“جمال عبد النّاصر وأمّ كلثوم” كتاب واحد من جزأيْن في الاعتزاز القوميّ والفنّيّ لعبد الخالق أسدي

تاريخ النشر: 19/08/21 | 14:29

بقلم: علي هيبي

هذا رأيي:
أقول هذا الكلام الوارد في العنوان وأنا مطمئنّ البال والقلم والوجدان، وأنا متأكّد من اطمئنان وجدان المؤلّف وارتياحه له، وآمل في ترك القرّاء مطمئنّين كذلك، وهو موقف يأخذ شرعيّته من منطلقات الكاتب نفسه كما أقرأها في عميق وجدانه القوميّ الوثّاب نحو العزّة القوميّة، وفي صميم ضميره الوطنيّ الوفيّ لقضيّة فلسطين ولقضيّة العروبة والوحدة العربيّة وعزّة الأمّة من خليجها إلى محيطها، ونحو الفنّ الرّفيع بثلاثيّة أقانيمه: الكلام الشّاعريّ الرّقيق والمأنوس من الأدب، الغناء الجميل من الصّوت الرّخيم والأداء الفاخر والموسيقى الرّقيقة المنبعثة من آلات العزف المتناغمة وعبقريّة الموسيقيّين العالية المستوى.
وأخيرًا وجدت من أحبّ “جمال عبد النّاصر” كقائد سياسيّ وعروبيّ عظيم وأحبّ “أمّ كلثوم” كمطربة عربيّة وموهبة غنائيّة خارقة أكثر منّي. نعم! لقد أحبّ “عبد الخالق أسدي” العظيميْن أكثر منّي، وقد اعتقدت من خلال قصيدة حنين لي عن “جمال عبد النّاصر” وعن تمجيد مواقفه الصّلبة وثباته على المبادئ القوميّة، ومن خلال اشتياقي لذلك العزّ النّاصريّ والأمجاد القوميّة، اعتقدت أنّي بتلك القصيدة كنت أكثر حبًّا له، وبعد ذلك كتبت مقالًا طويلًا عنه كعظيم من عظماء العروبة والإنسانيّة المناضلين فتعزّز رأيي أكثر بذلك الحبّ، وقد قلت في تلك القصيدة مبيّنًا حاجتنا له ولمواقفه الصّلبة في هذا الزّمن، زمن الخنوع والتّطبيع وخيانة الأنظمة العربيّة ملوكًا ورؤساء:
“في حالِنا المنكوبِ مذْ حكّامِنا – كانوا أراذلَ والقلوبُ رقاقُ
تهفو إليْكَ قلوبُ شعبِكَ كلِّها – ترنو القلوبُ ولا يضيرُ عناقُ
قمْ يا جمالُ فإنّني مشتاقُ – والهجرُ بحرٌ موجُهُ الأشواقُ
قمْ يا جمالُ فمصرُ ما عادَتْ لنا – عدْ يا جمالُ أما كفاكَ فِراقُ”
ولكن ها هو صديقي “عبد الخالق” يبذّني بكتابيْه ويبدّد شعوري بالتّميّز والتّفرّد في محبّتهما، وأنا لم أكتب عن “أمّ كلثوم” رغم إعجابي بمسيرتها الفنّيّة وغنائها وصوتها ورقيّ المسلسل الّذي حمل اسْمها من إخراج “إنعام محمّد علي”، لم أكتب جملة واحدة. وها هو “عبد الخالق” يتحفنا بكتاب كامل عنها وعن مسيرتها وعلاقاتها الفنّيّة مع الكبار من الموسيقيّين والشّعراء، وغير الفنّيّة وأبرزها العلاقة مع الزّعيم العربيّ العظيم “جمال عبد النّاصر”. وقد تكون هذه العلاقة الخاصّة والمميّزة بين الفنّانة والسّياسيّ أحد الرّدود على القضيّة المطروحة في العنوان حول إمكانيّة جعل الكتابيْن تحت عنوان العظمة المتناسقة في الفنّ والسّياسة كتابًا واحدًا يرمي لتعزيز الانتماء القوميّ وتقوية الاعتزاز العروبيّ لدى أجيالنا النّاشئة، تلك العظمة الّتي تنبع من احترام السّياسيّ الطّاهر للفنّ الأصيل ومن احترام الفنّان الأصيل للمواقف الوطنيّة والقوميّة للسّياسيّ العظيم. “جمال عبد النّاصر” وّ “أمّ كلثوم” ثنائيّ طاهر من زمن الفنّ الجميل والسّياسة الطّاهرة نموذج رائع لعروبة المواقف والمشاعر منذ منتصف القرن العشرين. وهذه الطّهارة تنبعث أيضًا من وجدان المؤلّف “عبد الخالق” الفيّاض بالأحاسيس الوطنيّة القوميّة، الّتي تجيش فيه كحمم بركان تغلي وتثور في هذا الزّمان العربيّ البائس والكالح.
المربّي ذو الرّسالة القوميّة:
“عبد الخالق أسدي” لمن لا يعرفه رجل علم وتعليم وتربية، أفنى عمره في التّعلّم في بلدته “دير الأسد” ومن ثَمّ في ثانويّة “يني” العريقة في “كفر ياسيف”، وتابع في دار المعلّمين في “يافا”، وأصبح مدرّسًا في القرية الجارة “مجد الكروم” وعاد ليستقرّ في قريته في التّعليم والتّربية، أمضى “عبد الخالق” حوالي أربعة عقود في هذا المجال. وهو معلّم ولعصاميّة في روحه التّوّاقة للمزيد من المعرفة التحق طالبًا في جامعة “حيفا” وحصل على اللّقب الأوّل في اللّغة الإنجليزيّة والإدارة التّربويّة.
ولعلّنا نستشعر حسّ المعلّم وضمير المربّي من خلال كتابيْه اللذيْن لم يؤلّفهما بدافع التّوثيق فقط، مع ما في ذلك من أهمّيّة، وإنّما بدافع إبراز الحبّ الجارف والشّعور القوميّ لنموذجيْن ساطعيْن وباهريْن من تاريخنا القوميّ السّياسيّ والكفاحيّ المجيد، ومن تاريخ فنّنا الرّاقي العظيم والخالد، يقول في كتاب “أمّ كلثوم”: “إنّ فترة الخمسينيّات والسّتينيّات من القرن الماضي كانت فترة عزّ وافتخار للأمّة العربيّة، وكان فيها للعرب كوكبان: كوكب “عبد النّاصر” وكوكب “أمّ كلثوم”، وما زال نور هذيْن الكوكبيْن يشعّان في سماء عالمنا العربيّ، وقد انطلقا من مصر الحبيبة، فهما هبة لمصر والعالم العربيّ”، وهو يريد أن يزرع هذه الأحاسيس في وجدان طلّابه وقرّائه وضمائرهم لتبقى عامرة بشعور الاعتزاز والكرامة والعمل الدّؤوب ضدّ الظّلم والاحتلال وضدّ محاولات المسّ بحقوقنا العربيّة وترابنا ومقدّراتنا وثرواتنا واستقلالنا وقضايانا القوميّة وعلى رأسها فلسطين، خاصّة أنّ هذه الأجيال الشّبابيّة الآن تضطرب في زمن الرّداءة الرّسميّة الّتي ترغب في جعل هذه الأجيال الأبيّة خنوعة خاضعة للذّلّ والهوان. وقد أشار إلى ذلك التّاريخ المجيد الكاتب والمربّي “سهيل عطا الله” في مقالته الّتي استمدّها “من دفيئة الكاتب الصّديق “عبد الخالق أسدي” فمن هذه الدّفيئة الأدبيّة والوطنيّة عبر الكتابيْن عاد “عطا الله” إلى أيّام التّربية والتّعليم في القرن العشرين حيث فتح عيونهم على حبّ الوطن والوحدة وضدّ كلّ محاولات التّفرقة والتّشتيت والتّمزيق والإقليميّة. يقول “عطا الله” مستذكرًا تلك الأحداث الجسام: “سرنا واجمين نبكي رحيل العظماء “سلطان باشا” والمعلّم “كمال جنبلاط” و”جمال عبد النّاصر” ويتابع مختتمًا مقالته: “في محراب أمّ كلثوم تعلّمنا الإصغاء للفنّ الرّاقي الرّائع وتمايلنا مع إبداع المبدعين، قصّة سيّدة الغناء وجلال الجمال مع جمال قصّتان خالدتان فيهما دروس لأبنائنا وأحفادنا”. لقد أصاب “عطا الله” كبد الحقيقة بهذا الاختتام التّربويّ كمربّ ومعلّم عمل هو الآخر لعقود طويلة في هذا المجال، وهو ما رمى إليه “عبد الخالق” في كتابه المكوّن من جزأيْن كلاهما في التّربية على العزّة القوميّة والكرامة النّبيلة.
“عبد الخالق” البالغ اليوم من العمر الثّمانين ربيعًا وما زال موفور الصّحة وطافحًا بروح الشّباب، يهوى القراءة والكتابة منذ نعومة صباه وتفتّح وعيه، ولكنّه لا يهوى الإصدار، فقد تأخّر في إصدار كتابيْه، ولعلّ إقدامه على جمع مقالاته الّتي نُشرت في صحف ومجلّات عديدة، أبرزها جريدة “الاتّحاد” الحيفاويّة مؤخّرًا نبع من توسّل مجموعة من الأصدقاء، وكنت أحدهم “أصدر يا عبد الخالق”! حتّى تولّد لديْه شعور قويّ بلزوم الواجب والاستجابة، وأصدر كتابيْه معًا وسعدنا وسعدت شخصيًّا حين أهداني الكتابيْن غاية السّعادة وهنّأته على هذا الفعل الكبير، ولكنّي بعد قراءتي للكتابيْن مجموعيْن تأكّدت أنّ “عبد الخالق” لم يصدرهما تلبية لتوسّلات الأصدقاء، فقد كانت تلك محفّزًا لرغبة دفينة ولكنّها جامحة، رغبة وطنيّة وقوميّة وتربويّة وتعليميّة تضاف إلى الخوف من ضياع هذه الموادّ القيّمة لأهمّيّة مضامينها في تعزيز الشّعور القوميّ والاعتزاز العروبيّ وللتّوثيق والتّاريخ. “لئلّا تضيع” كما قال شيخنا الجليل “أبو علي سلام الرّاسي”. مع أنّ “عبد الخالق انتسب للاتّحاد العامّ للأدباء الفلسطينيّين – الكرمل 48 قبل إلإصدار وذلك لنشاطاته في مجالات أخرى.
كتاب من جزأيْن وليس كتابيْن:
كان من الممكن أن يجعل الكاتب من كتابيْه الاثنيْن كتابًا واحدًا ذا موضوع واحد مزدوج العظمة، مع أنّ صدور الموادّ بكتابيْن لا يقلّل من مستواهما العلميّ وموادّهما وتفاصيلهما ومضمونهما التّوثيقيّ العامّ، ولا ينزّل من قيمتهما في اللّغة والأسلوب والموقف الأدبيّ والحبّ الوجدانيّ والضّمير الحيّ والأمين. والأهمّ عندي هو حبّ “عبد الخالق” للاثنيْن وبالمقدار نفسه، كما أشار د. “منير توما” في إطلالته على الكتابيْن المنشورة في جريدة “الاتّحاد” يوم الثّلاثاء 8 حزيران 2021، حيث قال: “يمكننا القول بكلّ ثقة وتأكيد أنّ ما ورد في مقالات الكتاب يبيّن لنا أنّ حبّ وإعجاب الكاتب بالزّعيم “جمال عبد النّاصر” لا يقلّ عن حبّه لفنّ “أمّ كلثوم” فهو يرى فيهما عملاقيْن من طرازيْن مختلفيْن ترسّخت في قلبه محبّتهما دون منازع”، وأنا أزيد وبتفوّق كبير. هذا الحبّ المجنّح بالإعجاب بالسّياسة والفنّ هو أساس متين لجعل الكتابيْن كتابًا واحدًا مزدوج العظمة. وسأزيد!
حينما نفتقد العظماء في عالم المواقف السّياسيّة الصّلبة والوطنيّة والقوميّة الّتي تأبى الخنوع للمحتلّ والمستعمر من الأعداء، في هذا الزّمن العربيّ الكالح من سواد وجوه حكّامه الأراذل ومواقفهم الخاضعة لإرادات الصّهيونيّة ولمشاريع الهيمنة الإمبرياليّة الأميركيّة يجب أن نتذكّر الزّعيم العروبيّ الخالد “جمال عبد النّاصر” بمواقفه العنيدة في صدّ العدوان الثّلاثيّ بعد تأميم القناة وجعلها ملكًا لمصر وفاء للعمّال الّذين حفروها ومات منهم 120 ألفًا، وجعل الشّركة شركة مساهمة مصريّة فقط رغم توسّلات فرنسا، وفي مواقفه في عدم التّفريط في فلسطين كقضيّة العرب، والّتي كرامتها تعني كرامة الأمّة العربيّة، وفي ريادته لتأسيس منظومة دول عدم الانحياز، وفي التّوجه شرقًا لبناء صداقة وعلاقات متينة مبنيّة على الاحترام المتبادل للمصالح والمبادئ مع المنظومة الاشتراكيّة بقيادة الاتّحاد السّوفييتيّ والصّين، وفي بناء علاقات إنسانيّة ثوريّة مع الثّورات وحركات المقاومة ضدّ الاستعمار في العالم العربيّ وفي أفريقيا وآسيا وأميركا اللّاتينيّة، وفي عدم قبول إسرائيل كدولة ذات طبيعة عدوانيّة وكولونياليّة في المنطقة العربيّة على حساب الشّعوب العربيّة، وبخاصّة الشّعب الفلسطينيّ، والأهمّ رؤيته القوميّة في ضرورة تحقيق الحلم العربيّ في الوحدة الّتي سرعان ما أقامها مع سوريا، ولكنّ أعداء الوحدة من دعاة الإقليميّة أفشلوها خدمة رذيلة للمشاريع الصّهيو – أميركيّة. هذا هو “جمال عبد النّاصر” باني السّدّ العالي بمساعدة السّوفييت رافضًا شروط أميركا المذلّة، الّذي يعرف كيف يغضب أعداء الأمّة العربيّة. لقد غضبت أميركا وإسرائيل والدّول الغربيّة وحاولوا إسقاط نظامه مرارًا.
وغنّت “أمّ كلثوم” سنة (1965) أغنية “أنت عمري” من ألحان الموسيقار “محمّد عبد الوهاب” وكلمات “أحمد شفيق كامل” في أوّل لقاء يجمعهما بطلب من الرّئيس الخالد. ولكنّ الأمر لا يتوقّف عند هذه التّجربة من الغناء، بل تعدتها لتغنّي “أمّ كلثوم” ذات المواقف العروبيّة الأصيلة وجدان “جمال عبد النّاصر” السّياسيّ والعروبيّ الحالم بالوحدة العربيّة كأمل ساطع للشّعوب العربيّة من الخليج إلى المحيط، وغنّت لفلسطين ذلك الفردوس المفقود، عندما أصبح لديها بندقيّة من كلمات “نزار قبّاني” وألحان “كمال الطّويل” وغنّت للوحدة والعروبة والثّورة وكرّست غناءها بعد النّكسة في حزيران (1967) للمجهود الحربيّ وقالت للزّعيم الخالد رغم ظلمات النّكسة ومرارة الهزيمة: “دوس بإيمان وبروح وضمير / دوس على كلّ الصّعب وسير” وبدأت رحلة إزالة آثار العدوان ومناصرة الثّورة الفلسطينيّة و”ياسر عرفات” بالمواقف والسّلاح والمقاتلين. وغنّت للتّأميم وغنّت لكل حدث فيه روح الزّعيم، فكان الغناء الوطنيّ صدى للمواقف الوطنيّة، وكان الفنّ والسّياسة رديفيْن، يرفد الواحد منهما الآخر بالمواقف القوميّة والكفاحيّة.
نعم! نتذكّر ولن ننسى:
ولذلك نتذكّر “جمال عبد النّاصر” ونفتقده في هذا الزّمان الرّديء ونتذكّر ونفتقد صوت “أمّ كلثوم” وغناءها وعظمة الفنّ الجميل ذي المستوى الرّفيع في الكلمة واللّحن والأداء، في هذا الزّمن الفنّيّ الكالح بالهبوط الفنّيّ كلمة وموقفًا ولحنًا وأداء، ولن ننسى ولن نغفر لمن أخذ مصير أمّتنا الحضاريّة ومستقبل حياتنا السّياسيّة والاجتماعيّة والفنّيّة إلى هبوط وهوان وذلّ! لقد استطاع السّياسيّون الهابطون شراء الفنّانين الهابطين بالتّخويف وبثمن بخس، ومن غير الهابطين الّذين هبطوا راكبين موجة الميوعة والخنوع والذّلّ لصفقات القرن الأميركيّة معتقدين وواهمين أنّ التّخلّي عن فلسطين وعن قضايا العرب وأنّ الانصياع للمال الخليجيّ والسّعوديّ وللظلاميّة الوهابيّة والإخوانيّة باب سيدرّ عليهم الدّرر والدّولار وسيفتح أمامهم مجالات جني الأرباح الطّائلة، في زمن أصبح الفنّ والموسيقى والكلمة والشّعر والمواقف المبدئيّة تباع في سوق النّفط والبترودلار، في هذا الزّمان السّاداتي المباركيّ والسّيسيّ. ولهذا التّناقض بين “ناصر” العظيم وخلفائه الأراذل كلّهم، وللتّناقض بين “أمّ كلثوم” العظيمة وبين أراذل فنّاني السّوق كان من الممكن أن يجعل “عبد الخالق أسدي” كتابيْه عن العظيميْن في السّياسة الطّاهرة من الدّنس والفنّ الطّاهر من الدّنس كتاب طهر واحد للمحوريْن المنسجميْن والمتّسقيْن والمتناغميْن والمتحدّيْن للخنوع السّياسيّ وللهبوط الفنّيّ.
وسأزيد! يقول د. بطرس دلّة في تقديمه لكتاب “جمال عبدّ النّاصر”: “حين تثقل الشّعوب يدُ طاغية وليل داجٍ تلجأ إلى ماضيها تستمدّ منه زادًا لتندفع إلى بناء مستقبلها بعزيمة جبّارة وإيمان كبير لأنّ الضّغط على هويّة شعب خالد لا يمكن أن يؤدّي إلى انصهاره وفقدان ميزاته العظيمة” وبالهتاف العظيم اندفعت الجماهير: “عاش جمال عبد النّاصر، تعيش الثّورة، والشّعب المكافح، ويعيش باني مصر الحديثة، يعيش باني السّدّ العالي، يعيش رائد الوحدة العربيّة” هذا في وقت الغلبة، وهكذا اندفعت “أمّ كلثوم” تغنّي لهذه الأمجاد، وفي وقت المحنة والهزيمة واستقالة الزّعيم وبالاندفاع الكفاحيّ نفسه هتف الشّعب رافضًا الهزيمة “حَ نحارب” ومطالبًا الزّعيم بالبقاء وامتثل القائد وبدأت رحلة المجهود الحربيّ وغناء “أمّ كلثوم في عواصم العالم، في بغداد ودمشق وبيروت والخرطوم وتونس والرّباط والجزائر في باريس وموسكو وبكين ولندن وروما. لقد كانت هذه المواقف المثيرة تحرّك “عبد الخالق” إن فرحًا وسعادة للإنجازات والأمجاد أو حزنًا وألمًا للإخفاقات والانكسارات، ولذلك كان من أوائل الّذين أسّسوا “لجنة جمال عبد النّاصر” الّتي أقامت قبل عاميْن تقريبًا احتفالًا بذكرى مرور مئة عام على ميلاد القائد كما يقول أحد المؤسّسين الكاتب “زياد شليوط” في مقدّمته لكتاب “جمال عبد النّاصر” ويزيد: “بعد نصف قرن على رحيل الزّعيم أتمنّى للصّديق الكاتب “أبي رامي” العمر المديد ودوام العطاء الفكريّ والاجتماعيّ على طريق النّاصريّة، طريق النّاس المخلصين لأمّتهم”.
في مقالتها القصيرة عن الكتابيْن تقول الكاتبة “خالديّة أبو جبل” قولًا مفيدًا يخدم فكرتي، تقتبسه الكاتبة من أقوال المؤلّف نفسه: “مخلّدان اثنان في ذاكرتي لا يمّحيان “أمّ كلثوم” سيّدة الغناء العربيّ وّ “جمال عبد النّاصر” سيّد العالم العربيّ ولا أدري من منهما يشبه الآخر ومن منهما يفوق الآخر، أم أنّهما بمنزلة واحدة في قلبي”، أليس هذا الخلود في الذّاكرة لكلا الخالديْن، أليست هذه السّيادة لعبد النّاصر في العالم العربيّ في السّياسة القوميّة ذات الكرامة وهذه السّيادة لأمّ كلثوم في الغناء العربيّ الرّفيع المستوى، أليس لهذ الشّبه والتّنافس على قلب “عبد الخالق” في المحبّة بحيث يجعلانه لا يدري كنه الشّبه وجوهر التّنافس، أليس في هذا ما يجعل الاثنيْن المخلّديْن قضيّة عظيمة واحدة وموضوعًا عظيمًا واحدًا وكتابًا واحدًا مزدوج العظمة. ألا يكون كاحتمال بعيد الخيال فقط وبغضّ النّظر عن بعده من الواقع أنّ “جمال عبد النّاصر” قد انزلق إلى السّياسة من عالم الفنّ! وتكون “أمّ كلثوم” بالاحتمال ذاته قد انزلقت إلى الفنّ من عالم السّياسة! وسأزيد! ألم يقل “عبد الخالق” بعظمة قلمه ولسانه في بداية كتابه عن الزّعيم الخالد: “في حبّ عبد النّاصر أطوف بمخيّلتي فوق الأهرام وأعانق أبا الهول وأغوص في نيل مصر لأغرق في حبّ عملاقيْن كبيريْن: عبد النّاصر وأمّ كلثوم”. ولن أعلّق على هذا العشق الكبير بأكثر ممّا كتبته الشّاعرة “نادرة شحادة” في مقدّمتها لكتاب “أم كلثوم” حيث قالت: “نعلم وكثيرون يعلمون ممّن رافق وعاشر “أبو رامي” من أهل ومعارف وأصدقاء مدى شدّة حبّه وولعه بصوت “أمّ كلثوم” وشغفه اللّامتناهي سماع أغانيها، حيث يصنّف هذا النّوع من الأغاني بالطّرب الأصيل الرّاقي الّذي يدخل إلى القلوب والآذان دون استئذان”. وبلغ عشقه لها حتّى غدا “صوتها يصدح في بيته دائمًا، وأورث حبّها لأولاده وبناته، وأصبح ابنه يخاطبه ويراسله بكلمات أغنياتها” كما قال “عبد الخالق” نفسه.
الفنّ والسّياسة:
ثمّة من يعتقد أنّ الفنّ والسّياسة عالمان متباعدان بحكم طبيعة كلّ منهما، فالفنّ رقيق والسّياسة قاسية كما يبدوان للوهلة الأولى، وللأمر وفقًا لرؤيتي وجهان: الأوّل عندما يكون النّظام السّياسيّ الحاكم دكتاتوريًّا وشموليًّا وقمعيًّا، لا ديمقراطيّة ولا حرّيّات، يحكم بالحديد والنّار والسّجون والإبعاد ويحاكم كلّ “مارق” ومعارض ومنتقد من الإعلاميّين ورجال الفكر والأدبّ والفنّ، وغالبًا ما يكون هذا النّظام السّياسيّ متذيّلًا لقوى خارجيّة، يرى في مصلحة نظامه مصلحة الشّعب المضطهد، وترى القوى الخارجيّة فيه ضمانًا لمصالحها وهيمنتها فتؤيّد هذا النّظام وتسعى لتأبيده. والفنّ الأصيل والفكر الثّوريّ والثّقافة الإنسانيّة الدّيمقراطيّة المعبّرة عن روح الجماهير العريضة ووجدانها والّتي تدعو إلى حقوق الإنسان وحرّيّته وسعادته وكرامته سيكون بطبيعة الحال بعيدًا عن هذا النّظام السّياسيّ ومستهدفًا منه برموزه الثّوريّة ومضامينه الهادفة ورسالته الملتزمة وأشكاله الفنّيّة وأساليبه الفكريّة، لذلك كان المستشار الألمانيّ النّازيّ “جوزيف غوبلز” وهو السّياسيّ الأقرب إلى “أدولف هتلر” يتحسّس مسدّسه كلّما سمع كلمة “ثقافة”، ومن هذا الباب نفي الشّعراء العراقيّون وسجن الشّاعر التّركي “ناظم حكمت” ونفي الأديب الألمانيّ “برتولد بريخت” وقتل الإعلامي السّعوديّ “جمال خاشقجي” والإعلاميّ الفلسطينيّ “نزار بنات” والشّاعر الأسبانيّ “لوركا” وأعدم بالرّصاص الفنّان التّشيليّ “فكتور جارا”، والنّجوم السّاطعة والخالدة من عالم الفنّ والفكر والثّقافة من وراء غياهب السّجون وغربة المنافي ووحشة القبور لا تعدّ.
أمّا الوجه الثّاني عندما يكون النّظام السياسيّ ثوريًّا مكافحًا لكلّ أشكال الاضطهاد والاحتلال والهيمنة، يسهر على راحة شعبه وحرّيّته وكرامته واستقلاله، فسيكون الفنّ الأصيل والفكر الدّيمقراطيّ المنفتح والملتزم بقضايا الشّعوب صديقًا للسّياسة وسيكون الفنّانون والمفكّرون والأدباء والإعلاميّون منسجمين مع رجالات النّظام السّياسيّ ومسؤوليه، ومن هذه الأجواء تنبع المناخات الرّائعة للإبداع الفنيّ والفكريّ والثّقافيّ، وسيكون الفنّ والسّياسة متّحديْن منسجميْن في عالم واحد، وهذا هو الحال بين النّظام الثّوريّ لحركة “الضّبّاط الأحرار” وزعيمها “جمال عبد النّاصر” وبين الفنّانين المصريّين وعلى رأسهم “أمّ كلثوم”، وقد كان صديقًا لموسيقار الثّورة “محمّد عبد الوهاب” ولمطربيْها “عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش” ويطلب من “فريد شوقي” فيلمًا سينمائيًّا عن الثّورة ويكرّم “شكري سرحان” على دوره في فيلم “ردّ قلبي” الّذي جسّد فيه “سرحان” شخصيّة “علي بن البستنجي” البسيط والّتي عكست بجلاء شخصيّة “جمال بن البوسطجي” البسيط أيضًا. هكذا كان “لينين” صديقًا للأدباء والعلماء ومن أبرزهم صديقه “مكسيم غوركي” وكان “كاسترو” الصّديق الحميم للكاتب الكولومبيّ “ماركيز” وكان “ياسر عرفات صديق الشّعراء والكتاب الفلسطينيّين والعرب: “درويش”، بسيسو”، “القاسم”، “زيّاد”، “أمل دنقل”، “جيلي عبد الرّحمن، “رشاد أبو شاور”، “يحيى يخلف” والفنّان التّشكيليّ الرّسام “إسماعيل الشّموط”.
عهد جديد وميثاق وطنيّ:
إنّ العلاقة المنسجمة بين السياسيّ الأصيل “جمال عبد النّاصر” والفنّانة الأصيلة “أمّ كلثوم” مثال ونموذج لهذا الوجه والانسجام من عالم السّياسة والفنّ كعالم واحد، وهو ما أراد أن يشيعه “عبد الخالق أسدي” في جزأيْ كتابه الواحد من توثيق معلومات وأفكار ومضامين ورسائل وأهداف أدبيّة. “جمال عبد النّاصر” جاء من عالم السّياسة ومن عالم الفنّ الأصيل جاءت “أمّ كلثوم” ووفقًا لرؤية المؤلّف الثّاقبة ولموقفه الوطنيّ يشكّل الاثنان تاريخ مرحلة بصدق مواقفها وبصماتها العظيمة على الصّعيد القوميّ والفنّيّ. مرحلة رقّة الشّعر وعذوبة الموسيقى وأصالة الفنّ وأصالة الانتماء، إنّها مرحلة العظماء من عالم الشّعر: “أحمد شوقي”، “أحمد رامي”، “بيرم التونسيّ”، “جورج جرداق”، نزار قبّاني”، “إبراهيم ناجي” و”الهادي آدم”. ومن عالم الموسيقى: “أبو العلا محمّد”، “محمّد القصبجي”، “زكريا أحمد”، “محمّد عبد الوهاب”، “رياض السّنباطي”، “بليغ حمدي”، محمّد الموجي”، “كمال الطّويل” و”السّيّد مكّاوي”. معظم هؤلاء جاءوا من صعيد مصر أو من ريف الدّلتا وقد أنجب القرية أولئك العظماء. “أمّ كلثوم” من “طماي الزّهايرة” و”جمال” من قرية “بني مرّ”، من هناك حيث القرى الوادعة في حضن “النّيل” وفي حقول البساطة وغيطان الفرح، هناك حيث الطّيبة الفلّاحيّة والقيم النّابعة من عمق التّراب والجذور والدّين الفطريّ. من هناك جاءوا من “النّيل” هبة مصر الأبديّة، من الأهرام حيث ولدت الحضارات العظيمة، هنا في القاهرة هبّ المصريّون ثائرين منشدين للثّورة الّتي ضخّت دماء ثوريّة لجمهوريّة جديدة قادمة ولنظام اجتماعيّ وسياسيّ عادل على أنقاض الملكيّة البائدة ونظامها الشّموليّ الظّالم والقديم. من هنا، من قلب “القاهرة” غنّت الملايين مع “أمّ كلثوم” والثّورة بقيادة الشّباب الوطنيّ والقوميّ الّذي يرفض الاستبداد والاحتلال والهيمنة على الثّروات: “ثوّار ثوّار ولآخر مدى”، صار دم الثّورة والعهد الجديد والميثاق الوطنيّ، كلّها تجري في شرايين مصر فتكسبها العزّة والكرامة والاستقلال الحقيقيّ والسّيطرة على الثّروات القوميّة.
بعد عبد النّاصر وأمّ كلثوم:
أيّ هبوط واضمحلال وذلّ وهوان ألمّ بنا وأيّ هبوط وانزلاق إلى أسفل سافلين، بعد أن كنّا في علّيين المجد والكرامة. وهنا أخالف صديقي الكاتب “عبد الخالق أسدي” الموقف والرّأيّ من الرّئيس الحاكم “السّيسي” وممّن خلف “جمال عبد النّاصر” من رؤساء، وأعني اثنيْن: “أنور السّادات” مؤسّس الخيانة والتّفريط والّذي في زمانه غير الميمون رفرف العلم الأبيض والأزرق والنّجمة الكامخة فيهما في سماء قاهرة العزّ والمعزّ، والسّائر على نهجه السّادر في غيّ التّمديد والتّوريث “حسني مبارك”، ثلاثة عقود من الحكم اللامبارك بلا إنجاز يذكر، إلّا الحفاظ على الكرسيّ له ولأولاده إذا أمكن، ومعاهدة الخيانة مع إسرائيل والاذدناب للمشاريع الأميركيّة وترسيخ عزلة مصر وتقليل هيبتها ببعدها عن قضايا العرب. و”السّيسي” الفريق العسكريّ الّذي مسح دور مصر القوميّ حتّى غدت مصر مهدّدة بانقطاع مياه “النّيل” بعد بناء سدّ “النّهضة” في أثيوبيا، هذا “السّيسي” هو البرغي الصّديء في آلة السّياسة الأميركيّة، يرجوه ويتمنّى عليه بطيبة ونيّة صافية “عبد الخالق” أن يعمل لرأب الصّدع بين الأشقّاء العرب، وهو الموكّل كخادم أمين للمشاريع الصّهيو – أميركيّة على توسيع شقّة الخلاف والتّمزيق والإقليميّة وتدمير الدّول وتقسيمها إلى دويلات بلا أثر ولا تأثير. ويقول الكاتب: “إنّ الآمال معقودة على الرّئيس “السّيسي” ليكمل مشوار “عبد النّاصر”. صديقي الطّيّب “عبد الخالق” أنت تعقد الآمال على وهم و”تنفخ في رماد” بلا نار و”تضرب على حديد بارد” فقد حرارة عروبته، وسيصيبك كمن “طلب الدّبس من طرف النّمس” وستبدي لك الأيّام أنّك إذ تنادي وتناشد “السّيسي” سيصيبك ما أصاب ذلك الّذي قال: “ظننت بأنّني ناديت حيًّا – ولكن لا حياة لمن تنادي”.
وفي الفنّ هو الآخر بعد “أمّ كلثوم” و”عبد الناصر” هبوط وتدنٍّ رهيب وفظيع وتخثّر في دماء الكلمات وخمول في أوتار الموسيقى، ولا مبالاة وميوعة بلا حدود وجري وراء المال في سوق العبوديّة للبترودولار، فالإعلام بوسائله كلّها مجنّد بمعظمه للسّلطة الحاكمة، ومرحلة فنّيّة أبرز أعلامها “شعبلة” وأبرز أغنياتها “بحبّك يا حمار وبحب عمرو موسى وكمان ننة وحَ بطّل السجاير” وأبرز ممولّيها المال الخليجيّ وأبرز مسلسلاتها “أمّ هارون” وأبرز مقاوليه “ياسر محمود عبّاس” وأبرز منحطّيه السّاسة العرب، رؤساء ووزراء، ملوكًا وأمراء وسلاطين وملاعين وأرانب وقطط وكلاب وسحالٍ وسلاحف وثيران وركائب للامتطاء.
أين مصر الّتي في خاطري وفي دمي:
هل غدت خيالًا أم احتمالًا يا صديقي الطّيّب “عبد الخالق” أعرف أنّك تحبّ مصر ونحبّها مثلك، بكلّ ذرّة تراب من أرضها وكلّ قطرة ماء من نيلها وكلّ حجر من حجارة أهرام حضارتها وكلّ لبنة من لبنات أمجاد الكرامة الّتي أرساها “جمال عبد النّاصر” عميقًا في تربتها واشرأبّت عاليًا سدًّا عاليًا في أسوان ومصانع حديد وصلب في حلوان وتأميم قناة ومصانع نسيج للطّويل التّيلة في المحلّة الكبرى ومعاهد وجامعات تعلّم الفتيات المحرومات وفنون ومسارح ومدارس وكهربة ريف وجيش وطنيّ يذود عن كرامتها وبناء حلم بوحدة الأمّة العربيّة وقتال دائم ضد أعداء مصر مهما كثروا وصلابة مواقف وصمود وعزم حتّى وقت الهزائم والانكسارات من أجل فتح باب الفرص للخروج من اليأس والمرارة والدّخول في زمن الانتصارات والإنجازات أمام الأجيال القادمة.
أين كلّ هذا الآن!؟ عندما تنحّى الرّئيس بعد النّكسة صعقت “أمّ كلثوم” وأحسّت بالمرارة الّتي تقلّب على نيرانها الزّعيم، فلمن ستغني بعد رحيله السّياسيّ، ومات الزّعيم سنة (1970) فلمن ستغنّي بعد رحيله الحقيقيّ، وكأنّها لم تطق الحياة والغناء بعده وماتت سنة (1975) وخرج الشّعب يطالب زعيمه بالعودة والقيادة، فما حدث هو مجرّد كبوة فارس ونبوة سيف، ولبّى الزّعيم مطالب الأمّة وبدأت مرحلة بناء الجيش المصريّ الّذي عبر القناة في حرب أكتوبر سنة (1973) وهدّم خطّ “بارليف” وقهر الجيش الّذي لا يقهر، فماذا كانت النّتيجة! جاء “بطل العبور العسكريّ” بعبور سياسيّ وصلح منفرد وبدّد كلّ المكاسب العسكريّة بخيمة الكيلو 101. أكان “عبد النّاصر” يفعل ذلك بعد الهزيمة وقد انتظر “موشيه ديّان” على الهاتف لسماع صوت الرّضوخ والإذعان والقبول بالذّلّ، وجاء الرّدّ من الخرطوم بعد زمن جدّ قصير، “لا مفاوضات ولا سلام ولا اعتراف بإسرائيل” وجاء المنقذ “السّادات” وفاوض وسالم واعترف بإسرائيل بعد انتصار وبلا ثمن من أجل عيون عزيزه “هنري كيسنجر” وما يمثّله من سياسات أميركيّة أهمّ ما يقلقها أمن إسرائيل.

وأخيرًا:
“عبد الخالق أسدي” ناصريّ حتّى النّخاع وكلثوميّ حتّى النّخاع كذلك، وقد استطاع بميوله النّاصريّة في السّياسة والكلثوميّة في الفنّ والغناء أن يعيد “عشرة الزّمن الجميل” وأن يعيدنا لأيّام خلت، استطاع أن يخلق فينا “نوسطالجيا” إلى الماضي العظيم، واستطاع أن يجعلنا نملك حلمًا مستقبليًّا جميلًا في هذا الزّمن الكالح السّياسة والمتدنّي الفنّ، ب “جمال عبد النّاصر” أعادنا إلى “أمجاد يا عرب أمجاد، في بلادنا كرام أسياد” لننسى أو نتناسى واقعنا العربيّ المخجل قياديًّا ورسميًّا، وب “أمّ كلثوم” أعادنا إلى “مصر الّتي في خاطري وفي دمي” لننسى أو نتناسى واقعنا الفنّيّ المجنّد للنّظام الرسميّ. إنّ عظمة العمل الّذي أقدم عليه “عبد الخالق” في كتابه ذي الجزأيْن تكمن في استنهاضنا من نوم ثقيل طال أمده في الكهف الأسود لمدّة خمسة عقود، وما زالت آثار هذه العقود الخمسة السّلبيّة تشهد على ما فيها من خنوع وخيانة وتطبيع، لدرجة كدنا ننسى ما كان في “الخرطوم” وبعد هزيمة حزيران “لا مفاوضات ولا سلام ولا اعتراف بإسرائيل” إنّها لاءات “جمال عبد النّاصر”، لاءات العروبة الّتي ترفض الهزيمة وتصمّم على النّصر، كادت تلك العقود الخمسة بعد موت “جمال عبد النّاصر” ترسّخ فينا القبول بثقافة الهزيمة والرّضى بالهوان والذّلّ القوميّ وتجعل من إسرائيل شقيقًا ومن الأشقّاء أعداء. وهي المعادلة الّتي أراد “عبد الخالق” أن يزعزعها ويزلزل أركانها وأقطابها ليبقى الشقيق الحقيقيّ شقيقًا و”الشّقيق” الدّخيل والمزيّف عدوًّا. وكما في السّياسة في الفنّ، فقد أراد أن يبقى النّيل نهرًا خالدًا والسّدّ عاليًا والشّعب ثورة نابضة “قلبٍ يعشق كلّ جميل”.
وسلام على مصر العروبة وسلام على “جمال عبد النّاصر” وسلام على “أمّ كلثوم” ما دام فينا عرق ينادي بالوحدة العربيّة وما دام فينا وتر يغنّي للحبّ والحرّيّة والوحدة والحياة الكريمة، ومن ثمّ سلام على مؤلّف جزأيِ الكتاب، المبدع “عبد الخالق أسدي”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة