رسائل حبٍّ تغتال عالم الجريمة !

تاريخ النشر: 01/12/21 | 10:48

يوسف جمّال – عرعرة
نزل من سيارته , وأراد أن يستدير ليأخذ الطريق القصيرة التي توصله الى باب مدخل بيته , وإذا برأسة يرتطم بشيئ صلب يكاد ينغرز فيه .
استدِّرْ وسِرْ باتجاه البوابة ! هذا الذي يلامس رأسك , فرد عامر بالذخيرة .
سمع صوت يهمس في أذنه .
وقبل أن يحاول خليل فتح فمه أكمل الرجل المهدِّد :
وإن حاولتَ أن تخالف أوامري , سأفرغه في رأسك !
فحوَّل جسمه ومشى نحو الباب الخارجي لسور الدار , وحامل الفرد يتبعه من الخلف , مصوِّباً سلاحه ملاصقاً لرأسه .
كان الليل قد أرخّى سدوله الأولى , يكثِّف ألوانه السوداء على المكان , وبدأت مصابيح البيوت والشوارع تتمرَّد عليه , فتفضح سواده بأضوائها اللامعة .
خطا الى الأمام , بحث في جوفه عن أحاسيس فلم يجد , مشى كأنه آلة ميكانيكية تسير بصورة تلقائية .
بحث عن موقع تفكيره , كي يسعفه في معرفة ما يجري له , فلم يهتد الى مكانه .
أنا جارك سعيد الصافي ! اخترقت أسماعه سهام أيقظته من غيبوبته.
أنت تعرف بيتنا .. الى هناك ! أمره بحزم مهدِّد .
كان بيت سعيد الصافي , لا تفصله عن بيته , سوى بضع بيوت من بيوت الحيِّ .
أراد أن ينطق فلم يجد أدوات نطقه , فمشى أخرساً .
كانت كلّ بقايا قواه تنصب على التحكم برجليه , كي تحافظ على اتزانها ولا تنهار , فيسقط على الأرض أمام سعيد .
ومشوا وعندما كان يظهر أمامهم بعض المشاة من أهل الحيِّ , يبعد سعيد جسمه قليلاً عن خليل , وينزل فرده ويخفيه تحت معطفه.
وعند وصولهم بوابة سور بيت سعيد , صاح به : افتح وادخل !
دخلا الحديقة الصغيرة التي تكتظ بالأشجار, ومنها الى باب البيت .
قف ولا تتحرك ! همس سعيد بأذنه .
ادخل سعيد يده في جيبه , وأخرج منه مفتاحاً , وفتح باب الدار.
بعد أن دخلا غرفة الصالون , وجلس خليل على أحد المقاعد , مدَّ سعيد يده التي تحمل الفرد , وقال وهو يدنيه من خليل وابتسامة خفيفة ترتسم على شفتيه:
خذ الفرد ! إنه فارغ يخلو من الذخيرة .
ولكن لماذا أحضرتني الى هنا !؟ سأل خليل بعد أن اطمأن أن سعيد لا يريد به شرّاً .
لأمر في غاية الأهمية والخطورة , تتوقف عليه حياتنا – أنا وأنت!.
حياة عائلاتنا وأولادنا ..
ردّ سعيد بلهجة تحمل أثقال الدنيا .
كيف ولماذا .!؟
ردّ خليل والدهشة تكاد تعقد لسانه .
انتظرني هنا سأعود سريعاً.
خرج سعيد من الصالون , غاب ثوان معدودات, ورجع وفي يده رزمة من الرسائل .
في هذه المغلّفات توجد الإجابة على سؤالك .
وردود عن أسئلة من المؤكد أنك ستسألها لاحقاً !
تناول سعيد ورقة من أحد المغلّفات , وناولها له وطلب منه أن يقرأها .
” لماذا تهرب منّي !؟ تهرب من حبّي لك الذي يملأ كلَّ كياني !؟
وتهرب من حبِّك لي الذي تفضحه عيناك , وكلّ لغات تقاسيم وجهك !؟ ” .
رفع خليل عينيه عن الورقة وسأل بانفعال محموم :
لمن هذه الرسالة !؟ .. ومن الذي كتبها !؟ .. ولماذا تريد اطلاعي عليها !؟
إنها من ابنتك لينا موّجهة لابني عصام !
ردَّ سعيد بلهجة من يريد أن يتخلَّص من حملٍ طالما أتعبه حمله .
لينا ! ابنتي !؟ ردَّ خليل بصوت من تعرَّض لاغتيال .
نعم ابنتك تحب ابني ! ابن مجرم و تاجر للمخدَّرات !.
تفجَّرت من جوف سعيد كلمات طال انحباسها .
سكت قليلاً حتى عاد الى اتزانه , وأكمل يتكلّم بهدوء :
إسمع يا سعيد ,لا أنا ولا أنت , صنعنا هذا الحبّ الكبير الذي تكوَّن بين ابني وابنتك , والرسائل التي بين يديك تحكي قصته .
وإن أردتَ سأتركك معها لتقرأها .. أنا قرأت كلَّ كلمة فيها , بدأت بقراءتها غاضباً وانتهيت منه إنساناً آخر , استطاعت هذه الرسائل أن تقلب كلَّ مفاهيمي عن هذه الحياة .. استطاعت أن تقلب حياتي رأساَ على عقب .
تقدّم من الطاولة , وتناول الفرد بيده , ومدّها باتجاه خليل وقال برجاء معذّب :
خذه ! ابعده عنّي ! ستكون هذه المرة الأخيرة التي ألمسه بها .
وضع الفرد على الطاولة القريبة من خليل , ورمى بنفسه على الكنبة , وانفجر باكياَ بنشيج محموم.
ألى أن أجبر نفسه بصعوبة كبيرة على التوقف عن البكاء .
وبعد صمت بذل جهداً ليمنعه من الانفجار ثانية , تسلَّلت من بين شفتيه , كلمات خرجت من عذاب مكبوت :
أنت في هذه اللحظة تقول لنفسك يا خليل :
سعيد الراضي المجرم , الذي ترتعش الأجسام والقلوب عند ذكر اسمه .. يبكي بين يديّ !؟.
كلَّ من لم تستطع فعله به , معارك وتهديدات وسلاح عالم الإجرام , وملاحقة الشرطة وسجونها ,فعلته به رسائل حب !؟
اجتاحت تفكير خليل عواصف من الأفكار, جعلته يتوه في حوّام عميق .
” أتدري أنني منذ طفولتي المبكرة , لم أبكِ في حياتي أمام أحد !؟ مئات بكوا أمامي !”
استمر سعيد في قذف اعترافاته .
أما خليل فقد بقي غارقاً في بئر صمته المشدوه .
واستمر سعيد في حديثه :
في هذه الرسائل المتبادلة , بين ابني وابنتك , تتجلّى أسمى مشاعر الحب ألإنساني النبيل .
قرأت فيها المعاناة الشديدة , التي كان أولادي يتعرضون لها بسبب سقوطي في وحل الإجرام .
كلّ مناعم الحياة التي وفَّرتها لهم عالم الجريمة لم تشعرهم بشيئ من السعادة , بل على العكس سببت لهم التعاسة والخوف واليأس .
عرفت من هذه الرسائل أنهم كانوا يكرهونني , بالرغم من مظاهر الحبِّ المزيَّفة التي كانوا يظهرونها لي .
أتدري – يا خليل- من يقف أمام هذه المشاعر !؟
أنا وأنت !
أنا لأني غارق في عالم الإجرام , وأنت لأنك سترفض أن ترتبط ابنتك بابن مجرم .. هكذا كتبت ابنتك في رسائلها .
ولذلك أحضرتك الى هنا لأعلن أمامك , أنني سأنسحب من هذا العالم .
إنني أحب أولادي – يا خليل – ولذلك قررت أن أغادر هذه البلاد مبعداً شرّي عنهم , ليعيشوا حياتهم الطبيعية , سأعود الى زوجتي التي فارقتها منذ أن دخلت الى عالم الجريمة .
أتدري – يا خليل – أنها عاشت معي أربعين سنة ” مقبورة ” في عالم من الحزن والمعانات والخوف .. عاشت معي في صمت مقهور معذّب .
تزوجنا عن حبٍّ كبير تحوَّل الى كراهية ومقت .
قبل ليلتين تحدثنا معاً .. رويت لها كلَّ ما مررت به في عالم الجريمة , وعرضت عليها أن ننفصل عن بعضنا , وأترك لها ولأولادنا كلَّ ما نملك .
فرفضت الانفصال , وقررت أن تبقى لجانبي , وترافقني في الخروج من عالم الجريمة , وسترحل معي أينما سأتوجه .
“قتلت” حياة هذه المرأة , وبالمقابل ها هي ” تقتلني” بالحبِّ والوفاء!
إني – يا خليل -لا أستحق منها هذا ..لا أستحق منها هذا يا خليل !
وعاد لينفجر في بكاء محموم .
واستمر بعد أن نفذت من عينيه الدموع , ولم يبق له صوت يخرجه:
سأبيع نصف أرضي التي ورثتها عن أبي لنتمكَّن , أنا وهي , من العيش في البلاد التي سأنتقل إليها , بعد أن أوزع جميع الأموال التي كان مصدرها الإجرام ,على المحتاجين والمشاريع الخيرية .
يا خليل – أنا لم أعلَّم أولادي مشاعر الحب , وهاهم يعلموني
مبادءه الأوليَّة.
عالم الجريمة , الذي غرقت فيه , جعلني أكبتها أسجنها في داخلي.
فجاءت هذه الرسائل , لتنشلها من أعماقي وتحييها من جديد .
أنك – يا خليل – إن حرمت هؤلاء الشباب من نعمة الحب والزواج, فإنك ستدخل نفسك في عالم الإجرام ,الذي تمقته وتحاول الابتعاد عنه !
أنا – يا خليل – استطعت أن أستولي على هذه الرسائل بوسائل خاصة , مارستها في عالم الإجرام .
أمرت أحد أفراد عصابتي , بمراقبة حركات ابني في أماكن تواجده . أين يسهر لياليه , القهاوي والمطاعم التي يرتاده من أصدقائه, الفتيات اللواتي يخالطهن .
الى أتاني بخبر علاقته بابنتك ..
فغامت الدُّنيا في عينيّ .. وأنا – كما تعلم – إذا غضبت تطاح رؤوس وتطير أرواح .
هذا الولد كانت معدَّة له ابنة أحد شركائي في الإجرام ليتزوَّجها .. كانت جزء من صفقة كبيرة من صفقاتنا .
فكلَّفت رجلي أن يأتيني بدليل قاطع على وجود هذه العلاقة .
ولما آتاني بالرسائل طار عقلي , وقررت أن أقتلك أنت وابنتك .
نعم أقتلك أنت وابنتك كي أبعدك عن طريقي , كما أبعدت عنها الكثيرون .
وفي الليل داهمتني سيول من حبِّ الاستطلاع جرّتني الى الرسائل.
قمت من فراشي واتجهت الى الخزانة الحديدي, وأخرجتها منها وتوجهت الى السرير وبدأت أقرأ .. وأقرأ , وكلما أنهيت واحدة منها , زاد شوقي لأبدأ بالتالية , حتى قرأت جميعها .
أنهيتها حين بدأت خيط شمس الصباح تتسلل من نوافذ الغرفة .
وعندها شعرت شعور من كان في ظلام مسدود , وفُتحت له بوابة الى النور .
رجعت الى طفولتي ..
عندما كنا نجلس , نحن وأصحاب الحقول المجاورة , نتناول معاً فطورنا في موسم قطف الزيتون .. الى جرَّة خالتي أم عبدة المدفونة أمام بيتها القديم , تنادينا لتسقينا منها الشربة المثلَّجة .
رجعت الى عالمي قبل دخولي الى عالم الجريمة.
فقررت أن آتي إليك لتكون بوّابتي الى عالم النور والحب .
فمعك المفتاح .. والمفتاح هو تتويج أبني وابنتك في عرسهما .
أنا وزوجتي , اتفقنا أن لا نكون في حفلة الخطوبة .
بعد ساعات , سنغادر هذه البلاد الى بلاد بعيدة , لن نخبر أحد باسمها.
وأطلب منكم أن تعلنوا في البلد أننا لن نعود , ليتم فرح خطبة ابني وابنتك بدون ظلِّ ماضيي الثقيل .
وأن سأتصل بأولادي سامية وأحمد , الذين يدرسون في الخارج , لترتيب أمور الوضع الجديد .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة