البروفيسور فاروق مواسي .. عام على الغياب
تاريخ النشر: 26/06/21 | 9:07بقلم: شاكر فريد حسن
يصادف اليوم السادس والعشرين من حزيران ذكرى مرور عام على وفاة الصديق الشاعر والأديب الناقد والقاص وسادن اللغة الأكاديمي بروفيسور فاروق مواسي، الذي ترك رحيله فراغًا هائلًا في حياتنا وفضائنا الثقافي لا يمكن أن يملأه أحد غيره. وشكلت وفاته خسارة جسيمة بكل المقاييس والمعايير للثقافة العربية الفلسطينية والأدبية التي خسرت علمًا من اعلامها، ساهم في الحفاظ على دورها الطليعي والريادي والنقدي، وكان له اسهامات جلى في الحركة النقدية وإثراء حقول الثقافة بمستوياتها وإشراقاتها المختلفة.
يُعد الراحل فاروق مواسي أحد القامات الشعرية والأدبية وأيقونات الثقافة وسدنة اللغة، وكان رئيس تحرير مجلة “الحصاد” الفلسطينية المحتجبة المحامي حسين الشيوخي أطلق عليه لقب “كشاجم” تيمنًا بالشاعر الرملي.
لقد جمعتني وعائلتي الكريمة بالراحل العزيز فاروق مواسي علاقة وثيقة وصداقة عميقة، بدأت مع أخي ابن أمي الأديب المرحوم نواف عبد حسن، صنوه في الأدب وواحد من مجايليه، ثم امتدت وتعمقت من خلال الزيارات واللقاءات معي ومع أبناء العائلة، وكان قد أهداني الكثير من كتبه ومؤلفاته، كتبت مراجعات لعدد منها، مشرت في حينه في الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية المختلفة، وكم عز علينا رحيل نواف وفاروق.
كان أبو السيّد إنسانًا طيب القلب، بشوشًا، محبًا للناس، شغوفًا بالحياة، وكان يردد دائمًا المقولة “أكتب كي لا أموت”، عدا عن كونه مثقفًا موسوعيًا، وقارئًا نهمًا، وشاعرًا حداثيًا، وناقدًا حصيفًا، ومرجعًا لغويًا، غيورًا على لغة الضاد، وممسكًا بناصيتها بشعف العاشق الولهان، ومشاكسًا أمام كل هفوة أو سقطة لغوية. ومنذ صغره وصباه حفظ عن ظهر قلب الكثير من السور القرآنية والتراتيل الدينية.
ترك فاروق مواسي وراءه إرثًا ثقافيًا في حقول المعرفة والشعر والقصة القصيرة والتراجم والسيرة الذاتية وعلم اللغة والدراسات النقدية، بالإضافة إلى مكتبة جامعة وشاملة غنية بالكتب المتنوعة النادرة والمجلات الأدبية الثقافية العربية المختلفة.
امتاز فاروق مواسي بمواقفه السياسية العقلانية، وبحسه الوطني الذي يتجلى في قصيدته الطويلة الرائعة “حبي فلسطيني” التي يقول فيها:
الأرضُ أرضي وليس الشوقُ يَبريني – الشوق يحدو إلى حبّي-فلسطيني
درجتُ فيها صغيرًا رُمتُ مأثرةً – من كلِّ جدٍّ منَ الغُرِّ الميامينِ
شببتُ فيها أنيسًا عاشقـًا بلدًا – رغم العداءِ فطارت لي حساسيني
زروعُها من جنان العدن أطيبُها – اللهُ بارك في تيني وزيتوني
أيامها ألقٌ ، عطاؤُها غد قٌ – وفوحُها عبقٌ في عزّ تشرينِ
قالوا :بلادي بلا أهل ٍ بلا سكنٍ – يا بئس ما مكرتْ أوهامُ مأفون
فشرّدوها قرًى كانت برَغْدتِها – من بروةٍ، بصةٍ ، ميعار دامونِ
أنّى نظرتَ – مئاتٌ مثلُها نزَحَت – أمامَ ناظرِنا أطلالُ قاقونِ
يا أهلَها-أهلنا ، يا طيرَ منزلِها – اقرأْ سلامي على أحزانِ محزونِ
ما زلـتُ أذكرُهم في الدارِ في حَلقِ – هذي تنادي ،وهذا واجمٌ دوني
عينُ الغزالِ وكانتْ عينَ مهجتِهم – فقلتُ من بعدُ قولاً غيرَ ممنونِ :
” قد كنتُ أبكي لأصحابِ الهوى زمنًا – فهل ليَ الآن من با كٍ فيبكيني”؟
يا جمرةً صهَلتْ في قلبِ هاجرِها – يا عتمةً شعَلتْ في قلبِ مغبون ِ
يا نظرةً نفِذت في وجهِ مغتصبٍ – يا قهرةً نهلـتْ خَسفاً ومن هُونِ
مضَوا بعيدًا ، وكان الكرمُ حاديَهم – سكْرًا على ظمأٍ خمرًا كمَسنونِ
العبدُ سيـدُهمْ ، والموتُ عمّدَهم – والذنْبُ ذنبُهمُ حَيْـنًا على حينِ
مخيمٌ صاحَ يا أهلاً بطارقِـنا – ظلّوا هنا أُسَرًا تبقى لتُبقيني !
وإنني نكبةٌ من بعد نكبتكم – سطرْتمُ صُورًا في دمعِ تدوينِ
فقلت : يا أهلُ في حِلٍّ ومُرْتحلٍّ – فينا البلادُ ، وما قلنا لها بِيني
أرى الحبـيبَ حنـينًا في بصائرِنا – وموسمَ الوحيِ يعلو طورَ سينينِ
القدسُ تشرقُ في أبهى سرائرِكم – إسراؤها الوجدُ في الدنيا وفي الدينِ
قد جاءها عمرٌ في فتحِ عزتّها – كُرمى له كرُمت لِـيناً على لينِ
والكرملُ الزهوُ في أذانِ مِنبرِنا – جليلُنا سيرةٌ تَسري بتلحين
مثلثٌ سالَ في همْسٍ بخُضرتهِ – يا باقتي – باقةَ الأزهارِ ضُمّيني !
يافا وحيفا وشطُّ البحرِ في لهفٍ – وموجُهُ جنَّ من ترديدِ مَسكونِ
يا رؤيةً خضِبتْ واخضوضرتْ شجنًـا – جناحُها الشوكُ في ظلِّ البساتينِ
تستنطقُ الصخرَ هل في الصخرِ من حجرٍ – ليُهربَ البومُ من آلامِ نِسرينِ ؟
من كفر قاسمَ “احصدْ ” صاح ناعقُهم – مجازرٌ سبقتْ في ديرِ ياسينِ
والدمُّ يُزهرُ أطفالاً فيغرسُهم – جذراً يُطلُّ فأسقيه ويسقيني
اللهُ اكبرُ كم جاشتْ جيوشُهُـمُ -تبغي انتهائي فتزهو بي شراييني
أبقت بجالوتَ يومَ النصرِ أغنيةً – ظلت تناغي بها أنغامَ حطينِ
ظلّت لنا أملاً ، تحلو لنا مُقلاً – تروي لنا عسلاً – كلَّ الأفانينِ
مرابعُ النُّورِ تَهمي من أواصرِها – من علّمَ اللوزَ نَوراً حِفظَ تلقينِ؟
مراتعُ الشمسِ تبدو في مناظرِهم – فتنتشي نسْـمةٌ في حِضن ليمونِ
كم كنتُ أوثرُ أن يمتدَّ بي زمني – حتى أرى زمني يُكوى فيَشفيني
حتى أرى قلبيَ الظّامي ببهجتِهِ – يراقصُ الفجرَ أفراحًا فيُبكيني
حتى يراني صلاحُ الدِّين مُتّشحًـا – عدلاً وسلمًـا وأحبابي تُصافيني
أُسلّمَ العشقَ تَحناني برونقِه – والشوقُ يحدو إلى حبّي فلسطيني
قصائد فاروق مواسي زاخرة بالبوح والتجليات والدلالات، وتجسد تجارب إنسانية تنبض بمشاعره الإنسانية، وتتشابك مع حالات الوعي والحب والحياة والموت والتمرد، وتنزاح بتدفقها الشعري في حركة متواصلة، سكبها وصاغها صياغة لغوية وأسلوبية شديدة الخصوصية والحميمية، بعيدًا عن الانغلاق في المعاني، مع الحرض على الرمزية الشفافة.
السلام عليك يا سيد الكلمة، وسيد القلم، يا أبا السيد، صديقنا وشاعرنا المبدع، وعلى روحك الطاهرة، في ذكراك الأولى، وستظل خالدًا مخلدًا بتراثك الأدبي الإبداعي، الشعري والنقدي.