بلدنا والغولة .!
تاريخ النشر: 10/11/21 | 6:01يوسف جمّال – عرعرة
قصة دخول أهل البلد للمغارة .. تتناقلها الأجيال من جيل ..
المغارة .. التي لم يجرأ على دخلوها أحد منهم من قبل ..
مغارة المغاربي .. التي تقع غربي البلد ..
اعتقد غالبية أهل البلد , أن مخلوقاً “لا هو إنس ولا هو جان ” .. يسكن فيها , ويتخذها منطلقاً للاعتداء عليهم وعلى حيواناتهم , ويملأ حياتهم رعباً وخوفاً .
وانتشرت الحكايات حول المغارة بين سكان البلد .. تناقلوها من جيل الى جيل ..
منهم من أعتقد أنه كان يسكنها قبل مئات السنين االشيخ “سيدي المغاربي” ,الذي شعر بالسخط والنقمة على أهل البلد , نظراً لفسقهم وكفرهم , فاعتزل البلد واتخذ من المغارة مسكناً له , ورفض كل محاولاتهم لمصالحته وردِّه للعيش معهم , وبقي معتكفاً فيها حتى مماته , وتحوَّلت روحه الى غولة , تنتقم له من سكان القرية الجاحدين ..
ومنهم من يعتقد أنه يسكنها جان شرير , ينام بالنهار ويقوم بالليل يتربص للناس وأطفالهم وحيواناتهم , فيفتك بها وتكون طعاماً له ..
أما سعيد العيسى , فيقسم أغلظ الأيمان على صدقه , في قصته مع غولة المغارة :
فبينما كنت أسير بالقرب من المغارة , فإذا بغولة أكبر من ثور أبو العبد تقترب مني ,وتزعق في أذني زعقات هزّت الجبال , جعلتني أغيب عن الوعي .. وأمشي وراءها باتجاه المغارة ..
ولولا أن لطم رأسي في سقف باب المغارة , فصحوت من غيبوبتي .. لدخلت وراءها , وتحولت الى طعاماً سائغاً لها.!
تركت المغارة وولّيتُ هارباً راجعاً الى البلد , والهلع يقطِّع أوصالي ,وكنت كلما ركضت عدة خطوات , أنظر خلفي لأتبيَّن أنها لا تلحق بيَّ ..
ومنذ ذلك اليوم وهو يملّ ولا يكلّ , من سرد قصته مع الغولة ..
ويفسّر الشيخ عبد الله الزيناتي الحالة التي مرَّ بها سعود العيسى , بأنها حالة “الضبعة” .. فالغول عندما يريد أن يسحب فريسة من البشر الى مغارته ليفترسه فيها , يزعق في أذنه بقوة , فيصبح الضحيَّة تحت سيطرته (مضبوعاً) , فيسير الغول باتجاه مغارته , ويمشي الضحية وراءه مسلوب الإرادة , الى أن يُدخله المغارة ويفترسه فيها.!
أما محمد الشايب فيحكي :
بحثت عن بقرتي الحلوب في كلِّ مكان فلم أجدها .. فلم قاربت الشمس على المغيب , ويلفِّع الظلام القرية وبراريها , قلت في نفسي البقرة “راحت ” ! .
فتوجهت الى الشيخ سليم لألجم عليها ..
ناولته الموس الذي كان لا يفارق جيبي , ففتحه نصف فتحة , وقرأ عليه بعض الآيات والتعاويذ , وناولني إياه موصيّاً :
“إيّاك أن تفتحه حتى الصباح .! إن فتحته .. البقرة “بتروح” .. ويأكلها الغول .!” .
ومن أول المصابيح , توجهت الى مراعي البلد , فوجدتها ترعى العشب في هناء ولذة .. وعندما اقتربت منها .. لاحظت آثار خطوات كبيرة بالقرب منها ..
فتأكَّدت أن الغوله ,حاولت مهاجمتها فمنعه اللجام ..
فكان حليبها لمدَّة سبعة أيام من نصيب الشيخ سليم ..
ويقسم محمد العبد :
أنه رآى حيَّة رقطاء ضخمة , طولها أربعة أذرع ورأسها بحجم رأس ثور ضخم .. رآها تدخل الى المغارة وفي فمها
كبش كبير ..
وعندما حكى قصته لشيخ مسجد القرية قال مفسراً :
ان هذه الحيَّة من صنف الجان ,لا تخرج من وكرها إلا في الليل .. وإذا ما لسعت فريستها سقط ميِّتاً ..
فزاد ابتعاد أهل البلد عن المغارة وشرَّها ..
في أحد أيام صباي , ناداني من الطريق المحاذي لبيتنا , صديق طفولتي وزعيم أبناء حارتنا سعيد العارف , وعندما ” طلَّيت ” عليه من باب بيتنا , صرخ بيَّ بصوت يُفهم منه , أن أمراً خطيراً قد حدث :
تعال ..! صاح بلهجة كلها أمر ..
وين .!؟ سألته كعادتي في هذه المواقف معه .
على المغارة .! ردّ بلهجة من اتخذ قراراً خطيراً ,
لا رجعة فيه ..
خرجت من باب الدار , وعندما وصلته همست بهلع :
على المغارة ..!؟
آه .. بنّا نشوف شو فيها .! ونخلِّص أهل البلد من الغولة..
إحنا ..!؟ أنا وأنت !؟ سألته وأحاسيس من الدهشة والاستغراب والخوف , تسرى في كلٍّ أنحاء جسمي .
امشِ لا تكن جباناً مثلهم.! .. أفهمني فيه أنه أمر لا رجعة فيه .
وسرت بجانبه في الطريق الى المغارة ..
كنت أجرُّ قدماي بصعوبة كبيرة , التي أحسست أنهما أصبحا ثقيلين .. بعد مسافة طويلة من الصمت الثقيل , استطعت أن أرفع رأسي بصعوبة , لأسترق نظرة خاطفة من وجهه .. كانت أمواج من الرهبة تنتشر على صفحات وجهه ..
كان يسير بتسارع كبير .. كأنه كان يسرع الى مكان يشّده إليه بقوة .. وكان لا بدَّ لي من الجريِّ حتى ألحق به .
وعندما أصبحنا على بعد مئتي متر عن المغارة .. وقف فوقفت ..
توجه اليَّ بعينين تطفحان بالتحدِّي المجنون :
استناني هون !
ان رجعت ما صار إشي .!
بعدها بتستنى خمس دقائق ..
وان ما إرجعتْ .. بتروح تفزِّع أهل البلد .!
فاهم شو بقلَّك .!!؟ ولاّ أعيد !؟
شعرت أنه يلقي على كاهلي أحمالا الدَّهر .!
وقبل أن أنطق بشيئ .. مشى باتجاه المغارة .!
ووقفت متسَّمراً في مكاني , وعيناي منصبتان على هذا المخلوق العجيب , الذي يسير الى حتفه المحتوم .. يفلت من بين يديّ وقوايَّ عاجزة عن منعه .!
أخذه الطوفان منّي , ولم أجد بيَّ القوة حتى أنشله منه .!
وكان يصغر شيئاَ فشيئاً , كلما ابتعد عنّي .. حتى اتحدت ملامحه في كتلة واحدة ليس لها معالم أو ثنايا .. حتى اختفى عن عيني ..
ولم استطع أن انتظر المدَّة التي أمرني بها ..
ولا أدري ما هي القوة ,التي حملتني ورمت بيَّ الى الطريق , وساقتني بسرعة البرق نحو البلد ..
وعندما وصلت البيوت الأولى , بدأت أصرخ وأصيح بأعلى صوت أملكه :
يا ناس .! يا أهل البلد ..! يا ناس يا أهل البلد ..!
محمود فات على المغارة .! .. محمود فات على المغارة .!
إنقذوا محمود من الغولة .!
طفت كل ّحارات البلد وأزقَّتها .. مزارعها بيادرها وكرومها ..
وعندما رجعت الى المغارة ,هالني ما رأت عيناي ..
كان جميع سكان البلد , يقفون في المكان الذي كنت أقف فيه قبل نزولي الى البلد , لأستنجد بهم ..
كانوا يقفون في صمت رهيب ..
فتذكرت الآية الكريمة “كأنَّ على رءوسهم الطير ” الذي كان يحلوا لبعض المعلمين ان يتغنّوا بها , عندما نصمتنا عاجزين عن معرفة الإجابة عن سؤال كانوا قد سألوه.
وبعد سكون طويل كاد ان يخنقنا , خرج صوت من بين الجموع كسَّر الصمت الثقيل:
من يدخل المغارة وينقذ الصبيَّ الذي دخلها .!؟
سكون ما قبل الانفجار ..
المختار .! أليس هو المكلَّف بحماية أهل البلد .!؟ سُمع صوت من وسط الزحام .
لن أدخلها .! مثلما دخلها هو دون أن يسأل أحد .. فليخرج منها .! ردَّ المختار بتحدّي ..
ولكن معك سلاح يا مختار .! صاح آخر ..
السلاح هذا للحكومة , وتراقب كل رصاصة بتطلع منه .! أجاب المختار .
صوت امرأة من بعيد : ولكن الولد دخلها, ليحمي أهل البلد من الغول .!
فردَّ المختار بصوت من سئم هذا الحوار :
ليدخلها أبناء من أصحاب الأراضي , التي ليس لها آخر .. ومال لا تأكله النيران , وسلاحاً ليس له عدد .!
سلاحنا مهرَّب نخاف أن نستعمله ..! ارتفع صوت صاحب المعصرة .
ولكن في أية حالة ستستعملونه .!؟ صاحت دايَّة البلد .
فلم يُسمع لسؤالها رد ..
من يدخلها سندفع له مالاً , يكفيه طعامه وشرابه بقيَّة حياته .!
أكمل أحد ملاك الأرض الكبار ..
سنموت كلنا .. وتموت معنا , وتأخذ مالك معك الى القبر ,قبل ان يستفيد منه أحد .!
خرج صوت من بين الجموع .. كان صوت جمال الحسن أغنى رجال البلد..
ليدخلها إمام البلد .! صوت خرج من بعيد .
لن أدخلها حتى تأتي مشيئة الله .! ردّ الإمام بلهجة خطبة الجمعة .
ستخرب بيوتنا ونحن ننتظر يا سيدي الشيخ .! انطلق صوت امرأة يخالطة بكاء وحسرة .
وعاد السكون ليقبض على خناق المكان ..
أنا سأدخلها وأخلّص البلد من الغول وأنقذ الصبيَّ .! صاح محمد عامل المطحنة .
أنت .!؟ زعق المختار ..
وأنا سأدخل معه .! صاحت خديجة الحطّابة ..
أنت .!؟ صاح بها جمال الحسن .
وأنا معه .. ارتفع صوت أحد الفلاحين .
وأنا معه .. وأنا ..وأنا .. تتابعت وتكاثرت حتى تولت الى طوفان..
ومشوا نحو المغارة ..
كانوا يمشون في صمت نحوها , متكاتفين ملتحمين ببعضهم , حتى أنهم شعروا أنهم تحوّلوا الى كتلة واحدة , وعيونهم منصبَّة على مدخلها ..
كلّ خطوة من خطواتهم , كانت تزيد من أحاسيس الخوف في نفوسهم.. فيلتصقون في أجسام بعضهم بعضاً , ليستمدوا القوة للإستمرار بالسير.
وعندما وصلوا الى باب المغارة , تزاحموا وتدافعوا .. كلهم يريدون أن يدخل إليها ..
قتلوا الخوف من قلوبهم ..شعروا أنهم كتلة واحدة كبيرة ,لا تستطيع الغوليَّة مهما كانت قوتها وجبروتها أن تنال منهم .
وعندما دخل أوائلهم االى داخل المغارة
لم يجدوا الغولية في المغارة ..
فوقف موسى عامل المعصرة , على سطح المغارة , وصاح
بالجموع المحتشدة أمامه :
لم نجد الغوليَّة هنا اليوم .. لقد تركت سعيد سالماً وهربت , عندما رأت اتحادكم وتلاحمكم..
ولكن بقايا آثار جرائمها مكتوبة بالدم على أرضيتها .. بدماء آجدادنا وآبائنا وأولادنا ..
ربما قصدت مكاناَ أخر من بلادكم لتنشر الموت الخراب فيه ..
اليوم قتلنا “حلفائها” من الغيلان الموجودة في صدورنا .. التي كانت تفرِّق بيننا ..
ومن المؤكَّد أن الغولة ستعود الى بلدنا لتحاول مرة أخرى ..
ولكننا باقون هنا .. وإننا “بانتظارها” ..
تحاول الغولة أن تدخل الى بلدنا بين الحين والحين , ولكن كلّ محاولاتها تفشل دائماً , بفضل وقوف أهل البلد صفاً واحداً في وجهها ..