الأرضُ لها حكاياتُها: جَمالِيّاتُ دَيْرِ الأسدِ الجَلِيلِيَّة

تاريخ النشر: 20/09/21 | 8:11

ميسون أسدي

ما الذي يحدّدُ، الهُويّةَ الوطنيّةَ، والموروثَ الثقافيَّ لأهلِ قريةِ دَيْرِ الأسدِ في منْطقةِ الجليلِ الأعلى؟ هل هوَ نوعُ التجربةِ الحياتيّةِ التي سَنَرْويها للقراءِ، أم الفكرةُ التي تخترعُها ملكاتُ الْمُخَيِّلَةِ والحَدْسُ والفهمُ معًا؟ أَهُوَ طبيعةُ القريةِ، المكانُ وموقعُها الجغرافيُّ، وملامحُ الناسِ هي الّتي تُحمّلُ النصَّ لونَه، ونبضَ أشيائِه، وتفاصيل حياةِ الناسِ الذين يولدونَ ويعيشونَ ويموتونَ فيه؟ إنّه المكانُ الواحدُ الذي صدرَ منه وعنه عددٌ من الأدباءِ والشعراءِ والمطربين والفنانينَ بأوْصافِهِمْ، وكلّ مبدعٍ له نصوصٌ أدبيةٌ متطابقةٌ مَعَ نِتاجِ الآخَرينَ، أو أنّ لكلّ شخص تجربةً خاصّةً ومخيّلةً متفرّدةَ وحَدْسًا ذاتيَّا مختلفًا، له قدرتُهُ المتميّزةُ على خلقِ فضاءاتٍ، تضافُ إلى ذلك المكانِ وتصبغُهُ بلونٍ له فَرادهُ؟
قريةُ ديرِ الأسدِ هي الرباطُ المقدّسُ لهذِهِ العَلاقاتِ كلِّها، بينَ بواطنِ الإنسانِ الداخليةِ بكلِّ ما يَخْتَلِجُها منْ صراعاتٍ نفسيّةٍ وفكريّةٍ واجتماعيّةٍ.
طمأنينة المنازل في حياة الطفولة:
منذُ نعومةِ أظفاري وأنا أسمعُ من الآباءِ والأجدادِ يُردّدونَ بفخرٍ أنّنا أحفادُ عبدِ القادرِ الجيلاني ويعتزّونَ بذلكَ في كلِّ مناسباتِهم ويُظْهِرونَ لهُ الكثيرَ من ضُروبِ المودّةِ. وَسمعت من والدي أنّ عمّي صالح طه الأسديّ… الذي هَرَبَ عامَ 1948 إلى مخيمِ عَيْنِ الْحُلْوَةِ في لبنانَ، ومنها سارَ إلى بيروتَ… عندما سُمِحَ له بزيارةِ قريتِه دَيِرِ الأسدِ عامَ 1965، ذهبَ لزيارةِ الشاعرِ أبي سُعودٍ الأسديّ، طلبَ منه صورةً لشجرةِ العائلةِ الأسديَّةِ، ليُظهرَ لأهلِنا في لبنانَ ارتباطَ العائلةِ بالعالمِ الكبيرِ، والمربي الشهيرِ الشيخِ عبدِ القادرِ الجيلانيِّ، فمدحوه وأطروا شمائلَهُ وأوصافَهُ، وحدَّثوا بلا حرجٍ عن حسنِ طلعتِه، وأناقةِ مظهرِهِ، وقد توجَّهَ عمّي صالح محمد طه الأسدي آنَذاكَ إلى الشاعرِ أبي سعودٍ الأسديّ الذي احتفظَ بصورةٍ لشجرةِ العائلةِ عَنْ أسْلافِه… وحينَ أُتيحَتْ لي مشاهدةُ شجرةِ العائلةِ المنسوخةِ أبًا عنْ جدٍّ، أدركتُ لماذا يعتزّونَ بِنَسَبِهِمْ وفَصْلِهم.
حتَّى هذهِ اللحظةِ ما زِلْتُ أسمعُ أُمِّي – ابنة السِّتَّةِ وثمانينَ عامًا – تُغنِّي بصوتٍ جميلٍ حنونٍ وَتُمَجِّدُ بَلَدَها بضروبِ الحفاوَةِ والسرورِ، في بِيئَتِنا الفلّاحية الهادئةِ وطبيعتِها ذاتِ المناظرِ الخلابةِ وَتَقولُ:
ديرُ الأسدْ بلا حسدْ شبابْها كلن جُدْعانِ
وبها الخيرْ ممدودْ للجوعانْ والشَّبْعان
يا ربّ تِحْمِيها من عكَا لْصَفَدْ ورجالْها غزلان
يا ربّ تِحْميها بِبَرْكَةْ سِيدْنا اْلِجيلاني
كنتُ وصديقاتي زهرات اكتملَ طالَعُها، وسطعَ عبيرُها، نَصْعَدُ إلى قمةِ “جَبَلْ الْمُغُر” قاصدات مَقرّ الْخَضِرِ في أعالي الجبلِ لِنُغَنِّي ونرقصُ، كُنّا نستريحُ بقربِ صَخْرَةِ “دَعْسَةِ بنتِ النَّبِي”، حُفرَتْ عليها صُورَةُ قدمِ امْرَأَة، ظَهَرَ مِنْهَا الاخمصُ والكعبُ، الصَّخْرَةُ ملساءُ مثلُ الرُّخامِ. وكنّا نتباركُ بهذهِ القَدَمِ، لأنها قدمُ فاطمةَ ابنةِ النبيِّ (ص)، وهاك صخرةٌ أخرى لَها المواصفاتُ نَفْسها بالطريق إلى قريةِ مجدِ الكرومِ. كنّا نضعُ كفَّاتِ أقدامِنا الصغيرةِ عليها فباتَتِ الدَّعْسَةُ ناعمَةً، وكنّا نسمعُ منْ جَدّاتِنا أن مَن تَدْعَس القدمِ تُباركْ بِالخيراتِ من مالٍ وصحَّةٍ وزواجٍ وأبناءٍ، وكلُّ ما تشتهيهِ، وما زالتْ هذهِ القصَّة والذاكرة ترافقني كما رافَقَتْ أمِّي وجدّاتِنا في القريةِ، لأنّها كانت تُسْعِدُنا ونخشعُ حينَ نقتربُ منها، وبعدَها نَعودُ إلى شَقاوتِنا الطفولية، نقطفُ الزعرورَ والْميرامِيَّةَ وَالْبُطُمَ. ونركبُ على لوح دَرْسِ الْحُبوبِ وراءَ جَدِّي ونسمعُ الأغانِيَ وتَبادُلَ الأشعارِ:
يا بدياح يا بدياح… وين خبيت الرياح؟
بين علمة وسلمى… وبين عروق السيسبان
سيسبان ما سيسبان… سيسبان خيل الموالي
وانقطع حزم الحصان… من ورا ومن قدام

سردية ما سردية… سردية بنت السلطان
حاجبها بفرط رمان… بفرط مد وربعية
زغرديله يا بنية… كل زغرودة قوية
الأدباءُ والشعراءُ منَ القريةِ وجوارِها كَثيرونَ، مِمَّنْ تَأثّروا بِالمكانِ وطبيعتِهِ وتاريخِهِ وجَمالِهِ. كانَ ارتباطُهم بالمكانِ وتأثّرُهم به وَصِلته بمثابة القَصَبَةَ الهوائيّةَ التي كانوا يتنفسونَ منها. وَامتازتِ القريةُ برواجِ الشعرِ في مجالِسِها، فَقَدْ أنشدَ الشاعرُ أبو سُعودٍ الأسديُّ يغني لدير الأسد:
نحنُ بدَيرِ الأسدِ شيَّدنا دارْ
عُنْوانُها مِنَ الزجَلِ والأشعارْ
صارتْ بَلَدُنا ِللشِّعْرِ كَعْبَةً
يَقْصِدُ إلَيْها سائِرُ الزُّوّارْ
إن أهالي قريةِ ديرِ الأسدِ يَغْلِبُ عَلَيْهِم المَيْلُ إلَى الْغِناءِ وَالطَّرَبِ وَالموسيقا. وأَكْثَرَ من يمارس هذه الألوانَ هم من كبار السنِّ. وقد توارثتْها الأجيال جيلًا بعدَ جيلٍ. وَجذورُ هذه الظاهرةِ تَعُودُ إلَى الْجَدِّ الأكبرِ لهم، الشيخ عبدِ القادرِ الجيلانيّ، الذي حضرَ من العراقِ، وكان عالمًا مُتَبَصّرًا يتكلّمُ في ثلاثةَ عشرَ علمًا من علومِ اللغةِ والشريعةِ، وهو من المتصوّفينَ، وقدِ امْتازتِ الصوفيّةُ بالدروشة بِالتَّواشيحِ في مدحِ الرسولِ والأولياءِ، وهذا ما ميَّزهم عن باقي المذاهبِ الدينيَّةِ الإسلاميَّةِ.
الصوفيةُ، وهي أحدُ مراتبِ الدينِ الثلاثةِ (الإسلامِ، الإيمانِ، الإحسانِ)، فمثلَما اهتمَّ الفِقْهُ بتعاليمِ شريعةِ الإسلامِ، وعلم العقيدةِ بالإيمانِ، فإنَّ التصوُّفَ اهتمَّ بتحقيقِ مقامِ الإحسانِ، وَمقامِ التربيةِ والسلوكِ، وَمقامِ تربيةِ النفسِ والقلبِ وتطهيرِهِما منَ الرذائلِ وتَحْلِيَتِهِما بالفضائلِ.
كانَ التصوّفُ الحقيقيُّ، في الصدرِ الأوَّلِ من عصرِ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم، فالخلفاءُ الأربعةُ الراشدونَ كانوا مُتَصَوِّفينَ، التاريخُ الإسلاميُّ زاخرٌ بعلماء مسلمينَ انتسبوا للتصوّفِ مثل: الْجُنَيْدِ البغداديِّ، وأحمد الرِّفاعِي، وعبد القادرِ الْجِيلانِي، وأبو الحسنِ الشاذليِّ، وأبو مدين الغوث، ومحيي الدين بن عربي، وشمس التبريزي، وجلال الدين الرومي، والنووي، والغزاليِّ، والْعِزِّ بنِ عبدِ السّلامِ، وَالقادةُ مثل: صلاح الدينِ الأيوبيِّ، ومحمد الفاتحِ، والأمير عبدِ القادرِ الْجزائِريِّ، وعمرَ المختارِ، وعزِّ الدينِ القَسّامِ.
روائحُ الدير
روائحُ المكانِ تهبّى أنوفِنا فنشتَمُّ روائحَ العراقةِ والأصالةِ ممزوجة بروائحِ العَطّارةِ المميزةِ لهذا المكانِ، على مدارِ الزمنِ.
تَقَعُ قريةَ ديرِ الأسدِ في شماليِّ البلادِ، قريبةٌ من جنوبِ لبنانَ، تتكئ بيوتُها على سفحِ “جبلِ المغرِ” في الجليلِ الأعلَى، تبعدُ ما يقاربُ 22 كيلومترًا منْ عكا شرقًا، شماليّ طريقِ المواصلاتِ الذي يربِطُ عكا بمدينةِ صفد. قبل 500 عامٍ، لم تكنْ قريةُ ديرِ الأسدِ موجودةً على الْخَرِيطَةِ الجغرافيةِ في منْطقَةِ الجليلِ الأعْلَى، كانتْ “بيتْ عناة” الكنعانيةُ مَكانَها وَحُرِّفَتْ فيما بعدُ إلى كلمةِ “بعنة”.
ويقالُ إنَّ القريةَ كانتْ تُسمّى أيضًا بـ “دير الخضر” نسبةً إلى “السيّدِ الخَضِر” (يُعْرَفُ في الأوساطِ المسيحيّةْ بـ “مار الياس” وفي اليهوديّةِ النبيُّ “الياهو” الذي كان قد بُنِيَ له مقامٌ على “جبلِ المغر” الذي تقعُ عليْهِ القريةُ).
ويقالُ إنَّ القريةَ كانتْ تُدعى “دير البعنة” وذلكَ نسبةً إلى قريةِ البعنةِ المجاورةِ التي تحوي طائفةً مسيحيّةً. تَضاريسُ الْقَرْيَةِ جَبَلِيَّةٌ صعبةٌ، وفيها حارةُ السِّباطِ، وهي أقدمُ أحياءِ القريةِ. وفيها أهمُّ آثارِ القريةِ، وهو الخانُ الذي بُنِيَ في الِعَصْرِ الْعُثْمانيِّ واستخدمَ لاستراحةِ القوافلِ والمسافرينَ، وتعتبُر القريةُ كنزًا أثرِيًّا، فيها بقايا جدرانٍ ومِعصرةٌ وكنيسةُ وحارة السباطِ.
كانتْ تُعرفَ القريةُ في القِدَمِ بدَيْرِ الرهبانِ أو دَيْرِ الْبِعْنَةِ، وكان ذلكَ قبلَ مجيءِ أحدِ أحفادِ محمد الْقادِر الْجِيلاني شيخِ الطريقةِ القادريَّةِ، وهو إمامٌ صوفيٌّ وفقيهٌ، والمعروفُ حاليًّا بالشيخِ محمد الأسدِ، وهو من أحفادِ الشيخِ القُطْبِ صالحِ ابنِ الشيخِ مُحْيي الدينِ عبدِ القادرِ الجيلاني. أَصْلُهُ من قريةِ “الحمّارا” الواقعةِ بالشامِ، وقد خرجَ منها إلى دمشقَ لطلبِ العلمِ، ومن ثمّ انتَقَلَ إلى صفدَ ومنها إلى دَيْرِ الْبِعْنَةِ في عهدِ السلطانِ سليمان القانونيّ.
تأسّست ديرُ الأسدِ، بِقُدومِ هذا الشيخِ إلى أراضي قريةِ البعنة، وَهِيَ اِلأراضي التي تعرفُ باسمِ “بابِ الوطاقِ” و”الجزماتِ” و”خلةَ خازنْ” وغيرِها وهي للبعنةِ.
سيفُ السلطانِ
كلّفَ السلطانُ التركيُّ سليمان القانونِيّ – صاحبُ القوانينِ والتشريعاتِ آنَذاكَ الشيخَ محمد الأسد، أنْ يأتيَ ويسكنَ في مِنْطقةِ ديرِ البعنةِ، وقد كلّفه بهذه المهمةِ لِأَنَّ شارعَ عكّا – صفد عسكريٌّ فتحه الأتراكُ لخدمةِ مصالحهم ولِتَتَحَرُّكِ مَرْكباتِهم بين عكّا وصفد، وعندما فتحوا الشارعَ كانتِ الإمبراطوريةُ العثمانيةُ واسعةً جدًّا، ونِبَت هنا وهناكَ ثوراتٌ وعراكٌ ضدّ الحكمِ التركيَ. وبما أن اَّلشارعَ هو خطٌ عسكريٌّ مُهِمٌّ للأتراكِ تتحرك به عساكِرُهم، فقدْ تَحَوَّلَ هذا الشارعُ إلى هدف للمتمردينَ الّذِينَ يأتونَ ويهاجمونَ العسكرَ التركيَّ الذي يتحرَّكُ بينَ عكّا وصفدَ، في النهار، ويختبؤونَ في اللَّيل في دَيْرٍ قربَ البعنةِ، وبه رهبانٌ لطفاءُ يَعْطِفونَ على المساكينِ، وكانَ المتمردون يَدَّعُونَ أنّهم فقراءُ، فكانَ الرهبانُ يطعمونَهم ويؤوونهم في اللَّيلِ.
أدركَ السلطانُ ما يَجري في الْمِنطقةِ بمعونة عيونِهِ ومُساعديهِ، فَطلب منَ الشيخِ الأسدِ أن يأتيَ ويقيم في هذه المنطقَةِ. اقتطعَ السلطانُ التركيُّ الشَّيْخَ محمدَ الأسدَ قطعةَ أرضٍ كبيرة ليقيمَ عليها محمد الأسد، اسمُها أرضُ الوقفِ وفيها محاجرُ، ووضعَ تحتَ تصرّفِه أرضَ دَيْرِ البعنةِ. حُدودُها من مِنْطقةِ الجلسةِ – وهيَ خطُّ الماءِ للشتاءِ- حتّى وادي العريضِ الحمايدةِ إلَى بيتِ دارِ حربٍ، وهي حدودُ الدَّيْرِ، وأرضٍ أُخْرى في منطقة كرمئيل حاليًّا.
كان َمنَ المعروفِ في ذلكَ الزمانِ أنَّ كلَّ واحدٍ يختارُهُ السلطانَ سليمانُ القانونيّ، وَيُكَلِّفُهُ بِمهمَّةٍ يَصْبِحُ من جماعتِهِ ومنَ الضاربينَ بسيفهِ.
تلازُم بينَ المكانِ والزمانِ
هناكَ تلازُمٌ بينَ المكانِ والزمانِ، وأنَّهُ لا زمانَ بلا مكانٍ، فالزمانُ هوُ قريةُ المكانِ، وعلى مستوى الإبداعِ كلُّ زمانٍ يتحرَّكُ فيه شخصٌ ما في مكان ما. إذًا فالمكانُ شرطٌ إبداعيٌّ. القصّةُ المتداوَلَةُ للشيخ محمد الأسد والتي تعدُّ جزءًا من الفولكلورِ المحلّيِّ، بدأتْ بخروجِ شيخٍ اسمُهُ محمد القادرِيّ أبُو عبدِاللهِ ابن اميرِهم، من دمشقَ العاصمةِ السوريةِ حاليًا، مُتّجهًا إلى الغربِ الجنوبيِّ في ِفلسطينَ، وعندَ وصولِهِ عَيْنَ الأسدِ (قرية درزيّة تقعُ في شماليِّ البلادِ أَيْ شرقيِ الشاغورِ)، وقد حانَ وقتُ الصلاةِ آنذاكَ، أخذَ يتوضأُ منْ ماء تلكَ العينِ، وَفَجْأَةً خرجَ له أسدٌ وافترسَ حمارَهُ. بعدَ أنِ انْتهى الشيخُ من صلاتِهِ، توجَّهَ إلى الأسدِ وسارَ به وكأنَّه نَسِيَ غريزةَ الِافْتراسِ. كانَ الشيخُ قويًا جسمانيًّا، وَرِعًا وفَقيهًا وتَقِيًّا، ويفهمُ طبائعَ الحيواناتِ، وقد علمَ انَّ الأسدَ إذا أكلَ وشَبِعَ يُصبحُ وديعًا مثلَ النَّعْجَةِ، لا يَكِشُّ ولا يَنِشٌّ فطوّعَه.
يُقالُ انَّ الشيخَ اقتربَ منَ الأسدِ وَرَبَّتَ على جسدِهِ وحملَ عدته عليْهِ من زادٍ وأَزوادٍ وتعجبَ الناسُ عندَما رأَوْهُ يقودُ الأسدَ، مستشعرًا بِاِلِانْشراحِ، وشَعَّتْ عيناه بِنورِ الْحُبورِ وَبَسَطَ أمامَه طريقَ السعادةِ وَالسَّلامِ.
ولمّا بلغَ صفد ذُهِلَ أهلُها منْ هذا المشهدِ، واستحالتْ وَجوهُهُم، بِلَمحِ البَصَرِ منَ الدَّعَةِ إلى الامتقاعِ والاحتدامِ. وحينَها كانَ الخليفةُ العثمانيّ سليم الأَوَّل قد وصلَ معَ جيشِهِ حدود فِلَسطين، عندَ مدينةِ صفدَ، وقد شَهِدَ هذه الحادثةَ، ممّا جعلَ السلطانَ يُلَقِّبُهُ بالشيخِ الأسدِ. وقدْ أقرَّ له بِإمارةِ الطريقةِ الجيلانِيَّةِ أوِ الْكِيلانِيَةِ بفلسطين. وأمرَ أيضًا بِوَقْفِ جَبَلِ كَنْعانَ “الكائنِ بِصفد” على زاويةِ الصَّدْرِ أوَن تكونَ وَقْفِيَّةً له ولذرِّيَّتِهِ مِنَ الذُّكُورِ دونَ الإناثِ وأنْ تُوَرَّثَ لِلْأرَشَدِ ومِنْ ثَمَّ لِلْأرْشَدِ إلَى أن يرثَ اللهُ الأرضَ وَمَنْ عَلَيْها. وكان تاريخُ حادثةِ الصكِّ العثمانيِّ لجبلِ كنعانَ المسجلةِ لزاويةِ محمد القادريِّ الأسديّ (وقد سُّمِّيَتْ لاحقًا بزاويةِ الأسدِيَّةِ أوْ أبي ذيابٍ الأسديِّ” حَسْبَ سجلاتِ المجلسِ الأعلى الإسلاميِّ بالقدسِ) عام 1516 م تحتَ اسمِ محمد أَبِيِ عبدِ اللَّهِ الأسدِ والمشهورِ بِنَسَبِهِ ابنِ “اميرِهم الجدِّ الثالثِ للشَّيخِ أَسَد”.
ينتمي الشيخُ محمد الأسَدُ في نسبِهِ الشريفِ إلى الشيخِ الشهيرِ عبدِ القادرِ الجيلانيِّ (ت 1166 م)، وكانَ إمامًا زاهدًا يعدُّ من كبارِ الصوفيينَ في العالَمَيْنِ العربيِّ والإسلاميِّ. وهوَ مؤسِسُ الطريقةِ القادريَّةِ عاشَ في بغدادَ وله مؤلَّفاتٌ منها “الفتحُ الربّانيُّ” و”فتوح الغيبِ”.

بعدَ وفاةِ السلطانِ سليم الأوَّلِ أمرَ السلطانُ سليمانُ القانونيّ الشيخَ بالرَّحيلِ لِدَيْرِ الْبِعْنَةِ وهو دَيرُ الأسَدِ الْيَوْمَ “بلدةٌ صغيرةٌ” فَأَخْرَجَ منها أهلها أَصْحابَ الديانةِ المسيحيةِ والأصولِ الْفِرَنْجِيَّةِ، ومُمَلّكًا الشيخَ الديارَ كلَّها ولِعَشيرَتِهِ واتباعِهِ، وتُوُفِّيَ ودُفِنَ فيها، وسُمّيتْ بدَيْرِ الأسدِ نسبةً للشيخِ محمد الأسد.

وَمِنَ الرِّواياتِ أيضًا ان السلطانَ سليمانَ القانونيّ قدْ صكَّ للشيخِ الأسدِ وَقْفِيّاتٍ بِقريتيْ فراده وشعب في قضاءِ عكّا. كانَ الشيخُ الأسدُ له نفوذٌ وسَطوةٌ، وَحَضَرَ قبل 500 سنةٍ وإلى جانِبِهِ 200 شخصٍ من بينهم أولادُهُ الخمسةُ، وخدمٌ وَمُرافِقُونَ، وَحامِلُو الأعلامِ والعِدّة من عائلةِ حربٍ، الذين رافقوا حضورَ الشيخِ محمدٍ الأسدِ، وقدْ سكنوا في الْمِنطقةِ حَسْبَ تعليماتِ السلطانِ.
العدَّةُ والاعلامُ
وهي عبارةٌ عن قُماشٌ منَ حريرٍ زُيِّنَتْ باسمِ النبيِّ والخلفاءِ الراشدينَ والشهادتينِ وآياتٍ قُرآنيةٍ. و”الْعُدَّةُ” عبارة عنْ آلاتٍ موسيقيةٍ إيقاعَيَّةٍ: دُفوفٌ، طُبولٌ، صُنوجٌ، يرافقُها رفعُ أعلامِ الأسدِ. وهذه الأعلامُ (الراياتُ) هي من الحريرِ أخضر اللَّوْنِ.
وفي بابِ هذا الذِّكْرِ والتسابيحِ والرقصِ والغناءِ الدينيِّ الصوفيِّ، كثيرًا كان يَحْدُثُ الانفعالُ لدى بَعْض الْمُشاركين فَتَأْخُذّهُم “الحال” على النغماتِ والايقاعِ المتكرِّرِ لِلْعِباراتِ: الله حي، الله حي و “شي لله يا جيلاني” يُقْصِدُ به الشيخ محمد الأسد، وهو – كما أسلفنا – من سلالةِ الشيخِ عبدِ القادرِ الجيلانيِّ صاحبِ الطريقةِ الصوفيّةِ القادريّةِ التي لها مقاماتٌ كثيرةٌ في أماكنَ مختلفةٍ في العالَمَيْنِ العربيِّ والاسلاميِّ، وأشهرُها الْمَقامُ الذي في بغدادَ. والمقصودُ بكلمةِ “حال” أنّها تعبِّرُ عن حالةِ انفعالٍ وجْدانِيٍّ شديدٍ. وهي معروفةٌ في الطرقِ الصوفيةِ القادريَّةِ، ولقد رأيتُ بِعَيْنَيّ، وأنا طفلةٌ صغيرةٌ في المرحلةِ الابتدائيّةِ، بعضَ رجالِ القريةِ، وهم في قمةِ نَشْوَتِهم الروحيّةِ في حالةِ انفعالٍ وجدانيٍّ شديدٍ، ووصلوا إلى درجةِ فِقدان الوعيِ، والدخول في غَيبوبَةٍ. وهذه الحالةُ من الانفعالِ الْوجدانيِّ الشديدِ معروفةٌ في الطرقِ الصوفيّةِ.
ولا زالتِ الْعُدَّةُ هذه تُسْتَعْمَلُ حتّى يومِنا هذا، وخاصَّةً في الجنائز، وعلى ايقاعِها يُهَلَّلُ في موكبِ الجنازةِ في دَعَةٍ وسكونٍ “لا إلَهَ الا اللَّهُ محمدٌ رسولُ اللَّهِ”، وتَتَخلُّلها موجة عارمةُ منَ الحزنِ والاشفاقِ. وهي من الناحيةِ الغنائيّةِ تُؤَدَّى على مَقامِ “الْبياتِ” الموسيقيِّ المعروف.
ومن العاداتِ المتّبعةِ في القريةِ زيارةُ العريسِ يومَ زفافِهِ مقامَ الشيخِ محمد الأسد طلبًا لِلتَّبَرُّكِ والتوفيقِ. والفتاةُ التي تتزوجُ خارجَ القريةِ تُعَرّجُ على الْمقامِ يومَ تأتي “الفاردة” لأخْذِها إلَى بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ، فتودّعُ جدَّها الأسدَ لِيُعْطِيَها رضاه وَبَرَكَتَهُ والتوفيقَ لها ولنسلِها في غُرْبَتِها.
كانتْ وما زالتْ دَيْرِ الاسدِ بنتَ فِكْرِي وروحِي وجسدِي، ومَكانَتُها تذهب إلى أبعدَ من ذلكَ، وهي أكثرُ تحديدًا. فَالدّلالاتُ العميقةُ للمكانِ وتأثيرِهِ تتمثّلُ مجتمعةً في تشكيلِ الْهُوِيّةِ الإبداعيَّةِ والانسانيَّةِ لأيِّ مبدعٍ، وفي بناءِ قسماتِ الشخصيةِ لحضارةٍ معيَّنَةٍ ومزاجِ الشعوبِ أيضًا، عَبْرَ ملامحَ قوميّةٍ بارزةٍ.
مقامُ الشيخِ الأسدِ وعوامِلُهُ الدَّلاليَّةُ
في صِغري، كنتُ وابنُ عَمَّتي عليٌّ، نزورُ مقامَ الشيخِ الأسدِ كلّما اقْتَرَفْنا خطأً بحقِّ أحدٍ، خاصَّةً العجائزَ اللّاتي كنّا نُضايقُهم باستمرارٍ، أمُّ راغب، وأمُّ عارف، حتّى نُكَفِّرَ عنْ ذُنوبِنا، كنّا نعتَقدُ أنّ الشيخَ الأسدَ “يتباصرُ” فيعاقِبُنا على افعالِنا السَّيِّئَةِ. فأهلُ القريةِ يُقْسِمونَ في حديثِهم و”حياة الأسد” ويخشى الناسُ القَسَمَ الكاذبَ، حتّى لا يعاقِبَهُ أو يُنْزِلُ به مصيبَةً، كنّا نزورُ المقامَ ونجلسُ بقربِ الضريحِ لِنطلبَ العفوَ والمغفرةَ. وكانتْ أمّي وخالاتي يزرْنَ المقامَ لإيفاءِ النُّذورِ والتَّبَرّكِ أو ِللدُّعاءِ بِالتوفيقِ.
للمقامِ قدسيةٌ وهيبةٌ واحترامٌ في نفوسِ أهلِ القريةِ، وبعضٌ من خارجِها على اختلافِ دياناتِهم، وقد تمكّنا منَ العثورِ على أبياتٍ منَ الشعرِ كانَ أرسَلَها الشيخُ كمال معدّي من قريةِ يَرْكا وبِخطِّهِ الرائعِ إلى أصدقائِهِ في دَيْرِ الأسدِ ومنهم الشيخُ محمد سعيد الخطيبُ الأسديُّ، والشاعرُ محمَّدٌ أبو سعود الأسديُّ، في الثلاثينيَات منَ القرنِ الماضي، جاءَ فيها: من بَحْرِ البسيط
عليكَ منِّي سلامَ اللَّهِ يا أسدُ – يا مَنْ أضاءَتْ بِهِ الارْجاءُ والْبَلَدُ
إن حُصْحِصَت الحقُّ انتَ الْحَقُّ معجزةٌ -والانْسُ في سِرِّكُمْ والِجِنُّ تعتقدُ
يا مَنْ ركبتَ علَى لَيِثٍ فشاهَدَهُ – سلطانُ تُرْكٍ فَأضْحَى منْه يَرْتَعِدُ
انتَ الْهُمامُ وَنِعْمَ الْجَدُّ جدُّكُمُ – مَنْ مِثْلُكَمْ في رِضا الرَّحْمانِ يَجْتَهِدُ
أنتَ الْحُسامُ ولا امْضَي وَضَرْبَتِكُمْ – بِها تُقَدُّ تُروسُ الْخَصْمِ وَالزَّرَدُ
أنتَ الْغمامُ وَنِعْمَ الْفَيْضُ فيْضُكُمُ – وَالنّاسُ ظَمْأَى على شُطْآنِكُمِ تَرِدُ
أعْظِمْ بِكُمْ سَيِّدِي أَعْظِمْ بِحَضْرَتِكُمْ – نُورُ التُّقَى نورُكُمْ ما زالَ يَتَّقِدُ
التَقيَّةُ
لا يدعي أحفاد الشيخ محمد الأسد بأنهم يعودون بالنسب الجيلاني لفاطمة ابنة النبي محمد وفي الأسس ينتمون للمذهب الشيعي ولم يعترفوا بشيعتهم حينها، لأنّ الأغلبية في هذه البلاد هم سنّة ولأن الشيخ محمد الأسد عالم وفقيه مثقف وذكي، ولم يرد أن يجهر بشيعته بل تأقلم مع الجو السائد ومع الساكنين في المنطقة، فكلّ فلسطين هم سنّة وهناك سلوك كان متبّع في حينه، اسمه التقيّة وهو سلوك تسلكه الأقلية لتأمن من شر الأكثرية، يعرف أنه يتعمّد هذا السلوك عن قصد.
شجرةُ العائلةِ:
كانَ للشيخِ خمسةُ أبناءٍ، وكلُّ اسمٍ منْ ابنائِهِ يُضافُ إليه اسمُ محمّدٍ للتبرُّكِ، وأبناؤُهُ هم: محمّد حافظ، محمّد محفوظ، محمّد الصَّفِيُّ، محمّد نِعْمَةٌ، وأحمدُ رجا، والأخيرُ لم يُرزقْ بأبناءٍ.
كلُّ الحارةِ الشرقيَّةِ في دَيْرِ الأسدِ هم من ذُريَّةِ محمَّد محفوظ: عائلةُ طَهَ أعمر عثمان أبو جمعة وهو أكبرُ فرعِ بعائلةِ الأسديَّةِ، محمّد حافظ جَدُّ عائِلَةِ صنعِ اللَّهِ، لذلكَ شاعَ بَيْنَهُمْ اسم حافظ، أمّا جدُّ عائِلَةِ نعمةَ فهو محمَّد نعمة محمد الحسين أبو علي هداية، ومحمّدُ الصفيُّ جد عائلةِ الصفيِّ.
يرقُدُ ضريحُ الشيخِ محمَّدٌ القادريُّ “الشيخ الأسد” في دَيْرِ الأسدِ. وبالتحديدِ في الطابقِ السفليِّ من جامعِ “محمّد الأسد” الذي سُمِّيَ باسمِهِ. وينتشرُ أولادُهُ وذريَّتُهُ بالمدنِ الفلسطينيَّةِ الشماليَّةِ: صفد، والناصرة، وعكا، وقرية ديرِ الأسدِ نفسِها، وبعضِ القرى والبلداتِ الشماليَّةِ لفلسطينَ. وفي عامِ 1948 هُجِّروا من صَفَدَ، والمدنِ والبلداتِ الأخرى، ومنهم صفديّةُ آلِ الأسَدِيِّ اللذينَ استوطنوا سوريا، وبالتحديدِ في دمشقَ.
يوجدُ شجرةٌ للعائلةِ توارثَها الأبناءُ عن الآباءِ. وفي عام 1960قامَ كلٌّ منْ مأمون أسدي، وياسين قاسم الحسين، بنسخِها عنِ الشجرةِ القديمَةِ، بإشرافِ أبي سعودٍ الأسديِّ.
عائلة الأسدية تشكل نحو 50% من سكان دير الأسد، ومنذ 200 سنة تقريبًا، أتت إلى الدير عائلات أخرى وسكنت بها: ذباح موسى، أمّون، حوراني وعكاوي ورافع، وأما عائلة حرب فقد كانت من الأوائل، حيث كانوا من مرافقي الشيخ محمد الأسد لدى قدومه إلى دير الأسد. ولم تغل عائلة حرب نسلا في الماضي، أي لم ينجبوا الأبناء، في بداية استيطانهم وكل واحد منهم كان يخلف واحد أو اثنين لا أكثر، على عكس الدارج في تلك الأيام
دُورهم دلت عليهم:
تشعرُ بِأُلْفَةِ البيتِ كلّما دخلَ فصل الشتاءِ، وتشعرُ بكلِّ تلكَ الحيواتِ بينَ جُدرانِها، والتي تُحيلُنا دومًا إلى الصمتِ والتأمُّلِ، هذا الشُّعورِ يؤكِّدُ على أنَّ المكانَ يُعَرِّفُنا على أشيائِه، وينتهي عند أرواحِنا.
تضمُّ القريةُ مسجدَ محمّدٍ الأسدِ وَضَريحَهُ، تَأَسَّسَ مسجَد الشيخِ محمد الأسد عامَ 1565 للميلادِ، الجامعُ مهمٌّ لأنًّه يرمُزُ للقدِّيسينَ والمشايخِ والأولياءِ الذينَ لهم قيمةٌ اجتماعيَّةٌ، الجامعُ في قريةِ دَيْرِ الأسدِ الذي بني قبلَ 500 عام، ٍيدلُّ على عظمةِ الشيخِ الأسدِ، له قُبَّتانِ في الوقتِ الذي كانتْ فيه الجوامِعُ بسيطةً ومتواضِعَةً في القرى المجاورةِ، وجامعٌ بقبَّتَيْنِ يرمُزُ إلى الفخامةِ، وإلى أهمّيَّةِ الشيخِ، وقد بَنَى هذا الجامعَ أولادُ الشيخِ الأسدِ، وقد كُتِبَ على بلاطةٍ: “شادَهُ خالصًا لِلَّهِ أبناءُ محمَّدٍ الأسدِ” ومعَ الوقتِ سقطتْ هذه البلاطةُ.
في البدايةِ كانوا يَدْفِنون أمواتَهم بقربِ الجامعِ. وجميعُ أولادِ الشيخِ الأسدِ دُفِنوا هناكَ. ويوجدُ في الجامعِ بئرٌ كبيرةٌ، وقد زُرِعَ حولَ الجامعِ وردٌ جوريٌّ، وهذا كان نادِرٌ في بلادٍ تفتقرُ للماءِ.
هذا الجامعُ المعروفُ بالجامعِ القديمِ، وكانَ لدَى انشائِهِ يقعُ في الطَّرَفِ الجنوبيِّ من قريةِ دير الأسد، وامّا موقِعُهُ اليومَ فهو أقربُ إلى مركزِ القريةِ، وذلكَ بعدَ توسيعِها على مُرورِ الزمنِ. يتألَّفُ الجامعُ منْ قسمينِ، تعلُو كلَّ قسمٍ منْه قُبَّةٌ متقنَةُ البناءِ. يَبْلُغُ قُطْرُ الْقًبَّةِ الشماليَّةِ خَمْسَةَ أَمْتارٍ وهي الأصغرُ حجمًا، وتحتَها الضريحُ الذي يضمُّ رُفاتَ الشيخِ محمّدٍ الأسدِ جدِّ عائلَةِ الأسَدِيَّةِ. هناكَ مَسْجِدٌ تَحْتَ القبَّةِ الجنوبيَّةِ وقطرها (6 م) وهي الكبرى، فيهِ تقامُ الصلواتُ وفيه المِنْبَرُ والْمِحْراب. يفصلُ بينَ قِسمَيِ المسجدِ فاصلٌ خشبيٌّ به بابٌ يُؤدّي إلى ضريحِ الشيخِ الأسدِ. وَيُصْعَدُ إلَى سطحِ المسجدِ بِدرجٍ داخليٍّ (26 درجة) لرفعِ الآذانِ، قبلَ استعمالِ مُكِّبراتِ الصوتِ. في وسط هُناكَ بِئرُ ماءٍ في ساحةِ المسجدِ، من الشرقِ، تمتلئ خلالَ فصلِ الشتاءِ من الماءِ النازلِ عن سطحِ المسجدِ، ويستفادُ منه للوضوءِ والشُّربِ. وكانتْ في هذه الباحةِ نخلةٌ باسقةٌ جدًّا صمدَتْ إلى فترةٍ قريبةٍ، وورودٌ جُوريّةٌ جُلِبَتْ من صَفَدَ بالإضافةِ إلى شُجيراتِ سَرْوٍ ازيلَتْ مؤخّرًا بسببِ بناءِ المسجدِ الجديدِ. وهنالكَ ساحَةٌ تُحاذيِ المسجدَ مِنَ الْجِهَةِ الشماليَّةِ تُسَمَّى محليًّا بِالْمِصَفَّةِ منَ (الصَّفِّ وَالِاصْطِفافِ) وكانتْ كلتا الساحتَيْنِ تُسْتَخْدَمَانِ للمناسباتِ، إذْ يجتمع الناسُ ويصطفُّونَ لِزَفَّةِ الْعَريسِ.
وعليّةُ بناءِ المسجدِ التي كانتْ قبلَ (250) عامًا تقريبًا، – وفْقًا لما سمعناهُ منَ الآباءِ والأجدادِ وخاصّةً منَ المرحومِ أَبي سعودٍ الأسديِّ – فقد تمَّ عَلَى يَدِ بنائينَ أَتَوْا منْ مدينةِ صفدَ، وهم منْ عائلةِ الأسديّةِ الذينَ سكنوها حتّى عامْ (1948).وفي مدينةِ صفدَ أرضُ وَقْفٍ للشيخِ محمّدٍ الأسدِ، تشملُ جبلَ كنعانَ بكامِلِهِ وَتغطِّيهِ اليومَ ابنيةٌ كثيرةٌ وكذلكَ الحالُ في وَقْفِيَّةِ الشيخِ الأسدِ تَقَعُ الأراضي التي صُودِرَتْ في أوائلِ الستينيّاتِ من القرنِ الماضي لبناءِ كرمئيل.
وعلى قطعةٍ منَ الرُّخامِ مُثْبَتَةٌ فوقَ مَدخلِ المسجدِ نُقِشَتْ الأبياتُ التاليةُ. وهي من قصيدةٍ للشَّيْخِ فَهْدٍ شُرَيْحٍ منْ ترشيحا، كانَ قد زارَ القريةَ عامَ (1324ه) وأهْداها إلى الشَّيخِ:
يا لَهُ مِنْ مَسْجِدٍ قَدْ شادَهُ – خالِصًا لِلَّهِ أَوْلادُ الْأَسَدْ
وَعَلَى التَّقْوَى بَنَوْا أساسَهُ – جاوَزَ الجوْزاءَ بِالْحُسْنِ انْفَرَدْ
عَمَرُوا بِالذِّكْرِ أَرْكانًا لَهُ- وَخُلوصِ الْقَلْبِ لِلْفَرْدِ انْصَمَدْ
أحْكَمُوا الْقُبّاتِ غَطَّتْ مَرْقَدً -قدْ حَوَى جَدَّهُمْ الشَّيْخَ الْأَسَدْ
فَإذا مَا زُرْتَهُ فَادْعُ وَقُلْ – يا وَلِيَّ اللَّهِ عَوْنًا وَمَدَدْ
وَقْرَأِ السَّبْعَ الْمِثانِيَ َواهْدِها – رُوحَهُ مَعْ قُلْ هَوَ اللَّهُ أَحَدْ
معَ قُدومِ الشيخِ محمّدٍ الأسدِ إلى قريةِ دَيْرِ الأسدِ التي أصبحتْ تحملُ اسْمَهُ، ويعتبرُ مؤسِّسَها. أشارَ المؤرِّخُ السّوريُّ محمّدُ الكردِ عَلِيٌّ إلَى ذلكَ في كتابِه “خِطَطُ الشامِ”. وممّا أوردَهُ: كثيرًا ما كانَ الولاةُ في العهدِ العثمانيِّ يُوجِسونَ خِيفَةً منِ الدِّياراتِ والْبِيَعِ إذا كانتْ مستحكمةَ البناءِ. فقد اخرجَ السلطانُ سليمانُ 1520-1566 النصارَى منْ دَيْرهم في سَفْحِ جبلٍ بٍالقربِ من قريةِ الْبِعْنَةِ، وكانَ قديمًا يُعْرَفُ بِدَيْرِ الْخَضِرِ، وأمرَ أحمدَ بنَ أسدٍ البِقاعِيَّ – وهو محمّدٌ الأسدُ – الذي يُقيمُ في سهلِ البقاعِ منَ الصوفيّةِ الإقامَةَ معَ أولادِهِ” (خطط الشام: ج3 ص 10). وقد تمَّ نقلُ الرهبانِ لِلسَّكَنِ في دَيْرِ الْمُخَلِّصِ الموجودِ في لبنانَ الذي بناهُ لهمُ السلطانُ سليمٌ الأوّلُ. وما زالَ قائمًا حتّى يومِنا هذا.

محمود درويش
العمليةُ الابداعيةُ عمليةٌ مكانيةٌ تلاحقُ المبدعَ، وتؤثرُ فيه مِنْ خلالِ استحضارِ الأحداثِ والوقائعِ التي تُهَيِّئُها القراءةُ الذاتيةُ لِلْوشمِ الذي يَسِمُ الذاكرةَ، التي تسترجعُ هذه الأحداثَ والوقائعَ في إطارِ اللغةِ المحتملةِ والأدبِ المبدعِ، كقصَّةٍ أو شِعرٍ أو روايةٍ، الخ… وهنا في هذه القريةِ عاشِ الشاعرُ الفلسطينيُّ محمود درويش في دَيْرِ الأسدِ، وتَلَقَّى تعليمَهُ الِابتدائيَّ فيها حتّى المرحلةِ الثانويّةِ.
وفي صغرِهِ شاركَ وحضرَ الأفراحَ وسمعَ الشِّعرَ والزجلَ منِ أهلِ القريةِ، وهذا أثّرَ به، وحينَ كانَ في الصفِّ السابعِ أَلْقَى قصيدتَهُ الأولى. تأثرَ كثيرًا بقريةِ دير الأسد وطبيعتِها وأهلِها ومُناخِها. لا يوجدُ بيتٌ في دَيْرِ الأسدِ إلا وربّةُ البيتِ تَغَنِّي بدع، وزوجُها يغني بدع، والكثيرُ من الشعراءِ أصحابِ الكلمةِ.
انتقلتْ عائلةُ محمود درويش في بدايةْ الستينيّاتِ إلى قريةِ جديدةَ، وقصيدتُهُ الأولى كَتَبَها وهو في دَيْرِ الأسدِ، عملَ والِدُهُ في المحجر والمحاجر التي كانتْ مِنْطقةً صخريّةً قريبةً، حيثُ عملَ أهلُ الدَّيْرِ والقرى المجاورةُ فيها. وكان هذا مصدرَ رزقِهم. اشتهرتِ القريةُ بشعرائِها كالشاعرينِ أبو غازي وأبو سعود، وعاشَ بها الكثيرُ من المناضلينَ الفلسطينيينَ، ونبتَتْ بها قصصٌ طافِحَةٌ بالحكاياتِ والأساطيرِ.
في أواخرِ الخمسينيّاتِ وبدايةِ الستينيّات، صودرتْ بعضُ أراضي دَيْرِ الأسدِ، وبُنِيَتْ عليها مدينةُ “كرمئيل”، وكانتِ المظاهراتُ والمعارضاتُ ضِدَّ المصادرةِ، وكانتْ مقاومةٌ للمصادرِةِ ولكنَّ مخططَ تهويدِ الجليلِ كانَ أقوى.
نكبة عام 1948
من هنا نستنتجُ أنّ المكانَ يأخذُ صِيغَتَهُ المكانِيّةَ والأدبيَّةَ منَ التأثيرِ الذي يُحدثُهُ في النَّفْسِ، من خلالِ القيمةِ المعنويّةِ التي يرثُها الإنسانُ نتيجةَ الثقافةِ التي يتلقّاها، ووِفْقَ العاداتِ والتقاليدِ التي تشرَّبَها بفعلِ احتكاكِهِ بالمكانِ، وبفعلِ احتكاكِ مَنْ سبقوهُ به. لهذا فالأدبُ والمكانُ متلازمانِ، لا يمكنُ أنْ يحيا أحدُهما خارجَ روحِ الآخرِ.
فالفلسطينيُّ مثلا هو فلسطينيٌّ نتيجةَ المكانِ، وتضامُنِ المُسلمِ أو العربيِّ معَه هو تضامنٌ مع المكانِ، قبلَ أنْ يكونَ تضامُنًا معً الشخصِ لاعتباراتٍ شَتّي، لهذا نرى أنَّ الأدبَ الفلسطينيَّ هو أدبُ المكانِ بامتيازٍ، لأنَّ المكانَ هنا مُثيرٌ ومَهَيْمِنٌ بفعلِ الحوادثِ والوقائعِ التي تقعُ فيه، فهناكَ احتلالٌ، وهناك مُقاومةٌ وهناكَ انتباهٌ لما يقعُ في المكانِ.
يقولُ احمد علي طه أبو علي، وهو من مواليدِ 1934: كان عمرَه 14 سنةً، حين دخلَ الجيشُ الإسرائيليُّ إلى القريةِ، وطلبُوا من الناطورِ سعيد بكرية أنْ يدورَ في البلدِ ويُنادي أهلَ البلدِ أنْ ينزِلُوا ويتجمعوا عندَ الكراجِ، قربَ أرضٍ لأحمد حجازي، وأنْ تأتِيَ البلدُ كُلُّها نساءً وَأَطْفالًا، فدارَ ولفَّ سعيد بكرية في البلدِ وهو ينادي:
“يا سامعين الصوت، أولكم محمد وثانيكم علي وثالثكم فاطمة بنت النبي، تجمعوا بأمرٍ مِنَ الجيشِ الاسرائيليِّ عندَ الكراجِ. نزلَ معظمُ أهالي البلدِ، وَبَعْضُهُمْ فرّ على غير هُدًى، ولكنَّ الأغلبَ تجمعوا خوفًا من بطشِ الجيشِ، الذي أخافَ الناسَ وطلبوا منهم الرحيلَ إلى لبنانَ وسوريا، واقتادوا عشراتٍ من الشبابِ إلى المعتقلِ، وقتلُوا أمامَ الْمَلَإ اثنينِ من شبابِ دَيْرِ الأسدِ، واثنينِ مِنْ قريةِ الِبِعْنَةِ المجاورَةِ، فارتَعبُوا وخافوا الموتَ فهربَوا شمالًا باتجاهِ لبنانَ وقسمٌ منهمْ قِيدَ إلى المعتقلِ”.
يضيفُ أبو علي: “بعضُ العائلاتِ، مثلِ عائلَةِ رافع وموسى والذباح وطه، عسكرْنا في مِنْطقةِ البيارةِ ومِنطقةِ السُكنِ، وقعدنا عدةَ أيّامٍ في البرّيّةِ، فرغتِ البلدُ من أهلِها، وخلالَ هذه الفترةِ فجّرَ الجيشُ بيتَ محمود السعيد مختارِ البلدِ بالألغامِ، وهذا أخافَ الناسَ أكثرَ وأكثرَ. عندَها توجَّه المرحومانِ قاسم الحسين وأبو سعود الأسديُّ لقريةِ يركا، وطلبُوا منهم المساعدةَ بالعودةِ إلَى القريةِ، وَأُعْطِيَ أمرٌ لناطورِ القريةِ سعيد بكرية أنْ يناديَ: كلُّ مَنْ لَجَأَ في الِوُعورِ يُمْكِنُهَ العودةُ إلَى البلدِ وعليهِ الأمانُ. قِسْمٌ منهم خَشِيَ وهربَ إلى لبنانَ وسوريا، والأكثريةُ عادوا إلى البلدِ.
وَعندَ تسجيلِ عددِ سكّانِ البلدِ كانَ الشاعرُ الكبيرُ حنا إبراهيم يُسَجِّلُ النفوسَ، وبَعَثَ حوالي (20) ورقةَ نفوسٍ لعائلاتٍ فرّتْ إلى لبنانَ، على أنّهم ما زالوا هنا، حتّى يتيحَ لهم العودةَ دونَ عائقٍ، ٍولكنَّ أغلبَهم خافُوا وبقُوا في لبنانَ. والعائلاتُ التي نزحَتْ إلى لبنانَ هي العائلاتُ الغنيَّةُ مِنْ أمثالِ محمود السعيد، وعلي الخطيب، وحسين الخطيب، واحمد علي الخطيب ابنِ سعيدٍ، ويونس فتح الله وغيرِهم، أمّا الفقراءُ فقدْ بَقُوا في أرضِهم، وخَدَمَنا الحَظُّ، فَبقينا أسبوعًا، وقد بَقينا بعهدةِ جبر الداهش وخاله ملحم، من قرية يركا”.
معَ انتهاءِ سنواتِ الـ 40 منَ القرنِ الماضي حصلَ التغييرُ الذي قَلَبَ كلَّ موازينِ الفلسطينيِّ، وأعطى أهميةً كبيرةً للمكانِ الذي عزّزَ الارتباطَ بينَ حياةِ الأنسانِ وتاريخهِ بالمكانِ، التغييرُ الذي حصَلَ هو النكبةُ، نكبة اُلشعبِ الفلسطينيِّ. بعدَ تجاوَزِ هذا التغييرِ أصبحَ المكانُ نفسيّا وَشُعُورِيًّا له رموزُهُ وجماليّاتُهُ الخاصَّةُ في الكتابَةِ الشِّعريَّةِ أو الروائيَّةِ، رغمَ ظروفِ التغييرِ الصعبةِ، وكذلكَ دلالاتُها وارتباطاتُها النفسيَّةُ التي تَتَشَكَّلُ عندَما نذكُرُها أو نقرأُها.
همسة أخيرة:
إذا كانَ الفضاءُ شرطًا ضروريًّا كيْ تشتغلَ الحساسيَّةُ والحدْسُ، وبالتالي لقيامِ المعرفةِ الإنسانيّةِ فإنَّه شرطٌ جوهريٌّ أيضًا لبناءِ صروحٍ أدبيّةٍ أَعْنِي الأدبَ الإنسانيَّ الملتصقَ بالتربةِ التي تشربُ منها جذورُهُ وفروعُهُ لتتوغَّلَ وتمتَدَّ في الآفاقِ الرَّحْبَةِ باتجاهِ الكونِ الذي لا حدودَ له أبدً وكانت دير الأسد في ماضيها وحاضرها ومستقبلها فضاءً لهذا الحدس الأدبي والفني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة