قريتك الابتدائيّة بالتّحصيل العلميّ، فإنّك ستقابل وستلتقي في المرحلة الثّانويّة بكثير من المتميّزين والمتفوّقين من طلّاب “كفر ياسيف” نفسها ومن طلّاب مدارس القرى والمدن الأخرى، وسترى نفسك أحيانًا ضائعًا وسط هؤلاء المتميّزين الكثر، وسيكون هؤلاء محفّزًا لك للمزيد من حبّ المعرفة وللمزيد من تحقيق التّميّز في التّحصيل والعلامات.
لقد كانت الأحوال المعيشيّة والمستوى الاقتصاديّ صعبًا على جميع الأسر، وكم كان يعاني الأهالي وأكثريّتهم من العمّال الأجيرين ومن فلّاحي الاكتفاء الذّاتيّ من صعوبة العيش وشظف الحياة، ومع ذلك كانوا “يقطعون اللّقمة” عن أفواههم وأفواه صغارهم كي يعلّموا من يستحقّ التّعلّم من أبنائهم، لأنّهم على قلّة حيلتهم وعلى أمّيّة معظمهم أدركوا بالفطرة قيمة العلم ومكانة صاحبه في المجتمع، لأنّهم حرموا منه هم أنفسهم لسوء الحال وفساد الزّمان. كم أحبّ آباؤنا أولو التّجربة الحياتيّة والحكمة الفطريّة الفلّاحيّة المنبعثة من قيم الأرض وعرق الجبين وشظف العيش وكرامة الإنسان، كم أحبّوا العلم وأدركوا مكانته وأجلّوا أصحابه.
كنت من الأولاد الّذين استحقّوا التّعلّم بعد المرحلة الابتدائيّة الّتي أنهيتها في قريتي “كابول” سنة (1969) وكانت علامة ذلك اجتيازي لما كان يسمّى امتحانات “الثّوامن” في الصّفّ الثّامن، وهو نهاية المرحلة الابتدائيّة بعد 9 سنوات من التّعلّم، ولم تكن آنئذٍ مرحلة إعداديّة، إذ كانت المرحلة الابتدائيّة تشمل الاثنتيْن، بعدها ينتقل الرّاغب والمستحقّ “واللي الله بسهّل عليه” من الطّلّاب إلى المرحلة الثّانويّة في القرى والمدن الجليليّة القليلة جدًّا الّتي تتميّز بوجود مدارس ثانويّة فيها، كانت أشهرها “يني” في “كفر ياسيف” و”الزّراعيّة” في قرية “الرّامة” والثّانويّة في مدينة “شفاعمرو” وقليل من الطّلّاب من يذهب للتّعلّم في مدينة “عكّا” والأقلّ منهم في مدينة “حيفا”، إذ لم يكن التّعليم في البداية مجانيًّا، وكان الأب يضطرّ لدفع الرّسوم الماليّة للمدرسة وإلى تزويد ابنه بمخصّصات السّفر، أو أجرة السّكن ومصروفه الشّخصيّ إن رحل أو أقام.
بين يديّ عمر:
لا أعرف من أين كانت بالضّبط بداية اهتمامي بهذا الشّيء العظيم الّذي اسمه المعرفة، والأعظم هو طريقة البحث عنها بالكدّ والجهد وليس بنيلها جاهزة “معلّبة”، والأعظم والأهمّ هو الثّقافة الّتي هي – على حدّ فهمي المتواضع لها – متنوّعة وعلى أنواعها هي شاملة للمعرفة، وهي تهدف لتكريس المعرفة والعلوم والإبداع والفنون من أجل سعادة الإنسان وحرّيّته وكرامته، ولذلك تأبى الثّقافة الإنسانيّة قوميّة كانت أم دينيّة أم وطنيّة أن تكون بلا موقف يعادي الشّرّ والاستعباد والحرمان والاحتلال والهوان والذّلّ وفرض الإرادة فرضًا ترفضه الفطرة الإنسانيّة بطبيعتها التّوّاقة للخير والمتوثّبة نحو السّعادة البشريّة، وأيّ ثقافة ترتضي غير هذا الموقف المعادي للمفاسد أيًّا كانت وترفض القيم الإنسانيّة والمفاهيم العظيمة فليست هي ثقافة إنسانيّة أصيلة وقويمة بل هي ثقافة مضادّة، رذيلة وهمجيّة تسعى لاستعباد الإنسان لأخيه الإنسان بكافّة المعاني، ولذلك من الأشرف للإنسان ألّا يدخل في متاهات استغلالها الظّالمة أو في دهاليز أشرارها وغياهبها المظلمة. كان من عادة أبي، “أحمد محمّد الهيبي” (1928 – 2004) المحبّ للكتب والعلم من قلائل القارئين الكاتبين في قرية “ميعار” المهجّرة في عام “النّكبة” (1948) فقد تتلمذ على خطيب القرية وتعلّم قراءة القرآن والكتابة ومبادئ الحساب، وكان يمتاز كسائر المتعلّمين في ذلك الوقت بحسن الخطّ وسلامة كتابة الحروف، كان يقول لأمّي “عيشة محمّد كريدي هيبي” (1925 – 1994) يعود أصلها إلى مدينة “صفد” الفلسطينيّة المهجّرة والّتي أصبحت بكفر كافر وفجر فاجر وقهر قاهر مدينة “تسفات” اليهوديّة، كان يقول لها أبي: “وصّي الأولاد بالتّعليم واللي بستحقّ منهن وبرغب بعلّمه ولو بشحد”! وهذا ما حدث وكنت واحدًا ممّن تعلّموا من بين أخوتي في مدرسة “يني” الثّانويّة بصعوبة ولكن دون أن “يشحد” أبي. كان أبي حاديًا أو شاعرًا شعبيًّا يغنّي في الأفراح والأعراس كلّ أنواع الغناء الشّعبيّ الفلسطينيّ من عتابا وفرعاويّة وشروقي وقصيد ومعنّى وحداء المثنّى والمربّع والمثمّن والمخمّس المقلوب وغيرها، كان عندما يدعى لإحياء فرح بالزّواج في قرية من قرى منطقة “النّاصرة” يضطرّ للسّفر إلى “النّاصرة” والعودة منها، فكان يدخل علينا بثلاثة: “كيس قضامة” يعني حمّص أبيض “محمّص” غير مقشور و”صفت حلو نصراوي” من “الهريسة” أو “الغريّبة” أو “المعمول”، ويحمل كتابًا، ولذلك كان أبي يملك مكتبة متواضعة فيها عشرات الكتب الّتي تصل إلى مئة كتاب ولا أكثر من ذلك! وعلى ذلك القليل بدأت تبرعم معرفتي وثقافتي الأولى، وكان أبرزها ديوان “المتنبي” (915 – 965) وديوان “أبو تمّام” (803 – 845) وعبقريّات “عبّاس محمود العقّاد” (1889 – 1964) وكتب للأزهريّ المتنوّر “خالد محمّد خالد” (1920 – 1996) وأشهرها كتاب “بين يدي عمر” وكان من أوائل الكتب الّتي قرأتها في مستهلّ حياتي وأنا في بداية المرحلة الثّانويّة. في مقدّمة كتابه قال “خالد محمّد خالد”: لست أكتب تاريخًا لعُمر ولن أزيد النّاس بعظمته وعلوّ شأوه، ولكنّي أصغي إلى أمير المؤمنين لا أكثر وأتطلّع إليه لا أقلّ”، ولعلّي بانتهاج الكتابة الموضوعيّة عن عظمة “عمر” وسائر العظماء بروحي الذّاتيّة وأسلوبي الخاصّ ما يجعلني أردّد ولا ابتعد عمّا قاله الشّيخ الأزهريّ.

عمر من العظماء:
لأنّه الفاروق “عمر بن الخطّاب” (586 – 644) كان ثائرًا على الجمود الفكريّ والتّقوقع ضمن أسوار من الخمول العقليّ وضدّ التمسّك بالنّقل الآليّ بالمفهوم الجدليّ للحياة. لقد أبى “عمر” الرّكون إلى قيود الدّوائر المظلمة للفكر الإنسانيّ والإسلاميّ، وكان أكثر من يجلّ العلماء وأعظم ما يجلّ العلم والإشراق الفكريّ والرّأي السّديد، ومن هنا كان كثير الإعجاب والتّقدير لصديقه المقرّب ومستشاره الأوّل الخليفة الأخير “علي بن أبي طالب” (599 – 661) الّذي نُعت في تاريخنا الإسلاميّ بِ “بوّابة العلم”، وكان “عمر” على سعة معرفته وحسن تقديره وسداد رأيه عندما يُغمّ عليه لا يلجأ أوّلًا إلّا إلى “عليّ”، مع أنّه كان يستشير الكثيرين من الصّحابة ويجلّ آراءهم ولا يهمّشهم حتّى يستفرد بالقرار، العكس هو الصّحيح فقد كان “عمر” مثال الحاكم الدّيمقراطيّ لّذي يصل به الأمر إلى حدّ جمع النّاس لتبادل المشورة والرّأي، ولطالما كان يعرض الأمر على النّاس من خلال خطبة يجمعهم لسماع آرائهم في موضوع كبير وهامّ، ولكنّ “علي” كان أوّل المستشارين، وهو الّذي كان يروي ظمأ جهله أو حيرته في موضوع ما، ولذلك كان يردّد بعد سماع رأي “علي”: “لا حرمنا الله من رأيك يا أبا الحسن”. أو: “لا أحياني الله بأرض لا تكون فيها يا أبا الحسن”. ولعظمة “عمر” أركانها وتفاصيلها. لا يهمّني ماذا قال الآن ولا يهمّني ما قيل عنه حتّى من النّبيّ (570 – 632) لكن ما يهمّني بماذا آمن واهتمّ وماذا فعل سواء قبل أن يصبح خليفة وأميرًا للمؤمنين أو قبل ذلك وهو صحابيّ من المقرّبين، وحتّى قبل ذلك ولمّا يعتنق الإسلام، بل كان عدوًّا له لفترة قصيرة قبل البعثة النّبويّة، ومن ثمّ لم تخرج الدّعوة من السّرّ إلى العلن إلّا بعد إشهار إسلامه وهنا يكمن سرّ ثورته، وبعد إعلان إسلام “حمزة بن عبد المطّلب” (518 – 625) عمّ الرّسول وشهيد غزوة “أحد”. ما يهمّني من “عمر” هو ثورته الخلّاقة هذه الّتي امتدّت منذ إعلان إسلامه حتّى اغتياله وغيابه عن مسرح السّياسة والحكم في الدّولة الإسلاميّة الّتي كان مؤسّسها الحقيقيّ بلا منازع.
والحقيقة المؤكّدة أنّ الإسلام أعزّ “عمر بن الخطّاب” وأعلى من شأنه ورفع من مكانته وصقل شخصيّته ونقّاها من كلّ شوائب الجاهليّة ومثالبها بعد اعتناقه الدّين الجديد، وأنّ اعتناق “عمر” للإسلام نقل الإسلام إلى مرحلة جديدة ثوريّة، إذ قوي عوده واشتدّ فانتقل من مرحلة الخوف والحيطة والحذر إلى مرحلة المواجهة والمقاومة والثّورة، وبذلك أعزّ “عمر” الإسلام تحقيقًا لدعاء النّبيّ: (570 – 632) “اللّهمّ أعزّ الإسلام بأحد العمريْن” أو “بأحبّ الرّجليْن إليك” والرّجلان هما “عمر بن الخطّاب” وَ “عمرو بن الحكم” (572 – 624) وكانا أشدّ أعداء المسلمين والإسلام، ولكنّ “عمر بن الخطّاب” أسلم وصار من أبرز قادة المسلمين ولقّب بِ “الفاروق” لعدله ونزاهته وقسوته في الحقّ وصرامته في سياسة الأمور، وظلّ “عمرو بن الحكم” على غيّه وكفره وجاهليّته وشدّته على المسلمين من المستضعفين والفقراء والعبيد وعداوته للنّبيّ والإسلام ولقّب بِ “أبو جهل” وقتل في غزوة “بدر”. لأنّ “أبو جهل” وزعماء قريش جميعًا رأوا في الدّعوة الإسلاميّة ثورة سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة تأتي نقيضًا وعدوًّا قادمًا جاء ليدكّ أسس الكيان الجاهليّ والنّظام القبليّ وقيمه وعاداته البائدة ونظمه الأخلاقيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة. ثورة العبيد والفقراء والمستضعفين على مستعبديهم وظالميهم وأسيادهم الأغنياء.
نشأة عمر الأولى:
هو “عمر بن الخطّاب بن نفيل بن عبد العزّى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عديّ” يعود نسبه إلى “مخزوم” من “قريش”، فهو عدويّ مخزوميّ مولود في “مكّة” سنة (586م) وقبل الهجرة بحوالي 40 سنة، وبعد حرب “الفِجَار” بأربع سنوات، وهي حرب جاهليّة بين قبيلة “قريش” وحلفائها من كنانة وقبيلة “قيس عيلان” وحلفائها من “غطفان” وَ “سليم”، وقد سمّيت بذلك الاسم لما ارتكبه الفريقان من محارم بحقّ حرمة الزّمان وحرمة المكان الّتي تعوّدت على الالتزام بها قبائل العرب، فقتلٌ في الأشهر الحرم ودماء في البيت الحرام، وقد دامت لسنوات منذ سنة (590م) وشارك الرّسول فيها بتزويد المقاتلين من أعمامه بالنّبال وقد كان عمره 20 عامًا. كان جدّ “عمر” من أشراف القوم يتوافد إليه النّاس المتخاصمون ليتحاكموا، وأبوه من وجهاء بني عديّ، لكنّه ربّاه تربية قاسية خشنة، فتعوّد الصّبر وتحمّل المسؤوليّة والجلد، فقد كان أبوه يكلّفه بأعمال شاقّة، ويعاقبه على أيّ تقصير ولو كان بسيطًا، فنشأ “عمر” شابًّا، قويًّا، شجاعًا، صُلبًا ومهيبًا، إذ ورث عن أبيه صرامة لا تعرف الوهن ولا يرنّحها التّردّد وتصميمًا لا يعرف أنصاف الحلول. وأمّه “حنتمة بنت هشام أو هاشم المخزوميّة” وبذلك تكون أخت “أبو جهل” أو ابنة عمّه. لقد نشأ “عمر” فقيرًا معوزًا، يرعى الأغنام والإبل لأبيه وخالاته، ولعلّ هذا الفقر كان أهمّ مركّبات شخصيّة “عمر” فيما بعد، إذ جعله قادرًا على تذليل الصّعاب وشديد الإحساس بمشاعر الفقراء والمساكين والمحتاجين، ومن هذا المنطلق تربّى وتعوّد على تحمّل المسؤوليّة قبل إسلامه وبعده.
ولعلّ ما لاقاه في نشأته الأولى هو ما كان له كبير الأثر في تركيب شخصيّته فيما بعد، قبل اعتناق الإسلام وبعد اعتناقه. فقد تربّى على أبيه تربية أبعد ما تكون عن الرّاحة والتّرف، وقد رُوي عن “عمر” أنّه وصف شدّة عيشه في مرحلة الطّفولة قائلًا: “لقد رأيتني وأخيّة لنا، وإنّا لنرعى على أبوينا ناضحًا لهما، فنغدو فتعطينا أمّنا يَمِينَيْها من الهبيد – وهو حبّ الحنظل يصنع بطريقة تجعله قابلًا للأكل – ثمّ تلقي علينا نقبة – وهي قطعة من الثّوب – فإذا طلعت الشّمس ألقيتُ النّقبة على أختي، وخرجت أتبعها عريان ثمّ نرجع إليها وقد صنعت لنا لفيْتة من ذلك الهبيد، فنعتاش فيها خصبة”.
هل أحد يتصوّر أو من الممكن أن يؤمن بأنّ ما صار إليه “عمر” في التّاريخ الإسلاميّ من خلافة وإمارة مؤمنين وقيادة أمّة، أنّ هذا الرّجل كان كافرًا وجاهليًّا ومعاديًا للإسلام في بداياته الأولى. هذا الرّجل الّذي قال عنه النّبيّ: “لو كان ثمّة من نبيّ بعدي لكان عمر بن الخطّاب”. هذا الّذي كانت شدّته على المسلمين تفوق أذى “قريش” كلّها، حتّى قال عنه أحد العبيد الّذين كان يعذّبهم “عمر” لإسلامهم إنّه: “قد يسلم حمار الخطّاب قبل يسلم عمر” فهل كان فعلًا “عمر” جاهليًّا وكافرًا ويعادي الإسلام والمسلمين. لمَ لا! فالرّجل كان على دين آبائه العقيم وعلى أخلاق جاهليّتهم وعلى منهج حياتهم الاجتماعيّة ومروءتهم وسائر مناقبهم ومثالبهم وعاداتهم وسلوكيّاتهم الإيجابيّة والسّلبيّة كذلك. ولكنّ “عمر” هذا أسلم في لحظات هدوء قليلة، حاسمة ومفصليّة. وصارت شدّته على كفر “قريش” ومقاومته كفّارها تعادل وحدها شدّة المسلمين ومقاومتهم لكفرها وكفّارها.
من الفقر إلى الغنى:
بعد فترة رعي الغنم في الطّفولة والشّباب المبكّر، فترة الفقر المدقع والحياة الشّبيهة بالعبوديّة، انتقل “عمر” إلى مرحلة متقدّمة من الشّباب الطّائش في ظلّ إيمانه بالوثنيّة القبليّة وبعد عمله بالتّجارة في بلاد الشّام صيفًا وفي بلاد اليمن شتاء “لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشّتاء والصّيف” (القرآن الكريم، سورة قريش رقم 106، الآية 1-2) كان شابًّا يشرب الخمر ومغرمًا بالنّساء، بل كان يكثر من شرابها على حدّ قوله: “وإنّي كنت لأشرب النّاس لها في الجاهليّة”. ولعلّ الإكثار من شرب الخمر والجري وراء الشّهوة الجسديّة كانتا علامة من العلامات القديمة تاريخيًّا على الطّيش والمجون والانحراف عن جادّة الصّواب، وما زالت هذه العلامة قائمة حتّى حاضرنا المعاصر، وليس في المجتمع العربيّ فقط، بل في المجتمع الإنسانيّ عامّة. انتقل “عمر” إلى التّجارة وجمع ثروة كبيرة حتّى أصبح أكثر القرشيّين مالًا، لقد أغدق المال والثّروة على “عمر” الجاهليّ ميلًا نحو الغيّ والضّلال. ولعلّ المال والقدرة الاقتصاديّة كذلك ومنذ الأزل وإلى الأبد سيبقيان سببًا وجيهًا وركنًا يستند إليه في إعلاء المكانة الاجتماعيّة والسّياسيّة. هذا بين الأفراد أمّا بين الدّول فلا شكّ بأنّ القدرة الاقتصاديّة قادرة على صنع المكانة السّياسيّة الّتي تمكّن تلك الدّول من التّأثير والهيمنة والتّسلّط والاستئثار وفرض المفاهيم. ألم يستخدم سادة “قريش” استحواذهم على المال وسيطرتهم على التّجارة وهيمنتهم على الأسواق كوسائل وأسباب لفرض مفاهيمهم القبليّة الجاهليّة سياسيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا وأخلاقيًّا!
لقد اكتسب “عمر” ووفقًا لهذه المفاهيم مكانة عظيمة عند “قريش” وصار سفيرهم إلى القبائل لما تميّز به من قوّة الشّخصيّة ورجاحة العقل ولما كان لجدّه وأبيه من مكانة وعلوّ شأن في “قريش”. وإلى جانب ذلك نمّى “عمر” في شخصيّته كلّ أسباب القوّة، ومنها زيادة على مكانته الاجتماعيّة وقيمته بين رهطه وقدراته النّفسيّة والاقتصاديّة اهتمامه بقوّته الجسديّة ورياضة بدنه، فتعلّم الفروسيّة وركوب الخيل والمصارعة والرّماية، كان كما وصف “الأعسر اليَسَر الّذي كان يصارع في سوق “عكاظ”، رجل قويّ، مجدول اللّحم، مشرّب بالحُمرة، غليظ القدميْن والكفّيْن، عريض المنكبيْن، فاره الطّول، شامخ، عملاق، لم يسر بين قوم قط إلّا كان أعلاهم رأسًا من فرط طوله”. وكذلك تعلّم الخطابة والكتابة وقرأ الشّعر وأنساب العرب، فصار حكيمًا، بليغًا، ذكيًّا، شريفًا وحليمًا، يدافع عن أخلاق قبيلته وعبادتها، ولذلك كان شديد العداء للإسلام عند ظهوره، وقام بتعذيب من أسلم من بني “عديّ”، ومنهم أخته “فاطمة” وزوجها “سعيد بن زيد” (600 – 671) وكان يضرب جارية من قومه وحين يتعب ويملّ من ضربها يتركها إلى أن اشتراها “أبو بكر الصّدّيق” (573 – 634) ولكنّ صمود تلك الجارية المسلمة إزاء التّعذيب والضّرب – وإن أتعب “عمر” – ترك فيه أثرًا إيجابيًّا سيكون له صدًى عظيم. هذا الرّجل المهيب الّذي كان أشدّ الرّجال يخاف من مهابته، يكون لثلاث نساء ضعيفات أثر على تحوّله للإسلام منهنّ هذه الجارية الصّابرة والصّامدة، هذا الرّجل الّذي دفعه إيمانه القويّ بوثنيّته وعصبيّته إلى أن يتقلّد السّيف ويمضي لتخليض “قريش” من “محمّد” ودعوته، يمضي لقتله ولا يرافقه إلّا الغيظ والحقد، يوقفه رجل في الطّريق هو “نُعيم بن عبد الله القرشيّ” (توفّي سنة 15ه) يوم “اليرموك” في خلافة “عمر” وهو مسلم تستّر على إسلامه إتّقاء للتّعذيب، استوقفه ليبلغه ما يحدث في بيت أخته من اعتناقها وزوجها الإسلام، لأنّه عندما رأى الغيظ في نفس “عمر” وعلى وجهه أراد إلهاءه كي يصدّ أذاه فلا يصل إلى النّبيّ، ولو بكشف سرّ خطير، ويدخل بغيظه وحقده على “فاطمة” أخته وزوجها وبعد زمجرة وقهر تسقط ورقة فيقرأ بعد أن اغتسل: “طه. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. إلّا تذكرة لمن يخشى.” (القرآن الكريم، سورة طه، رقم 20، الآيات 1- 3) فيخشى “عمر ” ويخشع قلبه وتهدأ ثورته وتلين نفسه وتدرّ عيونه ويبكي ويمضي إلى “محمّد” معلنًا إسلامه بعد أن أسلم “حمزة” بثلاثة أيّام وكان ترتيبه الأربعين بعد تسعة وثلاثين أسلموا قبله، ويعزّ الله الإسلامَ به، ويعزّ الإسلامُ “عمر” ويكسبه شخصيّة جديدة مغايرة ومقاومة. هذا الرّجل “عمر” أعلن إسلامه أمام خاله “أبو جهل” الّذي شاركه في تعذيب المسلمين وثار من أجله بعد أن أهانه “حمزة” بلطمة على خدّه، فيثور ويستشيط غيظًا ويصرخ بظلاميّة في وجه “عمر” المشرق: “قبّحك الله وقبّح ما جئت به” وأصابت “قريش” كآبة رهيبة بعد إسلامهما: “حمزة” وَ “عمر”، ومضى الرّجل في طريقه الجديد لا ينظر إلّا إلى أمام حيث الأمل السّاطع بحياة جديدة مكافحة ومقاومة للظّلم والاستعباد، حياة عربيّة وإنسانيّة كريمة وعدالة وحرّيّة تنقل النّاس من ظلمات الجهل والظّلم والعبوديّة إلى نور التّحرّر والعلم والمساواة. حياة حدّد فيها “عمر” طريقه وفرّق بين ما هو حقّ وما هو باطل، فكان “الفاروق” كما لقّبه الرّسول بعد دخوله البيت الحرام علنًا. فصارت العرب أمّة متآلفة بعد أن كانت قبائل متناحرة.
أحبّ “عمر” الجاهليّ المال والثّروة لأنّهما جلبا له المكانة الاجتماعيّة المرموقة بين قومه بني “عديّ” وبين سائر بطون “قريش”، ولكنّ “عمر” المسلم صار يزهد بالمال، وكان على استعداد أن ينفق كلّ ثروته الكبيرة لخدمة الدّين الجديد ولو بكسب معتنق جديد أو موقف مفيد أو لدفعة بسيطة من أجل تقوية الدّعوة الإسلاميّة، وكانت ما زالت في مهدها عودًا طريًّا، فقد قال لأحد المهاجرين إلى “المدينة” وهو “عيّاش بن ربيعة” (توفّي سنة 15ه) وقد أراد العودة إلى “مكّة”، إذ أحسّ “عمر” بتردّد ما يخالج نفسه فخاف من تراجعه عن الإسلام، فقال له: “إنّك لتعلم أنّي من أكثر “قريش” مالًا، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما”، وقد قصد “عمر” عدوّيِ المسلمين: “عمرو بن الحكم” وَ “الحارث بن هشام” (توفّي سنة 18ه) فأعجب الرّجل بكرم “عمر” وتفانيه فرفض المال وظلّ على إسلامه.
اللهمّ أعزّ الإسلام بأحبّ العمريْن إليك:
هكذا دعا النّبيّ “محمّد” وهكذا استجاب الله، وكان “عمر بن الخطّاب” هو الأحبّ إلى الله، وحقيقة يجب أن تسجّل لصالح “عمر”، فقد أعزّ الله الإسلام بعد أن أسلم “عمر”، وبإسلامه تحوّل الدّين – كما قلنا من قبل – من دين الحيطة والحذر والخوف إلى دين المواجهة والتّحدّي والكفاح من أجل إحقاق الحقّ، وانتقلت الدّعوة من السّرّ إلى العلن، ولم يعد “بلال” يؤذّن في الجرّة، بل صارت الدّعوة والأذان على رؤوس الأشهاد، ولو كره الكافرون، وزهق الباطل “إنّ الباطل كان زهوقا”. (القرآن الكريم، سورة الإسراء، رقم 17، الآية 81) وثمّة قصّة التقى فيها شيخ جليل وفتًى أعرابيّ يرعى الغنم عند أحد سادة “قريش” وما أن رأى الفتى الشّيخ حتّى بادره بالقول:
هل علمت النّبأ العظيم يا أخا العرب؟
أيّ خبر يا بنيّ؟
ذلك الرّجل الأعسر اليَسَر! (الأعسر اليَسَر هو الّذي يعمل بكلتا يديْه: اليسرى واليمنى)
ويسأل الشّيخ:
الّذي كان يصارع في سوق “عكاظ”!
أجل .. هو ..
ما باله يا فتى؟
لقد أسلم! واتّبع محمّدًا!
ويستفيق الشّيخ من دهشته وقد كست وجهه حكمة السّنين وتجارب الزّمن:
أما والحقّ لَيوسِعنّهم خيرًا .. أو لَيوسِعنّهم شرًّا!
نعم كان إعلان إسلام “عمر” نبأً عظيمًا، وما يؤكّد هذه العظمة قول “عبد الله بن مسعود” (توفّي سنة 32ه): “ما زلنا أعزّة منذ أسلم عمر، كان إسلامه فتحًا وكانت هجرته نصرًا وكانت إمارته رحمة، وما رأيتنا نصلّي بالبيت حتّى أسلم عمر”. نعم كان إسلام “عمر حدثًا مفصليًّا في بدايات البعثة النّبويّة وعلامة تاريخيّة فارقة في المسيرة الّتي أخرجت النّاس من ظلمات الجاهليّة والوثنيّة إلى نور الدّين الواحد وسطوع الحقّ وسيادة العدل. لقد ظهر غد الإسلام كضوء الفجر منذ أن قال “عمر”: “لا إله إلّا الله، محمّد رسول الله”. كان لتلك الشّهادة وقع وأثر عظيم لا يؤتى إلّا من عظيم، كانت خارقة من الخوارق العظيمة الخالدة. لقد تمّ التّحوّل الفاصل في حياة “عمر” وحياة المسلمين في مثل لمح البصر، رجل كان في متاهات الوثنيّة وظلامها وفي غياهب الجاهليّة وأباطيلها فصار في أعلى درجات الهدى والإيمان بالدّين الّذي يؤمر بالمعروف ومكارم الأخلاق وينهى عن المنكر والفحشاء وفساد الأخلاق. كان إيمانه القديم إيمان التّقليد لسنّة الآباء ودينهم الباطل الأعمى عن الحقّ والّذي يحجب العقل عن نور الحقيقة ويمنع القلب عن بهجة الصّدق والعدل والحرّيّة وكرامة الإنسان.
وهذه هي طبيعة “عمر” العاشق لطرح الأسّئلة، فقد كان أكثر الصّحابة سؤالًا واقتراحًا على الرّسول ويقبل الرّسول اقتراحاته المصيبة، كانت طبيعة “عمر” تميل إلى التّحرّر العقليّ وتأبى التّبعيّة والطّاعة العمياء بلا فكر حرّ ورأي سديد ويرى بالإذعان والرّضوخ طريقًا للظّلام والظّلاميّة وجمود الإبداع وتحجّر كتحجّر الجاهليّة العقيمة، ولكنّه بعد التّحوّل العظيم رأى “النّاس سواسية كأسنان المشط” وفي مجرّد هذه الرّؤية ثورة سياسيّة واجتماعيّة وحضاريّة شاملة على مفاهيم الوثنيّة دينيًّا وخلقيًّا وعلى أنماط سلوك العصبيّة القبليّة وعلى التّفاوت بين النّاس طبقيًّا واجتماعيًّا في الجاهليّة بين أسياد أغنياء وظالمين وعبيد مسحوقين ومظلومين، وكان “عمر” قد اتّخذ في الموقف النّهائيّ الشّجاع مكانه في خندق العبيد والمسحوقين وسائر المظلومين. ومن هذه الشّجاعة النّادرة والشّخصيّة العظيمة والإيمان الرّاسخ بالحقّ سأل الرّسول:
ألسنا على حقّ في محيانا ومماتنا؟
بلى يا “عمر” والّذي نفسي بيده إنّكم لعلى الحقّ إن متّم أو حييتم.
فيقول “عمر” بقوّة رؤية صارمة ورسوخ موقف ثابت: “ففيمَ الاختفاء إذن! والّذي بعثك بالحقّ لتخرجنّ ولنخرجنّ معك”!
ويخرج الأربعون الأوائل من المسلمين وأحدثهم عهدًا به “عمر” وَ “حمزة”. يخرج النّبيّ للمواجهة والمقاومة على رأس صفّيْن: صفّ يقوده الفاروق “عمر بن الخطّاب” وصفّ يقوده عمّ الرّسول الأسد “حمزة بن عبد المطّلب” (568 – 625) فيا لعظمة “عمر”! ويا لعظمة “حمزة”! منهما وهنا تندلع شرارة انطلاقة المقاومة الباسلة نحو الحرّيّة والحياة الكريمة والعدالة الاجتماعيّة. من هنا بدأ العبد الحرّ “بلال بن رباح” (573 – 635) يفوق سيّده “أميّة بن خلف” (توفّي سنة 624) مكانة وجلالًا. من هنا بدأ المسار الجليل والطّويل، وفصل جديد من فصول المعذّبين في الأرض على طريق الآلام، هذا الطّريق الّذي لم يكن مفروشًا بالورود، بل كان متراكم الأشواك ودائم المعاناة، كطريق “المسيح” (1 – 33) وَ “سبارتاكوس” (111 – 71 ق.م) وَ “سيف بن ذي يزن” (516 – 574) وطريق كلّ المناضلين العظماء والشّرفاء على مدى التّاريخ القديم والوسيط والحديث. كان إسلام “عمر” وثورته نقطة ضوء ثاقبة وومضة إيمان ساطعة في هذا الدّرب الطّويل والعسير والمثير والمرير.
من الغنى المادّيّ إلى الغنى الرّوحيّ:
أسلم “عمر” وآمن بوحدانيّة الله ورسالة “محمّد” والدّعوة إلى الدّين الجديد الوافد من سرمد السّماء وسموّ الرّوح والنّاس سواسية كأسنان المشط، وكفر بالجاهليّة والعصبيّة القبليّة الملتصقة بدناءة الطّين واللّهو واللّعب وفساد الجسد وفناء الشّهوات وبتسلّط أسياد “قريش” وكفرهم واستعبادهم للنّاس، لقد شرح الإسلام صدر “عمر” وطهّره من أدران الوثنيّة ومن غياهب الظّلام وبؤس الظّلاميّة وأسس الجهل. هذا الرّجل الّذي كان جلّ دأبه في الماضي التّجارة وجمع المال والجري وراء الشّهوات الجسديّة كالخمر والنّساء صار مستعدًّا أن ينصرف عن كلّ الشّهوات والآثام القديمة وينفق كلّ ماله في سبيل الإسلام الجديد وانتصار رسالته وتحقيق أهدافه الإنسانيّة السّامية وشرائعه الحنيفة السّمحاء.
بإسلام “عمر” انطلق الأذان الّذي كان مكبوتًا بالقهر والجاهليّة، وصار عبيد “مكّة” الأحرار يشمخون عاليًا بنور حرّيّتهم بعد أن كانوا مغيّبين في ظلام العبوديّة، “الله أكبر .. الله أكبر” آنئذٍ هو صوت الكفاح والمقاومة من أجل الحرّيّة والمساواة والكرامة الإنسانيّة، وهو الآن عند المسلمين والعرب في إسرائيل صوت للعروبة وترسيخ لانتمائنا للهويّة القوميّة العربيّة مثله في ذلك كمثل صوت أجراس الكنائس العربيّة لأنّها كذلك نواقيس عروبة الوجود والهويّة، زيادة على كونه جزءًا من الطّقوس الدّينيّة كنداء للصّلاة، وهو الصّوت الّذي لا تطيق المؤسّسة الحاكمة من اليمين الإسرائيليّ سماعه وتبرمج وتخطّط لسنّ قانون لمنعه من على مآذن الجوامع. ولذلك من المهمّ لهذا المجتمع العربيّ الفلسطينيّ أن يبقى “الله أكبر .. الله أكبر” مجلجلًا من فوهّات مكبّرات الصّوت في سماء قرانا ومدننا العربيّة حفاظًا على ثقافتنا الوطنيّة وتراثنا الأصيل وعلى شخصيّتنا القوميّة المتميّزة في هذه الدّولة الّتي تدّعي يهوديّتها بديمقراطيّة زائفة وتميّز عنصريًّا ضدّ العرب من مواطنيها، فما أشبه العنصريّة الصّهيونيّة اليمينيّة الحديثة بالجاهليّة القديمة! ولا غرو فإنّهما تأكلان من جيفة زقّوم الحقد وغسلين الظّلم الفاسد وتشربان من المستنقع الآسن نفسه شرب الهيم “كالمهل يغلي في البطون” (القرآن الكريم، سورة الدّخان، رقم 20، الآية 45)
في كتاب “عبقريّة عمر” ورغم ما قاله “عبّاس محمود العقّاد” عنه: “إنّه أصعب مَن عرفت من عظماء الرّجال، لقد كان غاية في البأس وغاية في العدل وغاية في الرّحمة”، ورغم هيبته الّتي رآها فيه النّبيّ، وقد قالت عائشة: “حتّى الرّسول كان يهابه” ومع ذلك فقد كان التّواضع أحد أبرز مفاتيح كثيرة لشخصيّة “عمر” وأحد أركان عظمته النّابعة من التّقوى والخوف من الله والحساب العسير، هذا الرّجل الّذي قال: “لقد كنّا ولسنا شيئًا مذكورًا حتّى أعزّنا الله بالإسلام فإذا ذهبنا نلتمس العزّ في غيره ذللنا”. ولكنّ أيّ إسلام ذاك الّذي آمن به “عمر” وأراده! إنّه إسلام الفطرة الإنسانيّة الّتي لا يستطيع أن يكون نقيضها أيّ دين، وهي فطرة “عمر” وطبيعته بعد أن آمن بإله واحد يعبد في السّماء وركل بعصاه كلّ الآلهة الوثنيّة الكثيرة، إنّها فطرته المتناسقة والمنسجمة بعمق مع إسلام الرّوحانيّة الطّاهرة من كلّ أدناس المادّة والهاربة من كلّ الشّهوات الدّنيويّة، لقد قال “عمر” إيمانًا منه بالصّدق الدّاخلي وصفاء النّفس وطهرها: “لا تنظروا إلى صيام امرئ أو صلاته، ولكن انظروا إلى من إذا حدّث صدق وإذا ائتمن أدّى وإذا أشفى ورع” (أشفى تعني كاد يقع في المعصية ولكنّه ارتدع) الإسلام عند “عمر” سلوك عمليّ وطهارة فعليّة والفرائض جوهر وليس مظهرًا. إنّ الإسلام بنظر “عمر” حركة مقاومة وكفاح عقائديّ ضدّ النّفس الأمّارة بالسّوء وميدانيّ ضدّ الظّلم والظّالمين ومع الثّورة على استئثارهم واستعبادهم وظلمهم للنّاس بالاعتماد على الغنى الفاحش والمنهوب من كدّ الفقراء والعبيد والمستضعفين. كان يردّد بعد تسلّمه أمر المؤمنين وليس المسلمين فقط كمسؤول يستطيع أخذ جميع السّلطات والصّلاحيّات إلى يديه يؤمر بها ويطاع، ولكنّ “عمر” لم يكن كذلك بل كان ديمقراطيًّا يؤمن بفصل السّلطات ويحسّ بسلطة تراقبه ويخافها من النّاس في الأرض، ولكنّها مستمدّة من الله ومخافته في السّماء، ولذلك كان يقول لمن يلومه على الوقوف عند كلّ صغيرة أو كبيرة: “ماذا ستقول لربّك غدًا”؟ وجريه وراء بعير شارد ليس لقيمة البعير المادّيّة بل للخوف من الرّقيب والمحاسب، وقصص كثيرة تدلّ على “عمر” المتقشّف لابس المرقّعة وآكل الخشن من الطّعام، “لو ماتت شاة على شطّ الفرات لظنّنت أنّ الله سائلي عنها يوم القيامة”، حتّى لقد قال له “عليّ بن أبي طالب” مرّة: “لقد أتعبت من سيأتي بعدك”! دلالة على العدالة والتّقوى والعدول عن مظاهر الدّنيا والتّمسّك بالمسؤوليّة إلى حدّ عزل الولاة والمسؤولين إذا حادوا أو انحرفوا وإلى حدّ محاسبة ذلك الوالي الّذي أرسل إليه هديّة ثمينة وشهيّة من الطّعام فرفضها وأعادها لأنّ أحدًا من فقراء تلك الولاية لم يطعمها. لقد أغنى الإسلام بتلك المفاهيم العظيمة طبيعة “عمر” وأثرى فطرته وأقام شخصيّته على العدل بين النّاس والرّفق بهم، فغدا عظيمًا ورحيمًا يبكي لجوع طفل وعادلًا صارمًا ينزل أقصى العقوبة بوالٍ كبير، غدا “عمر” مهيبًا كهيبة الإسلام، فامتلأ ثراء روحانيًّا خالدًا بعد أن كان ينعم بثراء دنيويّ فاسد ومادّيّ فانٍ.
عمر صاحب الفكر الجدليّ:
منذ أن بُعث النّبيّ وأسلم “عمر” لم ينفكّ عن السّؤال والاقتراح وحقّ الحوار، حتّى في أمسّ القضايا وأهمّها. لست متأكّدًا إذا كان “عمر” صاحب فكر مادّي، بالرّغم من أنّه لا يقبل الأمور كمسلّمات مطلقة إلّا الإيمان بالله وبدعوة رسوله، ومن الصّعب وفقًا لما لمسته من شخصيّته وفكره أن أجزم بأنّ رجلًا مثل “عمر” في زمانه البعيد ذاك وظروف حياته بأنّه آمن بأنّ “المادّة قبل الوعي” أوّل مقولات الفكر الماركسيّ وأهمّها، ولكنّه بالتّأكيد كان صاحب فكر منهجيّ جدليّ يدرك العلاقة العضويّة بين تراكم الأحداث وتأثيرها المتبادل، وكلّ أمر غير الإيمان بالله وسائر أركان الإيمان وأسسه عند “عمر” ليس مطلقًا بل هو جدليّ قابل للأخذ والرّدّ والنّقاش والجدل حتّى صرامة النّصوص الشّرعيّة والأحكام الدّينيّة، ومؤكّد ذلك عن “عمر” لو انسحبت المصطلحات الفلسفيّة الحديثة على ذلك الزّمان. كان “عمر” لا يقبل الأمور كأمور متّفق عليها وغير قابلة للنّقاش والجدل والأخذ بالأفضل، حتّى لو عارضت أفكاره أفكار سلفيْه: النبّيّ وخليفته الأوّل “أبو بكر الصّدّيق”، مع أنّه كان أمينًا لنبوّة الأوّل ومخلصًا لخلافة الثّاني، ولطالما حدث ذلك الخلاف في أمور مصيريّة ومواقف مستجدّة أو طارئة، وبمجرّد قبول “عمر” بالهجرة إلى “المدينة المنوّرة” وإن هاجر علنًا ومن دافع قوّة، فإنّه لم ينظر إلى الأمر من زاوية ضيّقة بل من واقع شديد العلاقة بأوضاع المسلمين المستضعفين والإسلام آنئذٍ لمّا يشتدّ عوده، وإلّا لو أُخذ الأمر على المستوى الفرديّ والشّخصيّ لبقي “عمر” في “مكّة” ولا يجرؤ على مسّ جانبه أو الدّوس على طرفه أحد من “قريش” مهما عظم شأوه وعلا شأنه.
وقد سبق موقف الهجرة موقف مثير وعظيم آخر هو اقتراحه على النّبيّ بالمجاهرة والمقاومة، فلن يستمدّ الإسلام قوّة وهو مختبئ في البيوت والمُغر والشّعاب ودار “الأرقم” البعيدة الواقعة في ظاهر “مكّة”، ويخاف المسلمون من الصّلاة جهرًا أو الإعلان عن إسلامهم خوف التّعذيب والقتل. وقبل النّبيّ باقتراح “عمر” وأعلن عن الجهر بالدّعوة والمواجهة العنيفة مع “قريش” وبدأ الإسلام يمتدّ وساعدُ المسلمين المستضعفين يشتدّ، وانتقلوا من مواقع العبوديّة والعذاب والضّعف والدّفاع إلى مواقع تحمّل المصاعب والقوّة والكفاح والمقاومة، ومن ثمّ الهجوم على أعدائهم من أسياد “قريش” وأغنيائها الظّالمين والمستكبرين، وانتصروا عليهم انتصارًا عظيمًا في “بدر” سنة (624)
هذه الشّخصيّة الفريدة من نوعها في التّاريخ الإسلاميّ والعربيّ والإنسانيّ وبالرّغم من خضوعها الكامل لله الواحد الخالق، وبالرّغم من إيمانها المطلق بالنّبيّ رسولًا مبعوثًا، إلّا أنّه كان شخصيّة تتمتّع بمسووليّة فرديّة من كافّة الجوانب وبكلّ المعايير، شخصيّة كانت تبدو معارضة للنّبيّ في كثير من القضايا رغم تقديسه له، لدرجة إنّه لم يصدّق أنّ النّبيّ قد مات، وخرج شاهرًا سيفه يقاتل كلّ من يقول أنّ النّبيّ قد مات، حتّى خرج “أبو بكر” معلنًا مقولته الشّهيرة للنّاس: “من كان يعبد محمّدًا فإنّ محمّدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت”، ورضخ “عمر” بحزن وأسى للإرادة الإلهيّة، كيف لا وهو الّذي يحسب أنّ عمره قد بدأ فقط منذ وقف أمام النّبيّ مسلمًا ومسلّمًا، تاركًا وراءه جاهليّته الطّينيّة ووثنيّته الظّلاميّة وعصبيّته القبليّة المتحجّرة. قال “عمر” للنّبيّ إنّ صلاتك على “عبد الله بن سلول” (توفّي سنة 631) عندما مات، وكان كبير منافقي “المدينة”، يتظاهر بالإسلام ويتربّص به مع أسياد “قريش” للانقضاض والقضاء عليه، قال له إنّ ذلك يجعل المنافقين أشدّ صلفًا وكفرًا، وفي كثير من الأحيان يتقبّل النّبيّ رأيه الصّائب، وبخاصّة عندما كانت تنزل آية قرآنيّة تبيّن صحّة رأيه وصواب رؤيته، وفي هذا الموقف عن صلاة النّبيّ على “ابن سلول” نزلت آية تصدّق رأي “عمر” تقول: “ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره إنّهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون” (القرآن الكريم، سورة التّوبة، رقم 9، الآية 84)
المصلحة العليا عقيدة عمر الجدليّة:
بين خلافة “عمر” وإمارته وبين فترة النّبيّ مرّت ثلاث سنوات، وهي مدّة قصيرة، وبين خلافة “عمر” وموته وبين موت النّبيّ ثلاث عشرة سنة، اتّسعت الدّولة الإسلاميّة في عهده اتّساعًا كبيرًا ودخل فيها أضعاف من كانوا في عهد النّبيّ و”أبو بكر”، وامتدّت لتستوعب المسلمين وغير المسلمين، وحدث مع كلّ ذلك أحداث كبيرة وتغيّرات مؤثّرة، لم تكن في عهد النّبوّة ولا في عهد الخليفة الأوّل، فماذا فعل “عمر” وكيف واجه ذلك التّطوّر السّريع وكيف تعامل مع ذلك التّغيّر الكبير وفي زمن جدّ قصير، عدّة سنوات قليلة فعلًا.
كان “عمر” ينظر إلى النّصوص الشّرعيّة قرآنًا وسنّة والّتي يراها غيره مسلّمات جامدة وثوابت صارمة لا تُمسّ، كان يراها نصوصًا مرنة يمكن تطويعها للحال والواقع ورؤية المصلحة العليا للإسلام كدين ودولة تواكب مصالح النّاس وفقًا للظّروف والمعايير الّتي تستجدّ كي يستطيع هذا النّهج أن يدوم ويبقى على مدى التّاريخ، لذلك كان “عمر” من النّاحية العقلانيّة والموضوعيّة ينظر إلى مقاصد الإسلام الكبرى وقيمه والغايات الجامعة الكلّيّة للمسلمين ورسالته ويفضّلها على المقاصد الأقلّ أهمّيّة وعلى الغايات الجزئيّة والظّاهرة، ومن هذا الفهم الجدليّ تعامل مع النّصوص ليس بالاعتماد على ظاهر ألفاظها بل بالاعتماد على فهم عميق لجوهر الخطاب الدّينيّ وفقًا للتّنوّع في الظّروف والتّجدّد في الأحداث والتّغيّر في الأحوال العامّة للإسلام والمسلمين، لقد كان العقل المتفتّح والجدليّ عند “عمر” يجعله يرى الأمور رؤية الفيلسوف الشّاملة، حيث يرى الأجزاء والتّفاصيل في إطارها العامّ والكلّيّ والعميق، فالمصلحة العليا في تقوية الإسلام جعلته يتخلّص من سلطة النّصّ حيث لزم الأمر، والمصلحة الإنسانيّة تعلو على الأحكام الشّرعيّة والنّصوص الدّينيّة، فهذه مرهونة وبشكل جدليّ وعضويّ بالسّياق التّاريخيّ والتّطوّر الإسلاميّ والإنسانيّ العامّ. وكأنّي بعمر يربط ما يحدث هنا بما يحدث هناك وما حدث من قبل بما يحدث الآن لاستشراف احتمالات ما سيحدث في المستقبل، ويفاضل بين الأهمّ والأجدى والأقلّ جدوى وأهمّيّة للمصلحة الكبرى، ولذلك كانت الأحكام والنّصوص في مفهومه العقلانيّ الجدليّ والواقعيّ الموضوعيّ ليست مطلقة بل نسبيّة وفقًا للمفهوم والمنهج الماركسّي الحديث لأنّ الواقع عند “عمر” هو المعيار الأوّل وعند “لينين” (1870 – 1924) هو أغنى من أيّ نظريّة، وهذا هو المفهوم العمريّ للأحداث والزّمان والظّروف والواقع، إنّ رؤية “عمر” الجدليّة في الماضي تنسجم مع العلاقة الجدليّة بين الاستراتيجيّة والتّكتيك في التّاريخ الحديث وفقًا للمفهوم الماركسيّ اللّينينيّ. أكان “عمر” ماركسيًّا لينينيًّا! بالتّأكيد لا! ومن الأقرب إلى الحقيقة والواقع والذّهن أن يكون “ماركس” (1818 – 1884) وَ “لينين” عمريّيْن، أو على الأقلّ استفادا من النّهج الجدليّ والفكر التّقدّميّ في تاريخ الفكر الإسلاميّ، والّذي كان رائده “عمر” بلا منازع ولا سابق، والماركسيّة اللّينينيّة بطبيعتها ومفاهيمها المادّيّة التّاريخيّة والجدليّة اكتسبتا من الأفكار المادّيّة التّقدّمية السّابقة لهما على مدى تاريخ الفكر الإنسانيّ الّذي سبق ولادة “ماركس” وَ “إنجلز” (1820 – 1895) وَ “لينين” بمئات السّنين بل بآلافها، وقد لمّح إلى ذلك “إنجلز” (1820 -1895) في كتابه “ضدّ ديورينغ”.
وقد يكون “عمر” المصدر الأوّل والمنهل العذب للخطاب الدّيني الحداثيّ الجديد والمعاصر الّذي حمل لواءه في عصرنا كبار الباحثين والمفكّرين في الفقه والشّريعة الإسلاميّة، ومن أبرزهم الباحث المصريّ “خالد محمّد خالد” (1920 – 1996) والسّوريّ “الطّيّب تيزيني” (1934 – 2019) والمصريّ “نصر حامد أبو زيد” (1943 – 2010) والمصريّ “محمّد سعيد العشماوي” (1932 – 2013) والمغربيّ “محمّد عابد الجابري” (1935 – 2010) واللّيبيّ “الصّادق النّيهوم” (1937 – 1994) لقد وجد هؤلاء وغيرهم من الباحثين في “عمر” وتجديداته الحداثيّة ورؤيته الثّاقبة وفكره الصّائب والجدليّ معينًا لهم على محاورة أولئك العلماء المتزمّتين والمتحجّرين والمحكومين بسلطة النّصوص، والّذين عادة ما يرفضون التّجديد والتّحديث والتّطوير في الفكر الإسلاميّ، ويغذّون بجمودهم وفكرهم المتحجّر ذاك الحركات المتطرّفة، والّتي سرعان ما تتحوّل إلى حركات أصوليّة وظلاميّة متناحرة فيما بينها، ولكنّها تتفّق على تكفير المسلمين وقتلهم وتدمير أوطانهم وأمجادهم وسرقة كنوزهم وثرواتهم القوميّة وبيعها للأعداء بأثمان بخسة، فتحوّل الإسلام والمسلمين إلى وحوش رهيبة أمام الشّعوب الأخرى خدمة للأنظمة البائدة الّتي هي أنظمة مأجورة صهيونيًّا وأميركيًّا، وأبرزها الفكر الوهابيّ والنّظام السّعوديّ والفكر الإخوانيّ الفاشيّ والنّظام التّركيّ الخلافيّ القادم كما يظنّون. قال “خالد محمّد خالد” في سياق حديثه عن عقليّة “عمر”: “ترك عمر النّصوص الدّينيّة المقدّسة من القرآن والسّنّة عندما دعت الحاجة لذلك”. فهل كان “الفاروق عمر بن الخطّاب” أمير المؤمنين وخليفة رسول الله الثّاني والّذي قال عنه النّبيّ لو كان نبيّ بعدي لكان “عمر”، هل كان مارقًا وكافرًا أيّها “المؤمنون” الظّلاميّون والمجرمون! هؤلاء الأصوليّون الكذّابون كمسيلمة (توفّي سنة 632) لو عادوا إلى الأصول صادقين، مخلصين لله الدّين! أليس النّبيّ أصل الأصول! وهو من قال: “لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه”، وهذا الحديث نصّ ثابت في “الصّحيحيْن”، وعندما فسّر الصّادقون من الفقهاء والعارفون من العلماء، قالوا: “إنّ النّبيّ قصد المحبّة الدّينيّة ذات النّزعة الإنسانيّة العميقة، والّتي تعني محبّة الإنسان مسلمًا أو كافرًا، فالمسلم تحبّ له الثّبات على إسلامه والكافر تحبّ له الدّخول في الإسلام” كدين للمحبّة والخير والرّضا بالمنفعة للنّاس، فمن يحبّ هؤلاء القتلة المجرمون من “داعش” وَ “النّصرة” وغيرهم من الظّلاميّين. أليس “أبو بكر” أصلًا إسلاميًّا تفانى في خدمة الإسلام مادّيًا ومعنويًّا وذاد عن المستضعفين من المسلمين أمام عتوّ “قريش” وظلمها! وهو القائل بعد تولّيه الخلافة يوم البيعة: “أيّها النّاس إنّي قد ولّيت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حقّ فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدّدوني” فقام رجل من النّاس وقال بكلّ جرأة وحرّيّة: والله لو رأينا منك اعوجاجًا لقوّمناك بحدود سيوفنا” وقبل الأصليّ العظيم “أبو بكر”. أمّا أصوليّو هذا الزّمان الفاسد فسيوفهم في نحورنا قبل أن نقول! أليس “عمر” أصلًا من أصولنا العظيمة وبإسلامه انتقل المسلمون من ضعفاء، بائسين، خائفين ومختبئين ليكونوا أقوياء، مقاومين، مكافحين علانية وعلى رؤوس الأشهاد، وانتقل الأذان من الجرّة إلى ساحات البيت الحرام، وصارت الشّهادتان شعارًا للمقاومة ورمزًا لصمود العبيد أمام عذاب الأسياد، وهو الّذي قال: “متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارًا”، فالحرّيّة عند عمر فطريّة، طبيعيّة وليست مكتسبة، ولا يعطيها إنسان لإنسان، ولا يحقّ لإنسان أن يحرم منها إنسانًا آخر! بأيّ حرّيّة تؤمنون يا سادة الظّلام والظّلاميّة والإجرام وعبيد المال والبرامج الرّجعيّة والهيمنة الصّهيو – أميركيّة! يا قتلة النّاس! يا لصوص الثّروات! يا مشعلي النّار وبناة الرّماد!
المؤلّفة قلوبهم:
ومن أهمّ المواقف الّتي تثبت جدليّة الفكر العمريّ مطالبته النّبيّ بالكفّ عن دفع سهم مخصّصات الزّكاة “للمؤلّفة قلوبهم”، وهم ثلاث مجموعات: مشركون اعتنقوا الإسلام كذبًا وهم بعيدون عنه يُعطَون ليكفّوا أذاهم عن المسلمين، ومشركون آخرون من سادة القبائل تولّد لديهم استعداد لتقبّل الدّعوة الإسلاميّة، ومسلمون كانوا حديثي العهد بالإسلام وما زال إيمانهم ضعيفًا وتسيطر على عقولهم المفاهيم المادّيّة. كان النّبيّ يحاول بكافّة الوسائل استمالتهم إلى الإسلام كي يأمن شرّهم، وكان المال هو الوسيلة الفاعلة، وقد ورد هذا المصطلح “المؤلّفة قلوبهم” في القرآن ذي النّصّ المقدّس والمسلّم بمعانيه تسليمًا كاملًا، يقول: “إنّما الصّدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلّفة قلوبهم وفي الرّقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السّبيل فريضة من الله والله عليم حكيم” (القرآن الكريم، سورة التّوبة، رقم 9، الآية 60) ولكنّ الأمر لم يعد يروق لفكر “عمر” بعد أن قوي الإسلام وبعد أن اشتدّ عوده، ولم يعد ثمّة ضرورة كي يستميلهم المسلمون وقد تبّ المسلمون شرّهم كما تبّ الله يديْ “أبي لهب” (549 – 624) وأهلكوا مؤامراتهم وقضوا على كبريائهم الموهومة وعلى أمجادهم الزّائفة. لقد عارض “عمر” سلفيْه مؤكّدًا بقوله: “لا نعطي على الإسلام شيئًا” لأنّه آمن بوجوب الإبقاء على الأحكام لاستلزام الأمر والحاجة في تأليف القلوب، وبعد أن قوي الإسلام انتفى الوجوب وزالت الحاجة. وقد قال “عمر” في هذا الخصوص موجّهًا قوله للمؤلّفة قلوبهم أنفسهم: “هو شيء كان رسول الله يعطيكموه ليتألّفكم، والآن قد أعزّ الله الإسلام وأغنى عنكم”. ولا شكّ في أنّ دافِع “عمر” لإلغاء سهم “المؤلّفة قلوبهم” هو المصلحة العليا في حفظ المال العامّ وعدم تبذيره على ما لا يدعو ولا يلزم، آمن “عمر” أنّ المال العامّ أمر مقدّس ويجب أن يحفظ من عبث العابثين وطمع الطّامعين، فالعامّة أولى بهذا المال والمصلحة العليا للمسلمين وللدّولة وإدارة شؤونها، وما يحرّك “عمر” للحفاظ عليه يتلخّص بمصلحة الدّين ومصالح الدّولة ومستقبلها، بمعنى مصلحة النّاس فيها مسلمين وغير مسلمين، مجتمعًا وأفرادًا، ولا يحقّ لفرد أن يستأثر فيجعل المال العامّ أو أيّ جزء منه خاصًّا له، ولا يحقّ لمجتمع أو دولة أن تترك فردًا مظلومًا أو محتاجًا لم يحصل على مخصّصاته وحقّه منه، ومع ذلك تبقى وفقًا للمفهوم العمريّ مصلحة الجماعة أعلى من مصلحة الفرد، ولو كان في ذلك خروج عن الأحكام والنّصوص، فقد آمن “عمر” بأنّ النّصوص في خدمة الإنسان وتسعى لسلامة دينه وراحته وسعادته في الدّاريْن وليس الإنسان عبدًا للنّصوص الثّابتة، بل إنّ عظمة الإنسان تكمن في قدرته على إدراك جوهر تلك النّصوص وجعلها تنسجم مع الواقع والحاجة والمصلحة، وهذا لا يقول إنّ “عمر” كان مفرّطًا بالنّصّ القرآنيّ والحديث النّبويّ، العكس هو الصّحيح فهو أوّل من فكّر وبادر إلى جمع صحف القرآن المتناثرة في كثير من الأيادي والرّؤوس. وهذا ينقلنا إلى موضوع آخر.
نقل أبي بكر وعقل عمر:
دامت خلافة “أبو بكر” سنتيْن، كان فيها مثالًا مخلصًا للنّصوص القرآنيّة وللسنّة النّبويّة، وإذا كان الشّرع الإسلاميّ يقوم على النّقل واعتماد الأحكام وعلى العقل والفكر المبدع، فإنّنا سنجد أنفسنا إزاء مثاليْن يقفان على طرفيْ نقيض، هما “أبو بكر” مثالًا للنّاقل الثّابت وَ “عمر” مثالًا للعاقل المتحرّك والمبدع والثّائر. ولعلّ أبرز الأحداث وأشدّها خطورة وأثرًا بعد موت النّبيّ، ومنذ بيعة “أبو بكر” خليفة للنّبيّ حروب “الرّدّة” حيث شهد الإسلام بعد موت النّبيّ حركة ارتداد هائلة بين قبائل العرب، وكأنّهم تحرّروا من عبادة الله بموت “محمّد”، وقد يكون دفع الزّكاة من أهمّ العوامل الّتي دفعت إلى هذه الرّدّة. جاء “عمر” العاقل المدرك للمصلحة العليا والحاجة لترسيخ النّاس على الإسلام، ونظر إلى هذه الحاجة والمصلحة على ضوء ما يفرضه الواقع من إمكانيّات كغاية كبرى سامية أعلى أهمّيّة من جمع المال والاحتفاظ به، وليس عن ضعف في موقف أو خوف من نزال، أشار “عمر” على “أبو بكر” بتخفيف أجزاء من نصاب الزّكاة عن تلك القبائل لتثبيت إيمانهم الضّعيف، وقال: “تالّف النّاس وارفق بهم، وقد انقطع الوحي وتمّ الدّين، أوينقص الدّين وأنا حيّ”! لقد كانت تلك الإمكانيّة بنظر “عمر” قابلة أن تكون واقعًا مقبولًا ولو على مضض كضرورة ماسّة لزيادة الإسلام منعة وقوّة، وعدم تحفيز قبائل أخرى لأن تحذو حذو القبائل المرتدّة، لأنّه رأى نقصان الدّين يكون بنقصان الرّجال والنّاس وليس بنقصان المال والاحتفاظ به. فجاء ردّ “أبو بكر” حازمًا ملتزمًا بالنّصوص والأحكام: “والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدّونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه”، ويقال أنّه وجّه حديثه معنّفًا “عمر”: “أجبّار في الجاهليّة! خوّار في الإسلام”! ومن مثل “أبو بكر” يعرف شجاعة “عمر” وعمق إيمانه وصدق سريرته وبأسه على الكافرين.
وما دمنا في غمار الكلام عن الزّكاة فلا بدّ من الإشارة والإشادة بموقف “عمر” في عام “الرّماد” والرّماد هو السّغب والجوع، فيه أصيب المسلمون بالجدب والقحط فعاشوا في ضائقة لم يعهدوها من قبل، لدرجة أنّ الحاجة جعلت بعضهم يلجأ للسّرقة لسّدّ الرّمق، هذا الذّنب كان يستدعي قطع اليد، لكنّ “عمر” صاحب الرّؤية الواسعة والرّويّة الحكيمة نظر إلى حاجة النّاس وظروفهم الصّعبة ومصلحتهم الّتي تفوق مصلحة اعتماد النّصّ والتّقيّد بالحكم الشرعيّ، وقال: “لا قطع في المجاعة”، وقد اتّفق الفقهاء من جميع المذاهب مع رؤية “عمر” على اعتبار السّرقة بسبب الجوع لا توجب قطع يد السّارق الجائع لأنّه اضطرّ للسّرقة فأباح له هذا الاضطرار تجاوزَ المحرّمات والحدود باعتماد على نصّ شرعيّ أيضًا: “فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” (القرآن الكريم، سورة المائدة، رقم 5، الآية 3). والمخمصة لغة هي المجاعة وغير المتجانف هو غير المائل إلى فعل الإثم إلّا اضطرارًا.
كلّ شيء وكلّ حكم يجب أن يراعي مصلحة النّاس وحاجاتهم أوّلًا، من النّاس تنبثق الشّرائع، وقد آمن “عمر” بأنّ الغاية الكبرى في حفظ حياة النّاس أهمّ وأسمى من جمع المال والاحتفاظ به، بل هي أسمى من نصوص وأحكام ما جاءت إلّا لتكون في خدمة النّاس، لا أن يكون النّاس عبيدًا لها. بل إنّ “عمر” في هذا الظّرف العصيب والقاسي ذهب أكثر من ذلك، فقد أوقف جباية الزّكاة، والزّكاة ركن من الأركان الخمسة الّتي قام عليها الإسلام. وعند “عمر” لا ركن ولا حكم ولا نصَ يكون مناقضًا لخير للمسلمين والنّاس وحياتهم ومصلحتهم وسعادتهم، فالنّاس جميعًا عند “عمر” أساس التّشريع ومصدره، فمن حاجتهم وظروف واقعهم ينبثق وبهم يقوم سواء يتغيّر أو يدوم ولخيرهم ولمصالحهم جماعة وأفرادًا يعود.
فكر الاقتصاد السّياسيّ:
ورؤية اقتصاديّة ثاقبة امتاز بها “عمر” بفكره الجدليّ ورؤيته للمصلحة العليا بالاعتماد على الظّرف والحاجة والضّرورة. فتح المسلمون العراق وأخذوها من الإمبراطوريّة الفارسيّة في خلافة “عمر” بعد حرب “القادسيّة”، ومن أهمّ بقاع هذه البلاد الواسعة “أرض السّواد”، هكذا اتّفق المسلمون على تسميتها لوفرة مياهها وكثر خضرتها بالأشجار والنّخيل، وكانت تقع على أطراف “دجلة” وَ “الفرات” ورغمَ أنّ هناك نصًّا قرآنيًّا يتناول بوضوح قضيّة تقسيم “أرض السّواد” ورغم أنّ مجموعة ذات مكانة من الصّحابة وقفت مع تقسيم الأرض وتوزيعه على المسلمين الفاتحين بالاعتماد على طريقة الرّسول في تقسيم الأرض المفتوحة والغنائم في جعل 80% للمسلمين و 20% للمصلحة العامّة وشؤون المسلمين، وبالاعتماد على ذلك النّصّ: “وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ” (القرآن الكريم، سورة الأنفال، رقم 8، الآية 41) ومجموعة أخرى ذات مكانة هي الأخرى من الصّحابة وقفت ضدّ التّقسيم، ودار حول الموضوع نقاش فقهيّ بين الصّحابة، كاد ذلك الحوار أن يؤدّي إلى فتنة زمن “عمر”. لكنّ “عمر” الّذي لا يطيق خلافًا بين المسلمين ولا فتنة ولا حربًا تربكهم وتضعفهم أمام المهامّ الّتي أوكلت بهم من الله ورسوله، ورأى أن تقسّم على جميع المسلمين، مستدلًّا بآية أخرى: “مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ” (القرآن الكريم، سورة الحشر، رقم 59، الآية 7) وقال “عمر”: “ما أرى هذه الآية إلّا عمّت الخلق كلّهم” وهذا أعلى درجات العدالة الإنسانيّة الّتي آمن بها “عمر” بكلّ عمقها واتّساعها وشمولها، وبهذا قرّر الصّحابة بقاء “أرض السّواد” في أيدي أصحابها، مع فرض الخراج عليهم لمصلحة المسلمين عامّة، وبهذا الفكر استطاع “عمر” أن يحقن الدّماء وأن يكفّ الفتنة ويذهب للمصلحة العليا وفقًا للضّرورة والحاجة الّتي يفرضها الواقع، وفي نهاية الآية نرى أنّ ثمّة ما جعل “عمر” يطوّع المعنى للواقع والحاجة ولم يكن عبدًا لنصّ أو لسلوك رسول أو لموقف عدد من الصّحابة الكبار، بل رأى مصلحة المسلمين والفقراء منهم بالذّات كي لا تكون دولة للأغنياء، ولقد قاوم “عمر” فكرة توزيع “أرض السّواد” من دافع اجتماعيّ طبقيّ، لأنّه آمن أنّ أملاك المسلمين يجب أن يستفيد منها جميع المسلمين ومن ينضوون تحت الحكم الإسلاميّ من أهل الكتاب، فلم يرد توزيع الأرض على الفاتحين كي لا تتولّد طبقة ملّاك أغنياء تحتكر الأرض وتستغلّ الفقراء في استعبادهم بها، ولذلك ترك الأرض لأصحابها الفلّاحين، فالأرض عنده لمن يفلحها ويجعلها حقلًا منتجًا أو بستانًا مثمرًا أو مرعى جماعيًّا صالحًا، وأهل تلك الأرض أدرى بشؤونها وباستخراج خيراتها من فاتحين وافدين جدد. وبهذا الفكر الاقتصاديّ الرّحيب راعى أصحاب الأرض الأصليّين ومصلحة المستثمرين وضمن دخل الدّولة، فأخذ الغنائم من مال وكراع ووزّعها وأبقى الأرض بأنهارها ومساحاتها لعمّالها، وهذا مضمون رسالته إلى “سعد بن أبي وقّاص” (595 – 674) قائد القادسيّة وفاتح العراق، وكان ممّن يطمعون في تقسيم “أرض السّواد”. أين لنا هذا الفكر المتحرّر والسّويّ عند حكّامنا المسلمين في الأقطار الإسلاميّة اليوم! أين هم من “عمر”! بل من قليل من بعض منهج “عمر” في الحكم والعدالة والشّورى وحقّ المعارضة وحفظ مصلحة المسلمين العليا من شرّ بعض المسلمين وأطماعهم أنفسهم في الدّاخل ومن شرّ أعدائهم من الخارج. لقد قطع بهذا الفكر الخلّاق الشّجرة الّتي بايع النّاس النّبيّ تحتها في بيعة الرّضوان أو بيعة الشّجرة سنة (628): “لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبً” (القرآن الكريم، سورة الفتح، رقم 48، الآية 18) قطعها كي لا تتحوّل إلى تمثال وثنيّ أو صنم يقدّسه النّاس كقدسيّة أصنام الجاهليّة، وخاطب بالفكّر العقلانيّ، الخلّاق، الواقعيّ والموضوعيّ نفسه الحجرَ الأسودَ: “إنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع، والله لولا أنّي رأيت رسول الله يقبّلك ما قبّلتك”. الاقتناع العقلانيّ ما يحرّك “عمر” ويعوّل عليه أكثر من أيّ محرّك أو معوّل. كان “عمر” يحاول جاهدًا من صميم رؤيته وفكره وسلوكه كحاكم ألّا يترك وراءه تفاوتًا اجتماعيًّا طبقيًّا، فينقسم المجتمع إلى ملّاك أغنياء، مستغِلّين (بكسر الغين) وإلى عمّال وفلّاحين كادحين فقراء مستغَلين (بفتح الغين) وقد رأى “عمر” في ذلك ردّة إلى مجتمع الجاهليّة وواقع الأسياد الظّالمين والعبيد المظلومين، وكلّ المثالب العصبيّة والقبليّة والظّلاميّة، وبذلك ينطفئ نور الإسلام وتنتهي رسالته الأولى في إخراج النّاس من ظلمات الكفر والظّلم إلى نور الإيمان والعدل.
جمع القرآن:
مات النّبيّ والقرآن في عهدته ولم يكن مجموعًا بصحف موحّدة بل كان على صحائف ورقاع ورقاق ومبثوثًا في صدور الحفظة والقرّاء من الصّحابة الأوائل، يحفظونه عن ظهر قلب، ومات “أبو بكر” وصار القرآن في عهدته ولم يختلف الأمر عمّا كان عليه زمن النّبيّ. ولذلك كان مشروع جمع القرآن مشروعًا نشأ في تفكير “عمر” وبدأ من مبادرته، فقد رانت على فكره الجدليّ قضيّة المصلحة العليا والحاجة النّافعة للمسلمين والظّروف المستجدّة والمتغيّرة والواقع الّذي يخلق الإمكانيّات، فتحوّلت فيه هذه الأفكار هاجسًا حقيقيًّا متوقّدًا ودائمًا. كانت حرب “اليمامة” (سنة 12 ه. 632م) إحدى أشرس حروب “الرّدّة”، قاد أصعب معاركها “خالد بن الوليد” (592 – 642) أمام جيش كبير من بني حنيفة بقيادة “مسيلمة الكذّاب”، ورغم انتصار المسلمين فيها انتصارًا حاسمًا رغم كثرة الشّهداء، رأى “عمر” المأساة بعمق ليس لأنّه فقد أخاه “زيد بن الخطّاب” (توفّي سنة 12 ه) شهيدًا فيها، والّذي ظلّ يبكيه كلّما هبّت ريح الصّبا من جهة “اليمامة” حيث وقعت الحرب ويقول في عظمته: “ما كان هناك من خير سبقني إليه إلّا زيد بن الخطّاب فقد سبقني إلى الإسلام وسبقني إلى الشّهادة”، وليس لأنّ الخليفة “أبو بكر” فقد فيها ابنه “عبد الله بن أبي بكر” (توفّي سنة 12 ه) فالأمر أهمّ فقد خسر المسلمون حوالي 1200 شهيدًا، ولكنّ الأهمّ الأهمّ في نظرة “عمر” هو استشهاد 70 من الصّحابة الأوائل من حفظة القرآن وقرّائه، لقد نظر “عمر” بنظرته الجدليّة إلى البعيد، إلى ضياع القرآن بعد موت أبرز حملته في الصّدور، وهو القرآن الّذي قال عنه “زيد بن ثابت” (توفّي سنة 45 ه) أحد أبرز العارفين بالقرآن وأحد الرّاسخين في العلم، وهو الّذي وكّله “أبو بكر” وَ “عمر” وجعلاه على رأس لجنة جمع القرآن فيما بعد، قال: “إنّ هذا القرآن هو الجامع لديننا فإن ذهب القرآن ذهبنا”. وماذا يبغي “عمر” من مصلحة أعلى وأهمّ من تماسك الأمّة على هذا الدّين.
ورأى “عمر” حاجة أخرى يفرضها الواقع المتغيّر وهو اعتناق كثير من الأقوام من غير العرب بعد اتّساع الرّقعة ونشوء الحاجة لتعريف المسلمين بالقرآن وتعليمهم أمور دينهم الجديد ولغته العربيّة. مضى إلى “أبو بكر” المتشبّث بما فعله النّبيّ وبما لم يفعله، فقال له: “ألا إنّ حملة القرآن يموتون فلو جمعت القرآن”، فكان ردّ “أبو بكر” المؤمن بالنّقل أوّل الأمر: “كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله” وظلّ “عمر” يلحّ عليه بالطّلب وبالحجّة العقلانيّة والإقناع حتّى شرح الله صدر “أبو بكر” للأمر ورضي لما رأى فيه من خير ومصلحة للمسلمين في حفظ كلمتهم وعزّة دينهم. ومن هذه العقليّة المنفتحة ومن هذه النّظرة الواعية للمخاطر والّتي تربط الواقع بالإمكانيّات المحتملة تتحوّل إحدى هذه إلى الإمكانيّات إلى واقع هو حفظ القرآن وتماسك الأمّة بعد احتمال ضياعه وتفتّتها وزيادة الإسلام امتدادًا والدّعوة انتشارًا وقوّة المسلمين اشتدادًا. وانتهى جمع القرآن في آخر خلافة “عمر”، ولكنّ التّنفيذ تمّ بعد موته، في خلافة “عثمان بن عفّان” (576 – 656) ولذلك سمّي “مصحف عثمان” مع أنّه مشروع عمريّ الفكرة والمبادرة والرّؤية والفعل.
وموقف آخر يظهر بجلاء الفكر الجدليّ عند “عمر”، فمن المعروف أنّ القرآن نزل منجّمًا أيّ وفقًا للأحداث والمناسبات منذ بداية نزول الوحي، منذ غار “حراء” والكلمة الأولى “اقرأ” في الآية الأولى “اقرأ بسم ربّك الّذي خلق” (القرآن الكريم، سورة العلق، رقم 96، الآية 1) ودام النّزول على مدى ثلاثة وعشرين عامًا، منذ بعث النّبيّ إلى ما قبل وفاته ونزول آخر آياته “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً” (القرآن الكريم، سورة المائدة، رقم 5، الآية 3) إنّها نعمة حقًّا! هكذا رأى معظم المسلمين اكتمال الدّين وتمام نعمة النّزول والرّضا الإلهيّ عن الإسلام، ابتهج المسلمون وضحكوا أمّا “عمر” فبكى ولم يدخل الفرح إلى قلبه ولم تظهر البسمة على محيّاه، لأنّهم نظروا إلى الأمر نظرتهم السّطحيّة والجزئيّة بينما نظر “عمر” نظرة الفيلسوف العميقة والشّاملة والجدليّة فرأى النّقمة في النّعمة كما يرى الحكماء، ورأى الموت في الحياة، ورأى النّقصان بعد الاكتمال كعودة القمر إلى النّقصان هلالًا بعد اكتماله بدرًا. بكى “عمر” وقال: “ليس بعد الكمال إلّا النّقصان”. وفي هذا ملخّص للمنهج الفكريّ الجدليّ الّذي تميّز به “عمر” عن سائر كبار المسلمين وصحابة النّبيّ، قد لا يشابهه في هذا المنهج إلّا “عليّ بن أبي طالب” آخر الخلفاء الرّاشدين بل آخر الخلفاء قاطبة. ولعلّ المتأمّل في تاريخ الإسلام وسيرة المسلمين بعد خلافة “عمر” سيرى النّقصان المتوالي عامًا بعد عام، منذ أن كانوا يقاتلون أعداءهم وينتصرون إلى أن صاروا يقتتلون فيما بينهم وصاروا شيعًا وأحزابًا ونحلًا ومللًا، حتّى ذهبت ريحهم وطمعت الأمم بهم وبدينهم وبأمجادهم وحضارتهم وثرواتهم، منذ أن كان الخليفة يرفض الحكم ويريده لغيره إلى أن صاروا يتنازعون عليه، وما يحرّكهم إلّا الرّغبة في الحكم والشّهوة في النّفوذ والتّحكّم، بعد أن كانوا أمّة ودولة واحدة إلى أن وصل المسلمون إلى كونهم شعوبًا متفرّقة ودولًا إقليميّة متنازعة، سهل على الأعداء سلبها ونهبها واحتلالها وامتطاؤها لكثرة انحناء الظّهور وقلّة ركوب المصاعب والغلاب والكرامة.
عمر أبو الطّهارة السّياسيّة:
لا أعتقد أنّه كان في التّاريخ البشريّ كلّه ومنذ ما قبل الميلاد بآلاف السّنين في تاريخ الدّول القديمة، ومنذ ما بعد الميلاد من دول قامت في العصر القديم والوسيط والحديث، لا أعتقد أن ثمّة حاكم طاهر وعادل وديمقراطيّ كحاكم الدّولة الإسلاميّة “عمر بن الخطّاب” وقد استمرّ حكمه على مدى عقد واحد من الزّمان (634 – 644) الخليفة الرّاشديّ الثّاني، الّذي أبى أن يلقّب بخليفة خليفة رسول الله خشية الطّول في اللّقب فيما بعد، بل لقّب نفسه أو لقّبوه بأمير المؤمنين، وهناك شبه إجماع على أنّ أوّل من اقترح وأطلق هذا اللّقب على “عمر” كان “المغيرة بن شعبة” (603 – 670) إذ قال: “أنت أمير ونحن المؤمنون”، فقُبل اقتراح اللّقب وكان “عمر” أوّل من لقّب به، وقد يكون “عمر” نفسه صاحب فكرة اللّقب. ولا شكّ بأنّ أمير المؤمنين كانت تسمية جديدة للحاكم، ليس ملكًا ولا إمبراطورًا ولا قيصرًا، كما كان في الممالك المجاورة لبلاد العرب.
ولا بدّ في هذا المقام من بعض الشّروح اللّغويّة لأهمّيّتها في حالة هذا الأمير الجديد والمختلف بل والمتميّز ولقبه. كلمة “أمير” اسم مشتقّ من أمرَ يأمرُ، وفي صيغتها ووفقًا لدلالتها وميزانها الصّرفيّ على وزن “فعيل” احتمالان، إذ يمكن اعتبارها صيغة مبالغة من اسم الفاعل “آمر” كعالم وعليم وسامع وسميع وقادر وقدير، ويمكن اعتبارها صفة مشبّهة باسْم المفعول كمقتول وقتيل ومجروح وجريح ومأسور وأسير، فأيّ الدّلالتيْن أقرب للشّخصيّة العمريّة؟ فهل هو أفضل المؤمنين فصار أميرهم! وهو الّذي عرض عليه “أبو بكر” الخلافة ورفضها مفضّلُا إيّاه على نفسه، ويستقرّ رأي “أبو بكر” على “عمر” خليفة بعد تفكير مليٍّ، فقد خاف “أبو بكر” من احتمالات الفتنة بعده، كما كادت أن تقع بعد وفاة النّبيّ في سقيفة “بني ساعدة”. بعد إحساس “أبو بكر” بدنوّ أجله وهو على فراش الموت، حاول “عمر” التّملّص من هذه المسؤوليّة العظمى، ولكنّ الظّروف العصيبة الّتي اضطرب فيها المسلمون والمهامّ الجسيمة الّتي أوكلت بهم والخوف من الفتنة وتفرّق الكلمة والخوف على المصير، كلّها جعلته يستنكف عن التّملّص ويقبل الأمر مذعنًا مؤمنًا بهذه المأموريّة الصّعبة، وهو الّذي رفض أن يتولّاها ابنه “عبدالله بن عمر” (10ق.ه – 73ه) بعده رغم جدارته وتقواه وقدراته وإشارة كبار الصّحابة بتوليته، بل رفض أيضًا تعيين ابنه واليًا على “الكوفة” لأنّه نزع بفطرته ووعيه إلى استبعاد أقاربه عن كلّ امتيازات وحقوق بل طالبهم بواجبات أعلى وأنزل عليهم عقوبات أقسى، ولم يرد أن يكون مثل النبيّ و”أبي بكر” عندما كان يصعد المنبر ليخطب في الناس، كان يقف أقلّ بدرجة من وقوفهما، لأنّه أراد أن يكون أقلّ درجة منهما، ولكنّ “عثمان بن عفّان” عاد وصعد حيث كان يقف النبيّ و”أبي بكر”. لقد رأى “عمر” بفكره الرّحيب والواقعيّ الجدليّ الخدوم لمصلحة المسلمين العليا أنّه لو تولّى الخلافة ابنه لتولّدت الإمكانيّة لتحوّل الخلافة والشّورى إلى مُلك وتحكّم، وهو ما جرى بعد أقلّ من عقديْن في التّاريخ الإسلاميّ، بعد مقتل آخر الخلفاء قاطبة “عليّ بن أبي طالب”، على يد الملك الأوّل في تاريخ الإسلام “معاوية بن أبي سفيان” (608 – 680) قاتل “الحسن بن علي” (625 – 670) والملك الثّاني “يزيد بن معاوية” (647 – 683) قاتل “الحسين بن علي” (626 – 680) و”عمر” هو المؤمن حتّى نخاع النّخاع أنّ من يشتهي الحكم ويبغيه ويسعى لنيله يشتهي التّحكّم والسّيطرة.
وما زلنا في الشّرح اللّغويّ ودلالته، فقد قلت أنّ “عمر” قبل مذعنًا لأمر الخليفة “أبو بكر” المأموريّة العسيرة بعد أن حظي بمبايعة كبار الصّحابة، ولعلّني أميل وفقًا لما قرأت وعرفت عن شخصيّة “عمر” كحاكم وأمير بمعنى مأمور أنّه كان أقرب بكثير إلى دلالتها كصفة مشبّهة باسْم المفعول، لأنّ “عمر” لم يعتبر نفسه أكثر من مأمور من المسلمين ومسؤول أمامهم ومحافظ على مصالحهم كجماعة وأفراد، ومسؤول أمام كلّ كبير وصغير ومأمور بتعاليم دينهم، كما أدركها بعقله الواقعيّ الواعي للظّروف والحالة والحاجة، وليس المحكوم بجمود النّصوص الدّينيّة الثّابتة وبالأحكام الشّرعيّة غير القابلة للأخذ والرّدّ. لقد اعتبر “عمر” نفسه مسؤولًا أمام المسلمين وأهل الكتاب والطّفل الرّضيع والفطيم والجنين في بطن أمّه وعن العجوز الّذي غاب ابنه في الجهاد وعن الزّوجة الّتي غاب زوجها لمدّة طويلة في الجيش، وعن البعير والشّاة والمرعى والمُلك العام مهما صغر، وعن الغنائم والأراضي والأمصار والولاة، وعن الجائع والمحتاج والمسكين والضعيف، لقد كان “عمر” أجير هذه الأمّة بمعاش محدود ينتهي قبل آخر الشّهر، ممّا يضطرّه للاستدانة من بيت المال، والوظيفة عنده بمقولات اليوم “تكليف وليست تشريفًا” وفي الوقت نفسه رأى أنّه مأمور بإقامة أسس العدل والمساواة ومسؤول عن تطبيق هذه العدالة أمام الله والنّاس. بهذا المعنى يصبح “عمر” أبا الطّهارة السّياسيّة الّتي لا يتحلّى بها إلّا قليل القليل من الحكّام. وإذا كان لا بدّ من استخدام هذا المصطلح في عالم السّياسة والحُكم في تاريخنا المعاصر، فلا بدّ أيضًا من ردّه إلى مصدره الأوّل وهو “عمر بن الخطّاب” بلا منازع ولا سابق. لقد آمن “عمر” بالشّفافية بمعنى أنّه لم يكن يضع حواجز بين الحاكم والمحكوم، وكان مكتبه بلا جدران ولا حرّاس، ويقع في ركن من أركان المسجد النّبويّ.
متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا:
لم تكن هذه المقولة مجرّد حديث بسيط جاء ردًّا على والٍ ساس النّاس بما يتناقض والعدالة الّتي أنيطت مسؤوليّاتها به، ولا مجرّد تعنيف من الحاكم العادل إلى والٍ ظالم لم يُقم المساواة بين أفراد رعيّته وميّز ابنه في التّقريب والمحاباة عن رجل مصريّ قبطيّ بسيط أهانه وضربه ابن الوالي “عمرو بن العاص” (576 – 644) لأنّه تقدّمه في سباق خيل، لم تكن تلك المقولة إلّا من صميم إيمان “عمر” الحاكم بالحرّيّة بمفهومها الإنسانيّ العميق والكلّيّ والشّامل، وفقًا لقول النّبيّ: “النّاس سواسية كأسنان المشط”، وقد أراد هذا الحاكم الفذّ، وهو حاكم وصارم فعلًا وإيمانًا منه بالحرّيّة كفطرة وخيار، أراد أن يعيش هو نفسه في مستوى الشّعب الكادح وأراد لولاته أن يكونوا مثله، وليسوا أسيادًا على النّاس بل خدّامًا لهم، فلم تكن الحرّيّة بطاقة هويّة فقط يحملها الإنسان لإثباتها أمام النّاس والحكّام، بل هي شهادة ولادة تولد معه لحظة بلحظة كحقّ أساسيّ وطبيعيّ، وليس حقًّا تكفله القوانين والدّساتير الوضعيّة، بل هي حقّ طبيعيّ أساسيّ مفروغ من وجوبه، وبهذه المثابة تتحوّل الحرّيّة وفقًا للفكر العمريّ الإنسانيّ النّزعة إلى أساس متين من أسس الحكم العادل والقويم.
كان “عمر” يستطيع أن يكون حاكمًا شموليًّا يمسك السّلطات كلّها بيديْه، لكنّ إيمانه المطلق بحرّيّة الإنسان جعلته حاكمًا ديمقراطيًّا بكلّ المفاهيم، يتقبّل قول الشّعب ليس عندما يقبل ويوافق بل كان أكثر سماعًا لقوله ونقده عندما يعارض، أليس هذا الشّعب هو المطلوب تأييده ومساندته! أليس هو الزّارع الحاصد لنأكل! أليس هو المحارب الّذي نصر دعوة النّبيّ ورسالة الإسلام وجاهد وقتل واستشهد! أليس هو من بنى الثّغور والمدن وبنى الأمصار! وإذا كان الشّعب هو من تحمّل هذه الأعباء الجسام، فليس من حقّ الحاكم أن يتفرّد باتّخاذ القرارات كفرمانات سلطويّة وكمسلّمات لا تناقش، وليس على الشّعب إلّا الخضوع، فإذا احترمنا هذه الأيادي البانية والضّاربة وحاملة الأعباء، فلماذا لا نحترم كلمة الشّعب ورأيه ومشورته! هكذا آمن “عمر” الحاكم العظيم بمبدأ الشّورى وحقّ المعارضة من إيمانه الّذي لا يتزعزع باثنتيْن: الأولى بحرّيّة الإنسان والثّانية بثقل المسؤوليّة الملقاة على عاتقه أمام الله والنّاس في طريقة الحكم ومضمون دعائمه وتطبيق العدالة بشكل كامل. فعندما قال له رجل من العامّة: “اتّقِ الله يا عمر” ثلاث مرّات غضب صحابيّ من الحاضرين، ولكنّ “عمر” ظلّ على هدوئه وردع الصّحابيّ إيمانًا منه بحقّ الرّجل في النّقد وإبداء الرّأي والمعارضة وقال: “دعه! فلا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نسمعها”، ميزان الحكم العادل يقوم على ركنيْن أساسيّيْن: الحاكم كسلطة تنفيذيّة والشّعب كسلطة تشريعيّة مشاركة بشكل عضويّ مع الحاكم وقضائيّة مستقلّة عن الاثنتيْن، ولكي يتمّ الأمر فلا بدّ من تقبّل مبدأ الشّورى لدى الحاكم وحقّ المعارضة البنّاءة، وكلا الأمريْن يحتاج لعدالة الحاكم وشجاعته وثقته ولعدالة الشّعب وطمأنينته الحياتيّة العامّة، فالشّورى معناها أن يقوم الشّعب بمسؤوليّاته مع الحاكم يدًا بيد ورأيًا برأي وإرادة بإرادة، وقد كان ذلك حافزًا قويًّا يجعل النّاس شجعان في إبداء الرّأي وفي المشاركة في تحمّل المسؤوليّة عن المصير العامّ للأمّة والدّولة والمصالح العليا. رأى “عمر” بالشّورى وبالحقّ في المعارضة رُكنيْ الحكم القويم والسّديد بالمفهوم الدّيمقراطيّ الحديث. لذلك كان ينشرح صدره عندما يعارضه أحد حتّى لو كان عابرًا في سبيل أو سامعًا لخطبة في أيّ مكان أو زمان، فعندما سأل: “ماذا تفعلون إذا حدت عن الحقّ”؟ هزّ رجل سيفه أمام “عمر” فقال للرّجل: “إيّاي تعني بسيفك”؟ قال الرّجل بشجاعة وجرأة وعدم تهيّب: “نعم”! انشرح صدر “عمر” وقال: “الحمد لله الّذي جعل فيكم من يقوّم عوجي”! وكان يقول: “أحبّ النّاس إليّ مَن أهداني إلى عيوبي” هذا ما كان يريده “عمر” بناء الإنسان الشّجاع والصّلب ولم يرد الإنسان جبانًا ذليلًا، كلّ همّه التّزلف لنيل الحظوة عند الحاكم، ومن منظوره الاجتماعيّ والسّياسيّ الرّافض للعبوديّة أراد شعبًا سيّدًا منتصبًا بكرامة على قدميْه لا زاحفًا بتذلّل على بطنه أمام الحاكم، شعبًا يزاول حياته بكلّ حرّيّة ومسؤوليّة ورؤية حكيمة لمصلحة الأمّة وكرامتها ولمستقبل مصيرها العظيم. وإذا تخلّى الحاكم والشّعب عن الشّجاعة والحرّيّة في إبداء الرّأي وتقبّل الرّأي الآخر تكون هذه من علامات الاضمحلال والزّوال لأنّ الشّعب سيفقد الرّغبة في الإنتاج والإبداع نحو التّقدّم والتّطوّر والسّداد وتحقيق الغايات السّامية.
والحرّيّة عند “عمر” هي حرّيّة الفرد وحرّيّة الخيار في أن يسلك الفرد طريقه إلى الحقّ، وهو حقّ مضمون للصّغير والكبير، للرّجل والمرأة، والمسلم وغير المسلم، ومن حقّ جميع شرائح المجتمع من البسطاء والضّعفاء والعاملين والفقراء وليس حقًّا لصفْوة من الصّحابة ولا لنخبة من رؤساء القوم ولا لقادة عسكريّين حتّى لو أبلوا في القتال والجهاد بلاء حسنًا وحقّقوا انتصارات هائلة ولا لأقرباء يتزلّفون. لله درّه كان يقول للنّاس: “لا تقولوا الرّأي الّذي تظنّونه يوافق هواي وقولوا الرّأي الّذي تحسبونه يوافق الحقّ”. ومع احترامه للنّصّ في حكمه لكنّه لم يهدر الرّأي الّذي قد يحمل الطّاعة المؤمنة وقد يحمل المعارضة الأمينة. إنّ استقامة المجتمع الجديد تتمّ بالنّاس العاديّين والأمّيّين والفقراء والبسطاء المستضعفين الّذين آمنوا برسالة النّبيّ وتعذّبوا وقاوموا الظّلم وأخرجوا من ديارهم بدون وجه حقّ وآزروا الحقّ وانتصروا على سادتهم بالصّمود والكفاح والسّلاح حتّى بنوا دولة أساسها الحقّ والعدل والمساواة “كلّنا من آدم وآدم من تراب لا فضل فيها لعربيّ على أعجميّ إلّا بالتّقوى”، لقد أدرك “عمر” بوعيه المنفتح على تجارب التّاريخ وتعلّم منها، فرأى كيف قامت الإمبراطوريّات القويّة الكبيرة والمترامية الأطراف على نظام الأسياد والنّبلاء والأقنان والرّقيق، وعلى الدّماء والأثرة ونهب الثّروات والاستعباد، وعندما انعدمت الحرّيّة والعدالة والدّيمقراطيّة وحقّ المعارضة وساد في تلك الإمبراطوريّات الظّلم والتّسلّط والحكم الشّموليّ المستبدّ والرّغبة في السّيطرة زالت تلك الدّول وتهدّمت العروش وانهارت الشّعوب وتدمّرت الحضارات وذهبت الأمجاد، كلّ ذلك لغياب العدل والرّحمة والتّراحم بين الشّعب الواعي لظروفه وحرّيّته ولمستقبله وبين الحاكم الثّائر من أجل كرامته ورسالته والعادل معه والصّارم في الحقّ وحامل المسؤوليّات الجسيمة والسّامية، وهذا الشّعب تجسّد في المسلمين والنّاس جميعًا في الدّولة الإسلاميّة وهذا الحاكم العادل الواعي لمسؤوليّاته أمام الله والنّاس تجسّد في “عمر”، لم تكن قضيّة العدل والتّمييز بين الحقّ والباطل هي الوحيدة الّتي جعلت منه أبرز الحكّام الّذين عاشوا في ذاكرة النّاس، بل كان مع العدالة العمريّة ميل وانحياز إلى الفقراء والبسطاء والمستضعفين، هذا الميل ظلّ مقترنًا بمفهوم العدالة في الدّولة الإسلاميّة في عهده على الأقلّ، فقد رأى “عمر” أنّ العدل لا يكون للأغنياء والأقوياء بل يحتاجه من ليس له سند من الفقراء والمظلومين والعبيد، ومن هذا المنطلق قال: “يا معشر الفقراء ارفعوا رؤوسكم فقد وضح الطّريق”، لقد ردّد هذا الشّعار بعد حوالي 14 قرنًا من الزّمان الرّئيس “جمال عبد النّاصر” (1918 – 1970) بعد انتصار ثورة 23 يوليو في مصر سنة (1952) وانتصارها على النّظام الملكيّ وانحيازها إلى الفلّاحين والعمّال والفقراء فقال: “ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد”.
لله درّ ابْن الخطّاب! أيّ امرئ كان:
قالها “عبد الله بن مسعود” (31 ق. ه – 32 ه) وهو أبرز العارفين بحقيقة “عمر” وشخصيّته وهو من أوائل الصّحابة، كان أمينًا في الجاهليّة وظلّ مشهودًا لأمانته في الإسلام، فقيهًا، عالمًا بالحديث والتّفسير والقضاء، جعله “عمر” قاضيًا ومعلّمًا وأمينًا على بيت مال المسلمين في “الكوفة”.
فماذا كان “عمر” غير ما أوردنا من قبل! ماذا لو عرفنا أنّ كلّ ما كان عليه “عمر” من مسؤوليّة وإحساس بثقلها بُني على التّقشّف والزّهد بكلّ مباهج العيش: في المطعمِ والملبسِ والمشرب والمصروف الشّخصيّ وكلّ حطام الدّنيا، وقد جعله هذا الأمر يفرض نظامًا صارمًا بالتّعامل كحاكم بدأه بنفسه كقدوة حسنة ونموذج أصيل ونبيل ومن ثمّ على أسرته وبنيه وأقاربه، ومن بعد على الولاة والمسؤولين في أجهزة الدّولة مهما علت مناصبهم. فبعد أن كان جنديًّا وسيفًا عند النّبيّ وعند خليفته “أبو بكر” أصبح بعدهما الحاكم القائد والجنديّ والسّائل والمسؤول والآمر والمأمور والرّئيس والمرؤوس، وصار الإحساس بعبء المهمّة أكبر وأعلى، ولكنّ “عمر” مع تهيّبه منها وتخوّفه من عدم القيام بها حقّ القيام أتقنها وأحكم أزمّتها بالاعتماد على نهج حكم سياسيّ واجتماعيّ وأخلاقيّ وإنسانيّ عظيم اتّخذه دستورًا حياتيًا يبدأ من نفسه وأهل بيته ليصل إلى كلّ أرجاء الدّولة الإسلاميّة وجميع أفراد الأمّة فيها.
فإذا صرف في الحجّ أقلّ من المخصّصات الطّبيعيّة له أبدى اعتراضه وقال: “لقد أسرفنا في الصّرف”، كان يرضى بأقلّ من الضّروريّات، فماذا كان يحدث عندما يرى أحدًا من أسرته يسرف فيما يراه “عمر” من الكماليّات، كأن يرى ابنه يأكل اللّحم والنّاس في خصاصة وجوع، ويشير عليه بالزّيت والخبز، ويرى إبل ابنه أسمن من غيرها فيوكزه: “ألأنّك ابْن أمير المؤمنين”! كان شديدًا على أهله وقرابته ولطالما حرمهم من كثير من الحلال، لأنّه رأى في ذلك الحلال سرفًا وبذخًا، ولقد رفض “عمر” غير المتقيّد بسلطة النّصّ وجمود الأحكام مفضّلًا سلطة الحاجة الواقعيّة والضّرورة والمصلحة العامّة، رفض إعطاء خمس الغنائم لأهله رغم النّصّ القرآنيّ، لم يهب هذا الحقّ لهم لأنّ في الخمس من الغنائم مالًا كثيرًا يزيد عن حاجات أهله المعيشيّة الضّروريّة، والأهمّ من ذلك خشي “عمر” من تراكم الثّروة ومن ثمّ تحوّلها إلى وسيلة استغلال من الإنسان لأخيه الإنسان، زيادة على حرصه الشّديد في عدم إهدار المال العامّ على أمور زائدة عن الحاجة والضّرورة، وعندما طالبه بعض من أهله بهذا الحقّ قال: “حقّ أقاربي في مالي وهذا مال المسلمين”. ولذلك كان “عمر” يثقّفهم ويوعيهم على تحمّل المسؤوليّة معه وليس على التّزلّف له، فالقرابة به تعني القبول بالشّظف، ولذلك كان كثير من أهله وأقاربه يعتبرون هذه القرابة معاناة ولعنة دائمة لأنّهم لم يفقهوا هذا الجوهر العمريّ النّادر.
الصّارم الحازم في الحقّ:
لقد أدرك “عمر” انتقال ذلك المجتمع البدويّ البسيط والفقير، المجتمع الّذي يقتل أولاده من أملاق، وتحوّل هذا المجتمع في عهده إلى مجتمع امتلك خزائن أكاسرة الفرس وقياصرة الرّوم، ولذلك سريعًا ما وضع “عمر” القوانين والأسس لبناء دولة ذات أنظمة واضحة، تخصّ القضاء والمال والإدارة والجيش، وقد بنى باستشارة فارسيّة لأنّ العرب لمّا تتعرف على نظام الدّواوين/ الوزارات بالمعنى الحديث، ولقد ساهم “الهرمزان” أثناء عمله في “المدينة” بعد إسلامه في ذلك واعتبرت مساهمته في بناء الإدارة والدّواوين لا تقّل عن أهمّيّة الفكرة العسكريّة الدّفاعيّة في حفر الخندق والّتي أسهمت في انتصار المسلمين والّتي قدّمها “سلمان الفارسيّ” (568 – 654) وقد تأسّست ثلاثة دواوين أساسيّة في “المدينة” وإلى جانبها دواوين فرعيّة في الولايات، وهي ديوان الجند الّذي يهتمّ بتسجيل الجنود ورواتبهم، وديوان الجباية والخراج والجزية والمكلّفين بها، وديوان العطاء لتنظيم استحقاقات المواطنين وأعطياتهم وفق الأولويّة وتسجيل المواليد، وكان لهذا العمل الإداريّ الّذي قدّمه “الهرمزان” أن استبعد من كونه جزءًا من مؤامرة اغتيال “عمر” ومشاركة “فيروز لؤلؤة” بتلك الجريمة، وسنأتي على ذكر ذلك فيما بعد، وأقيم الكثير من المرافق العامّة والمناصب لتنظيم إدارة الدّولة الحديثة العهد على أسس وأنظمة واضحة، وبخاصّة علاقة الحاكم بالمحكوم، وعلاقة الجيش بسياسة الدّولة. لذلك كان مع ولاته وعمّاله حكّام الأمصار وأصحاب المناصب عامّة، كان “عمر” أدهى وأمرّ، لأنّه كان يريد منهم أن يتحمّلوا مسؤوليّة الحكم أمام النّاس كما يحمله هو بضمير حيّ ونفس مطمئنّة وبساطة عيش وقناعة وزهد، لأنّه رأى وآمن بوجوب “أخذ السّيف باريها”، والرّجل المناسب يشغل المنصب المناسب، ولو أدرك الإنسان ثقل المسؤوليّة بحقّ وإدراك عقلانيّ وضميريّ لهرب من تحمّلها ولم يطلبها ولم يسعَ إليْها، كما هرب “عمر” مرّتيْن منها: بعد وفاة النّبيّ ونجح في الهرب، وبعد وفاة “أبو بكر” ولكنّه هذه المرّة لم يستطع التّهرب للحاجات الحرجة والظّروف الموضوعيّة ولضرورة حفظ الرّسالة والمسلمين والمجتمع والخوف من تشتّته وضياع الهدف العظيم. ولذلك رفض وفقًا لقناعاته في تحمّل المسؤوليّة وتبعات الحكم كلّ من طلب منصبًا، لأنّ هذا السّاعي للمنصب سيكون حاكمًا أو واليًا لا يقدّر حجم المسؤوليّة الّتي ستوكل إليه، وقد أجاب مرّة أحد الرّاغبين في الأمر، وكان “عمر” يفكّر في توليته، ولكنّ طلب الرّجل سبق التّولية، فقال له: “كنّا أردناك لذلك ولكن من يطلب هذا الأمر لا يُعان عليه ولا يُجاب إليه”.
ومن كلامه المشهور إلى عمّاله وولاته: “ألا وإنّي لم أبعثكم أمراء ولا جبّارين، ولكن بعثتكم أئمة يُهتدى بكم فأدّوا على المسلمين حقـوقهم ولا تضـربوهم وتـذلّوهم ولا تحمـدوهم فتفتنوهم ولا تغلقوا الأبواب دونهم، فيأكل قويّهم ضعيفهم، ولا تستأثروا علـيهم فتظلمـوهم، ولا تجهلوا عليهم، وقاتلوا بهم الكفّار طاقتهم، فإن رأيتم بهم كلالة فكفّوا عن ذلك، فإنّ ذلك أبلغ فـي جهاد عدوّهم”، ثمّ قال: “أيّها النّاس إنّي أشهدكم على أمراء الأمصار أنّي لـم أبعـثهم إلّا ليفقّهـوا النّاس في دينهم ويقسّموا عليهم فيأهم ويحكموا بينهم، فإن أشكل عليهم شيء رفعوه إليّ”. هذا ملخّص دستوريّ أراده “عمر” أن يكون أساسًا لتعامل الولاة مع النّاس في الأمصار، ولكن رافق هذا الدّستور المختصر منهج “عمر” في التّقشّف والزّهد، ولذلك كان يوصي الوالي بأربع: لا تركب دابّة مطهّمة! فالدّابة للعمل وليس للخيلاء، ولا تلبس ثوبًا ناعمًا! فالثّياب الحقيقيّة هي أناقة النّفس وليس الجسد، ولا تأكل طعامًا باذخًا! قبل أن تطعم منه رعيّتك، ولا تغلق بابك دون حوائج النّاس. أرادهم أن يعيشوا بمستوى حياة النّاس الكادحين الفقراء بل أقلّ منهم، فهم بنظره خدّام للنّاس وليسوا سادة عليهم، يصلّون فيهم ويقيمون العدل فيما بينهم، يطالبونهم بالواجبات بما تطيق نفوسهم ويؤدّون حقوقهم غير منقوصة، ولا يرهقونهم بالضّرائب ويتقبّلون رأيهم ومعارضتهم ونقدهم مهما كان شديدًا، وقد أوصى ولاته: “افتح لهم بابك وباشر أمورهم بنفسك! فإنّما أنت رجل منهم غير أنّ الله جعلك أثقلهم حملًا” فالكفاءة في حمل المسؤوليّة الثّقيلة والواجب المقدّس نحو الرّعيّة والزّهد في العيش هي مفتاح الوالي النّاجح.
لقد أراد “عمر” أن يكون الحاكم تحت رقابة المحكوم، ولذلك كان يردّد: “أريد رجلًا إذا كان في القوم وليس أميرًا لهم بدا وكأنّه أميرهم وإذا كان فيهم أميرهم بدا وكأنّه واحد منهم”. كان “عمر” يفضّل أهله وولاته ويميّزهم بشدّة العقاب المضاعف، والويل لمن يتدخّل بشفاعة لأحد المسؤولين، هذه زوجته “عاتكة” وهي الصّحابيّة المعروفة بورعها (توفّيت سنة 41 ه) تتوسّط لأحد الولاة المعزولين لسوء سلوك، ولم يكن تدخّلها لا رأيًا ولا اقتراحًا ولا مشورة بل كلّفها الوالي بالتّزلّف والحظوة، فما كان إلّا عنّفها أشدّ التّعنيف على فعلتها الشّنيعة، كما عنّفها على قبولها سجّادة صغيرة هديّة من “أبو موسى الأشعريّ” (602 – 665) الّذي ظلم أحدًا من رعيّته بحلق شعره ظلمًا فحكم عليه حلقًا بحلق، وكما حكم على ابن “عمرو بن العاص” جلدًا بجلد، وعلى “جبلة بن الأيهم” (توفّي سنة 53 ه) وكان ملكًا على الحيرة، لطم رجلًا داس على عباءته في “الكعبة” لطمًا بلطم، هذا هو نظام القضاء العمريّ المظلوم يأخذ حقّه من الظّالم بعدالة ومساواة بعد أن يشرح مظلمته أمام القاضي أو الحاكم، فالعقاب مساوٍ للّذنب بل ويزيد أحيانًا فيما لو رغب المظلوم.
في الوقت نفسه آمن “عمر” برفض هدايا الولاة كمبدأ وليس كسلوك فقط، لأنّه اعتبر الهدايا هدرًا للمال وحرمان الرّعيّة منه ووسيلة للتّقرّب السّلبيّ من الحاكم لنيل وظيفة أو منصب أو حظوة، وهذا السّلوك يتنافى مع روح “عمر” السّامية ونفسه المؤمنة. وكان يدعو الولاة إلى عدم حرمان الرّعيّة بهدف جمع المال وإرساله للدّولة وإلى أمير المؤمنين لكسب رضاه، ويطالبهم بصرف المال وتقسيم الخيرات على أهل ولايته، فدخل الولاية يقسّم على سكّانها بالعدل لأنّ الولاية تتمتّع بحكم ذاتيّ إلّا في الأمور الكبيرة كالأمن في حالة الضّرورة، ومن ثمّ يعطي للدّولة نصيبها بعد كفاية النّاس، لأنّه كان يؤمن بأنّ الإنسان هو الثّروة الحقيقيّة للدّولة وليس المال، فهو القادر على جلب المال، فحياته أهمّ من كسب المال وتكديسه حتّى لو كان للدّولة ويصرف في مصلحة الأمّة، والثّروة في خدمة الإنسان، وويل لأمّة يصبح فيها الإنسان عبدًا وخادمًا للمال. ولذلك كان “عمر” رحيمًا على رعيّته من مسلمين وغير مسلمين فيأمر الولاة بعدم إرهاق المسلمين بالضّرائب الثّقيلة وغير المسلمين بالجزية فوق ما يطيقون، فهي بالآخر ضريبة دخل وليس ضريبة إفقار وإذلال، لقد كان يقول: “ليس الرّجل بمأمون على نفسه إن أجعته أو أخفته أو حبسته أن يقرّ على نفسه”. وإذا قسنا صورة الدّولة الّتي قادها “عمر” وبعلاقته مع الأمّة والنّاس والأفراد مع صورة الدّولة الحديثة لكانت هذه الدّولة دولة للخدمات والرّفاه الاجتماعيّ وتكافؤ الفرص والعدالة في توزيع المال والممتلكات ودولة المساواة في الحقوق والواجبات أمام القضاء المعتمد على نظام قضائيّ يقوم على كثير من الأسس، ويضمن صدور الأحكام العادلة للجميع. حتّى لو كان “عمر” الخليفة الحاكم نفسه طرفًا في قضيّة ما. وقد أفادني صديقي المربّي والكاتب د. محمّد حبيب الله بأنّ “عمر” كان أوّل حاكم في التّاريخ يدخل الحقّ في “الضّمان الاجتماعي” للأولاد والشّيوخ الّذي يوازي “التّأمين الوطنيّ” اليوم، بعد أن رأى وهو يتجوّل بين النّاس عجوزًا يمدّ يده ذليلًا يتسوّل فقال: “لا يجوز أن نأكل شبابه ونرميه في شيبته” وأقرّ القانون بالضّمان له ولضربائه وأمثاله، كان يبكي مع فقير أو مظلوم ليس لرقّة عاطفة في قلبه فقط بل من ثقل المسؤوليّة أمام النّاس في الأرض والأهمّ أمام الله في السّماء، فمن يجرؤ على الظّلم وعمر موجود، وقد تعلّق به الفقراء وقد لخّص أحدهم الحياة في عهد عمر بعبارة قصيرة فقال: “لا ظلم وعمر في المدينة. لقد كان من الطّبيعيّ أن يتحوّل “عمر” في ظلّ هذا المجتمع الجديد والدّولة الّتي تؤسّس حديثًا ككيان دينيّ ودنيويّ، سياسيّ واجتماعيّ واقتصادي، حضاريّ وأخلاقيّ، مادّيّ وروحانيّ وفقًا للرّؤية العمريّة المتميّزة، يتحوّل إلى مصنع للقوانين، ولكن ميزة “عمر” في أنّه لم يكن يطالب بتطبيقها من قصره أو من برجه العاجيّ البعيد عن نبض الشّارع والنّاس، بل عن قرب وكثب من خلال علاقته المباشرة مع الواقع الاجتماعيّ اليوميّ للنّاس في الجوامع والطّرق والأحياء والأسواق.
السّلطة القضائيّة:
قلنا في موقع سابق ما معناه أنّ الخليفة كان يستطيع أن يجمع في صلاحيّاته كحاكم السّلطات الثّلاث فيكون المشّرع والمنفّذ والقاضي، ولكنّ “عمر” رفض إيمانًا منه بالحرّيّة والشّورى وحقّ المعارضة أن يجمع بين تلك السّلطات فيتحوّل إلى حاكم شموليّ مستبدّ، وهذا النّوع من الحاكم يتناقض مع روحانيّة “عمر” واستقامته ونهجه الفكريّ ويتنافى مع مصلحة الأمّة والإسلام ورسالته، ولا يضمن أيّ مستقبل مشرق وناجح، لأنّ هذا النّوع من الحكم لا يولّد إلّا دولة فاشلة وأمّة واهية وفردًا يائسًا وغير منتج وغير مطمئنّ على حياته وحرّيّته وأملاكه وأمنه. أمّا الدّولة الّتي أرادها “عمر” فهي الدّولة الّتي تضمن لأفرادها ولأمّتها جماعيًّا العيش المطمئنّ والحياة الكريمة والحرّيّة الخلّاقة القادرة على الإبداع والإنتاج، ولا يتأتّى بناء هذه الدّولة إلّا بتحمّل كلّ فرد فيها أيًّا كان منصبه أو وظيفته مسؤوليّاته وبممارسة حقّه في مجرى الحياة بكلّ جوانبها، ولعلّ الضّمان الوحيد لقيامها هو العمل بموجب مبدأ الفصل بين السّلطات بالمعنى الحديث للمصطلح، وهذا هو صلب إيمان “عمر” الّذي جعل الأمّة بأفرادها شركاء في المشورة والرّأي وذوي حقّ في النّقد والمعارضة، فالحاكم والشّعب بنظر “عمر” هما المشرّع والمنفّذ، وهما مستقلّان عن السّلطة الثّالثة، القضاء وهي السّلطة العليا. مع أنّ الحالة السّياسيّة والاجتماعيّة لم تكن مبنيّة على مؤسّسات ثابتة وواضحة المعالم والحدود، ولكنّ الأصول القضائيّة تستند إلى أحكام ونصوص، ومع ذلك لا بدّ من اجتهاد وقياس ونزاهة. لقد أصبح “حذيفة بن اليمان” (توفّي سنة 36ه) وهو صحابيّ لازم النّبيّ وكان حافظ سرّه، صار سلطة قضائيّة أعلى من سلطة “عمر” التّنفيذيّة. ففي قضيّة بين عمّ النّبيّ “العبّاس بن عبد المطّلب” (568 – 653) وسلطة الدّولة لقي “عمر” العبّاس وقال له: “لقد سمعت رسول الله قبل موته يريد أن يزيد في المسجد، وإنّ دارك قريبة من المسجد فأعطنا إيّاها نزدها فيه وأقطع لك أرضًا أوسع منها”. فرفض “العبّاس” العرض، فقال “عمر”: “إذًا آخذُها منك بالقوّة”! فأجابه “العبّاس”: “ليس ذلك إليك فاجعل بيني وبينك من يقضي بالحقّ”! قال أمير المؤمنين: “ومن تختار؟ قال: “حذيفة بن اليمان”. وبدلًا من أن يستدعي أمير المؤمنين “حذيفة” ذهبا إليه احترامًا لمكانته وللقضاء وللعدالة والحقّ. نعم! فحذيفة الآن يمثّل سلطة أعلى من سلطة الخليفة نفسه، فالقضاء والحقّ والعدل فوق الجميع، فهو سيقضي بين الخليفة أو الدّولة الّتي تبغي المصادرة وبين الفرد بدون وجه حقّ حتّى لو كانت القضيّة توسعة للمسجد، فحرّيّة الفرد أهمّ عند “عمر” بينه كسلطة وبين واحد من المسلمين أمام القاضي “حذيفة بن اليمان”، جلس “عمر” و”العبّاس” وقصّا عليه مسألة الخلاف الّذي بينهما. فقال “حذيفة بن اليمان”: “سمعت أنّ نبيّ الله “داود” أراد أن يزيد في “بيت المقدس” فوجد بيتًا قريبَا من المسجد، وكان هذا البيت ليتيم فطلبه منه فأبى، فأراد “داود” أن يأخذه قهرًا فأوحى الله تعالى إلى اليتيم المظلوم: “إنّ أنزه البيوت عن الظّلم لهو بيتي” فعدل “داود” وتركه لصاحبه. فنظر “العبّاس” إلى “عمر” وقال: “ألا تزال تريد أن تغلبني علي داري”؟ قال عمر: “لا”! فقال “العبّاس”: “ومع ذلك فقد أعطيتك الدّار تزيدها في مسجد رسول الله”.
هذا هو “عمر” بكلّ هيبته ومكانته، يرضخ للحقّ والعدل أمام القاضي، إنّ هذا الرّضوخ السّامي للعدالة ولقضاء الحقّ هو سرّ من أسرار عظمة “عمر” الّذي لا يرى شيئًا أعلى من الحقّ والعدالة والقضاء بهما، وكان يحصل على مبتغاه لصالح المسلمين بقبول الحقّ والرّضا والعفو. كان مرّة يعسّ باللّيل فسمع صوت غناء فتسوّر البيت وفيه رجل يشرب الخمر ومعه امرأة، فقال “عمر”: هل ظننت أنّ الله يسترك وأنت على معصيتك”! وأراد “عمر” أن يعاقبه بحدّ الخمر، فقال الرّجل: “لئن شربت الخمر وأخطأت أنا في واحدة فقد أخطأت أنت في ثلاث! لقد تجسّست وقد قيل في القرآن: ولا تجسّسوا، وأتيت البيوت من ظهورها وأنت أتيت ودخلت من السّور، وقال القرآن: ولا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتّى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها، وأنت دخلت بلا إذن ولا أنس ولا سلام” فبهت “عمر” لمعرفة هذا الشّارب بالحدود والنّصوص وعفا عنه تاركًا إيّاه بلا عقاب، ولكنّ ذلك الرّجل قابل العفو بوعد الخليفة بالكفّ عن الشّراب. ليس العقاب دائمًا هو الرّادع فالتّربية والقدوة الحسنة والتّوبة قد تكون أجدى للإنسان سلطة كان أم فردًا.
وللقضاء مصادره وأسسه المعروفة كالقرآن والسّنّة والاجتهاد والشّورى والإجماع والرّأي والقياس، ومع ذلك كلّ هذه المصادر لم تلغِ دور القاضي وتجربته وثقافته ونظرته القويمة ونزاهته في المساواة بين المتخاصمين (فقد رفض أن يناديه القاضي بأمير المؤمنين وينادي خصمه باسْمه الشّخصيّ) واستخدام الشّهود واجتهاده بتبيان الأدلّة والبيّنات، حتّى يثبت الذّنب ويتمّ العقاب الموازي والمساوي. آمن “عمر” وفقًا للمفاهيم والاتّجاهات الفكريّة الحديثة بأنّ الإنسان خيّر بطبعه، قد تسوّل له النّفس السّوء فيفعله، ولذلك كان رحيمًا على المؤمنين والنّاس، وكان مع إيمانه بوجوب العقاب وفقًا للحدود بعد ثبوت الخطيئة بالبيّنة العادلة، ولكنّ “عمر” نظر إلى العقاب بالمفهوم الإيجابيّ الرّادع كوسيلة وليس إلى غاية بحدّ ذاتها، ولذلك أيضًا كان يرى ولعطف ورحمة في وجدانه الإنسانيّ الكبير بإمكانيّة “قبول التّوبة خير من إقامة العقاب” كما كان يقول فقد تكون التّوبة أنجع في تربية الإنسان. آمن “عمر” بالحزم في إظهار الحقّ وبعدم جواز الإعفاء من الحدود، ولكنّه لرقّة أصيلة نبيلة في نفسه كان يقول: “لئن أعطّل الحدود بالشّبهات خير من أن أقيمها بالشّبهات”. ليس الحدّ ولا النّصّ هما الأكثر تقديسًا عند “عمر” بل الإنسان وحياته وأمنه وحرّيّته وكرامته وحقّه واطمئنانه وبصفاء توبته. ولو رأى “عمر” أنّ قاضيًا أخطأ في حكم وأقام حدًّا ظنّه حقًّا وهو غير واثق، فلا حرج بالمراجعة والاستئناف والفحص، وقد كان يدعو القضاة قائلًا: “مراجعة الحقّ أفضل من التّمادي في الباطل”. وكان يخاف على المسلمين من العلماء المزيّفين ممّن طفحت ألسنتهم بالكلام الضّار وخلت قلوبهم وعقولهم من العلم النّافع، ولذلك كان يقول: “أخوف ما أخاف على هذه الأمّة من عالم باللّسان جاهلٍ بالقلب”.
أصابت امرأة وأخطأ عمر:
في بداية حديثنا، وعندما تكلّمت عن قصّة اعتناق “عمر” الإسلام، ذكرت إنّ فضل ذلك يعود إلى ثلاث نساء، الأولى هي أخته “فاطمة بنت الخطّاب” الّتي سبق الحديث عن إسلامها وزوجها، أخته هذه الّتي عهد فيها الضّعف تقف ذائدة عن زوجها من ظلم أخيها الجبّار، ما الّذي أحدث فيها كلّ هذه الجرأة والقوّة والقدرة على تحدّيه، هل هو الإسلام و”محمّد” الّذي شقّ “مكة” إلى شقّيْن متحاربيْن، لقد عاش “عمر” آنئذٍ هذا الصّراع الدّاخليّ بين أمجاده في الجاهليّة، فهو زعيم قومه وسيّد من أسياد “قريش”، وهو سفيرهم إلى القبائل، رجل يشار إليه بالبنان ويقود الآخرين ويتبعه النّاس، فهل يتحوّل إلى تابع للنّبيّ ويخسر كلّ مكانته الجاهليّة والقبليّة، ويتساءل ما سرّ صمود هؤلاء المستضعفين! يُعذّبون فيزدادون إيمانًا وتمسّكًا وصلابة، ونبيّهم لا تشوبه شائبة، فهو الصّادق الأمين، وما هذا الكلام الجميل الّذي قرأه عليه “الإرت بن الخباب” 36ق.ه – 37ه) كلام يزعزع النّفس فترقّ، هذا الغليظ القلب الّذي كان على قاب قوسيْن أو أدنى من قتل النّبيّ يبحث عن بيت “الأرقم بن أبي الأرقم” (590 – 675) فيسلم بين يدي النّبيّ فينشرح صدره. فلله درّ “فاطمة” الضّعيفة الّتي أحنت رؤوس الأقوياء ولوت أيديهم عن السّيف ورقّقت قلوبهم بسماع كلام الله بعد فظاظة تمادت وقسوة اخشوشنت. والثّانية جارية بني “المؤمّل” وتُدعى “زنيرة”، من أوائل المسلمات، كان “عمر” وخاله “أبو جهل” يعذّبانها على مدى يوم كامل حتّى يملّا من صمودها ويقول “عمر”: “اذهبي لم أتركك إلّا ملالة”، ويقال ظلّ “عمر” يتذكّر صمودها حتّى بعد أن أسلم. والثّالثة لم أستطع تحديدها من بين مجموعة من النّساء السّابقات إلى الإسلام، كلّهن تعذّبن وبعضهنّ من فقدن النّظر من شدّة التّعذيب والتّجويع ومنهنّ من قتلت أثناء تعذيبها أمام زوجها وابنها، وهي أولى شهيدات المسلمين “سميّة بنت عمّار” من آل “ياسر” الّذين بشّروا بالجنّة (توفّيت سنة 7ه) والأخريات هنّ: “أمّ عُبَيْس” وَ “النّهديّة” وابنتها وَ “أمّ شريك”. نعم كان لأولئك النّساء فضل كبير ويد بيضاء طوّقت “عمر” طوق حمامة المجد والإسلام.
ولذلك ظلّ “عمر” على احترامه للمرأة، وكان يستمع لنقدها ويتقبّل صحّة رأيها ويراعي حقوقها كأيّ مواطن من رعيّته، وكانت المرأة في عهده مقاتلة ومطبّبة ومعاونة في الحروب، وكان منهنّ الكاتبات والقارئات والمعلّمات والعالمات في شؤون الدّين والتّربية والاقتصاد، وفي غير ذلك من شؤون الحياة الّتي تضمن مكانة المرأة كامرأة عاملة ومنتجة ومبدعة. وقصّته مع “خولة بنت حكيم” مشهورة، بينما كان يتفقّد أحوال الرّعيّة، استوقفته امرأة عجوز على انفراد من أصحابه وكلّمته طويلًا، فغضب واحد من مرافقيه ولام “عمر” على وقفته الطّويلة، فقال “عمر”: ويلك! أوتدري من هذه! والله لو وقفت اللّيل كلّه ما فارقت الصّلاة، إنّها امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، عرفت أنّ الله لن يخذلها حين ذهبت تناجيه، فكشف الله عنها الضّرّ ورضي عنها وأرضاها ورفع درجتها في الجنّة”. أبرز ما في عظمة “عمر” حسن تقبّله للضّعيف وعطفه على كلّ محتاج، يسعى لسدّ حاجته ولو كان في ليل دامس، وبعد عطفه يأتي لين عريكته على قوّة شكيمته، وقعوده للحقّ حتّى لو كان خصمَه ولد صغير.
تحدّث يومًا أمام النّاس عن المهور وضرورة تحديد مبلغ المهر بمقدار ثابت، أربعين أوقيّة، كي يتمكّن شباب المسلمين من الزّواج وبناء الأسر بسهولة وطمأنينة، وكان من بين السّامعين امرأة فوقفت وتصدّت له قائلة: “ما هذا لك”! قال: ولمَ؟ قالت: “وإذا أتيتم إحداهنّ قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا، أتأخذونه بهتانًا وإثمًا مبينا” فما كان من “عمر” إلّا الإذعان المطمئنّ لصحّة برهان المرأة، وقال: “أصابت امرأة وأخطأ عمر”. هذا هو العادل والصّارم والثّائر على رأيه إذا مسّه خطأ. وضمن “عمر” حقّ المرأة في الميراث وحرّم ما سمّي “الظّهار” الجاهليّ، وهو أن يشبّه الرّجل زوجته بإحدى النّساء المحرّمات عليه كأمّه أو أخته أو ابنته فتصبح محرّمة عليه ولا يطلّقها كي لا تتزوّج من رجل غيره، فتصبح معلّقة، وفي هذا السّلوك الجاهليّ حرمان للمرأة من زوجها وأولادها وكأنّها أمًّ لزوجها تحرّم عليه، وقد حرّم الإسلام هذا العّرف الجاهليّ كي يضمن للزّوجة حقّها، وصيانة لأعراض نساء المسلمين. وقد نزلت الآية تكريمًا للمرأة وصونًا لها ولحقوقها “قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ * ٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَآئِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَٰتِهِمۡۖ إِنۡ أُمَّهَٰتُهُمۡ إِلَّا ٱلَّٰٓـِٔي وَلَدۡنَهُمۡۚ وَإِنَّهُمۡ لَيَقُولُونَ مُنكَرٗا مِّنَ ٱلۡقَوۡلِ وَزُورٗاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٞ* (القرآن الكريم، سورة المجادلة، رقم 58، الآيتان 1 – 2)
ولعلّ أشهر ثورة قام “عمر” بها على المألوف فخرق العادة والعُرف السّائد عندما ولّى السّوق امرأة، فثارت ثائرة المتزمّتين وأنكروا على “عمر” فعل ذلك، ولكنّ “عمر” المدرك للقدرات المعرفيّة وللعلوم الضّروريّة المفيدة للمصلحة الإسلاميّة هو ما جعله لا يأبه للمعارضة الهدّامة للحاجة والظّرف والواقع، ويؤثر باعتباره مسؤولًا الغاية السّامية والنّافعة للمجتمع الإسلاميّ، حتّى لو كان في ذلك خروج إيجابيّ عن العُرف الجامد والعادة السّلبيّة. لم يكن ليهمّش المرأة الّتي تستحقّ المنصب بل همّش العادات المتحجّرة والمتعارف عليها. تولّت “ليلى بنت عبد الله القرشيّة” (توفّيت سنة 640) أمور السّوق بتكليف من “عمر”، اشتهرت بلقبها “الشّفاء” لأنّها كانت ترقى المرضى وتطبّب أمراض الجلد منذ الجاهليّة وحتّى ماتت في خلافة “عمر”، وهي من المهاجرات الأُوَل، كانت ذات مكانة وتولّت مناصب هامّة قبل تولّيها السّوق، كانت تجيد الكتابة والقراءة وتعلّم النّاس، وكانت زوجة النّبيّ “حفصة بنت عمر” (604 – 665) من تلاميذها، ولذلك تعتبر “الشّفاء” أوّل معلّمة في الإسلام. وعندما نقول تولّت السّوق قد يخطر ببالنا أنّها كانت موظّفة صغيرة ذات مهمّة بسيطة ومحصورة، ولكنّ الحقيقة أنّ من يتولَّ السّوق يكن بمنصب يوازي وزير التّجارة في عصرنا الحديث، لأنّها تولّت السّوق والتّجارة وشؤون التّجّار، وكان “عمر” لعمق درايتها واتّساع معرفتها يستشيرها في أحكام البيع والشّراء، حتّى ولّاها نظام “الحسبة”، ما يعني تكون مسؤولة عن عقد الصّفقات التّجاريّة وعن الفصل في المنازعات الماليّة وعن تحديد عقوبات الغشّاشين من التّجار وعن تنظيم عمل الأسواق وقضايا البيع والشّراء والرّبح والحدود بينها.
التّسامح الدّيني والإنسانيّ:
يعتبر “عمر” المؤسّس الحقيقيّ للدّولة الإسلاميّة بعد أن أرسى النّبيّ أسسها الدّينيّة وأركانها السّياسيّة الاجتماعيّة وسماتها الأخلاقيّة، بشكل أوّليّ في طورها الأوّل، حيث المعالم الإداريّة والمؤسّسات العسكريّة والمدنيّة لمّا تتّضح والرّقعة الجغرافيّة لمّا تتّسع والإسلام مقتصر على العرب في الجزيرة العربيّة، وظلّ الحال على ذلك حتّى نهاية خلافة “أبو بكر” الّتي لم تدم أكثر من سنتيْن (632 – 634) ومع “عمر” وفترة خلافته ذات السّنوات العشر اتّسعت الرّقعة بالفتوحات خارج الجزيرة إلى بلاد العراق وفارس والشّام ومصر، وزاد عدد السكّان، والأهمّ أنّه تنوّع النّاس فلم يعد الإسلام يقتصر على العرب بل تعدّاهم إلى شعوب وأقوام وجماعات كثيرة وانضوى تحت لواء دولته غير المسلمين، من النّصارى واليهود الّذين اعتبروا جزءًا من النّسيج الاجتماعيّ، ولم يرغمهم الإسلام على اتّباعه، بل سارت الأمور وفق قاعدة “لا إكراه في الدّين”. وبهذه الأوضاع المستجدّة صار من الضّروريّ والطّبيعيّ أن يصبح للدّولة الإسلاميّة تاريخ وحضارة وحكومة وإدارة وجيش ومؤسّسات وقضاء وبريد واقتصاد، باختصار صار من الضّروريّ على “عمر” وضع دستور ينظّم الحياة في الدّولة بكافّة شؤونها وجوانبها، يرعى أمنها وحدودها ومواطنيها ومصالحها وتنظيم علاقاتها على أسس ديمقراطيّة بالاعتماد على الشّورى والحرّيّة والحقّ في المعارضة الّتي أرساها “عمر” في الدّاخل بين السّلطة والفرد وتحديد الواجبات والحقوق، وفي الخارج مع أعدائها وأصدقائها، وبالتأسيس على العدالة لكلّ المواطنين وعلى الرّوح الدّيمقراطيّة الّتي آمن بها “عمر” كحقّ طبيعيّ وشرعيّ للفرد والمجتمع، بنى دولته المثاليّة الّتي لا يظلم فيها أحد مهما صغر، ويعاقب على أخطائه أيّ أحد مهما كبر، دولة بلا مظلومين ولا جائعين، كلّ من يسكن فيها يتمتّع بالمساواة والحرّيّة والكرامة، إنّها صورة حقيقيّة لجمهوريّة فاضلة كما رسم معالمها فلاسفة التّاريخ، ولكنّها تميّزت بروح “عمر” الّتي كانت سبّاقة في بناء هذا البنيان العظيم لدولة تنشد الكمال فكرًا وتطبيقًا.
وفي هذا الحيّز المكانيّ الرّحيب والخليط السّكانيّ الكبير والامتزاج الثّقافيّ المتنوّع صار من الواجب تحديد العلاقات مع الآخر المختلف من أهل الكتاب غير المسلمين. وقد تعاملت الدّولة الإسلاميّة مع النّصارى في القدس في زمن “عمر” بتسامح كبير، ففي المعاهدة الّتي كتبها “عمر” لأهل “إيلياء” وهي “القدس” بعد أن سلّم أسقفها “سوفرونيوس” ويعني اسمه بالعربيّة “العفّة” (550 – 639) والّتي دخلها “عمر” وهو في نوبة الجرّ بالغلام وليس في نوبة الرّكوب على الجمل، “إنّ فتح ثالث الحرميْن يستحقّ أن يسير من أجله عمر شهرًا فشهرًا”. دُهش “سوفرونيوس” لذلك الحاكم العظيم المتواضع وللباسه المرقّع البسيط، وقد سلّم مفتاح المدينة إلى “عمر”. عرفت تلك الرّسالة بِ “العهدة العمريّة”، وهي وثيقة تاريخيّة خارقة المعاني والدّلالات والرّسائل العابرة للزّمان والمكان والحدود التّاريخيّة والجغرافيّة، فيها تركيز على حقوق النّصارى وواجباتهم، كما أظهرت مدى تسامح الإسلام ومدى النّظرة التّقدّميّة الّتي تميّز بها “عمر” فيها وفقًا لمفهوم احترام حقوق الإنسان الحديثة. إنّ “العهدة العمريّة” كفلت لنصارى “القدس” حقوقهم الشّخصيّة، والحفاظ على أنفسهم وأموالهم وحقوقهم الدّينيّة، من عدم إكراههم على الدّخول في الإسلام، والحفاظ على أماكن عبادتهم وكنائسهم، وحقوقهم الاقتصاديّة، من حقّهم في التّملّك والكسب، وقد بيّنت “العهدة” سماحة الإسلام مع النّصارى في زمن “عمر”، وممّا جاء في نصّها “بسم الله الرّحمن الرّحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم، سقيمها وبريئها وسائر ملّتها؛ أن لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيّزِها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضارّ أحد منهم”. لقد عانت الأقلّيات من الكبت والاضطهاد والظّلم في دولتيْ: الرّوم والفرس، ولذلك كان من الضّروريّ والمجدي لدولة الإسلام في عهد “عمر” أن ترسي ضمانًا للحرّيّات العامّة، فحرّيّة الاعتقاد كانت مقدّسة عند “عمر”، فقصّته مع المرأة المسيحيّة معروفة، فقد طلب منها أن تسلم فرفضت فندم “عمر” على طلبه ذاك وقال: “اللهمّ إنّي أرشدت ولم أُكره” وكذلك كان يعفي أهل الكتاب من دفع الجزية إذا كانت فوق طاقتهم.
وليس في “القدس” فقط! فالتّسامح الدّينيّ والإنسانيّ عند “عمر” مبدأ يؤمن به من صميم النّفس وإيمان إنسانيّ يتوّج بسلوك وعمل، وليس مجرّد شعارات جوفاء ذات بريق ظاهر بلا جوهر عمليّ وواقعيّ. ففي مصر اتّبع “عمر” التّسامح نفسه وفي وثيقة أخرى هي رسالته لواليه في مصر “عمرو بن العاص” تضمّنت ما تقرّ له الأعين ويشهد بعدالة الإسلام وإنسانيّته، وما يشهد بعدالة الإسلام كدين للتّسامح والمحبّة بين المؤمنين بغضّ النّظر عن انتماءاتهم، وقد جاء فيها: “واعلم يا عمرو أنّ الله يراك ويرى عملك، فإنّه قال تبارك وتعالى في كتابه: “واجعلنا للمتّقين إماما”، يريد أن يُقتدى به، وإنّ معك أهل ذمّة وعهد، وقد أوصى رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – بهم، وأوصى بالقبط فقال: “استوصوا بالقبط خيرًا، فإنّ لهم ذمّة ورحمًا ” وقال صلّى الله عليه وسلّم: “من ظلم معاهدًا أو كلّفه فوق طاقته، فأنا خصمه يوم القيامة”، فاحذر يا عمرو أن يكون رسول الله خصمًا لك فإنّه من خاصمه خصمه”.
لم ينتشر الإسلام بالسّيف في أكثر الحالات، بل انتشر بالدّعوة والإقناع ومن خلالها اعتنقته الشّعوب الّتي كانت ترزح تحت ظلم الإمبراطوريّات الّتي دكّ عروش ظلمها المسلمون. قال ذلك المؤرّخ الفرنسيّ الشّهير “جوستاف لوبون” (1841 – 1931) في كتابه “حضارة العرب” ردًّا على مقولة أنّ الإسلام انتشر بالسّيف: “فالإسلام لم يكتفِ بالدّعوة إلى التّسامح الدّينيّ، بل تجاوز ذلك ليجعل التّسامح جزءًا من الشّريعة الإسلاميّة” وقد تجلّت أروع صور ذلك التّسامح عندما دخل “عمر” مدينة “القدس”، فقدّم كبير أساقفتها مفاتيح الأماكن المقدّسة، وحان وقت الصّلاة و”عمر” في كنيسة “القيامة” فطلب إلى رجل الدّين أن يدلّه إلى مكان يصلّي فيه فأجابه: “هنا في الكنيسة”! فرفض عمر قائلًا: “لو فعلت لطالب المسلمون بالكنيسة وحوّلوها إلى مسجد متذرّعين بهنا صلّى عمر”! وخرج إلى الشّارع فصلّى. في وقت الحرب في الجزيرة العربيّة اُضطرّ إلى إجلاء النّصارى واليهود حفاظًا على حياتهم وأولادهم إلى بلاد الشّام والعراق، ولذلك توجّب عليه احترامًا للحقوق ومصلحة النّاس أن يعطيهم أرضًا تزيد عن الأرض الّتي أجلاهم عنها وأكثر خصوبة منها وأكثر اطمئنانًا وأمنًا للعيش فيها.
وإلى جانب ذلك التّسامح العظيم كان “عمر” قائدًا عسكريًّا، فقد نعته البعض بأنّه كان من أبرز العسكريّين، ليس لأنّه خاض الحروب بنفسه، فقد قاد كتيبة عسكريّة انطلقت من “المدينة” إلى “حمص” في الشّام سنة (638) لقتال الرّوم، هادنت العدوّ في البداية كتكتيك عسكريّ ومن بعدُ استطاعت أن تتّحد مع كتيبة أخرى من جيش المسلمين هناك، واستطاعوا معًا فتح “حمص” وقد نقل “عمر” قسمًا من الجيش إلى العراق لاستكمال الانتصار في معركة “نهاوند”، وقد تمّ ذلك بعد مشاغلة تكتيكية لجيش الفرس. كان “عمر” صاحب استراتيجيّات عسكريّة عظيمة، فقد استطاع بهذا التّخطيط العسكريّ تفكيك الحلف العسكريّ الفارسيّ والبيزنطيّ، حيث اتّفق الطّرفان على محاربة الجيش الإسلاميّ كعدو مشترك للاثنيْن، وقد استطاع بحنكته مشاغلة الجيش الفارسيّ وقتالهم قبل وصول الجيش البيزنطيّ وتحقيق انتصار ساحق، وكان في تكتيكاته العسكريّة يعتمد على ركيزتيْن: الأولى تفتيت جيش العدو بقتاله في عدّة محاور وبتقسيم جيشه إلى فرق متلاحقة، والثّانية مهاجمة العدوّ بهجمات متكرّرة، كان هذان التّكتيكان كفيليْن باستنزاف العدوّ مادّيًا ومعنويًّا، حتّى يتسنّى للجيش الإسلاميّ الانقضاض على العدوّ وغلبته، وقد تحقّق ذلك بالانتصار في حرب “القادسيّة” الأمر الّذي قاد لفتح “المدائن” عاصمة الفرس، ومن ثمّ انهيار الإمبراطوريّة الفارسيّة بالكامل. أمّا الأهمّ من ذلك ومن خلال تنظيم الدّولة وقوانينها، فقد استطاع “عمر” فصل الجيش عن السّياسة، وقد عبّر عن ذلك بعزل “خالد بن الوليد”، وثمّة من يعزو هذا العزل لأسباب أخرى، ولكنّ الأهمّ عند “عمر” هو بقاء الجيش لمهامّه المحدّدة في الحرب خارج الدّولة مع الأعداء، وليس للتدخّل في شؤون الحكم والسّياسة.

الواعي لجمال اللّغة ومتذوّق الشّعر:
كان “عمر” يعي قيمة اللّغة ومكانتها في حياة الأمّة، فهي حافظة لشخصيّة الأمّة وتميّزها ومبدعة فكرها وإبداعها، ويدرك أنّ علوم اللّغة تشكّل جزءًا رئيسًا من علوم الفقه والشّريعة، لذلك كان يدعو إلى تعلّمها والتّعمّق بعلومها ويقول: “تعلّموا العربيّة فإنّها من دينكم وتعلّموا الفرائض والسّنة فإنّها من دينكم” وكذلك قال: “تعلّموا العربيّة فإنّها تثبّت العقل وتزيد في المروءة”، لأنّه أدرك لسعة في معارفه وثقافته ما تنطوي عليه اللّغة من علوم عقليّة نافعة وآداب روحيّة مفيدة وممتعة. ولذلك كان “عمر” يجلّ العلماء والأدباء ويميل بحسّه الرّقيق وإدراكه للمعاني إلى الشّعر الجيّد والجميل ويميّزه عن الرّديء والقبيح، وكان له حسّ أدبيّ وتذوّق فطريّ ومعرفة نقديّة في الشّعر، ولذلك كان يدعو ويرشد إلى قراءته ومعرفته لقيمته اللّغويّة والتّوثيقيّة والأدبيّة والجماليّة، فيقول: “احفظوا الشّعر فإنّه ديوان العرب”. كان معجبًا ببيت “زهير”:
“فإنَّ الحقَّ مقطعُهُ ثلاثٌ – يمينٌ أو نفارٌ أو جلاءُ”
وينعته بأشعر الشّعراء، ويقول: “ما أحسن ما قسّم ولأنّه لا يعاظل”، أي يميل إلى سهل الكلام، وكان معجبًا بشعر “النّابغة الذّبياني” (535 – 605) لحكمته وتجربته وحسن بلاغته.
أمّا حبّه للشّعر وتقديره للشّعراء فتجلوه أكثر ما تجلوه قصّته حول خلود الشّعر وفناء المال مع أبناء “هرم بن سنان” (توفّي سنة 608) أحد أشهر أجواد العرب في الجاهليّة، وهو الّذي أصلح بين قبيلة “عبس” وقبيلة “ذبيان”، وكلاهما من “غطفان” بعد عداء ودماء دامت أربعين سنة، فمدحه الشّاعر الجاهليّ “زهير بن أبي سلمى” (520 – 609) بقصائد كثيرة على مجهوده وبذله لإنهاء ذلك التّناحر الدّموي الطّويل في حرب “داحس والغبراء”، وقد دعا “زهير” ابنيْه: “بجير وكعب” (26ه – 646م) ومن إحساسه بسوء الأحوال المادّيّة والنفسيّة وسوء الظّروف المعيشيّة العامّة واستشراء الفساد والتّناحر في الجاهليّة لاتّباع رسول سيظهر في الجزيرة العربيّة. التقى “عمر” بأبناء “هرم” بعد أن أصبح خليفة للمسلمين وأميرًا للمؤمنين وسألهم أن يُسمعوه بعضًا من شعر “زهير” في أبيهم، فأنشدوه وأعجب “عمر” بذلك الشّعر وقال: “لقد أحسن فيكم القول”، فقال أحدهم: “وقد أجزلنا له العطاء”، فقال “عمر” بعقل راجح وبلسان ثابت: “لقد ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم”.
ولعلّ موقف “عمر” وسداد رأيه حول قصيدة “لامية العرب” للشّاعر الجاهليّ “الشّنفرى” (توفّي سنة 510) أعطت لهذه القصيدة العظيمة عظمة سامية، فقد دعا المسلمين: “علّموا أولادكم لامية العرب فإنّها تعلّمهم مكارم الأخلاق”، وإذا كان النبيّ قد قال: “إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق” فلماذا لا تكون مكارم “لامية العرب” الخُلقيّة الّتي امتدحها “عمر” ودعا إلى تعليم أولادنا إيّاها، لماذا لا تكون جزءًا ممّا جاء النّبيّ لإتمامه! واللّاميّة قصيدة من 68 بيتًا يصف فيها الشّاعر حياة العرب في الجاهليّة ويصوّر مجتمع “الصّعاليك” كمجتمع عادل بديل للمجتمع القبليّ الظّالم، وقد بيّن “الشّنفرى” أسس ذلك المجتمع الجديد ومناقبه وتناول كثيرًا من الفضائل الإنسانيّة العامّة والمكارم الأخلاقيّة، ومن هذه المزايا كانت القصيدة ذات قيمة لغويّة ومعنويّة وحظيت بدراسات كثيرة عند المهتمّين باللّغة والأدب والشّعر والنّقد قديمًا وحديثًا. “عمر” خليفة المسلمين بعمق نظرته وحكمة رؤيته يدعو المسلمين أن يتعلّموا مكارم الأخلاق من شاعر جاهليّ، ولكنّ هذا الشّاعر انتمى إلى الصّعاليك وهم اشتراكيّون بالفطرة ودعوا إلى الثّورة على النّظام القبليّ المتعصّب والظّالم كالإسلام تمامًا وأقاموا مجتمع الصّعاليك. ومطلع القصيدة يقول:
أقيموا بني أمّي صدورَ مطيِّكمْ فإنّي إلى قومٍ سواكمْ لأميَلُ”
وقد حاكى الشّاعر الأصفهانيّ “الطّغرائيّ” (توفّي سنة 514 ه) “لامية العرب” بقصيدة من 58 بيتًا، كتبها سنة (505 ه) سمّاها “لامية العجم” في الحكمة الأخلاق وشكوى الزّمان، من أشهر أبياتها:
“أعلّلُ النّفسَ بالآمالِ أرقبُها – ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأملِ”
ولشهرة قصيدة “الشّنفرى” كتب على منوالها في الحكم والأخلاق الشّاعر “ابن الوردي” (1292- 1349) لاميّته وهي قصيدة مشهورة ومن أشهر أبياتها:
“لا تقلْ أصلي وفصلي أبدًا – إنّما أصلُ الفتى ما قدْ حصلْ”.
ولعلّ من أجمل المواقف الّتي أثّر الشّعر فيها على ذائقته فنيًّا وعلى وجدانه أحاسيسَ ورقّة قصّة الشّاعر الهجّاء “الحطيئة” (600 – 678) مع “الزّبرقان بن بدر” (توفّي سنة 665) أحد سادة بني “تميم” وقد وفدوا على النّبيّ وأسلموا، وفي خلافة “أبو بكر” وحروب “الرّدّة” ثبُت وقومَه على الإسلام، وفي خلافة “عمر” هجاه “الحطيئة” بل أكثر في هجائه لطمعه، وهو من الصّحابة الأجلّاء، ففي سينيّته الشّهيرة قال الحطيئة:
“دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبغيتِها – واقعدْ فإنّكَ أنتَ الطّاعمُ الكاسي”
وقد سجنه “عمر” لبذائته وسلاطة لسانه وهجائه لكثير من المسلمين، وقد وصل به الحدّ بالهجاء أن هجا نفسه وأباه وأمّه وزوجته، فبعث من سجنه إلى “عمر” قصيدته الشّهيرة في الاعتذار والاستعطاف قال فيها:
“ماذا تقولُ لأفراخٍ بذي مرخٍ – زغبِ الحواصلِ لا ماءٌ ولا شجرُ
ألقيْتَ كاسبَهمْ في قعرِ مظلمةٍ – فاغفرْ عليْكَ سلامُ اللهِ يا عمرُ
فامننْ على صبيةٍ بالرّملِ مسكنُهمْ – بينَ الأباطحِ يغشاهمْ بها القدَرُ”
يقال إنّها القصيدة الّتي أبكت “عمر” ذا النّفس الرّقيقة الّتي تنماث عطفًا على كلّ النّاس، وبخاصّة هؤلاء الأطفال الأبرياء الّذين أُخذوا بجريرة أبيهم السّليط، بكى “عمر” القويّ الشكيمة عند سماع الشّعر الصّادق من أب ظَلم أبناءه فظُلموا عن دون قصد، طلب إحضاره وأطلق سراحه وأعطاه 3000 درهم يعول بها أطفاله، وأخذ عليه موثقًا بألّا يهجو أحدًا، فاشترى بذلك “عمر” بماله الخاصّ أعراض النّاس عامّة، ويقال أنّ “الحطيئة” امتثل لعدم الهجاء حتّى موت “عمر”، ومن ثمّ عاد إليه. فهل من حاكم في التّاريخ اشترى أعراض رعيّته غير “الفاروق”!
اغتيال عمر مؤامرة دبّرت بليل:
مات الخنجر المسموم والفيروز غير المتلألئ والرّحى الحجريّ وظلّ “عمر” خالدًا خلود الزّمان، لم يستطع ذلك الخنجر المضاعف أن ينهي حياة عريضة أعرض من بلاد فارس وبلاد العرب، فهل كان تواضع “عمر” مقيّدًا بحدود زمانيّة أم مكانيّة! أم هل كان زهده وتقشّفه وورعه كذلك متجزّئًا ومحدودًا بقوانين! أم أنّ عدله وصرامته في الحقّ محدّدة المعالم! أم حسن إدارته ونقاء حكمه وطهارته تؤطّرها مواقف عنصريّة استئثاريّة! هل كانت مناصرته للضّعيف والمحتاج مسلمًا كان أم مسيحيًّا أم يهوديًّا، عربيًّا كان أم أعجميًا وإحقاق حقّه تخوم أرضيّة! هل كان لثورته العارمة على الظّلم والاستبداد والاضطهاد والكبت قواعد تقعده عن دوامها! هل خنجر مسموم له في كلّ طرف نصل حادّ ومصقول يستطيع أن ينهي كلّ هذ البناء الشّامخ! ويهدم الصّرح المنيف وبرج العظمة الّتي لا تطاولها جبال ولا ينالها سحاب!
تشير معظم المصادر التّاريخيّة والرّوايات المختلفة ومنها لأناس شهدوا مقتل “عمر”، ومنهم “عمرو بن ميمون” (توفّي سنة 74ه) الّذي كان بينه وبين “عمر” في صفّ الصّلاة “عبد الله بن عبّاس” (618 – 687) تشير تلك الرّوايات والمصادر إلى أنّ المجوسيّ “أبو لؤلؤة فيروز” الفارسيّ (توفّي سنة 644) كان في الصّفّ الثّاني وراء “عمر” يتظاهر بالصّلاة، وهو من طعن “عمر” غدرًا وخسّة وثأرًا عصبيًّا، فاسدًا ودنيئًا، وهو يؤمّ بالنّاس في الرّكعة الأولى من صلاة الفجر، وكان ذلك يوم الأربعاء 3 تشرين الثّاني سنة (644م) الموافق لأربع ليالٍ بقيت من ذي الحجّة سنة (23ه) وقد قال “عمر” إثر تلقّي الطّعنة: “قتلني الكلب”، ولّى القاتل هاربًا وهو يطيح بالخنجر شمالًا ويمينًا حتّى أصاب 13 من المصلّين، مات منهم ستّة فيما بعد نتيجة السّمّ، حتّى أمسكه “عبد الرّحمن بن عوف” (581 – 653) ومن ثمّ انتحر بخنجره ذاته بعد أن قال: “أكل عمر كبدي”، وشرب “عمر” كأسًا من منقوع التّمر ومن ثمّ كأس لبن فلم يستمرئها فخرجا من جوفه، فعرف أنّه هالك! وآخر ما قال: “وكان أمر الله قدرًا مقدورًا” (القرآن الكريم، سورة الأحزاب، رقم 33، الآية 38) ومات شهيدًا على فراشه بعد ثلاث ليالٍ ودفن في الحجرة النّبويّة، إلى جانب “أبو بكر” والنّبيّ بعد استئذان “عبد الله بن عمر” من “عائشة” (604 – 678) بنت أبي بكر وزوج النّبيّ.
هل كانت قضيّة صناعة رحى طلبه “عمر” من صانعها “فيروز! أم هي عدم إنصافه من مولاه “المغيرة بن شعبة” الّذي شكا “فيروز” أمر ظلمه إليه! فادّعى أن “عمر” لم ينصفه وقال إثرها: “عادل مع الجميع إلّا أنا”، أم هي انتقام فرديّ بعد مقتل ابن للقاتل في معركة “نهاوند” أم هي مكيدة ومؤامرة حيكت في ليل فارسيّ حاقد وقاتم بين ثلاثة اعتقدوا أنّ الإسلام وفي عهد “عمر” أهانوا الفرس بدكّ أركان إمبراطوريّتهم القويّة وقضوا على أمجادهم وتاريخهم، وهم “فيروز” وَ “الهرمزان” (توفّي سنة 644) وهو القائد العسكريّ الفارسيّ المشهور ومعه غلام فارسيّ كان ملازمًا له، فصنع “فيروز” للتّنفيذ ذلك الخنجر المميّز، وعرضه على “الهرمزان” فأعجب بصناعته وقال: “لن يصيب هذا الخنجر أحدًا إلّا مات”، (قد تكون قصّة العلاقة بين الهرمزان وفيروز القاتل غير صحيحة) قد تكون هذه المكيدة هي أحد الاحتمالات للاغتيال الوحشيّ المبيّت. أم أنّ كلّ ما ذكر من احتمالات غير صحيح وغير مقنع، ولذلك تفسيرات وتبريرات وتعليلات تاريخيّة مختلفة أعمق وأكثر إقناعًا وأشدّ تأثيرًا وأبعد أثرًا على مجرى التّاريخ الإسلاميّ بعد موت “عمر” المغدور.
من الّذي تضرّر في عهد عمر ومن استفاد من موته:
والحقيقة كنت قد أنهيت كتابة مقالتي/ دراساتي الذّاتيّة هذه وعقدت العزم على إغلاقها بدون هذه الفقرة، حتّى وقع بيديّ كتاب هامّ ومفيد، أعطانيه صديقي الكاتب “مصطفى عبد الفتّاح” بعنوان رئيسيّ هو “اغتيال عمر بن الخطّاب” وتحته عنوان فرعيّ هو “المحاضر الكاملة للتّحقيق في الجريمة” وقد صدر في طبعته الأولى سنة (2009) وهو شبه رواية تاريخيّة توثيقيّة بحثيّة ذات جانب بوليسيّ، يسعى فيه المحقّق بطل الرّواية إلى كشف حيثيّات الجريمة وأسباب حدوثها وحقيقة القتلة ودوافعهم لقتل أعظم القادة في التّاريخ البشريّ، بل اغتيال رجل من أعظم رجالات العالم. وقد وقعت تلك الجريمة قبل حوالي 14 قرنًا من الزّمان، وهي تعتبر أوّل اغتيال سياسيّ في تاريخ العرب والمسلمين، والكتاب من تأليف كاتب فلسطينيّ يعيش في الولايات المتّحدة الأميركيّة اسمه “زهير كمال” وبمراجعة الأستاذ “زياد السّلوادي” وتقديمه. وحقيقة يميل الكاتب إلى جعل الجريمة ذات أبعاد أعمق وأرحب ويردّها إلى أسباب أخطر، وتوجيه التّهمة إلى من هم أكثر مصلحة وأعظم من “فيروز” وَ “الهرمزان”، حتّى لو كان “فيروز” هو اليد الّتي نفّذت أو الرّصاصة الّتي أٌطلقت! فمن هم أصحاب المصلحة السّياسيّة في اقتراف هذه الجريمة النّكراء؟! هم أكثر من أضرّ انتصار الإسلام بمكانتهم السّياسيّة وسيادتهم الاجتماعيّة ومصالحهم الاقتصاديّة، هم “بنو أميّة” عامّة وبيت “أبي سفيان” خاصّة، وبخاصّة في عهد الخليفة “عمر” العادل والصّارم والمتقشّف والزّاهد بالدّنيا وحطامها وأموالها وسائر مطاعمها ومشاربها ومباهجها.
فهل كان ثمّة دور لِ”بني أميّة” وَ “أبو سفيان” (567 – 652) الملازم للخليفة في المسجد والسّاعي لمعرفة كلّ ما يدور في عقل “عمر” إلى حدّ اكتشاف من هم الجواسيس الّذين يبعثهم “عمر” لمراقبة الولاة، إذ كان يقوم برشوتهم بإغداق المال عليهم ومن ثمّ يتراجعون عن المراقبة الدّقيقة! وابنه “معاوية” (608 – 680) والي الشّام الّذي كان من الحنكة بمكان بحيث لم يلاحظ عليه أنّه يتلاعب بدفاتر المال رغم بذخه وتعنيف “عمر” له مرارًا على مظاهر البذخ الدّنيويّ والتّرف المادّيّ، وهو ما يتناقض مع روحانيّته وتقشّفه، كان “عمر” يشدّد في حكم الولاة على إنصاف الفقراء ورعاية مصالحهم وحسن أحوالهم، أمّا “معاوية” كي يضطرّ لقمع النّاس الفقراء وسلب حقوقهم وظلمهم بحجّة صرف المال على ضرورة صدّ المخاطر الخارجيّة أما الطّامعين بالدّولة الإسلاميّة، وهو سبب استغلّه كحجّة لقمع النّاس. كان “معاوية” داهية، رجلًا طموحًا وطمّاعًا، وهو حاكم البرج العاجيّ البعيد عن النّاس، لذلك وضح حجابًا بينه وبينهم. وبيت “أبو سفيان” من “الطّلقاء” الّذين عفا عنهم النّبيّ رغم عدائهم الكبير للإسلام والمسلمين، وقد حبس “أبو سفيان” الماء عن النّاس وأُجبره “عمر” على إرجاعه، وهو الّذي سرق المال والقيود الحديديّة الرّوميّة الّتي أرسلها ابنه “معاوية” إلى “عمر”، فسجنه الخليفة وقيّده بتلك القيود حتّى أعادها والمال، وقد أسلم بلا إيمان وإنّما لغاية دنيئة هي العودة للحكم والمجد القديم من خلال استغلال ولاية “معاوية” على الشّام أكبر الولايات وأغناها. وثمّة بعض الولاة المتضرّرين من “بني أميّة” من أعوان “أبو سفيان” والّذين يشاركونهم في المواقف والمصالح مثل والي مصر “عمرو بن العاصّ” الّذي أهانه “عمر” العادل، في قضيّة الرّجل القبطيّ، لقد كان من المهمّ عند “عمر” كسر هيبة الوالي/ الحاكم وتحطيم كبرها وانتفاخها أمام النّاس، ولذلك بدأت تتولّد في نفس “عمرو بن العاص” والي مصر مشاعر الحقد بعد قصّة ابنه مع الرّجل القبطيّ، ولم يشفِ غليل حقده بالانتقام بعقاب عنيف وقاسٍ بالجلد ضدّ “عبد الرّحمن الأصغر بن عمر بن الخطّاب” حتّى الموت لأنّه شرب الخمر، وقد شاطره “عمر” ماله أكثر من مرّة وردّه إلى بيت مال المسلمين، وقد زاد من الحقد المتراكم أصلًا وهو إحساس “عمرو” بالمهانة كونه كان ينتمي إلى رهط أعلى من رهط “عمر” مكانة في الجاهليّة، فكيف يطيق زعامته عليه! أمّا والي البصرة فالكوفة فهو “المغيرة بن شعبة” داهية من الدّهاة المعروفين، ينتمي إلى قبيلة “ثقيف” أشدّ قبائل العرب وكانت تنافس “قريش” على زعامة العرب قبل الإسلام، ولذا كانت آخر من أسلم من بين القبائل العربيّة، فخافوا على أملاكهم وأراضيهم وثرواتهم، ولم يسلموا إلّا بشروط وضعوها أمام النّبيّ، رفضها جميعًا، ولكنّ “المغيرة” الانتهازيّ سبق قبيلته إلى الإسلام لكسب الحظوة لدى النّظام الجديد، الّذي لم يعد من شكّ في انتصاره، وكان أن ارتكب “المغيرة” في الجاهليّة مجزرة جماعيّة ضدّ أبناء عمومته فقتل منهم 13، فاعتنق الإسلام على اعتبار أنّ الإسلام يجبّ ما قبله، ووصل أعلى المراتب الّتي كان يطمح إليها ويطمع بها وهي ولاية “البصرة” أوّلًا ومن ثمّ ولاية “الكوفة”، ولكن “عمر” عزله واستبدله ” في المرّتيْن، لفساد في نفسه وميله إلى الشّهوات والزّنا والبذخ وإخفاء المال بدهاء وخبث، ومن المهمّ أنّه هو مولى “أبو لؤلؤة فيروز” منفّذ الجريمة، وهو الّذي سهّل له الدّخول إلى “المدينة” بطريقة ملتوية، وقد كانت محظورة على الأجانب من غير المسلمين! فهل جنّد “المغيرة” مولاه المجوسيّ وأشار إليه وخطّط له فقتل “عمر”!
هؤلاء الأربعة: “أبو سفيان” وابنه “معاوية” و”عمرو بن العاص” و”المغيرة” ومعهم “زياد بن أبيه” (1ه – 53ه) كان شعارهم العمل والاهتمام لمصلحة الفرد على حساب مصلحة الأمّة، والقائد الصّارم والمتقشّف والعادل يؤمن بعكس ذلك تمامًا، فهو إذن حجر عثرة أمام طموحاتهم وأطماعهم! فهل كان لهؤلاء دور في هذه الجريمة! وهل شكّل كلّ ما قيل عنهم آنفًا دافعًا لارتكاب أبشع عمليّة اغتيال في التّاريخ البشريّ! وهل يتقوّى هذا الدّافع إذا علمنا أنّ “أبو سفيان” قال للخليفة “عثمان” بعد أن صارت إليه الخلافة: “قد صارت إليك بعد “تيم” (رهط أبي بكر) وبعد “عديّ” (رهط عمر) فأدرها ككرة وأجعل أوتارها في “بني أميّة” فإنّما هو المُلك ولا أدري جنّة أو نار”، وفي هذا الكلام السّفيانيّ ملخّص الرّغبة والمصلحة في التّخلّص من “عمر”! وعلّق الأب آماله على الابن الّذي ولّاه “عمر” في الشّام، ممّا سهّل العمل على استعادة العائلة ما فقدته من جاه ومكانة وحكم وعودة إلى الواجهة، خاصّة أنّ خلافة “عثمان” الأمويّ الضّعيف ولفترة طويلة، 12 عامًا ساعدت هذا الاتّجاه الملكيّ الدّنيء. هل التقت المصالح السّياسيّة والاقتصاديّة العربيّة لأغنياء مكّة وسادتها القدماء من “بني أميّة”، الّذين سُلبت أمجادهم القبليّة ونظمهم الجاهليّة وثرواتهم الطّائلة الّتي استعبدوا بها النّاس بعد ثورة المسلمين البسطاء والعبيد! هؤلاء هم “بنو أميّة الّذين كانوا أسياد “مكّة” فصاروا طلقاء النّبيّ سيّد العرب والعجم والكونيْن والثّقليْن، الّذي أسلموا له مذعنين طائعين، ليحافظوا على القليل من عزّهم ومكانتهم وثرواتهم وصار “أبو سفيان” من المؤلّفة قلوبهم، لعلّهم من خلال ذلك القليل يعيدون ما كان من أمجادهم الجاهليّة السّياديّة والسّياسيّة التّي أذلّها عبيد مكّة وفقرائها وبسطائها بقيادة النّبيّ وَ “أبو بكر” وَ “عمر”! هل التقت هذه المصالح الجاهليّة مع مصالح المجوس الفرس الّذين دكّ الإسلام في زمن “عمر” صروح إمبراطوريّتهم العظيمة وأزال سلطانهم وجبروتهم وأمجادهم! فكانت مجزرة الاغتيال تلك منتوج فكر عربيّ وفارسيّ! أم كان “فيروز” مجرّد اليد الّتي نفّذت لتدبير عقل منغمس بوحل الحقد، وكان الضّحيّة “عمر” أعظم رجال التّاريخ. أنا أميل لهذا الرّأي فالجريمة جاهليّة قبليّة، كافرة مدّعية بالإسلام، اجتماعيّة طبقيّة فاسدة، أمويّة سفيانيّة حاقدة على أشرف النّاس وأنبلهم وأطهرهم وأكثرهم عداوة للجاهليّة والظّلاميّة وللعصبيّة التّناحريّة وللكفر والطّغيان والجحود وللغنى الفاحش والشّهوات والأباطيل والمظاهر المادّيّة والمفاسد الدّنيويّة وعلى الأغنياء وفسادهم وعلى الأسياد واستعبادهم، على “الفاروق عمر بن الخطّاب”. إنّ أوّل ما جاء به الإسلام من مبادئ ثوريّة هو جهاد النّفس ونوازعها إلى الشّر وشهوات الدّنيا، ومبدأ مسؤوليّة الفرد عن أفعاله ومحاسبته على الأخطاء والذّنوب الّتي يرتكبها، ومن أهمّها اختلاس المال واستعباد النّاس، وقد كان للخليفة “عمر” تصريح شهير يعطي حقّ فضول أموال الأغنياء وتوزيعها على الفقراء، وكان همّ الولاة في الشّام “معاوية بن أبي سفيان” و”عمرو بن العاصّ” و”المغيرة بن شعبة” الحكم والمال والنّفوذ، وقد قاسمهم “عمر” أموالهم وثرواتهم الطّائلة وصادرها لصالح المسلمين، وكان “عبد الرّحمن بن عوف” من أولئك الأغنياء، فهل كان تصريح “عمر” سببًا لنقمة الأغنياء وتحوّلت النّقمة إلى دافع لحياكة مؤامرة الاغتيال. وجاء “عثمان بن عفّان” خليفة ثالثًا بعد “عمر” وهو حاكم ضعيف ونقيض لشخصيّة “عمر” الصّارم والحازم، وفي عهده بدأت تظهر نتائج جريمة الاغتيال، فلقد كان “أبو سفيان” مستشاره الأوّل في كلّ كبيرة وصغيرة، وظلّ “معاوية” واليًا على الشّام طيلة فترة خلافته.
عمر هذا القائد الخالد:
كان لعظمة “عمر” بكلّ مكوّناتها الإنسانيّة وجوانب شخصيّته ومركّباتها أثر على الأدباء والمفكّرين ورجال الحضارة في الغرب والشّرق، بين المسلمين وغير المسلمين، بين العرب وغير العرب. ولعلّ أبرز هذه الآراء الّتي جعلت من “عمر” شخصيّة عزّ نظيرها في التّاريخ: حياة ومسيرة، حكمًا وخلافة، أسلوب حياة خاصّة وأسلوب حياة عامّة، ثورة وصرامة وعدلًا، إيمانًا بالحرّيّة والمساواة والعدالة الاجتماعيّة والسّياسيّة، استقامة ونظافة يد وزهد وتقشّف. وفي النّهاية قدوة لقائد سياسيّ فذّ وعسكريّ مظفّر، حقّق الانتصارات على أعتى قوّتيْن في التّاريخ القديم وأنهى احتلالهما العسكريّ والسّياسيّ وهيمنتهما: الإمبراطوريّة الفارسيّة في بلاد العراق وفارس والإمبراطوريّة البيزنطيّة في بلاد الشّام ومصر، ومن هذه المثابة في عهد “عمر” وصلت الدّولة الإسلاميّة إلى أوج فتوحاتها، وفي المراحل التّاريخيّة القادمة وصلت إلى بلاد الهند والسّند شرقًا وبلاد الأندلس غربًا، وإلى أعماق القارّتيْن: آسيا وأفريقيا وبعض أجزاء من القارّة الأوروبيّة. وبما أنّه في الدّولة الإسلاميّة وفي عهد “عمر” بالذّات بدأ امتزاج المسلمين بغيرهم من “أهل الكتاب” وبخاصّة المسيحيّين، فقد كان للمسيحيّة نظرة إيجابيّة حول “عمر” وسياسته وتسامحه. ومن المعروف أنّ الكنائس المسيحيّة الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة والبروتستانتيّة لا تقدّم رأيًا في الشّخصيّات غير الدّينية، فموقفها ونظرتها محصورة في أنبياء ومؤسّسي الدّيانات الأخرى، أمّا أتباعهم وصحابتهم فلا تبدي رأيها بهم غالبًا. غير أنّ احتكاك المسلمين بالمسيحيّين في الشّام والعراق ومصر خلال عهد “عمر” ولجوء بعض رجال الدّين النّصارى إليه شخصيًّا ليرفع ظلم الرّوم عن رعاياهم، جعل بعض المؤرّخين المسيحيّين يذكرونه بالخير ويحيطونه بالاحترام والتّبجيل. “وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وأنَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرون” (القرآن الكريم، سورة المائدة، رقم 5، الآية 82) وقد نقل “ميخائيل الكبير” السّريانيّ: (1129 – 1199) “إنّ رافضي مجمع خلقيدونيّة ردّدوا “المجد لربّ النّقمة الّذي نجّانا على يد الإسماعيليّين من البيزنطيّين”، ويرى المؤرّخ اليسوعيّ البلجيكيّ “هنري لامنس”: (1862 – 1937) “إنّ هذا التّعاون والتّرحيب هو ما يفسّر السّقوط السّريع للشّام والعراق البالغ عدد سكّانها زهاء أربعة ملايين نسمة بفترة زمنيّة قصيرة وبعدد قليل نسبيًّا من الجنود”. وكان لمنح “عمر” سكّان إيلياء “القدس” عهدًا بحماية أماكن عبادتهم وبتوفير الأمان لهم ولأموالهم وبحرّيّة ممارسة شعائرهم الدّينية، مقابل دفع الجزية سنويًّا لبيت المال أثر في حصوله على احترام وحبّ المسيحيّين الّذين عاصروه، والعديد من الّذين تابعوا سيرته في الأجيال اللّاحقة”. ولقد كان هناك ربط بين أفكار “عمر” وما وضعه من أفكار فلاسفة القرن الثّامن عشر الأوروبيّين والّتي اعتبرت أفكارًا ثوريّة، من أمثال “جون لوك” (1632 – 1704) وهناك كاتب غربيّ انتبه إلى أهمّيّة “عمر” في التّاريخ، هو “مايكل هارت” (ولد في سنة 1932) في كتابه الّذي صدر سنة (1978) بعنوان “أعظم مئة أثّروا في التّاريخ”، جعل فيه “عمر” في المرتبة ال 52، وقد اعتبر أنّ سياسة “عمر” في التّسامح والدّيمقراطيّة والإنسانيّة والسّعي إلى الحرّيّة والتّخلّص من الاستعباد والاستغلال هي الّتي أدّت إلى تعريب بلاد الشّام والعراق ومصر فيما بعد.
قال المؤرّخ الأميركيّ “واشنطن أيرفينجفي” في كتابه “محمّد وخلفاؤه”: “إنّ تاريخ عمر بالكامل يظهر لنا أنّه كان ذا عقليّة فذّة، ونزاهة ثابتة صلبة، وعدالة صارمة، وكان أكثر من أيّ أحد آخر هو المؤسّس للإمبراطوريّة الإسلاميّة، مؤكّدًا ومنفّذا للوحي النّبويّ، مساعدًا ومشاورًا لأبي بكر خلال فترة خلافته القصيرة، وواضعًا ومؤسّسا للأنظمة واللّوائح الّتي تنظّم إدارة القانون عبر حدود وأنحاء الفتوحات الإسلامية الممتدّة بسرعة، وقد كانت سياسة اليد الصّارمة الّتي تعامل بها مع قادة جيوشه الأكثر شعبيّة في خضمّ جيوشهم وفي أبعد مشاهد انتصاراتهم، أعطت هذه السّياسة دليلًا بارزًا على قدرته الاستثنائيّة على الحكم. من خلال بساطة عاداته وازدرائه لمظاهر البهاء والتّرف والأبّهة، فقد اقتدى بمثال النّبيّ وأبي بكر. وقد سعى بشكل مستمر ليؤثّر ويحثّ قادة جيوشه على التّحلّي بهذه الصّفات والسّياسات، ففي رسائله لقادة الجيوش كان يقول: “حذار من التّرف الفارسيّ، سواء في المطعم أو في الملبس والزموا عادات بلادكم البسيطة، وسينصركم الله عليهم وسيفتح لكم”، وقد كانت عقيدته القويّة واقتناعه الرّاسخ بهذه السّياسات هي الّتي جعلته يتشدّد في معاقبة كُلّ أسلوب متباهٍ وانغماس فاخر في ضبّاطِه. وبالإضافة لذلك، فإنّ المراسم المتّبعة تشير بالثّناء على قلبه بالإضافة إلى عقله، فقد نهى أن تُباع أيّ امرأة وقعت في الأسر وقد وُلد لها طفل على أنّها رقيق، وأمّا عند توزيع الأعطيات على المسلمين، من الغنائم أو من بيت المال فقد قسّمها حسب حاجات وليس مميّزات الطّالبين، وكان يقول: “الله أعطانا هذه الأشياء الدّنيويّة لسدّ احتياجاتنا، وليس لمكافأة فضائلنا، فتلك المكافأة حسابها في الآخرة”.
أمّا المستشرق الأسكتلنديّ “وليم موير” (1819 – 1905) في كتابه “صعود وانحدار الخلافة” فقال: “إنّ حياة عمر لا تتطلّب الكثير لإظهار ملامحها، البساطة والواجب كانتا مبادءه التّوجيهيّة، النّزاهة والعدل والتّفاني كانت الميزات الرّائدة في حكمه، وكانت تثقل كاهله مسؤوليّة الخلافة حتّى أنّه كان يقول: “يا ليت أمّي لم تلدني، أو أنّي كنت قصبًا من عشب بدلًا من ذلك”. كان في صباه ذا مزاج ناريّ سريع الاتّقاد، ومن ثَمّ عُرف في الأيّام القادمة خلال صحبته الأولى لمحمّد كالمحامي الصّارم المتأهّب للثّأر، ومن ذلك نصيحته بأن يقتل أسرى بدر، ولكنّ التّقدّم في العمر فضلًا عن كاهل المسؤوليّة قد خفّفت من حدّته، وكان حسّه بالعدالة قويًّا. وباستثناء ما وقع بينه وبين خالد بن الوليد من المشاحنات، فإنّه لم يسجَّل عليه أي عمل من الطّغيان أو الظّلم، وحتّى في مسألته مع خالد فإنّما كانت معاملته له كخصم في الحقّ وليس لأهواء شخصيّة. وكان اختياره لقادة جيوشه خاليًا من المحاباة والتّفضيليّة، وباستثناء عمّار والمغيرة فإنّ اختياره كان دائمًا محظوظًا. إنّ القبائل والجماعات المختلفة في أنحاء الإمبراطوريّة والّتي تمثّل المصالح الأكثر تنوّعًا، قد وضعت في نزاهته الثّقة المطلقة، وقد أبقت قبضته القويّة على انضباط القانون والإمبراطوريّة، كان يجوب شوارع وأسواق المدينة وسوطه بيده، جاهزًا لمعاقبة المفترين فورًا، وهكذا ظهر المثل “إنّ درّة عمر مُهابة أكثر من سيف غيره”. ولكن مع كلّ هذا فقد كان رقيق القلب، وسُجّلت له أفعال من الشّفقة والرّحمة لا تعدّ، مثل مواساة وتخفيف حاجات الأرامل واليتامى”.
وفي كتاب “تاريخ أفول وسقوط الدّولة الرّومانية” يقول المؤرّخ الإنجليزيّ “إدوارد جيبون”: (1737 – 1794) إنّ عفّة تواضع عمر لم تكن بأقلّ مستوى من فضائل أبي بكر، كان طعامه يتكوّن من مجرّد التّمر أو الخبز، وكان شرابه الماء. وكان يخطب بالنّاس وعليه ثوب مخرّق في اثنيْ عشر موضعًا. وقد رآه المرزبان، حاكم مقاطعة فارسيّة عندما أتى زائرًا ليؤدّي لعمر فروض الطّاعة، رآه نائمًا مع الفقراء المعدمين في إحدى طرقات المدينة. إنّ هذا التّواضع والتّسامح مقرونًا بزيادة الدّخل العامّ للدّولة مكّن “عمر” من توزيع الأعطيات على المؤمنين بشكل عادل ومنتظم متجاهلًا مكافأة نفسه. فمثلًا أعطى “العبّاس” عمّ الرّسول أوّل وأعلى المخصّصات، حوالي خمسة وعشرين ألف درهم وخصّص خمسة آلاف للمجاهدين الأوّلين ممّن شهدوا “بدر” وأعطى للباقين من أصحاب “محمّد” ثلاثة آلاف درهم لكلّ منهم”.
خلوده في الشّعر:
تعتبر قصيدة شاعر النّيل “حافظ إبراهيم” (1872 – 1932) بعنوان “القصيدة العمريّة” من أشهر القصائد الّتي تناولت شخصيّة “عمر” ومسيرته التّاريخيّة من خلال 187 بيتًا من الشّعر العموديّ، على البحر البسيط، وقد استعرض فيها الكثير من المواقف العمريّة والأحداث البارزة منذ إسلامه وحتّى اغتياله، مرورًا بعلاقاته مع كثير من الشّخصيّات الشّهيرة في التّاريخ الإسلاميّ، ومن أبرزهم “علي بن أبي طالب” وَ “خالد بن الوليد” وَ “عمرو بن العاص”، أضف إلى ذلك مجموعة من القضايا الهامّة في عقليّة “عمر” وطريقة حكمه، مثل الشّورى والعدل والرّحمة والتّقشّف والورع والزّهد. وهذه أوّل أربعة أبيات استهلّ بها “حافظ” مطوّلته:
“حَسْبُ القَوَافِي وَحَسْبِي حِينَ أُلْقِيهَا – أَنِّي إِلى سَاحَةِ الفَارُوقِ أُهْدِيهَا
اللهمَّ هبْ لي بيانًا أستعينُ بهِ – على قضاءِ حقوقٍ نامَ قاضـيها
قدْ نازعَتْنيَ نفسي أنْ أوفّيها – وليسَ في طوقِ مثلي أنْ يوفّيها
فمُرْ سريَّ المعاني أنْ يواتيَني – فيها فإنّي ضعيفُ الحالِ واهيها”
وقد قال فيها مبيّنًا أثر “عمر” بعد إسلامه والنّقلة النّوعيّة الّتي أحدثها بنقل الدّعوة من السّرّ إلى العلن، حيث صار “بلال” يطلق “الله أكبر” عالية، شامخة، مدويّة، تنطلق إلى أرجاء “مكّة” وبقاع الجزيرة العربيّة كلّها:
“ويومَ أسلمْتَ عزَّ الحقُّ وارتفعَتْ – عنْ كاهلِ الدّينِ أثقالًا يعانيها
وصاحَ فيها بلالٌ صيحةً خشعَتْ – لها القلوبُ ولبّتْ أمرَ باريها”
وشاعرة تدعى “أمة الله” قالت في مدح “عمر”:
“الطّفلُ منْ بعدِهِ يبكي عدالتَهُ – يقولُ هلْ ماتَ ذاكَ الغيثُ أُمّاهُ
والنّاسُ حيرى يتامى في جنازتِهِ – تساءلوا منْ يُقِيمُ العدلَ إلَّاهُ”
أمّا الشّاعر المصريّ “تاج الدّين نوفل” (1952 – 2018) فقال:
“ونطقْتَ بالآياتِ قبلَ نزولِها – فبعثْتَ في الأرضِ ملائكةَ البشرْ
وكفاكَ قولُ المصطفى لو حلَّ – بالدّنيا عذابٌ ما نجا إلّا عمرْ”
وللشاعر العراقيّ الشّيعيّ “عبّاس الجنابيّ” (1950 – 2021) قصيدة جميلة في مدح “عمر” ومن اللّافت وهو الشيعيّ أنّ له قصيدة أخرى بعنوان “الثّاني اثنيْن” في مدح “أبو بكر” يقول في مطلعها:
“الثّاني اثنيْنِ تبجيلًا لهُ نقفُ تعظيمُهُ شرفٌ ما بعدَهُ شرفُ”
وفي أحد أبياتها يذكر مؤاخاة جميع الصّحابة للخليفة “أبو بكر”، وعلى رأسهم “علي بن أبي طالب” وهذا الشّاعر بهذا يفنّد أنّ الشّيعة جميعًا لا يعترفون ولا يتقبّلون خلافة الشّيخيْن: “أبو بكر وعمر” ومنهم حتّى من يلعنهما على رؤوس الأشهاد، وفي قصيدتيْ هذا الشّاعر المسلم والقوميّ تفنيد لكلّ المغرضين الّذين يريدون تأجيج الفتنة بين أبناء الدّين الواحد: سنّة وشيعة ليرقصوا على دمائها، فلا يحبّ أحدُ “عليًّا” وأبنيْه: الإمام “الحسن” والإمام “الحسين” وسائر أئمّة الشّيعة الطّالبيّين أكثر من أهل السّنة المعتدلين، ولا أحد يحبّ خليفتيْ رسول الله: “أبا بكر” وَ “عمر” أكثر من أهل الشّيعة المعتدلين، وإذا كان الإسلام دين الاعتدال، وكانت الشّيعة والسّنة جناحيْ الأمّة، فهل يطير طائر مجد هذه الأمّة بجناح واحد، ولذلك يجب أن نفوّت الفرصة على أعداء الأمّتيْن: العربيّة والإسلاميّة وندرأ عن أنفسنا مخاطر الانزلاق إلى التّشرذم والخلاف والاقتتال، ونجلب إلى بلادنا وأمّتيْنا الخيرات والمستقبل الزّاهر والأمل المشرق بالوحدة على الحقّ ونعيش في ظلّ حرّيّة وكرامة ونكافح أعداءنا من أميركا ومشاريعها للهيمنة وإسرائيل وامتدادها الكولونياليّ والطغم العار من أنظمة فاسدة وعميلة في العالميْن: العربيّ والإسلاميّ، ومن المتطرّفين الغلاة أينما حلّوا وارتحلوا وقتّلوا وهدّموا. يقول الجنابيّ في أحد أبيات قصيدته في مدح “أبو بكر”:
“كلُّ الصّحابةِ آخوهُ وأوّلُهمْ – هذا الّذي شُرّفتْ في قبرِهِ النّجفُ”
أمّا قصيدته في مدح “عمر” فقد استهلّها بهذه الأبيات:
“ما منْ حديثٍ بهِ المُخـْتارُ يفـْتخرُ – إلّا وكُنْتَ الّذي يعْنيهِ يا عُمــــــرُ
والسّابقونَ منَ الأصحابِ ما نقضوا عَهْدا، ولا خالفوا أمْرًا به أُمـــــروا
كواكبٌ في سماء المجدِ لامِعَـــــةٌ – جباهُهُمْ تنحَني للهِ والغـُـــــــــررُ”
مسلسل عمر:
ولعلّ أكثر عمل فنّيّ خلّد حياة “عمر” وبيّن شخصيّته ومسيرته منذ طفولته مرورًا بشبابه وجاهليّته ومن ثمّ اعتناقه للدّين الجديد وتحوّله الكبير ومن خلافته وتأسيس الدّولة وإرساء أنظمتها في كافّة نواحي الحياة، وتولّيه أمور المؤمنين ورعاية مصالحهم العامّة والخاصّة وشؤون حياتهم المختلفة بالعدل والشّورى والصّرامة والزّهد والتّواضع هو المسلسل التّاريخيّ التّلفزيونيّ الّذي أثار جدلًا حول عرضه بين مؤيّد ومعارض، أمّا المؤيّدون فذلك من باب حرّيّة الرّأي والتّعبير وأمّا المعارضون وبخاصّة في السّعوديّة وبعض دول الخليج، مع أنّه من إنتاج قطريّ، على اعتبار أنّ المسلسل ولأوّل مرّة جسّد شخصيّة البطل “عمر” بممثّل قام بدوره هو الممثّل السّوريّ “سامر إسماعيل” (1985) وفيه تجسّدت شخصيّات الصّحابة الأوائل كالخلفاء الرّاشدين بممثّلين أيضًا، والأكثر من ذلك هناك من شكّك بشخصيّة الممثّل “إسماعيل” بأنّه مسيحيّ، وقد وصل حدّ المطالبة بإيقاف عرض المسلسل بأحد الأثرياء السّعوديّين، إذ أعرب عن استعداده لدفع كلّ تكاليف المسلسل الباهظة، بحجّة الإساءة لشخصيّات المسلسل من الصّحابة الأجلّاء.
مسلسل “عمر” من تأليف الشّاعر والكاتب الفلسطينيّ “وليد سيف” (1948) ومن إخراج المخرج السّوريّ البارز “حاتم علي” (1962 – 2020) تمّ عرضه لأوّل مرّة وعلى مدى 31 حلقة سنة (2012) وقد شارك 89 ممثّلًا من أقطار عربيّة مع الممثّلين السّوريّين، ومن أبرز الممثلين الّذين لعبوا أدوارًا مركزيّة في المسلسل غير “سامر إسماعيل” صاحب الدّور الرّئيسيّ: “غسّان مسعود” (1958) في دور “أبو بكر”، والممثل التّونسيّ “غانم الزّرلي” (1984) في دور “علي بن أبي طالب”، “تامر عربيد” في دور “عثمان بن عفّان”، “مهيار خضّور” (1983) في دور “خالد بن الوليد”، “قاسم ملحو” (1968) في دور “عمرو بن العاص” وَ “مي سكاف” (1969 – 2018) في دور “هند بنت عتبة” (توفّيت سنة 636)
ثورة وثورة مضادّة:
بعد فتح “مكّة” الّتي هُجّر منها النّبي وأصحابه من المؤمنين، لم يتعامل النّبيّ بدافع من الانتقام مع أهلها ولا حتّى مع ساداتها الظّالمين الّذين كانوا وراء كلّ ما تعرّض له المسلمون من أذى وظلم وتعذيب وتهجير وقتل، على العكس أعطاهم الأمان وأمر بالحفاظ على أنفسهم وأولادهم وأملاكهم وبيوتهم، وحثّ النّبيّ على معاملة أهلها معاملة أخويّة، إنسانيّة وكريمة، فمن دخل بيته فهو آمن ومن دخل “الكعبة” فهو آمن، حتّى من دخل دار “أبو سفيان” أعدى أعداء “محمّد” فهو آمن، وقد حرّر هؤلاء من الثّأر بقوله الشّهير “اذهبوا فأنتم الطّلقاء”، وبهذا رسّخ النّبيّ مبدأ العفو والتّسامح وتأليف القلوب واستمالتها بالأمان و”العفو عند المقدرة” وليس بتنفيرها بالتّخويف والمعاملة الفظّة والثّأر والإذلال والاستغلال، عملًا بروح الدّين الجديد وأخلاقه ومثله الإنسانيّة العليا. فكان يوم الفتح في 20 رمضان السّنة الثّامنة للهجرة يوم العفو العامّ، وقد دخلها المسلمون فاتحين بسلميّة فائقة بلا مقاومة ولا قعقعة سلاح وبلا سفك دماء وإهدار أرواح.
لقد شهد “عمر” هذا الفتح وهو أمر هامّ، ولكنّ الأهمّ بنظري هو مشاركته الفعليّة يوم “بدر”، حيث كان واحدًا من قادتها وكان من أصحاب فكرة التّقدّم لمواجهة العدوّ القرشيّ ب 317 مقاتلًا من المسلمين مقابل 1000 من “قريش”. لقد كانت معركة “بدر” في 17 رمضان في السّنة الثّانية للهجرة أوّل انتصار للثّوار المسلمين ضدّ قوى النّظام القبليّ المستبدّ المتعفّن. بعد ستّ سنوات يأتي الانتصار الحاسم لثورة العبيد المهجّرين على الأسياد الظّالمين. لقد انتصرت الثّورة السّياسيّة والاجتماعيّة بوجهها الطّبقيّ أيضًا بقيادة النّخبة: النّبيّ وَ “أبو بكر” وَ “حمزة” وَ “عمر” وَ “عثمان” وَ “علي” وَ “سعد بن معاذ” (32 ق.ه – 5ه) وغيرهم، ولكن لم يكن من الممكن لهذه النّخبة على جلالها ومكانتها وأهمّيّتها أن تنتصر بلا عبيد “مكّة” وفقرائها من المهاجرين: “بلال” وَ “عمّار” وَ “نُعيم” والمئات من أمثالهم، وبالمقاتلين من أنصار “المدينة”.
وإذا كان الإسلام بفكره الأمميّ والطّبقيّ الجديد وبفكره السّياسيّ والاجتماعيّ ورؤيته الاقتصاديّة ثورةً يساريّة – إذا صحّت التّسمية – أرادت دكّ كيان قام على نُظم من الظّلم والاستغلال والاضطهاد باستعباد النّاس بالاعتماد على النّسب القبليّ الزّائف والمال الفاحش، ثورةً على التّفاوت الاجتماعيّ وعلى الهيمنة السّياسيّة واستئثار سادة “مكّة” وأثريائها الباذخين المنغمسين بالتّرف الدّنيويّ والشّهوات الجسديّة، بهذه المثابة أي كون الإسلام في بداياته كان ثورة طبقيّة بالمعنى الفكريّ الحديث، فإنّ انتصار دولة الملك الأمويّ الدّمويّ بعد حوالي 3 عقود فقط من بداية حكم الرّاشدين الثّوريّ، وبخاصّة في فترة حكم “عمر”، إنّ انتصارها وعودتها لحكم المسلمين بالاغتصاب والنّظام الملكيّ هي بكلّ تأكيد ووفقًا لرؤيتي وتقييمي ثورة يمينيّة مضادّة، أعادت الحكم للثّراء ورأس المال وقام المُلك على القتل والدّماء وقطع الرّؤوس ضدّ المعارضين السّياسيّين من أحزاب وأشخاص وبخاصّة ضدّ الشّيعة، وعلى رأسهم الإمام الثّائر “الحسين بن علي”، وجدّه النّبيّ هو الّذي من ثلاثة عقود فقط قال لِ “بني أميّة” خاصّة وعلى رأسهم “أبو سفيان”، وأهل “مكّة” عامّة قوله العظيم في التّسامح: “اذهبوا فأنتم الطّلقاء”. لقد أعادت دولة “فرّق تسد” الأمويّة الأمّة إلى “قيس” و”يمن” وإلى شمال وجنوب، كي تسهّل حكمها الملكيّ الّذي لم يقم للشّورى وزنًا ولا للمعارضة شأنًا واعتبارًا، كي تسهّل حكمها المستبدّ المبنيّ على الظّلم والاستغلال بتكديس رأس المال السّياسيّ وعودة الحياة الإسلاميّة إلى ما كان سائدًا في الفترة الجاهليّة. ولعلّ بذور هذه الرّدّة إلى الملك وولاية العهد والثّورة المضادّة لقوى اليمين كانت قد بدأت تنسج خيوطها منذ خلافة “عثمان بن عفّان” الّذي امتاز بالضّعف، وهو من “بني أميّة” ورغم إخلاصه وتضحياته وتفانيه من أجل الدّعوة ونصرة النّبيّ قبل البعثة وبعدها، فقد أقطع أهله من “بني أميّة” القطائع وخصّهم بكثير من الامتيازات في المراتب والمناصب والأملاك ممّا جعل لهم نفوذًا ذا تأثير كبير في الدّولة، وهو ما حسب حسابه “عمر” عندما فكّر به كواحد من السّتة الّذين اختارهم لخلافته. لقد انتهى عهد “عمر” الدّيمقراطيّ والذّهبيّ وإحساس المواطن بالحرّيّة والأمان، وعاد في الدّولة الأمويّة إلى الملكيّة الفاسدة والشّعور بالاضطراب والخوف وعدم الاستقرار والكبت.
لقد كان “عمر” على وعي لذلك منذ فترة حكمه وقد حذّر وقال: “لا يحكم المسلمين طليق، إنّها للبدريّين حتّى يفنوا”، ولذلك فالدّولة الأمويّة بنظر “عمر” دولة غير شرعيّة لأنّها دولة حكمها الطّلقاء وأبناء الطّلقاء. وكذلك عبّر عن موقف مهمّ بعد أن أشار على الصّحابة باختيار واحد من ستّة، وقام باستبعاد أيّ أحد من أقاربه من بين السّتّة المقترحين وبخاصّة ابنه “عبد الله”. كان “عثمان” واحدًا من هؤلاء السّتّة، وكان “عمر” يدري مشكلته إذا تولّى خلافة المسلمين ويعي ما قد سيكون لها من أثر سلبيّ رغم اقتناعه بورعه وأسبقيّته وتضحياته، قال “عمر” له: “ما يمنعني منك يا عثمان إلّا عصبيّتك وحبّك قومك وأهلك”، والمقصود “بنو أميّة”. وقد انعكست تلك العصبيّة والحبّ في خلافة “عثمان” بأن أمسك أقاربه بكلّ مفاصل الدّولة الإداريّة والأمنيّة والاقتصاديّة، وكأنّ دولة “بني أميّة” قد بدأت منذ خلافة “عثمان”، وبدأت معها المؤامرات على “عليّ” أشرف النّاس وأطهر النّاس بذريعة قتل “عثمان” مع أنّ “الحسن” وَ “الحسين” وبأمر من أبيهما كانا على رأس الذّائدين عنه أمام ثوّار الأمصار. وقد بدأت هذه المحاولات الخسيسة برفض “معاوية” مبايعة “علي” واتّهامه بقتل “عثمان” ومن ثمّ رفع قميصه الملطّخ بالدّم، و”علي” بريء من دمه براءة الذّئب من دم “يوسف”.
خلاصة من الماضي وعبرة للمستقبل:
وإذا كان لا بدّ في هذه الخلاصة من أن نتعلّم عبرة تفيدنا في واقعنا الرّاهن وإزاء أوضاعنا السّياسية والاجتماعيّة، حريّ بنا أن نعلم أنّ دولة الخلفاء الرّاشدين تعني دولة “عمر” حيث الحيويّة والتجدّد والقرارات المناسبة لكلّ ظرف أو حال أو مستجدّ دون عبوديّة للنّصوص دون تحجّر أو جمود، فالجمود كما آمن “عمر” يدمّر الأمم ويقتلها، لذلك على الأمّة أن تتحرّك دائمًا للأمام كي لا تتأخّر وتموت. ولذلك فمن الأوْلى بنا أن نعود إلى “عمر” وإلى دولته، وندرك ماذا كان وكيف عاش وكيف سلك وكيف حكم الأمّة، الأوْلى بنا أن نعود إلى تلك السّيرة المشرّفة والمسيرة العظيمة ونستنبط عمق شرفها وعرض عظمتها وعلوّ صروح أمجادها، والأجدى لنا أن نرى حياة “عمر” كثورة دائمة، وكان أوّلها وبدايتها الثّورة على ذاته الجاهليّة والوثنيّة، الّتي تعني في مضامينها الرّاسخة ثورته على النّظام القبليّ العصبيّ الّذي كان عبدًا لظلمه واستئثاره واستكباره وانغماسه في شهوات الدّنيا وأباطيلها المادّيّة. نعم هذه ثورة يجب أن نتعلّم منها! وليتعلّم ملوكنا الأراذل كيف سار “عمر” لتسلّم أولى القبلتيْن وثالث الحرميْن شهرًا وشهرًا، وهم المتقاعسون المتخاذلون عن وقوعها محتلّة، ذليلة تحت أقدام الجيش الإسرائيليّ الدّنسة وقذارات المستوطنين العنصريّين المتطرّفين السّائبين، ومع ذلك يبقى “قادتنا” سادرين في غيّهم وتطبيعهم مع هؤلاء المحتلّين “بيتَ المقدس”، ومن ثمّ يكذبون ويقولون بفم ووجدان طافحيْن بالكفر نحن “مسلمون”، “فيا نجمة داود ابتهجي! ويا إصبع كيسنجر إنّ الاست الملكيّ سداسيّ” ورحم الله الشّاعر العراقيّ “مظفّر النّوّاب” (1934 – 2019). وبعد أن أسلم “عمر” ثار على التّمسّك بسّرّيّة الدّعوة ودعا النّبيّ إلى ضرورة الثّورة المعلنة ومواجهة الأعداء من “قريش” ومقاومة ظلمهم وقتالهم وكانت “بدر” وانتصر الثّوّار المسلمون، وبدأ الإسلام يتّسع ويمتدّ وساعده الضّعيف يقوى ويشتدّ. بالمقاومة والكفاح بكافّة أساليبه، وبالسّلاح بكافّة أشكاله وأنواعه تنتصر الشّعوب والأمم على محتلّيها ومستعبديها، وليس باتّفاقيّات هزيلة كاتّفاقيّة “أوسلو” ولا بدول مانحة وتحسين ظروف معيشيّة، يا قادة الشّعب الفلسطينيّ! يا من بعتم الكفاح الفلسطينيّ الطّاهر العظيم والبهيّ لقاء حفنة دولارات سوداء، قذرة وملطّخة بالبترو دولار وبوحول أنظمة التّطبيع والتّخاذل والخيانة.
وثار “عمر” على النّصوص والأحكام وطوّعها للحاجة والظّرف ومصلحة المسلمين ومستقبل الإسلام كفكر عظيم يحمل رسالة إنسانيّة للعالمين وللبشريّة، لم يكن “عمر” متزمّتًا ككثير من علمائنا وفقهائنا العبيد للسّلطة السّياسيّة ولسلطة النّصّ الّتي يتقيّد بها لأنّه عبد للسّيّد الحاكم، لدرجة أنّهم ترجموا القرآن في السّعوديّة، بما يتلاءم مع التّطبيع الّذي يسعى إليه نظام “آل سعود” المتعفّن قلبًا وقالبًا، ويسمّي نفسه “خادم الحرميْن” بلا خجل ولا وجل لا من الأرض ولا من السّماء! أين الحرم الثّالث أيّها الخادم!؟ ليست الشّعوب مسؤولة عن وجله من السّماء، ولكنّ الوجل قادم لا ريب فيه، لأنّ الشّعوب المظلومة في الأرض تمهل ولا تهمل ولا تكلّ ولا تملّ، والنّضال ليس جولة واحدة قصيرة المدى بل هو مسار طويل بجولات كثيرة، ولا حدود لأمدائها.
وثورة عمريّة وهو الحاكم على كلّ مفاهيم الحكم المعهودة، فالحاكم عنده ووفقًا لعقليّته الإنسانيّة والدّينيّة يخضع لرقابة المحكوم/ الشّعب، ولذلك آمن بعدالة الحكم المبنيّ على الشّورى وعلى الحقّ في المعارضة، ما يعني بالدّيمقراطيّة بمفهومها الحديث. حتّى “الحطيئة” الشّاعر الّذي اعتدى على أعراض النّاس بهجائه أنصفه وعطف عليه. حتّى المرأة تصيب ويخطئ هو ويعترف، حتّى الطّفل لم يخف ولم يفرّ، والنّصرانيّ المصريّ البسيط يضرب بسوطه من ضربه بحكم من “عمر” وهو ابن الوالي فاتح مصر “عمرو بن العاص”. لماذا يسجن حكّامنا الأدباء الكبار والمعارضين السّياسيّين! لماذا لا يهتدي “الذّبّان الأزرق” عليك إذا وجّهت نقدًا لحاكم أو أمير أو مسؤول! لماذا قتل النّظام السّعوديّ “جمال خاشقجي” (1958 – 2018) ولماذا قتل النّظام المغربيّ المناضل “المهدي بن بركة” (1920 – 1965) ولماذا قتل نظام السّلطة اللّاوطنيّة الفلسطينيّة الإعلاميّ “نزار بنات” (1978 – 2021) ولماذا يحرمون المرأة من حقوقها ويحرمونها من التّعلّم والعمل والخروج! بينما يولّي “عمر” السّوق امرأة. فهل يتعلّم حكّامناّ! كيف يتعلّم من لا يقرأ! وظنّي بهم أنّهم كانوا يفضّلون لو كانت الجملة الأولى الّتي نزلت من القرآن على النّبيّ “لا تقرأ”! تُبّت أياديهم كما تُبّت يدا أبي لهب وتُبّت عروشهم كعصف مأكول وجُعلت قاعًا صفصفًا.
“عمر” يحرم أهله من المال وهو حقّ وفق نصّ قرآنيّ بيّن خوفًا من تكديس المال، لأنّ حقّهم بالخمس يفوق حاجاتهم الضّروريّة وتكاليف معيشتهم، ويرفض تقسيم “أرض السّواد” في العراق وهو حقّ يضمنه كذلك نصّ قرآنيّ بيّن ويبقيها بأيدي أصحابها الفلّاحين كي لا تتراكم الثّروة بأيدي الفاتحين فيصبح المال المتراكم وسيلة لاستغلال الإنسان لأخيه الإنسان فينتشر الفساد والإفساد تمامًا كما هو حاصل في دول الخليج الغارق بالنّفط والمال والخيانة واستعباد العمّال الأجانب، ولا يتقبّل “عمر” هدايا من ولاته ويمنعهم من مظاهر البذخ والتّرف، وملوك الخليج ينهبون ثروات شعوبهم ويبدّدونها على انغماسهم في وحل المفاسد ويهدون “جميلات” العالم الفاسد مثلهم هدايا ذهبيّة ثمينة تقدّر بملايين الدّولارت.
كان “عمر” حاكمًا حقًّا بكلّ ما تعنيه الكلمة من معاني الشّدّة في الحقّ والحرّيّة في الرّأي والعدالة والمساواة بين النّاس والدّيمقراطيّة والعطف والرّحمة، لقد كان نموذجًا يحتذى بالثّورة على التّمييز بين البشر، وثورة على الباطل بكلّ دلالاته ومعانيه وأشكاله، وثورة على العبوديّة وظلم الضّعيف واستعباد النّاس. فلله درّ ابن الخطّاب أيّ امرئ كان.
ستبقى مقولته خالدة خلود الزّمان “متى استعبدتم! وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارًا”، ستبقى شعارًا عظيمًا يردّده صارخًا المظلوم في وجه الظّالم ما ظلّ في الحياة ظلم. فيا لعظمة “عمر بن الخطّاب” ويا لعظمة مقولته! آه يا “ابن الخطّاب” أيّ امرئ كنت! أيّ عظيم كنت!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة