العظماء (23) ياسر عرفات قائد الكفاح الفلسطينيّ

تاريخ النشر: 13/06/21 | 8:07

بقلم: علي هيبي

قبل كلّ شيء:
قد يكون ثمّة خلاف على بعض مواقف “أبو عمّار” السّياسيّة بصفته قائد الثّورة الفلسطينيّة، أو على بعض قراراته الوطنيّة، ولكن ليس ثمّة خلاف على زعامته وعلى عظمته وعلى مسيرته الثّوريّة الكفاحيّة في قيادة حركة “فتح” أو قيادة “منظمة التّحرير الفلسطينيّة”، ما يعني قيادة الثّورة الفلسطينيّة والكفاح الوطنيّ الفلسطينيّ المقاوم، ما يعني قيادة الشّعب العربيّ الفلسطينيّ في كلّ أماكن التّواجد. لقد كان “الختيار” كما يحلو للبعض أن يناديه كآية على الإكرام والإجلال لمكانته العريقة في الوجدان الوطنيّ الفلسطينيّ أبرز الزّعماء الّذين قادوا الكفاح الوطنيّ الفلسطينيّ على مدى يزيد عن أربعة عقود، فقد كرّس معظم حياته لقيادة النّضال الوطنيّ الفلسطينيّ مطالبًا بحقّ الشّعب الفلسطينيّ في تقرير مصيره وإقامة دولته على تراب وطنه وعاصمتها “القدس الشّريف”. نعم كان “ياسر عرفات” بغضّ النّظر عن التّسمية أو اللّقب أو الكنية الّتي يدعى بها رمزًا قياديًّا فلسطينيًّا بل عربيًّا، وقد تجاوزت شخصّيّته الأبعاد الوطنيّة والقوميّة كواحد من القادة الثّوريّين، من عظماء مناضلي هذا العالم المرموقين، وقد تعدّت شهرة مسيرته الكفاحيّة وشخصيّته حدود العالم العربيّ لتجوب هذه السّمعة والشّهرة والمكانة في أنحاء العالم وبين شعوبه المقهورة والمكافحة من أجل الحرّيّة والعدالة والاستقلال والكرامة، كنموذج من النّماذج ذات البريق السّاطع في تاريخ الكفاح الإنسانيّ الثّوريّ، فيعدّ اسمه اللّامع مع المناضليْن: “نيلسون مانديلا” وَ “باتريس لوممبا” في أفريقيا، والثّوريّيْن: “فيدل كاسترو” وَ “تشي جيفارا” في أميركا اللّاتينيّة، والعروبيّيْن المكافحيْن: في برّ مصر “جمال عبد النّاصر” وفي برّ الشّام “سلطان باشا الأطرش”، وقائديْ الثّورة الفيتناميّيْن: “هو تشي منّه” والجنرال “جياب” في آسيا. والكواكب السّاطعة على طول سارية ضياء الكفاح وعرضها منذ فجر التّاريخ الإنسانيّ حتّى التّاريخ المعاصر والحديث لا تُعدّ.
كان “ياسر عرفات” ذا مكانة خاصّة عند الشّعب الفلسطينيّ، بغضّ النّظر عن الأطياف السّياسيّة المختلفة من اليمين إلى اليسار، فقد كان “أبو عمّار” ديمقراطيًّا ليبراليًّا، يختلف معه البعض لكنّهم لا يختلفون عليه، ولا على مكانته الوطنيّة أو على دوره الرّئيس في قيادة الكفاح الوطنيّ لما يمتلك من حنكة وعبقريّة سياسيّة. بل هناك من يعتبره الأب الرّوحيّ للقضيّة الفلسطينيّة.
لديّ حلم:
رحل “ياسر عرفات” قبل اكتمال الحُلم الوطنيّ، رحل بكوفيّته الفلسطينيّة البيضاء والسّوداء الّتي كان يعتمرها مع العقال العربيّ بكلّ مناسبة سياسيّة بشكل يجعل من هندسة لبسها دالًّة على خارطة فلسطين التّاريخيّة. لقد تحوّلت كوفيّة “أبو عمّار” إلى راية ثوريّة عالميّة كقبعة “تشي جيفارا” الحمراء ذات النّجمة البيضاء، أصبحت علمًا للنّضال الوطنيّ والثّوريّ في جميع أنحاء العالم، رحل القائد الرّمز ولديه حُلم “أحلم بدولة فلسطينيّة، إنّ من حقّي أن أحلم”! مات ولديه حُلم كحُلم “مارتن لوثر كينغ” الأميركيّ الأسود بالمساواة العرقيّة بعد عقود من العنصريّة والتّمييز، وحُلم “تشي جيفارا” اللّاتينيّ الثّائر بالوطن الحرّ أو الموت بعد إسقاط حكم الدّكتاتور العميل “باتيستا” في كوبا والظّلم في كلّ مكان، وحُلم “نيلسون مانديلا” الأسود السّجين الأفريقيّ بنسيم الحرّيّة ورياح الدّيمقراطيّة بعد نهاية حكم “الأبرتهايد” الأبيض، وحُلم “جمال عبد النّاصر” بوحدة الأمّة العربيّة وكرامتها القوميّة بعد دحر قوى العدوان ودعاة الإقليميّة. مات “عرفات” وليس ثمّة دولة فلسطينيّة تلوح في الأفق حتّى إلى جانب إسرائيل. ولكنّ موت “أبو عمّار” المدوّي سيصنع الحياة للأجيال القادمة وسيثور الشّعب الصّامد والمقاومة الباسلة وستقوم الدّولة بعاصمة أبديّة وليست مؤقّتة “رام الله” بل هي “القدس”، وسيتحقّق الاستقلال وسينتزع الشّعب الفلسطينيّ بعد مسيرة رائعة وساطعة من الكفاح الوطنيّ حقوقه المشروعة، سيفرض معادلته الثّوريّة في إنجاز العدالة والحرّيّة والكرامة “وسيعلّق شبل فلسطينيّ أو زهرة فلسطينيّة علم فلسطين فوق مآذن القدس وفوق كنائس القدس” كما كان يحلو للقائد “أبو عمّار” أن يردّد بإيمان عميق، لا يتزعزع وبشموخ وطنيّ لا ينحني وبقناة كفاحيّة لا تلين: “شاء من شاء وأبى من أبى”. ما أجمل البدايات عندما كان يؤمن “أبو عمّار” بأنّ: “السّلام بالنّسبة لنا يعني تدمير إسرائيل، نحن نستعدّ لحرب شاملة، وهي الحرب الّتي سوف تستمرّ لأجيال”. والضّمانة هو الشّعب الفلسطينيّ، “شعب الجبّارين” الشّعب البطل وصانع المعجزات والشّعوب العربيّة صاحبة الباع الطّويل في طرد المستعمرين والمحتلّين في مصر والشّام والعراق ولبنان والمغرب العربيّ والسّودان، وليست الضّمانة زعماء أنظمة ملكيّة أو جمهوريّة فاسدة وخائنة، ولا قيادة حركة ولا قيادة حزب ولا سلطة ولا صفقة ولا بيت عنكبوت ولا عشّ حمام هشّ العود. لأنّه كما رأى “أبو عمّار”: “فلسطين هي الإسمنت الّذي يَجمَع العالم العربيّ أو هي المتفجّر الّذي يفرّقه ويمزّقه إربًا”. وقد كان يؤمن حتّى النّخاع: “بأنّ كرامة الوطن وقضيّته هي المهمّة وليس الكرامة الشّخصيّة”، وهذا ينطبق – كما أرى – على كلّ الحركات والأحزاب الفلسطينيّة، فلا كرامة لأحداها ولا لأحدها دون الآخر، دون كرامة كاملة للشّعب الفلسطينيّ، كم أنّه لا كرامة لدولة عربيّة أو لشعب عربيّ دون غيرها من الدّول أو غيره من الشّعوب، فكرامة الأمّة العربيّة واحدة، كلّ لا يتجزّأ. وإلّا فهو ما نعيشه هنا والآن من أحوال الأمّة العربيّة المزرية وأوضاعها المخجلة، هذه الأمّة الّتي لم تعتصم قياداتها بحبل الله ولا بأيّ حبل بل اعتصمت بحبال الشّياطين فوقعت فريسة حبائلهم، فتفرّقت “أيدي سبأ” وعادت أعداء كما كانت لا ألفة بين قلوبها.
سأبدأ من الآخر:
من إعلان “مبادئ أوسلو” سنة (1993) بين إسرائيل ومنظّمة التّحرير الفلسطينيّة وما سبقها ومهّد لها من مباحثات في “مؤتمر مدريد” سنة (1991) بين وفود تمثّل الدّول العربيّة، دول المواجهة وإسرائيل، والّتي أعتبرها أنا انزلاقة الكفاح الوطنيّ الفلسطينيّ وسقطته بكلّ ما تحمله كلمتا الانزلاق والسّقوط من معانٍ سياسيّة ووطنيّة وقوميّة، لأنّها ألقت بالقضيّة الفلسطينيّة في غياهب مجهول، ما زالت تتعثّر به حتّى الآن، بعد أن تنازلت قيادة الشّعب الفلسطينيّ عن أهمّ الأسلحة الكفاحيّة لتحقيق الانتصار وإنجاز التّحرّر الوطنيّ والأهداف الفلسطينيّة الّتي مات من أجلها عشرات الآلاف من المناضلين والفدائيّين. وبنظري إذا كان هناك من عصر ذهبيّ للكفاح الوطنيّ الفلسطينيّ، فذلك العصر كان رافداه اثنيْن لا ثالث لهما: البندقيّة والرّصاصة والمقلاع والحجر. وأقصد بالبندقيّة والرّصاصة الكفاح المسلّح وبالمقلاع والحجر الانتفاضة الشّعبيّة. وهما الوسيلتان اللّتان أعطتا للثّورة الفلسطينيّة زخمًا كفاحيًّا مكّن القضيّة من احتلال واجهة القضايا العالميّة ومكانة رفيعة ومشروعة تحظى بتأييد لدى شعوب العالم كقضيّة تحرّر وطنيّ له شرعيّته الّتي تنصّ عليها القوانين الدّوليّة، وهما الوسيلتان: الكفاح المسلّح الّذي قادته حركة “فتح” تحت قيادة الفدائيّ “ياسر عرفات”، والمقلاع يعني “الانتفاضة” الشّعبيّة في “الضّفّة الغربيّة” وَ “قطاع غزّة” والّتي قادتها اللّجان الشّعبية الشّبابيّة (ق.و.م) وهما الرّافدان اللذان أجهزت عليهما سقطة “اتّفاقيّات أوسلو” والخديعة السّياسيّة الّتي مني بها كفاح الشّعب الفلسطينيّ: سلاحًا وانتفاضةً نتيجة التّآمر الأميركيّ الغربيّ والصّهيونيّ الاحتلاليّ والتّخاذل العربيّ، وأكاد أقول الخيانة العربيّة مع سبق الإصرار والتّرصّد. لقد كتبت عن هذه الحالة العربيّة والفلسطينيّة المأساويّة في مقالة نشرتها منذ سنتيْن بعنوان “المقاومة والسّلطة” وقلت فيها: “عندما يُذكر الكفاح المسلّح لا بدّ أن تُذكر حركة “فتح”، فهي صاحبة الفضل وقصب السّبق في تفجير هذا الأسلوب الكفاحيّ سنة (1965) فكان هذا التّفجير بمثابة الإحياء الوطنيّ والكفاحيّ بعد سنوات طويلة من الذّهول الوطنيّ وصدمة “النّكبة” الكبرى القاتلة الّتي ألمّت وأحاقت بالشّعب الفلسطينيّ بعد سنة (1948) وبعد انسلاخه عن أرضه ومدنه وقراه وترابه، وتغييبه وتشريده في أصقاع المنافي ليتحوّل إلى جماعات متناثرة في أماكن منفصلة من اللاجئين المحرومين من لقمة العيش والملاحقين بالظّلم والكبت والعذاب. وأمّا الانتفاضة فكانت أولى الشّرارات لاندلاع لهيب النّضال الشّعبيّ ضدّ قوّات الجيش الإسرائيليّ المحتلّ والمستوطنين المتطرّفين، والّذي كان فرسانه الأوائل أطفال الحجارة وسلاحه الأبرز المقلاع والحجر والمواجهة المباشرة بين الطّفل الفلسطينيّ الأعزل إلّا من إيمانه بمقلاعه وبالحرّيّة والحياة والجنديّ الإسرائيليّ المدجّج بالسّلاح والحقد والعنصريّة، لقد كانت مواجهة بين الجيش والشّعب، والجيش ينسحب ولكنّ الشّعب لا ينسحب! هذا هو حكم التّاريخ. لا أحد حتّى أعدى أعداء الحقّ الفلسطينيّ يستطيع نعت هذه “الانتفاضة” بالإرهاب، عندما يقاتل الطّفل والمقلاع والحجر أمام الجنديّ والدبّابّة والمدفع.
وجاءت “اتّفاقات أوسلو” وبكلّ ما ترتّب عنها من “سلطة” وأخمدت الشّرارة/ “الانتفاضة” فانكمش لهيب السّلاح وانكفأ العنفوان الكفاحيّ. كان الرّئيس “ياسر عرفات” رئيسًا للسّلطة الفلسطينيّة الّتي كان يجب أن تصبح دولة. لقد طولب بالتّخلّي عن السّلاح والتّمسّك بالسّلام فقط، فقالها مناشدًا العالم كلّه في “هيئة الأمم المتّحدة، أمام الجمعيّة العامّة: “لقد جئت حاملًا غصن الزّيتون في يدي وبندقيّة المقاتل من أجل الحرّيّة في الأخرى! لا تسقطوا غصن الزّيتون من يدي”! ظلّت البندقيّة والكفاح المسلّح خيارًا لتحقيق الأهداف الوطنيّة مع غصن الزّيتون رمزًا يبيّن الرّغبة في السّلام، ولم يأبه أحد ولم يحترم أحد هذه الرّغبة، أمّا إسرائيل فكانت كما يبدو تخاف من السّلام إذا لم يكن على مقاس عدوانيّتها وأطماعها واحتلالها أكثر ممّا تخاف من الحرب. “فلماذا تُرك الحصان وحيدًا” يا “محمود درويش”! وظلّ علم السّلام مرفوعًا وخيار السّلام مشرعًا حتّى رفعت الأنظمة العربيّة ملكيّة وجمهوريّة: ملوكًا ورؤساء وأمراء وسلاطين وشيوخًا وكلابًا ونعاجًا وأرانب وسلاحف أعلام الاستسلام البيضاء خفّاقة وخيار التّطبيع مشروعًا شرعيًّا.
ومع تقديري الكبير لزعامته ومسيرته المشهودة في قيادة النّضال الوطنيّ المسلّح، لكن ذهب السّلاح الّذي ينفع النّاس أمّا زبد الزّيتون كما نشهد اليوم فقد ذهب جفاء، وصارت المقاومة الفلسطينيّة “إرهابًا”، وصار كلّ من يقف ضدّ إسرائيل بعدوانها واحتلالها واستيطانها وكلّ موبقاتها “لاساميًّا” ويكره اليهود. وأنا من الّذين يعتقدون أنّ القائد المناضل والثّوريّ “أبو عمّار” رغم حنكته السّياسيّة وعمق تجاربه التّاريخيّة وحكمته الوطنيّة، رغم ذلك فإنّه قد ضُلّل بالوعود العربيّة الّتي أزمعت على الخيانة مسبقًا وبشكل مبرمج، أو أساء التّقدير والعواقب لجنونه بالجغرافيا على حدّ تحليلات مستشاره السّابق “نبيل عمرو” (1947) في كتابه “ياسر عرفات وجنون الجغرافيا”!
الانزلاقة الكبرى إلى الهاوية:
إنّ التّاريخ المشرّف والنّاصع لحركة “فتح” رائدة الكفاح المسلّح، الّتي تحدّث “أبو عمّار” عن اختيار اسمها: “أنا الّذي اقترحت الاسم وهو اختصار لِ “حركة تحرير وطنيّ فلسطينيّ” وأحرفها الأولى (ح.ت.و.ف) فحذفنا (الواو) وقلبنا الأحرف لتكون «فتح» لا يعطيها حقّ الحيدة عنه أو الانحراف أو القبول بأوهام مبنيّة على وعود عرقوبيّة صهيونيّة وأميركيّة وعربيّة، وبخاصّة عندما يكون قائدها زعيمًا مثل “ياسر عرفات”، ولا يعطيها الحقّ في التّنازل عن الثّورة والمقاومة والتّحوّل إلى سلطة واهنة، واهية لا تملك من أمرها الوطنيّ شيئًا، لا تملك إلّا تسيير الأعمال كمجلس بلديّ بأموال ممنوحة ومشروطة من دول ذات مصالح، من دول غربيّة مانحة تريد شراء الكفاح الفلسطينيّ بالمال وتحسين الظّروف الاقتصاديّة للشّعب الفلسطينيّ الّذي كان جائعًا ومنهوبة ثرواته، وما زال جائعًا ومنهوبة ثرواته “لقد أفسد المال الّذي أُغدق الثّورة”، ورحم الله “العمّ هو تشي منّه”. ولا يحقّ لكائن من كان بقصد أو بغير قصد بحسن تقدير سياسيّ أو بسوء تقدير سياسيّ قمع المقاومة الشّعبيّة في “الضّفّة الغربيّة” وَ “قطاع غزّة” وتبديد كلّ إنجازات الانتفاضة الشّعبيّة واستبدال الخيار الوطنيّ والشّعبيّ والثّوريّ المقاوم بخيار سلطويّ كسيح، يقع تحت طائلة إملاءات عربيّة، رجعيّة، خائنة، باعته وباعت قضيّته بثمن بخس للعدوّ الصّهيونيّ، وتحت شروط تمليها ظروف دوليّة قاهرة تهيمن عليها المشاريع الصّهيو – أميركيّة والتّخاذل الدّولي العامّ. والثّمن في البداية 28% من فلسطين التّاريخيّة وفي النّهاية كما نشهد اليوم ال28% تكاد تكون 0%، والدّولة الّتي ستقوم على هذه الرّقعة الضّيّقة إلى جانب إسرائيل الّتي ستحظى بِ 78% من فلسطين التّاريخيّة وفق حلّ الدّولتيْن بات في عداد الأموات وفي “خبر كان” “اتّفاقات أوسلو” الظّالمة والّتي تنكّر لها “أريئيل شارون” (1928 – 2014) من قبل ويتنكّر لها الآن “بنيامين نتنياهو” (1949) وكلّ اليمين الصّهيونيّ المتطرّف والحاكم في إسرائيل، وهو الأمر الّذي جعل الرّئيس الأميركيّ السّاقط “دونالد ترامب” (1946) يتمادى ويعلن عن “صفقة القرن” الّتي تجرّد الشّعب الفلسطينيّ من كافّة حقوقه الوطنيّة المشروعة، وعن تأييده للقدس الموحّدة إسرائيليًّا عاصمة أبديّة، ومن ثمّ ينقل السّفارة الأميركيّة إليها وسط صمت عربيّ خؤون، وصل إلى حدّ التّطبيع مع إسرائيل وتبادل الزّيارات والسّفارات معها بلا أقلّ ثمن تقدّمه إسرائيل. هذا هو الأمر الّذي جعل الرّئيس “عرفات” ييأس ولا يثق بأيّ زعيم أو نظام عربيّ، لأنّهم دفعوه إلى “أوسلو” وتركوه وحيدًا. نعم! لقد أجهضت “اتّفاقات أوسلو” ومحادثات السّلام اللّولبيّة والمفرغة من المضامين الوطنيّة الانتفاضة الأولى سنة (1987) إحدى أعظم أشكال الكفاح الوطنيّ الفلسطينيّ الشّعبيّ وأبرزها، أمّا الخيار السّلطويّ فيتباهى بإدخال حوالي نصف مليون فلسطينيّ بعد “أوسلو” إلى فلسطين، ولكن هناك حوالي عشرة ملايين فلسطينيّ في الشّتات! (فكم “أوسلو” وكم إجهاض وكم تنازل سيقدّم الفلسطينيّون حتّى يعود هؤلاء اللّاجئون) هذا الخيار السّلطويّ خاصّة بعد موت الرّئيس “عرفات” الّذي كان يرفض الإملاءات يملك احتلالًا ولا يملك مقاومة، يملك سجونًا ولا يملك حرّيّة، يملك صدقات ولا يملك اقتصادًا، يملك استيطانًا صهيونيًّا وشوارع التفافيّة وبيوت فلسطينيّة مهدومة ودمارًا في بناه التّحتيّة، يملك برلمانًا ولا يملك قرارات ويملك إملاءات خارجيّة ولا يملك إرادات وطنيّة داخليّة. سلطة وطنيّة أبرز تصريحات رئيسها الثّاني “محمود عبّاس” (1935) الّذي لا يرفض شيئًا بعد موت الرّئيس “ياسر عرفات”: “لا أريد صفد” وكأنّ “جنين” تحت سيطرة سلطته الحقيقيّة، وثاني تصريحاته: “لا أريد القدس الغربيّة، مبروكة عليكم” وكأنّ الشّرقيّة عاصمة وطنيّة لسلطته ولم تضمّها إسرائيل مع الغربيّة بعد “أوسلو” لتصبح موحّدة وعاصمة إسرائيل الأبديّة، وثالث تصريحاته: “لن أحارب! سأناضل سلميًّا”! إنّه سلام الضّعيف ومسار الاستجداء، وكأنّ تحت إمرته كتائب من الجنود وأرتالًا من الدّبّابات وأسرابًا من الطّائرات وجحافل لا نراها من المعنويّات والقدرات العسكريّة، وكأنّه يسلك وفق حكمة النّبيّ العربيّ (ص) “العفو عند المقدرة”، وهو الذي لا يملك حقّ التّنقّل بين بلدة فلسطينيّة وأخرى بدون التّصريح والإذن من الاحتلال الإسرائيليّ. باختصار وبوضوح ووفقًا للنّتائج السّياسيّة الّتي ترتّبت عن “اتّفاقات أوسلو” ومحادثات السّلام في “مؤتمر مدريد” منذ حوالي 30 عامًا كانت هذه المحادثات والاتّفاقات أو المبادئ وبالًا على القضيّة الفلسطينيّة وطنيًّا وعربيًّا ودوليًّا، واستطاعت أن تجهض الكفاح الفلسطينيّ على طول الفترة الّتي امتدّت منذ سنة (1965) تاريخ انطلاقة حركة “فتح” والكفاح المسلّح حتّى “أوسلو” والإجهاض العظيم. لقد كان التّحوّل من ثورة فلسطينيّة فاعلة ومقاومة كفاحيّة إلى سلطة كسيحة بلا فعل وبرلمان خامل بلا قرار، كارثة أحاقت بكلّ شيء فلسطينيّ وزعزعت أركان الكفاح الوطنيّ، ولم تُبقِ شيئًا من أركانه وأشكاله ولم تذر شيئًا في مكانه. لقد سارت حركة “فتح” بعد “أوسلو” إلى حتفها الوطنيّ برغبتها أو بإرادتها أو باستدراجها أو بتنازلها، والأوْلى أن يعود اسمها إلى ما كان عليه قبل قلب الحروف، وسواء بقيت الواو أو حذفت.
من مدريد حتّى أوسلو:
انعقد مؤتمر السّلام في العاصمة الإسبانيّة “مدريد” في 30 تشرين الأوّل سنة (1991) برعاية الولايات المتّحدة الأميركيّة والاتّحاد السّوفييتيّ، وكان هذا الأخير يلفظ أنفاسه الأخيرة ما يعني في التّقديرات السّياسيّة خسارة القضيّة الفلسطينيّة المشروعة لموقف صديق قويّ وثابت، فقد كان ملخّص خطاب “ميخائيل غورباتشوف” الرّئيس الأخير للاتّحاد السّوفييتيّ مطالبة المؤتمِرين بضرورة تطبيع وجود إسرائيل وكأنّها هي المهدّدة بالغياب وليس الشّعب الفلسطينيّ المغيّب والمنكوب منذ سبعة عقود، وليس ضياع فلسطين قبل “مؤتمر مدريد” بأربعين عامًا. لقد كان المؤتمر بحثًا لحلّ يشارك فيه العرب والفلسطينيّون لتأمين الوجود الإسرائيليّ الكولونياليّ والاحتلاليّ ولإضفاء الشّرعيّة عليه، وهو الّذي يحتلّ كلّ فلسطين وأجزاء من أربع دول عربيّة، ولحماية الأمن الإسرائيليّ وحفظه لتعيش بلا تهديد من العرب والفلسطينيّين، لقد كانت إسرائيل “حملًا وديعًا”. ومن أبشع صور هذا المؤتمر استبعاد “منظّمة التّحرير الفلسطينيّة” عن المشاركة بالمؤتمر إرضاء لإسرائيل ورئيس حكومتها اليمينيّ “إسحاق شمير” (1915 – 2012) والمنظّمة معترف بها من كلّ الدّول العربيّة والإسلاميّة (دول عربيّة وإسلاميّة تعدّ 1500 مليون لا تستطيع أن تفرض شيئًا بل تقبل مُهانة ومذلولة بفروض الغير وشروطهم، وإسرائيل ذات ستّة الملايين بمؤازرة أميركا والغرب تفرض ما تريد على العرب والقوى الكبرى) وتحظى فلسطين دوليًّا باعتراف من عدد كبير من دول العالم يفوق عدد الدّول الّتي تعترف بإسرائيل، مع ذلك فإنّ “ياسر عرفات” لا يستطيع المشاركة والحضور. ولا يحظى الوفد الفلسطينيّ وهو صاحب لبّ قضيّة الصّراع باستقلاليّة وطنيّة، بل يلصق مع الوفد الأردنيّ. لقد كانت محادثات السّلام هذه والّتي امتدّت على ثلاثة أيّام بهدف إحياء المفاوضات بين إسرائيل وسائر الوفود العربيّة المنفصلة، إذ لم تقبل إسرائيل بوفد عربيّ موحّد، واستجيب لطلب سيادتها بالتّفريق. وكان محور البحث يتركّز على مبدأ “الأرض مقابل السّلام”، في هذه الأثناء خسر الرّئيس الأميركيّ من الحزب الجمهوريّ “جورج بوش الأب” (1924 – 2018) الانتخابات الأميركيّة لصالح الرّئيس من الحزب الدّيمقراطيّ “بيل كلينتون” (1946) وخسر “إسحاق شمير” وحزب “اللّيكود” في الانتخابات الإسرائيليّة الحكم لصالح “إسحاق رابين” (1922 – 1995) من حزب “العمل”، وأفضت المحادثات السّلميّة في “مدريد” إلى اتّفاقات “أوسلو” الّذي يمنع في الحقيقة قيام دولة فلسطينيّة مستقلّة وذات سيادة، وقد أسفرت فيما بعد عن اتّفاق “وادي عربة” للسّلام المنفرد الثّاني الخيانيّ بين الأردن وإسرائيل بعد الاتّفاق المنفرد الخيانيّ الأوّل الّذي وقّعه الرّئيس “المؤمن أنور السّادات” (1918 – 1981) ورئيس الحكومة الإسرائيليّة المتطرّف “مناحيم بيغن” (1913 – 1992) لقد بدأ النّهج الخيانيّ القوميّ العربيّ الرّسميّ منذ زار “السّادات” إسرائيل بِ “عبور سياسيّ” كما كان “العبور” العسكريّ مرورًا بكلّ محادثات الذّلّ والسّلام حتّى مظاهر الهرولة والتّطبيع الّتي نشهدها اليوم بين بعض دول الخليج والسّودان والمغرب، والبعض ينتظر “بشرعة لسانه وريالته النّازلة”.
“فيا نجمةَ داوودَ ابتهجي!
ويا محفلَ ماسونَ ترنّحْ طربًا!
ويا إصبعَ كيسنجرَ!
إنَّ الاستَ الملكيَّ سداسيٌّ”! ورحم الله الشّاعر العراقيّ “مظفّر النّواب” (1934)
وإثر ذلك نجح الرّئيس الأميركيّ الجديد “بيل كلينتون” في إجراء اتّصالات سرّيّة بين “ياسر عرفات” رئيس “منظّمة التّحرير الفلسطينيّة” ورئيس الحكومة المنتخب في إسرائيل “إسحاق رابين”، ليبدأ مسار جديد يفضي إلى اتّفاقات “أوسلو” تبدأ بخطوة أولى إلى اتّفاق حول إقامة سلطة فلسطينيّة في “غزّة وأريحا أوّلًا” سنة (1993) والّذي مهّد لقيام السّلطة الوطنيّة الفلسطينيّة في الضّفّة الغربيّة وقطاع غزّة سنة (1994) برئاسة ال ”charment” “ياسر عرفات” وليس ال “presdent”، وهذا بحدّ ذاته يقول الكثير وأبرزه: “لا حرّيّة! لا استقلال! لا دولة! لا سيادة! لا استعادة حتّى ال22% من الأرض! لا قدس! لا عودة لاجئين! لا شيء يلبّي جزءًا من الحُلم الوطنيّ الفلسطينيّ الّذي آمن بحقّ دولته في القيام وبتحقيق مشروعه الوطنيّ في الإنجاز “ياسر عرفات” منذ عقود من الكفاح الثّوريّ! وكانت هذه المكائد من “مدريد” حتّى “أوسلو” هي الانزلاقة الكبرى نحو الهاوية الوطنيّة الّتي رُسمت وأُعدّت على أيدي المهندسين الغربيّين والعرب على حدّ سواء أمام صمت مخجل من دول العالم ولا فاعليّة هيئة الأمم المتّحدة الّتي فقدت مصداقيّتها بالكامل.

آراء ونقاش ولكنّها خطيئة:
وقد كانت “اتّفاقات أوسلو” محلّ جدل ونقاش ومواقف متباينة بين الكثيرين من المثقّفين والمحلّلين السّياسيّين وأصحاب الرّأي الفلسطينيّين، باعتبارها لم تحقّق الاستقلال الوطنيّ التّام ولم تفضِ إلى دولة مستقلّة بلا قيود، بل أفضت إلى حكم ذاتيّ وتبادل اعتراف بين إسرائيل والمنظّمة، الأمر الّذي ضمن لإسرائيل وجودها المهزوز شرعيًّا والّذي انتظرته منذ قيامها الكولونياليّ الاحتلاليّ، وثمّة من يرى من الفلسطينيّين أنّ “أوسلو” حقّق بعض “الإنجازات” أبرزها اعتراف إسرائيل لأوّل مرّة بوجود الشّعب الفلسطينيّ وبقيادة ممثّله الوحيد “منظّمة التّحرير الفلسطينيّة” وبكيان فلسطينيّ له في أجزاء من “الضّفّة الغربيّة” وَ “قطاع غزّة”. ولكنّ “المنظّمة” (م.ت.ف) الّتي اعترفت بها إسرائيل هي ليست رائدة وقائدة الكفاح الثّوريّ الفلسطينيّ بل هي المنظّمة المقصوصة الجناح والمنزوعة الحول والطّول، والّتي اعترفت بحقّ إسرائيل في العيش بسلام على 78% من التّراب الفلسطينيّ ووافقت على تعديل فقرات الميثاق الوطنيّ الدّاعية للعنف والنّضال ضدّ إسرائيل، ووافقت على إرجاء القضايا الكبرى “العالقة”: القدس، اللّاجئين، المستوطنات، الأمن والحدود لثلاث سنوات تتمّ بعدها المحادثات بين الطّرفيْن حول الوضع الدّائم أو الحلّ النّهائيّ. كلّ ذلك قدّمته “المنظّمة” لإسرائيل قبل أن تخلع إسرائيل لباسها العدوانيّ وقبل أن تتنازل عن حلمها بأرض إسرائيل الكاملة، وقبل أن توقف البناء الاستيطانيّ والتّوسّع ونهب الثّروات الفلسطينيّة الأساسيّة. لقد صارت إسرائيل قطرًا شقيقًا كما وصفها الفنّان “دريد لحّام” (1934) في المسرحيّة السّاخرة “كاسك يا وطن” وأصبح العرب اثنتيْن وعشرين قطرًا “بفضل” أنظمتهم الطّوائفيّة، “القوميّة” وغدوا مللًا ونحلًا وطوائف كما كانوا في زمان ملوك الطّوائف في “الأندلس” المفقود.
وقد قلت في قصيدة لي بعنوان “أيّتها الدّيار العامرة ابشري بالخراب”، ستنشر في ديواني القادم الّذي سيصدر قريبًا بعنوان “ابن رشد يورق في الاحتراق”:
“سامَ قُدسَ المكانِ ملوكُ الطّوائفِ خسفًا
ثُمَّ استباحوا طهارةَ عِرضِ السّنينْ
وصاروا عِبادَ الطّوافِ السّياسيِّ
حولَ الدّنانِ معَ الماجنينْ
وصاروا أدْوَرَ مَنْ أدارَ كؤوسَ المدامِ
وأمتنَ مَنْ أتى بمُتونِ الكلامِ
حولَ التّفاوضِ وفتحِ الفخذيْنِ وارتعادِ الفرائصِ
أمامَ السّننِ الدّوليّةِ ومهزلةِ الالتزامِ
بحثٍّ حثيثٍ أسندوا بعدَ جهدٍ جهيدٍ
سبيلَ السّلاحِ لكرسي كُساحِ السّلامِ
جموحَ الخيولِ لكبحِ اللجامِ
وصاروا يتامى يستعطفونَ الصّحونَ
ملاعقَ ذلِّ السّؤالِ ولقمةَ خبزٍ كسيرٍ فوقَ خُوانِ اللئامِ”.
أمّا المعارضون لهذه الاتّفاقات، ومن أبرزهم: الشّاعر الكبير “محمود درويش” (1941 – 2008) والباحث الشّهير “إدوارد سعيد” (1935 – 2003) فقد قالوا: “منظّمة التّحرير الفلسطينيّة” حوّلت نفسها من حركة تحرّر وطنيّ إلى ما يشبه حكومة بلديّة صغيرة، مع بقاء ذات الحفنة من الأشخاص في القيادة”. وهناك من قال: “أوسلو ميّت ولم يبقَ منه إلّا ما يخدم مصالح إسرائيل، ولم يكن إلّا محطّة للهروب من الواقع العربيّ الّذي ضيّق الخناق على الفلسطينيّين آنذاك، ولذلك على الفلسطينييّن شقّ طريقهم من جديد لمواجهة الأخطار”. وفي ذكرى مرور خمسة وعشرين عامًا على هذه الاتّفاقات تناولت صحف عربيّة بالنّقد واصفينها بأنّها كانت “خطيئة سياسيّة”، كما رأى البعض أنّ “أوسلو” مهّد لزيادة حدّة الإرهاب الإسرائيليّ. وقد وصف موقع “فلسطين اليوم” الاتّفاق بأنّه “مشؤوم”، بينما وصفه موقع “الخليج أونلاين” الإماراتيّ بأنّه خطيئة سياسيّة يدفع الفلسطينيّون ثمنها منذ ربع قرن. أمّا الإعلاميّ الفلسطينيّ “عبد الباري عطوان” (1950) فقد وصف الاتّفاقيّة في صحيفة “رأي اليوم” بأنّها “مصيدة”، وقال: “في مثل هذا اليوم قبل ربع قرن، دخلت قيادة “منظّمة التّحرير الفلسطينيّة” والشّعب الفلسطينيّ أكبر مصيدة في العصر العربيّ الحديث، نصبها لها الإسرائيليّون وحلفاؤهم الغربيّون وبعض العرب بدقّة، ودخلت في دهاليزها وهي مفتوحة العينيْن، مصدّقة كذبة السّلام وإقامة الدّولة الفلسطينيّة المستقلّة، وهي كذبة فضحتها الوقائع اللّاحقة على الأرض”.
ورغم ما هناك من مواقف متباينة مؤيّدة أو معارضة، تبقى محادثات ” مدريد” ومبادئ “أوسلو” ومباحثات “واشنطن” وكلّ ما تمخّض عنها منذ ذلك الوقت حتّى اليوم خطيئة ارتكبتها أميركا وإسرائيل وبعض الأنظمة العربيّة بحقّ الشّعب الفلسطينيّ العظيم وبحقّ قيادته الوطنيّة وبحقّ الكفاح الفلسطينيّ والمقاومة المشروعة بكافّة الأشكال والوسائل، ومن أبرزها الكفاح المسلّح والانتفاضة الشّعبية. لقد انتصرت حركة “26 يوليو” على الطّغمة الدكتاتوريّة في كوبا بالسّلاح والمقاومة الشعبيّة، وانتصر حزب “المؤتمر الوطنيّ” على نظام التّفرقة العنصريّة الأبيض في جنوب أفريقيا بالسّلاح والمقاومة الشّعبيّة، وانتصر الحزب “الشّيوعيّ” وحركة “الفيتكونغ” في فيتنام على أربعة استعمارات بالسّلاح والمقاومة، وانتصرت حركة “الضّباط الأحرار” على العدوان الثّلاثيّ بالسّلاح والمقاومة الشّعبيّة الباسلة. فكيف ستنتصر الثّورة الفلسطينيّة بالتّفاوض فقط، وبلا سلاح أو مقاومة على أعداء أشدّ عتوًّا وأكثر شراسة وحقدًا وعنصريّة!
ومع ذلك يبقى عرفات رمزًا عظيمًا:
فقد قاد مختلف مراحل النّضال الوطنيّ منذ انطلاقة الثّورة المعاصرة بحنكة القائد المكافح والرّمز ذي الدّراية الواسعة والإرادة الحديديّة والصّمود الأسطوريّ أمام كلّ التّحديّات، وبقدرة قائد مثل “أبو عمّار” كان يمكن تحويل الكثير من الانتكاسات إلى انتصارات سجّلها له التّاريخ النّضاليّ الفلسطينيّ والعربيّ والإنسانيّ، والّتي ستكتب سطورها بماء من ذهب وخيوط من نور لتبقى شاهدة على عظمته الّتي لم تكن محلّ جدل أو نقاش أو تباين في الآراء. ستذكرها الأجيال القادمة إلى أمد بعيد. لقد كان “ياسر عرفات” إجماعًا وطنيًّا فلسطينيًّا شاملًا. رغم سقطة “أوسلو” فقد يكبو الهمام، يبقى “ياسر عرفات” زعيمًا فلسطينيًّا وعربيًا من فريق الرّئيس الوطنيّ المصريّ والقوميّ العربيّ “جمال عبد النّاصر”، لقد كان القائد الوطنيّ الكبير والمؤسّس لمسيرة الكفاح والمعلّم الأوّل في مضامينها الثّوريّة وزعيم الثّورة الفلسطينيّة الميدانيّ الّذي حمل روحه على كفّه، الشّهيد الرّمز “أبو عمار”:
“فإمّا حياةٌ تسرُّ الصّديقَ وإمّا ممات يغيظُ العدا”
ورحم الله الشّاعر الفلسطينيّ المناضل “عبد الرّحيم محمود” (1913 – 1948)
ولذلك أصبح “ياسر عرفات” ما صار عليه، فكلّ شجرة كانت ذات يوم بذرة ونبتة صغيرة، لكنّ بعض الأشجار تموت في منتصف الطّريق وتتحوّل إلى حطب جافّ وبائس، أمّا تلك الغرسة الّتي ستطول فروعها إلى السّحاب، فهي الّتي تملك المواصفات الّتي ستوصلها ذات يوم إلى هناك، وقد كان “ياسر عرفات” واحدًا من تلك الأشجار التي غرست جذورها عميقًا، وانتصبت وظلّت واقفة طيلة مسيرة النّضال والإثمار، وما زالت فروعها تتمدّد محلّقة إلى سماء مجد الحياة والكرامة، وحين استشهد مات واقفًا كالأشجار الباسقة والدّائمة الإيناع والبراعم وخضرة الكفاح.
رئيس دولة فلسطين العتيدة ومؤسّس حركة التّحرير الوطنيّ الفلسطينيّ “فتح ” مفجّرة الكفاح المسلّح في الفاتح من كانون الثّاني سنة (1965) وكان قائدها العامّ، ورئيس منظّمة التّحرير الفلسطينيّة وقد جعلها الممثّل الوحيد للشّعب الفلسطينيّ المعترف به عربيًّا ودوليًّا. وكان إلى جانب ذلك كلّه الدّاعم الأوّل لتأسيس “كتائب شهداء الأقصى” الذّراع العسكريّ لحركة “فتح”. كان القائد “ياسر عرفات” صاحب رحلة طويلة من المطاردة والمقاومة والمثابرة والثّبات. ففي كلّ موقع له ذكرى، وفي كلّ مواجهة كنت تجده حاضرًا بين المقاتلين لرفع معنويّاتهم، تعرفه جيّدًا أزقّة المخيّمات في لبنان، يهاجم هنا ويتصدّى هناك ويخطّط للقادم.
أين نشأ، من أين بدأ:
يصعب أن تكتب عن قائد شعبنا الفلسطينيّ وتبقى ملازمًا للموضوعيّة العلميّة، لأنّ شخصيّة كشخصيّة “أبو عمّار” تفرض عليك بعضًا بل كثيرًا من العاطفة الجيّاشة والمشحونة بالأحاسيس الذّاتيّة والمواقف المتماهية نحو “ياسر عرفات” الإنسان والقائد والمجنَّد عند كلّ ذرّة تراب من تراب فلسطين وعند كلّ حرف من حروف أسماء قراها ومدنها وجبالها وتلالها وأنهارها وجداولها وخِرَبها، وعند كلّ مفصل من مفاصل تاريخها المجيد على مدى الاحتلالات المتوالية والمتغيّرة: التّركيّة والإنجليزيّة والصّهيونيّة والنّضالات الفلسطينيّة الثّابتة على مدى الظّلم الاستعماريّ. لقد كان لي شرف لقائه ومعانقته لمرّة واحدة، هي ما استطعت إليه سبيلًا مع وفد من الحزب الشّيوعيّ والجبهة الدّيمقراطيّة من الدّاخل الفلسطينيّ، في مقاطعة “رام الله” بعد رجوعه إلى أرض الوطن. لقد كان “ياسر عرفات” على طول مسيرته أصعب الأرقام أمام جحافل التّكالب على فلسطين العربيّة. فأين نشأ ومن أين بدأ هذا الهمام الّذي كبا جسدًا في غمرة التّخاذل العربيّ الرّسميّ وخنوع أنظمة لا تجيد إلّا القمع لشعوبها وإلّا الانبطاح أمام أعداء تلك الشّعوب، وعلى رأسها الشّعب الفلسطينيّ الصّامد والصّابر والقابض على الجمر، ولكنّ “ياسر عرفات” لم يكبُ روحًا وكفاحًا ورمزيّة للنّضال الوطنيّ والحضاريّ، وظلّ منارة تهدي الثّوّار في العالم العربيّ والعالم الواسع إلى سارية ضياء الكفاح الوطنيّ والنّضال الثّوريّ، تتعلّم منه كي تحظى بالعدالة والحرّيّة والاستقلال والكرامة.
تؤكّد دراسات علم النّفس وعلم الاجتماع حقيقة اكتمال الذّات الفرديّة بواسطة المجتمع الّذي تعيش فيه، فالشّخصيّة الإنسانيّة تتكوّن من مكوّنيّن غير منفصليْن: الذّات الفرديّة والذّات الجماعيّة وكلاهما تكمّل الأخرى فالفرديّة تنبثق من الدّوافع الدّاخليّة للذّات والاجتماعيّة تتغذّى وتتأثّر من خلال تفاعل الشّخصيّة وانخراطها في البيئة والمحيط الاجتماعيّ فتزداد بهذا نضوجًا واكتمالًا. ومع أنّ الإنسان كلّ لا يتجزّأ فإنّه ليس بناء ثابتًا بل متغيّرًا ومضطربًا مع تغيّر حركة المجتمع واضطراباته الدّائمة، ولذلك لا بدّ عند دراسة شخصيّة لها أهمّيّتها التّاريخيّة ومكانتها السّامية ومسيرتها العظيمة كشخصيّة “ياسر عرفات”، كي ندرك أسرار مكوّنات عظمتها لا بدّ من التّجزيئات والتّقسيمات الّتي تكوّن الشّخصيّة المتكاملة.
في أحد أحياء “قاهرة المعزّ” عاصمة مصر العروبة، في 4 آب سنة (1929) ولد “محمّد عبد الرّحمن عبد الرّؤوف عرفات القدوة الحسينيّ” ورأت عيناه النّور، لأسرة فلسطينيّة تنتمي لعائلة “القدوة” الغزّيّة والّتي تعود جذورها لقبيلة “الحسينيّ” المقدسيّة ذات التّاريخ الوطنيّ المجيد، والّتي أنجبت كوكبة من المناضلين الفلسطينيّين، أبرزهم شيخ المجاهدين الفلسطينيّين “موسى كاظم الحسينيّ” (1853 – 1934) أوّل من رفع صوته متحدّيًا الانتداب البريطانيّ، ودعا للاحتجاج في أوّل مظاهرة غضب شعبيّة انطلقت سنة (1920) إلى آخر مظاهرة كانت في “يافا” سنة (1933) وفيها انهال عليه رجال الأمن البريطانيّ بضربات شديدة على رأسه، وظلّ طريح الفراش حتّى استشهد في يافا سنة (1934) أمّا ابنه “عبد القادر الحسينيّ” (1907 – 1948) فكان قائد جناح من أجنحة المقاومة الفلسطينيّة للانتداب البريطانيّ ولحليفته المغتصبة الحركة الصّهيونيّة قبل سنة النّكبة (1948) وقد قاد عدّة معارك ضدّ العصابات الصّهيونيّة، استشهد في إحداها، وقد دامت لثمانية أيّام متواصلة، استشهد في “القدس” سنة (1948) إمّا حفيده ونجل “عبد القادر” فهو “فيصل الحسينيّ” (1940 – 2001) فقد كان قائدًا سياسيًّا ومناضلًا ضدّ الاحتلال سنة (1967) فقاد المظاهرات وسجن أكثر من مرّة، وكان قائدًا من قادة الانتفاضة الأولى وأحد أعضاء الوفد الفلسطينيّ في محادثات “أوسلو” وقد وصفه داعية التّرانسفير الوزير العنصريّ “رحبعام زئيفي” (1926 – 2001) بِ “الإرهابيّ بن الإرهابيّ” – اغتيل “رحبعام زئيفي” على يد أفراد من “الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين” سنة 2001 في “القدس” انتقامًا لاغتيال قوّات الاحتلال الإسرائيليّ للقائد “أبو علي مصطفى” (1938 – 2001) القائد في الجبهة الشّعبيّة – لأنّ “فيصل الحسينيّ” دافع عن عروبة “القدس” بعد أن كان مسؤولًا عن ملفّها في السّلطة الفلسطينيّة، ورئس “جمعيّة الدّراسات العربيّة” أو ما سمّي “بيت الشّرق” ولقّب بِ “أمير القدس” وظلّ يمارس مقاومته بكافّة أشكالها حتّى توفّي في الكويت سنة (2001)
وعودة إلى ياسر عرفات:
على هذا النّبض الوطنيّ والعلميّ والجهاديّ ولد ونشأ في أجواء “القاهرة” المقاومة للانتداب البريطانيّ، كانت جدّته مصريّة، أمّا أبوه “عبد الرّؤوف القدوة” (1860 – 1952) فغزيّ كان تاجرًا للأقمشة في حيّ “السّكاكيني”، حيث ولد “ياسر عرفات” ابنًا سادسًا لأسرة من سبعة أخوة، أصغرهم “فتحي عرفات” (1933 – 2004) الطّبيب الّذي أصبح رئيسًا لِ “مؤسّسة ياسر عرفات”، وأمّه “زهوة أبو السّعود” (توفّيت في 1933) مقدسيّة تعود جذورها لعائلة “الحسينيّ” وقد توفّيت وعمر “ياسر” أربع سنوات، فكانت هذه صدمة أولى ألمّت بالطّفل الصّغير. في هذه الأجواء المصريّة قضى مراحل طفولته وشبابه المبكّر، ومن هذه الأجواء كما يبدو جاءت لهجته المصريّة. ومنذ صغره كان منخرطًا ببيئته المصريّة والفلسطينيّة، وبعد موت الأمّ انتقل مع أخيه الأصغر “فتحي” ليعيش مع خاله “سالم أبو السّعود” في “القدس” وظلّ فيها حتّى سنّ الثّامنة.
كانت “القدس” ملعب الطّفولة المحبّب، هناك بالقرب من “الحرم القدسيّ” وقبّة “الصّخرة” وحائط “البراق” وكنيسة “القيامة” نما عشقه لهذه المدينة الّتي ظلّت عزيزة على قلبه وظلّ وفيًّا لها، المدينة الّتي رفض التّنازل عنها ودفع حياته الغالية ثمنًا لذاك الوفاء. وفي “القدس” كما في سائر فلسطين ترين أجواء الاحتلال والنّضال والمقاومة، كيف لا يشعر “ياسر” بذلك وهو المولود سنة ثورة “البراق” سنة (1929) وقد عاش وهو ابن السّابعة إرهاصات ثورة سنة (1936) الّتي قادها الشّيخ “عزّ الدّين القسّام” (1883 – 1935) وفي “القدس” الّتي كان يتردّد إليها كثيرًا في شبابه تعرّف لاحقًا على الحاجّ “أمين الحسينيّ” (1895 – 1974) الّذي لعب دورًا في الصّراع العربيّ – الإسرائيليّ، ومن ثمّ عاد “ياسر عرفات” والتقاه في بداية سبعينيّات القرن الماضي وقال له وهو يشدّه من بزّته العسكريّة وبلهجة عامّيّة: “أنا سلّمتك إيّاها نظيفة وخلّيها نظيفة يا أبو عمّار”.
نما حبّه للنّضال منذ طفولته، إذ كان يدعو أخاه الصّغير: “تعال نلعب لعبة تحرير فلسطين”، وفي أحداث الثّورة الكبرى تلك بدأ يمارس كفاحه الفعليّ وهو ابن سبع سنوات، إذ ساهم مع أترابه برشق الحجارة على الدّوريّات البريطانيّة وبوضع المسامير تحت عجلاتها، ومن أبرز الأحداث الّتي رسخت في أعماقه الطّفل الجريحة وعمّقت من كراهيته للظّلم والاحتلال حادثة اعتقال خاله واقتياده إلى السّجن وحين اعترض الطّفل انهال الجنود بالضّرب على رأسه حتّى سال دمه.

وعودة إلى القاهرة:
بعد أن تزوّج أبوه زوجة ثانية، مصريّة تدعى “نظيرة غزّولي” عاد “ياسر” إلى القاهرة مع أخوته: “إنعام” الكبرى (1916 – 1999) وَ “د. جمال” (1919 – 1989) وقد كان سفيرًا لفلسطين في “الخرطوم” وَ “صنعاء”، وله كتابات سياسيّة وتاريخيّة وأدبيّة وَ “يسرى” وَ “مصطفى” وَ “خديجة” وَ “فتحي” الأصغر، ليعيشوا مع أبيه في حيّ السّكاكينيّ”، كان أبوه صارمًا في تربية أبنائه، متديّنًا، معتدلًا، قائمًا بالفرائض الدّينيّة، وقد علّم أبناءه ونمّى فيهم أصول الدّين الحنيف، السّمح والمعتدل واحترام الآخرين بغضّ النّظر عن انتماءاتهم أو أعراقهم، فنما “ياسر” على تربية التّسامح الدّينيّ، في الحيّ الّذي سكن فيه المسلم إلى جانب المسيحيّ واليهوديّ، لقد نشأ في بيئة متديّنة محافظة ولكنّها منفتحة وتحترم الأديان الأخرى، وقد كان يذكر أباه فيقول: “توفّي أبي دون أن يترك لي إرثًا مادّيًّا، ولكنّه أورثني كنزيْن: الشّجاعة والإيمان الدّينيّ” وتوفّيت زوجة الأب الثّانية السّيّدة “نظيرة”، فتزوّج من ثالثة مصريّة أيضًا هي “فاطمة الزّهراء حمدي” وأنجبت ولدًا واحدًا وابنتيْن اثنتيْن. لقد رعى “ياسر” أخاه الصّغير “فتحي” وأحبّ “إنعام” أخته البكر الّتي رعته واعتبرها أمًّا ثانية، وكان الشّبّان الثّوار من “فتح” عندما يجتمعون في بيته يطلقون عليها لقب “أمّ المؤمنين” لعنايتها الفائقة بهم، وكانت في صغره تلومه وتعنّفه إذا هرب من المدرسة فيقول لها: “نعم سيّدي الجنرال”، فالحسّ العسكريّ كان ينمو فيه منذ نعومة أظفاره ومنذ خشونة الظّروف الوطنيّة. وكثيرًا ما كانت تجري وراءه لتردعه لصغر سنّه عن المشاركة في المظاهرات، فلا يرتدع رغم أنّها كانت تمنع عنه المصروف ويواصل نشاطه الكفاحيّ الغضّ. ومنذ صغره كان تبدو عليه علامات تحمّل المسؤوليّة وأمارات الشّخصيّة القياديّة نحو الأسرة والمحيط، فقد كان يقوم بكلّ الأعمال المنزليّة ويحضّر يوميًّا فطور الأسرة ويقوم بعمليّات التّنظيف المنزليّ وترتيب الملابس وغيرها، إنّ هذا الإحساس المبكّر بالمسؤوليّة جعل من هذا الطّفل البريء رجلًا واعدًا وقائدًا يشار إليه بالبنان. وعندما مات قطّه شيّعه بجنازة عسكريّة كان هو قائدها وخطيبها، ومن هنا نما حبّه للقراءة والخطابة والمشاركة في المظاهرات، وقد ألقى خطابًا في إحداها، وغدا “عرفات” صاحب الخطابات الحماسيّة والنّاريّة. لم يصبح هذا الطّفل قائدًا من فراغ، بل من امتلاء عنفوانيّ منذ طفولته. وكان منذ صغره قادرًا على الإقناع بمنطق سليم، فيذكر أنّ أخته “إنعام” شكت إليه حالة أخيه “فتحي” الصّحيّة الّذي لا يأكل اللّحم، وأرادت من “ياسر” أن يقنعه بتناول اللّحوم المهمّة لبنية الجسم، فقال له: “الأسود تأكل اللّحوم والخِراف تأكل الأعشاب، أنا أحبّ أن أكون أسدًا فهل تحبّ أنت أن تكون خروفًا”! فاقتنع “فتحي” بكلام أخيه وكان “ياسر” آنذاك ابن الثانية عشرة من عمره بينما عمر “فتحي” ثماني سنوات.
مراحل تعلّم وبدايات كفاحيّة:
سوف يتخرّج “ياسر عرفات” مهندسًا من جامعة “القاهرة” سنة (1955) تتويجًا لهذا الميل نحو الهندسة والتّخطيط والتّنظيم منذ الطّفولة، وتتويجًا لمرحلتيْن تعليميّتيْن في الابتدائيّة والثّانويّة، كان يصنع من كلّ الأشياء الطفوليّة أشكالًا للأسلحة. بعد عودته إلى القاهرة للعيش في كنف أبيه وزوجته الجديدة التحق “ياسر” بمدرسة “مصر الابتدائيّة” في هذه المرحلة المبكّرة أظهر ميلًا نحو المعرفة والثّقافة، وهو الأمر الّذي تبلور فيه في المرحلة الثّانويّة، في هذه الأثناء عايش الطّفل الكبير أحداث معارك الحرب العالميّة الثانية في “العلمين” على أرض مصر، ورأى آلاف اللّاجئين وهم يتدفّقون على “القاهرة” من “الإسكندريّة” وغيرها، أولئك الّذين تعرضّت منازلهم للقصف والهدم، والجرحى الّذين أصيبوا جرّاء القصف، لقد رأى صور اللّجوء وأدرك معاناة اللجوء ومعانيه مبكّرًا، كان يزور هؤلاء اللّاجئين والجرحى في المستشفيات هو وأصدقاؤه، كنوع من التّعاطف ومن الإحساس بالظّلم والمعاناة الّتي ألمّت بهؤلاء البسطاء، وكموقف رافض لهذه الممارسات والجرائم، ومن هذه الصّور تولّد فيه الميل إلى متابعة أخبار السّياسة والتّعرّف على أنواع الأسلحة.
سنة (1942) الحرب العالميّة الثّانية في صميم معمعانها وعلى جبهات متعدّدة في العالم، و”ياسر عرفات” طالب في المدرسة الثّانويّة، في سنّ الثالثة عشرة يميل إلى قراءة الصّحف والمجلّات والكتب التّاريخيّة والأدبيّة والدّينية، لقد كانت قراءاته صورة تعكس المناخ الّذي تربّى وترعرع فيه وعايش أحداثه وواكبها واضطرب مع اضطراباته المتغيّرة والمتسارعة، في سنة (1943) حضر ابن عمّه “محمّد جرّار القدوة” من “غزّة” إلى “القاهرة” لمتابعة دراسته الجامعيّة فزوّد “ياسر” القارئ النّهم بمجموعة من المجلّدات في التّحليلات السّياسيّة والاجتماعيّة والموسوعات التثقيفيّة في مجالات المعرفة الرّحيبة.
نستطيع القول أنّه في هذه الفترة ومع نهايات المرحلة الثّانويّة بدأ “ياسر عرفات” نشاطه السّياسيّ المبكّر من خلال النّقاشات الّتي أثيرت حول تحرير الوطن والاستعمار ومبادئ العدالة وحقوق الإنسان، ورغم كلّ هذا التّراكم للأحداث والمتغيّرات السّياسيّة فقد غزا الحبّ الفطريّ، الرّقيق، الرّومانسيّ، العفيف قلب اليافع “ياسر”، فوقع في هوى “نادية” جارته وصديقته وزميلته في المدرسة. كان ذاك هو الحبّ الأوّل السّاذج الّذي انتهى بعد انشغال العاشق بالسّياسة والكفاح.

بدايات الكفاح الفعليّ:
سنة (1948) وتراكم أحداث كبرى في فلسطين ومكائد وسياسات معلنة وغير معلنة وهجرات يهوديّة تتوالى كموج هموم “امرئ القيس” وعصابات صهيونيّة وانتداب آيل للزّوال “والقادم أخطر”، وحالة غامضة وقرارات ولجان وتقسيم وانتظار ومصير مجهول وتلمّس أخطار، ومقاومة لا ترقى إلى مكانة الأخطار وفلسطين في مهبّ ريح عاتية، كلّ ذلك ينذر بالنّكبة الكبرى واستلاب الوطن وتشريد الشّعب الفلسطينيّ وقيام الكيان المغتصب. منذ سنة (1945) وبعد الحرب العالميّة الثّانية بدأ “عرفات” نشاطه المقاوم من أجل تحرير الوطن من الانتداب البريطانيّ مع رؤيته المدركة لخطورة هجرة اليهود إلى فلسطين بموافقة بريطانيّة، وقد زادت معالم المؤامرة ومخاطرها وضوحًا، وبدأت هذه القضايا تتصدّر النّقاشات المكتوبة وغير المكتوبة في فلسطين والعالم العربيّ. مال “عرفات” في موقفه إلى موقف حركة “الإخوان المسلمين” في مصر، لإنّ الحركة كانت ترفض بشدّة مطامع الصّهيونيّة، ولكنّ “عرفات” لم ينتمِ تنظيميًّا إلى هذه الحركة إطلاقًا.
كانت مدرسة “الملك فاروق الأوّل” الثّانوية أكثر المدارس هدوءًا وركودًا، وبانتقال “عرفات” سنة (1947) إليها تحوّلت إلى مدرسة صاخبة بالاحتجاجات والمظاهرات بتأثيره وأصدقاءه، وصلت إلى حدّ عقابه بإيقافه عن الدّراسة لقيادته لكلّ تلك النّشاطات الكفاحيّة. والّتي تصاعدت حدّتها بعد صدور القرار رقم 181 قرار تقسيم فلسطين في 29 تشرين الثّاني سنة (1947) وهو القرار الأمميّ الّذي جاء تتويجًا لوعد “بلفور” البريطانيّ سنة (1917) الّذي “أعطى فيه من لا يملك لمن لا يستحقّ”. قاد “ياسر” هذه المظاهرات ولمّا يبلغ العشرين من عمره، وقد شارك أخوه “فتحي” فيها، وكثيرًا ما اعتقل القائد لوجوده دائمًا في الصّفوف الأماميّة.
الجامعة مفصل على طريق تنظيم الكفاح:
منذ هذه الفترة وإدراكًا لخطورة الأوضاع شرع “عرفات” مع شبّان فلسطينيّين ومصريّين في جمع المال وشراء الأسلحة من بدو صحراء “العلمين” لحساب قوّات “الجهاد المقدّس” بقيادة المناضل “عبد القادر الحسينيّ” الّذي استشهد في معركة “القسطل”، وقد كان يتمّ إرسال تلك الأسلحة إلى فلسطين. لقد تأثّر عرفات لموت القائد “الحسينيّ” كثيرًا، وتأثّر أكثر بعد ارتكاب العصابات الصّهيونيّة: “الأرغون” وَ “شتيرن” يوميْ 9 – 10 نيسان سنة (1948) مجزرة “دير ياسين”، وفيها قتل الإرهابيّون الصّهاينة 360 من أبرياء القرية العزّل، معظمهم من كبار السّنّ والنّساء والأطفال.
في الجامعة أصبح “عرفات” طالبًا في السّنة الأولى في كلّيّة الهندسة، وصار مناضلًا معروفًا في الأوساط الطّلّابيّة والجامعيّة، سنة (1948) كان يتابع تسارع الأحداث في فلسطين ويواكب طريق الآلام الفلسطينيّة والعربيّة، ولقد تأثّر لتلك المعاناة المأساويّة فدفعه ألمه وحماسه مع صديق فلسطينيّ له يدعى “حامد أبو ستّة” (1924 – 2008) يدرس في جامعة “القاهرة”، وهو من مؤسّسي “منظّمة التّحرير الفلسطينيّة” وعضو اللّجنة التّنفيذيّة فيها، وقد ولد في إحدى قرى منطقة “بئر السّبع” وتوفّي في “عمّان”، قرّرا معًا رمي الكتب والذّهاب إلى فلسطين لحمل السّلاح والكفاح دفاعًا عن الوطن والأرض، وقد شارك في القتال مع قوّات “الإخوان المسلمين” الّتي جاءت من مصر. وفي فلسطين انضمّ إلى جيش “الجهاد المقدّس” وعيّن فيما بعد ضابطًا في الاستخبارات العسكريّة. ولكنّه هناك شهد “النّكبة” بكلّ صورها السّوداء، (لقد رسم الشّاعر معين بسيسو بقلمه تلك الصّور السّوداء في قصيدته، السّيول) فعاد “عرفات” إلى “القاهرة” مرهقًا نفسيًّا ويغمره إحساس باليأس. تبدّلت أحواله بعدما شهده من هزيمة نكراء مُنيت بها الجيوش العربيّة في فلسطين وأحوال اللّاجئين الفلسطينيّين وأوضاعهم وبؤسهم وعذاباتهم، ولكنّ ذلك لم يثنه بعد فترة من الذّهول واليأس عن متابعة العمل على التّسلّح الأحسن والتّنظيم الأمتن، وقد اقتنع بعد الهزيمة العربيّة المخزية في فلسطين بمقولة: “لا يمكن للفلسطينيّين إلّا الاعتماد على أنفسهم وقواهم”.
بحجّة عدم امتلاك أبيه لحقّ الإقامة في مصر أبعدته السّلطات المصريّة، وفي الفترة نفسها تسوء أحوال الأسرة الاقتصاديّة، فيضطرّ “ياسر” أن يعمل مدرّسًا لإعالة أسرته والإنفاق على دراسته الّتي عاد إلي مقاعدها إلى كلّيّة الهندسة، في جامعة “القاهرة” سنة (1949) ومن هنا استأنف نشاطه السّياسيّ إلى جانب دراسته، وفي هذه الفترة بدأ طريقه إلى تنظيم العمل فأسّس مع مجموعة من الطّلاب الفلسطينيّين “رابطة الطّلّاب الفلسطينيّين” سنة (1950) وأصبح رئيسًا لها في العام التّالي (1951) ومن خلال هذا التّنظيم الجامعيّ سارع إلى إقامة شبكة علاقات سياسيّة ووطنيّة وكفاحيّة، بدأها بالتّعرّف على شخصيّتيْن بارزتيْن اثنتيْن في مؤتمر طلّابيّ: “خالد محيي الدّين” (1922 – 2018) وَ “كمال الدّين حسين” (1921 – 1999) من تنظيم “الضّباط الأحرار” الّذي قاد ثورة “23 يوليو” سنة (1952) بقيادة الرّئيس العروبيّ “جمال عبد النّاصر” (1918 – 1970) وأطاحت بحكم آخر ملك من سلالة “محمّد علي باشا” (1769 – 1849) وهو الملك “فاروق” (1920 – 1965) الّتي حكمت مصر حوالي 150 عامًا (1805 – 1952). ولعلّ هذه المرحلة هي الّتي شهدت إيمان “ياسر عرفات” بالكفاح المسلّح كطريق للتّحرير الوطنيّ، ففي أحد المؤتمرات الجامعيّة طلب إدراج كلمة تعلن فيها فلسطين والطلّاب الفلسطينيّون صوتهم، وكان له ذلك فقال جملته الشّهيرة والقويّة: “أيّها الزّملاء، لا وقت للكلام ولندع الرّصاص يتكلّم”. ومنذ هذه الفترة صار يستخدم اسم “ياسر عرفات” تيّمّنًا بالمناضل ضدّ ظلم قريش وفسادها “عمّار بن ياسر” (566 – 660) واختار كنية “أبو عمّار” اسمًا حركيًّا له.
رئيس رابطة طلّاب جامعة القاهرة:
تتراكم الأحداث وتختمر التّجارب وتعلو المناصب، وتزيد المسؤوليّات النّضاليّة والوطنيّة، وشبكة علاقات مترامية الأطراف مع الحركات الطّلّابيّة والسّياسيّة على مستوى العالم العربيّ ومستوى العالم الواسع. أصبح “ياسر عرفات” سنة (1951) رئيسًا لرابطة الطّلّاب في جامعة “القاهرة” وظلّ في هذا المنصب حتّى سنة (1955) ومن هذا المقام المرموق أصبح “عرفات” معروفًا على مستوى الحركات الطّلاّبيّة العالميّة، من خلال مشاركاته المتتابعة في المؤتمرات في الدّول الاشتراكيّة الّتي تؤيّد الكفاح الوطنيّ الفلسطينيّ المشروع من أجل تقرير المصير: الاتّحاد السّوفييتيّ وبلغاريا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا وبولندا وألمانيا الدّيمقراطيّة، (ومن المؤسف أنّه لم تعد هذه الدّول الاشتراكيّة قائمة وصارت المنظومة الاشتراكيّة أثرًا بعد عين بعد انهيارها وسقوطها بين براثن الرّأسماليّة وفي حبائل سرابها الرأسماليّ الموهوم) ومن خلال هذه المؤتمرات واللّقاءات أقام صداقات وتحالفات شرح فيها أوضاع قضيّة شعبه العادلة والكفاح الوطنيّ الشّجاع ووضعها على طاولة الرّأي العامّ العربي والعالميّ. وبعد انتصار الثّورة المصريّة التقى برئيس مجلس الثّورة الأوّل “محمّد نجيب” (1901 – 1984) الّذي استقبله في مجلس القيادة وظهرت لأوّل مرّة صورة “عرفات” مع زعيم سياسيّ كبير، وقد أرسل إليه رسالة باسْم الطّلّاب الفلسطينيّين مكتوبة بدمائهم قال فيها: “لا تنسَ فلسطين”! في هذه الفترة سنة (1953) مات أبو “ياسر عرفات” فتألّم لموته. حتّى سنة (1955) وهي السّنة الّتي تخرّج فيها من الجامعة تعرّف على من سيصبحون رفاقه في الثّورة الفلسطينيّة: “أبو إياد صلاح خلف” (1933 – 1991) وَ “أبو جهاد خليل الوزير” (1935 – 1988) وهذا الأخير كان قد تلقّى تدريبًا عسكريًّا وأقام خليّة فدائيّة نشطت في “غزّة” ضدّ الاحتلال الصّهيونيّ. وقد سُجن “ياسر عرفات” لمدّة شهر واحد لقربه من حركة “الإخوان المسلمين” بعد المحاولة الفاشلة لاغتيال الرّئيس “جمال عبد النّاصر” على يد بعض أفرادها.
وقد أسّس فيما بعد “رابطة الخرّيجين الفلسطينيّين”، ووسّع من دائرة علاقاته مع الاتّحادات الطّلّابيّة والتّنظيمات السّياسيّة، وكان يتردّد كثيرًا على الضّفّة الغربيّة والأردن، لإقامة علاقات كفاحيّة في القرب من فلسطين الهاجس الدّائم الّذي لا يطيق “ياسر عرفات” أن يبتعد عن وجدانه، ولكنّ ذلك لم يمنعه من الانخراط في الحياة المصريّة، فقد عمل مهندسًا في “الشّركة المصريّة للإسمنت” في مدينة “المحلّة الكبرى” في دلتا النّيل سنة (1956) وهي السّنة الّتي شنّت فيها فرنسا وبريطانيا وجروهما إسرائيل العدوان الثّلاثيّ على النّظام الوطنيّ النّاصريّ بغية إسقاطه بعد إقدامه الشّجاع على تأميم “قناة السّويس” وجعلها شركة مساهمة مصريّة، لا يملك أيّ جزء أو سهم فيها أحد إلّا مصر. التحق “ياسر عرفات” فور اندلاع العدوان بالجيش المصريّ في 28 تشرين الأوّل سنة (1956) وأصبح ضابط احتياط في وحدة الهندسة في منطقة “بور سعيد”، وكان قد اكتسب مدّخرًا من الخبرة العسكريّة والتّدريب وظّفه لخدمة الجيش المصريّ لصدّ العدوان، وانكفأ العدوان ومنفّذوه يجرّون أذيال الخيبة، وفشلت كلّ مخطّطات “دافيد بن غوريون” (1886 – 1973) في تأليب القوى الاستعماريّة ضدّ مصر وضدّ نظامها الوطنيّ وضدّ موقفها القوميّ العروبيّ المبدئيّ من القضيّة العربيّة الأولى، فلسطين.
منظّمة التّحرير الفلسطينيّة:
هل حقّقت إسرائيل أيّ مطمع من أباطيل مطامعها بقوّة الحقّ والشّرعيّة لتحقيق وجودها! أيّ مطمع من مطامعها السّياسيّة الكولونياليّة لم تحقّقه بقوّة السّلاح والإرهاب لترسيخ هذا الوجود على ترابنا الفلسطينيّ! إذن لماذا تتخلّى “منظّمة التّحرير الفلسطينيّة” الممثّل الوحيد للشّعب الفلسطينيّ المعترف به عربيًّا ودوليًّا كمنظّمة سياسيّة وعسكريّة منذ سنة (1974) لماذا تتخلّى عن الكفاح بالسّلاح لإحقاق الحقّ الوطنيّ المشروع في تقرير المصير! وبأيّ حقّ تتخلّى على الأقلّ عن “قرار التّقسيم” سنة (1947) رقم (181) وتجنح إلى خيار السّلام الكسيح قبل أن تستجدي إسرائيل هذا الجنوح! بأيّ حقّ تتنازل عن 78% من فلسطين لصالح إسرائيل والعيش إلى جانبها بسلام لكفّ شرّها عنّا وإضفاء وجود شرعيّ عليها سنة (1974) وقبلت “المنظّمة” بحلّ الدّولتيْن سنة (1988) واعترفت بالكيان الإسرائيليّ المغتصب سنة (1993) بعد “مؤتمر مدريد” واتّفاقات “أوسلو”! ومع ذلك لم نضمن بعد “أوسلو” بثلاثة عقود تقريبًا وحتّى الآن إقامة الدّولة الفلسطينيّة على 22% من أرض فلسطين! بأيّ حقّ تتنازل “المنظّمة” عن هدفها الأساسيّ الّذي قامت من أجله وهو تحرير فلسطين بالكفاح المسلّح! ولمّا يعد اللّاجئون ولمّا تقم دولة فلسطينيّة ولمّا يتحقّق الاستقلال ولمّا يتحقّق الحلم الوطنيّ!
كان لفلسطين تمثيل سياسيّ في جامعة الدّول العربيّة منذ تأسيسها سنة (1943) بشخصيّات فلسطينيّة وطنيّة، فقد مثّلها على التّوالي: “موسى العلميّ” (1897 – 1984) وبعده “أحمد حلمي عبد الباقي” (1882 – 1963) وقد خلفه “أحمد الشّقيري” (1908 – 1980) ولكن منذ أن تأسّست “المنظّمة” بدعوة من الرّئيس “جمال عبد النّاصر” في 13 كانون الثّاني سنة (1964) أثناء انعقاد مؤتمر القمّة العربيّ الأوّل في “القاهرة” لمواجهة الموقف الخطير النّاجم عن عزم إسرائيل تحويل نهر “الأردن”. لقد قرّر الرّؤساء والملوك العرب في هذا المؤتمر استجابة لدعوة الرّئيس المصريّ العظيم، بالعمل من أجل إبراز الكيان الفلسطينيّ وتجسيده ليأتي ردًّا على التّحدّي الصهيونيّ والاستعماريّ، الّذي عمل جاهدًا على طمس الشّخصيّة الفلسطينيّة وتصوير مأساة الشّعب الفلسطينيّ على أنّها قضيّة لاجئين إنسانيّة. وكانت “جامعة الدّول العربيّة” قد سعت من قبل لإبراز الكيان الفلسطينيّ، فتعثّر ذلك السّعي بسبب خلافات الدّول العربيّة حول هذا الموضوع. ولكنّ مؤتمر “القمة الأوّل” أكّد أنّ خدمة القضيّة الفلسطينيّة والمصلحة القوميّة العربيّة المشتركة تستوجبان نبذ الخلافات والتّعاون مع أبناء الشّعب الفلسطينيّ لتنظيم صفوفهم بمشيئتهم، وعلى “حركة تحرير فلسطين” أن تعمل مع جميع الدّول العربيّة ضمن النّضال القوميّ ضدّ الاستعمار الصهيونيّ. لقد تمخّض مؤتمر “القمّة العربيّة الأوّل” عن ممثّل يعبّر عن إرادة شعب فلسطين، وقد كلّف “أحمد الشّقيريّ” بإجراء الاتّصالات والمشاورات مع سائر الفصائل والأحزاب والحركات الفلسطينيّة، وأقيم المؤتمر التّأسيسيّ في القدس سنة (1964) وعرف باسْم “المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ الأوّل” تحت مظلّة “المنظّمة” وانتخب فيه ممثّلون فلسطينيّون من سائر الأقطار العربيّة، وانتخب فيه “الشّقيريّ” كأوّل رئيس لها واختيرت “القدس” مقرًّا لِ “منظّمة التّحرير الفلسطينيّة”. وكان قد ترأّس “المنظّمة” كرئيس ثالث القائد “ياسر عرفات” منذ سنة (1969) بعد “أحمد الشّقيريّ” الّذي رئسها (1964 – 1967) وتلاه في رئاستها اليساريّ “يحيى حمّودة” (1908 – 2006) لمدّة سنتيْن (1967 – 1969) أمّا رئيسها الرّابع فهو رئيس السّلطة الفلسطينيّة الحاليّ “محمود عبّاس” (1935) وقد تولّى رئاستها إثر وفاة القائد “ياسر عرفات” سنة (2004) وما زال يرأسها حتّى الآن. وأكثر ما يخطر على البال هو السّؤال: “أين هي الآن”؟ بعد أن كانت جامعًا لكلّ الفصائل الفلسطينيّة والحركات والأحزاب السّياسيّة، هذه “المنظّمة” الّتي أصبحت زمن رئيسها “ياسر عرفات” المظلّة التّنظيميّة للشّعب الفلسطينيّ في كلّ أماكن التّواجد، وكان لها دور كبير في التّعبئة في الوجدان الجمعيّ الفلسطينيّ ووضعت القضيّة على الطاولات السّياسيّة في شتّى أنحاء العالم، وبخاصّة طاولة “هيئة الأمم المتّحدة”، الّتي اعترفت بشرعيّتها ووجودها وتمثيلها للشّعب الفلسطينيّ وبشرعيّة نضالها الكفاحيّ والوطنيّ لاسترداد الحقوق المسلوبة سنة (1974) أين هي الآن تحت شبح الانقسام الفلسطينيّ والتّمزّق العربيّ والهرولة نحو التّطبيع!
عندما زار الجنرال “فون نجوين جياب” (1911 – 2013) بطل الثّورة الفيتناميّة عاصمة عربيّة تتواجد فيها فصائل ثوريّة، شاهد حياة البذخ والرّفاهية الّتي يعيشها قادة تلك الفصائل وقارنها بحياته مع ثوّار “الفيتكونغ” في الغابات الفيتناميّة، قال لتلك القيادات: “من الصّعب أن تنتصر ثورتكم”! فسألوه: “لماذا”؟ أجابهم: “لأنّ الثّورة والثّروة لا يلتقيان، الثّورة الّتي لا يقودها الوعي تتحوّل إلى إرهاب والثّورة التي يُغدق عليها بالمال تتحوّل إلى لصوص ومجرمين، وإذا رأيت أحدًا يدّعي الثّورة وهو يسكن في قصر ويأكل أشهى الأطباق ويعيش في رفاهية وترف فأعلم إنّه خبيث، منافق ويعيش على دماء الآخرين”. هل تشكّل مقولة الجنرال الثّوريّ “جياب” جوابًا على السّؤال الّذي سبقها! “أين المنظّمة الآن”؟
فتح تنطلق فتنهي ليل النّكبة:
بزرع أمل العودة في نفوس الفلسطينيّين، بعد فترة من الصّدمة والذّهول إثر “النّكبة”، وقيام الدّولة الصّهيونيّة واحتلالها واغتصابها للأرض وتشريد الشّعب الفلسطينيّ وتحويله إلى لاجئين ومشرّدين إلى خارج الوطن وداخله، وفي أصقاع المنافي انطلقت “فتح” حركة التّحرير الوطنيّ الفلسطينيّ” مشهرة السّلاح الفلسطينيّ الكفاحيّ المشروع من أجل استرداد قوّة الحقّ الفلسطينيّ وعدالته، الّذي أخذ وسلب بقوّة القوّة العسكريّة الصّهيونيّة وظلمها.
في الفاتح من كانون الثّاني سنة (1965) كانت الانطلاقة لحركة التّحرير الوطنيّ الفلسطينيّ “فتح” بالكفاح المسلّح، وكانت العمليّة الفدائيّة الأولى، لقد شكّلت هذه الانطلاقة بداية مشرقة بعد ليل النّكبة الطّويل، ولقد عبّر الشّاعر الفلسطينيّ الشيوعيّ “معين بسيسو” (1927 – 1984) عن هذا التّحوّل المفصليّ في قصيدته “الرّصاصة الأولى” من ديوان “قصائد على زجاج النّوافذ”، وبالمناسبة لقد سبقت القصيدة المقاتلة الفلسطينيّة الرّصاصة المقاتلة، “لأنّ الشّعراء جواسيس المستقبل” كما قال الشّاعر الأميركيّ التّقدّميّ “غريغوري كورسو” (1930 – 2001) ولكنّ القصيدة بلا رصاصة لا تملك من القوّة شيئًا فتبقى قاصرًا عن الفعل، والبندقيّة بلا القصيدة تتحوّل إلى وحش مفترس كاحتلال بغيض أو كفكر صهيونيّ عنصريّ إرهابيّ.
قال: “معين بسيسو” ابن “غزّة” الصّمود في المقطع الثّالث من تلك القصيدة، وقد نشرت في الأعمال الشّعريّة الكاملة (ص 398 – 407) في وصف ما كنّا عليه من رقود وذهول وما صرنا إليه من سلاح وكفاح:
“في ليلٍ لا يعرفُ فيهِ الضّاربُ في اللّيلِ خلاصَهْ/ انطلقَتْ يا فتحُ رصاصهْ/ سالَ الدّمْ/ دمُنا سالْ/ عرفْنا ما هوَ لونُ الدّمْ/ أنسونا ما هوَ لونُ الدّمْ/ كنّا لا نعرفُ هل في الشّريانْ/ دماءٌ أمِ ماءْ/ كنّا نعرفُ كلَّ الألوانْ/ لونَ عيونِ رجالِ جوازاتِ السّفرِ/ ولونَ الدّينارْ/ ولونَ القائمةِ السّوداءْ/ إلّا لونَ الدّمْ/ والآنَ الدّمُ سالَ عرفْناهُ/ وأمسكْنا بالدّمِ خيطًا/ فلننزفْ يا فتحْ/ سنموت إذا ضمّدْنا الجرحْ/ وليصبغْ دمُنا كلَّ زجاجِ شبابيكِ العالمْ/ وليصبغْ وجهَ العالمْ/ هذا العالمْ فلنغرسْ تحتَ وسادتِهِ إصبعَ ديناميتْ/ ما دمْنا يا فتحُ على الأسلاكِ الشّائكةِ نبيتْ/ لنْ يتمدّد هذا العالمُ فوقَ سريرْ/ هذا العالمُ أكلَ طويلًا لحمَ فلسطينْ/ بالشّوكةِ والسّكّينْ/ أذنُ العالمْ/ عينُ العالمْ/ قلبُ العالمْ/ حنجرةُ العالمْ/ تفّاحات مسلوقهْ/ تفّاحات مسروقهْ/ في سلّةِ فاكهةِ المحتلّينْ”.
ولعلّ هذه الفترة منذ انطلاقة “فتح” والكفاح المسلّح وما سبقها من تحضيرات ونضالات دؤوبة لهي الفترة الّتي تجلّت فيها عظمة قائد الثّورة الفلسطينيّة “أبو عمّار”. كانت بدايات التّأسيس قبل الانطلاقة، منذ العدوان الثّلاثيّ على مصر سنة (1956) حيث احتلّت إسرائيل في طريق عودتها وخيبتها “قطاع غزّة”، ومن “غزّة” انطلق الكفاح الفلسطينيّ ضدّ الاحتلال، هناك قام أعضاء خلايا “المقاومة الشّعبيّة” بالعمل النّضاليّ حتّى كنسوا الاحتلال، إذ لم يصمد وجوده هناك أكثر من ثلاثة أشهر، وبعد خيبتها الثّانية في “غزّة”، وفي طريق عودتها إلى فلسطين ارتكبت انتقامًا لتلك الخيبة والفشل المجزرة الإرهابيّة في “كفر قاسم”، في “المثلّث” الفلسطينيّ الصّغير الّذي تسيطر عليه، بعد أن سلّمه لها باتّفاقيّة “رودس” سنة (1949) الملك الأردنيّ الخائن “عبد الله الأوّل بن الحسين” (1882 – 1951) أمّا الصّورة النّهائيّة لحركة “فتح” فقد تبلورت واكتملت سنة (1961) وعرفت شعبيًّا وعربيًّا بعد الانطلاقة. وعن دور “أبو عمّار” في تأسيس حركة «فتح»، روى “خليل الوزير، أبو جهاد” وهو أحد المؤسّسين “قبل عام (1957) كانت هناك لقاءات عديدة بيني وبين الأخ “أبو عمّار” يجمعنا الهمّ المشترك والبحث عن الخلاص، وضرورة إيجاد الشّكل التّنظيميّ الأنسب والمعبّر عن مجموع حالتنا الفلسطينيّة ورسم خطوط التّحرك المشترك، فدعونا عددًا من الإخوة الذين يشاركوننا الهمّ والفهم المحدّد لبناء التّنظيم. وكان مجموعنا خمسة أشخاص فقط هم الإخوة: “ياسر عرفات”، “خليل الوزير”، “عادل عبد الكريم”، “يوسف عميرة” وَ “توفيق شديد”. وكان هذا هو الاجتماع التّأسيسيّ. وقد عقدنا اجتماعنا الأوّل في بيت أحد الإخوة في الكويت. ووضعنا في هذا الاجتماع الخطوط العريضة الأولى لعملنا التّنظيميّ. أمّا الاجتماع الثاني فقد تخلّف أحد الخمسة وهو “توفيق شديد” عن الحضور ممتنعًا عن مواصلة الطّريق فبقينا أربعة. واتّفقنا على البدء في العمل فورًا من دون الالتفات إلى الاسم، فالسّاحة الفلسطينية تعجّ بالأسماء”. وفعلًا كان هناك عدد كبير يعتبر من جيل المؤسّسين، أشهرهم: “صلاح خلف، أبو إياد”، “محمد يوسف النّجار”(1930 – 1973) “كمال عدوان” (1925 – 1973) وغيرهم، وقد اغتيل الاثنان الأخيران في جريمة إرهابيّة واحدة نفّذتها المخابرات الإسرائيليّة “الموساد” بغارة جوّيّة على بعض المواقع العسكريّة التّابعة لِ “منظّمة التّحرير الفلسطينيّة” في “بيروت” واستشهد معهما الشّاعر والمناضل الفلسطينيّ “كمال ناصر” (1924 – 1973)
لقد انطلقت الحركة بالاستناد إلى خلفيّة وطنيّة تحرّرية تسعى لمقاومة الاحتلال الإسرائيليّ، وقد هيمن عليها في العقديْن الأخيريّن توجّه يغلب عليه يسار الوسط. وقد أكّدت الحركة في مبادئها على أنّ فلسطين جزء من الوطن العربيّ، وأنّ الشّعب الفلسطينيّ جزء من الأمّة العربيّة، وكفاحه جزء من كفاحها، وأنّ الشّعب الفلسطينيّ ذو شخصيّة مستقلّة، وصاحب الحقّ في تقرير مصيره، وله السّيادة المطلقة على جميع أراضيه.
وقد صدر البلاغ العسكريّ رقم (1) لحركة “فتح” وجاء فيه: “اتّكالا منّا على الله، وإيمانًا منّا بحقّ شعبنا في الكفاح لاسترداد وطنه المغتصب، وإيمانًا منّا بالموقف العربيّ الثّائر من المحيط إلى الخليج، وإيمانًا منّا بمؤازرة أحرار وشرفاء العالم، لذلك تحرّكت أجنحة من قوّاتنا الضّاربة في ليلة الجمعة (31/12/1964 – 1/1/1965) وقامت بتنفيذ العمليّات المطلوبة منها كاملةً ضمن الأرض المحتلّة، وعادت جميعها إلى معسكراتها سالمة”. لقد عرفت هذه العمليّة بعمليّة “عيلبون” الّتي نفّذتها قوّات “العاصفة” الجناح العسكريّ التّابع لحركة “فتح” وقامت بتفجير منشأة مائيّة إسرائيليّة ردًّا على سحب إسرائيل لمياه نهر “الأردن”، يقال أنّه استشهد في العمليّة مقاتل واحد يدعى “أحمد موسى” (1923 – 1965) في طريق العودة برصاص الجيش اللّبنانيّ، وهو ابن قرية “ناصر الدّين” في قضاء “طبريا”، وفي تلك الأثناء وقبلها، إثناء توزيع بيان العمليّة الأولى على وسائل الإعلام اعتقلت السّلطات اللّبنانيّة “ياسر عرفات” في “بيروت”. ومن عمليّات “فتح” الفدائيّة البارزة تلك العمليّة الّتي قادتها “دلال مغربي” (1959 – 1978) ابنة مخيّم “صبرا” في لبنان، على رأس ثمانية فدائيّين، وكان اسمها عمليّة “كمال عدوان” على السّاحل ما بين “حيفا” وَ “يافا” في 14 آذار سنة (1978) وقتل فيها 37 إسرائيليًّا، وقتلت فيها “مغربي” والفدائيّون الثّمانية.
العرب بين دعم وخذلان وخيانة:
ورغم حاجة الحركة الثّوريّة الفلسطينيّة إلى الدّعم العربيّ المادّيّ والمعنويّ، إلّا أنّه وبرؤية القائد الثّاقبة الّذي يرى عمق الأمور رفض وبموقف شجاع ووطنيّ أصيل الدّعم الماليّ المقدّم من الحكومات العربيّة، حتّى لا يُخضع الثّورة والقضيّة تحت طائلة سياساتها وأيديولوجيّاتها وعلاقاتها المتقلّبة وخلافاتها العميقة. لقد كان الرّئيس الخالد والعظيم “جمال عبد النّاصر” أوّل من تبنّى حركة “فتح” التي أسّسها “ياسر عرفات” سنة (1959) مع رفاقه الأوائل وقدّم لها كلّ الدّعم الممكن سلاحًا عسكريًّا وتأييدًا سياسيًّا، وقد قال يومًا: “إنّ الثّورة الفلسطينيّة وجدت لتبقى” منذ أوائل ستّينيّات القرن الماضي، وكان البكباشي “جمال عبد النّاصر” قد شارك في حرب فلسطين متطوّعًا قبل مشاركته جنديًّا في الجيش المصريّ سنة (1948) الّذي دخل فلسطين كالجيوش العربيّة الّتي دخلت لاستردادها من براثن الحركة الصّهيونيّة، وكانت قادرة على ذلك لولا تخاذل بعض الأنظمة العربيّة وخيانة بعضها. واستمرّت الخيانة للنّهج العروبيّ الناصريّ القوميّ الّذي رأى تلازم القضيّتيْن: العربيّة والفلسطينيّة وأنّ الصّراع عربيّ – إسرائيليّ وليس فلسطينيًّا – إسرائيليًّا فقط، وآمن حتّى النّخاع بالوحدة العربيّة، ومن هذه المثابة آمنت الشّعوب العربيّة بقوميّة المعركة في فلسطين وعروبة قضيّتها المقدّسة وكفاحها المشروع. وفي كتاب “فلسفة الثورة” الّذي صدر سنة (1954) يقول “جمال عبد النّاصر” عن تطوّعه في صفوف الفدائيّين في فلسطين قبل دخول مصر حرب (1948) “لمّا بدأت أزمة فلسطين كنت مقتنعًا في أعماقي بأنّ القتال في فلسطين ليس قتالاً في أرض غريبة، وهو ليس انسياقًا وراء عاطفة، وإنّما هو واجب يحتّمه الدّفاع عن النفس”. وبعد سنة (1967) حظيت الثّورة الفلسطينيّة بالدّعم الجزائريّ الكامل خاصّة بعد تولّي الرّئيس “هوّاري بو مدين” (1932 – 1978) رئاسة الجمهوريّة الجزائريّة في أواسط سبعينيّات القرن الماضي وسوريا والأردن حتّى سنة (1970) وأحداث “أيلول الأسود”، أمّا بخصوص الشّعوب العربيّة فقد كانت وما زالت الدّاعم الدّائم والمساند الأصيل لقضيّة العرب الأولى، فلسطين، على طول فترة الصّراع.
وفي رسالة وجّهها الرّئيس “جمال عبد النّاصر” للرّئيس الأميركيّ “جون كنيدي” (1917 – 1963) سنة (1961) مؤكّدًا عروبة القضيّة الفلسطينيّة وتلازمها مع القضايا العربيّة قال: “إنّ الدّول الاستعماريّة خطّطت لتقسيم العالم العربيّ إلى دويلات تافهة، ووافقت على منح فلسطين لليهود وتفرض على العرب سياسة الأمر الواقع”، وفي الرّسالة نفسها كتب “عبد النّاصر”: “موقفنا من إسرائيل ليس موقفًا مشحونًا بالعواطف، بل هو يستند إلى الحقائق التّالية: عدوان شُنّ علينا في الماضي، خطر محدق بنا في الحاضر، ومستقبل مجهول محفوف بالتّوتّر والقلق على المصير”. وتابع قائلًا فيها: “إنّ الدّول العربيّة لا تستطيع عزل نفسها عن أيّ عدوان يشنّ ضدّ إحداها، وذلك لسبب واضح وهو أنّ العدوان على واحدة منها سوف يهدّد الأخرى بنفس المخاطر والمصير”. وظلّت القضيّة الفلسطينيّة في وجدانه وضميره القوميّ حتّى أسلم الرّوح بسبب الإرهاق والألم بعد أحداث “أيلول الأسود” سنة (1970) وبذلك فقد ازداد أيلولنا المشؤوم ذاك سوادًا ومعاناة ومأساويّة برحيل هذا الزّعيم المناضل العربيّ في ذلك الأيلول المقيت، هذا الرّئيس الّذي ربطته مع “ياسر عرفات” علاقات متينة وطنيّة وقوميّة كفاحيّة، وعندما نشبت الحرب بين التّنظيمات الفلسطينية والجيش الأردنيّ قام “عبد النّاصر” بعقد الوساطات، لحلّ النّزاع بين الطّرفين. في هذه الأثناء، ضيّق الملك الأردنيّ “الحسين بن طلال” ( 1935 – 1999) الخناق العسكريّ على “ياسر عرفات” ومنعه من الخروج من الأردن، لكنّ “عرفات” استطاع الخروج بمساعدة مصريّة وسودانيّة، على الرّغم من القصف الّذي كاد أن يقتل فيه، وظهر فجأة في “القاهرة” لحضور “مؤتمر القمّة”، الّذي عقد سنة (1970) وسط دهشة واستغراب من الملك “حسين”، الّذي كان حاضرًا في تلك القمة، وعندما توفّي “جمال عبد النّاصر” حزن عليه “عرفات” بشدّة وأصيب بالاكتئاب. لماذا يموت “جمال عبد النّاصر” ويكتئب “ياسر عرفات” ويبقى الملك “حسين” وأمثاله بلا كرامة قوميّة ولا ضمير رادع ولا وجدان وطنيّ، يتاجرون بالشّعب الفلسطينيّ وقضيّته ويبيعونها للأعداء حتّى بلا ثمن بخس!
الكرامة في الكرامة:
وقعت معركة “الكرامة” في 21 آذار سنة (1968) فالقوّات الإسرائيليّة لا تطيق الوجود العسكريّ الفلسطينيّ في الأردن قريبًا من حدودها، لذلك أرادت القضاء على الثّوّار وقوّات “العاصفة” الجناح العسكريّ التّابع لحركة “فتح” الموجودة على الضّفّة الشّرقيّة لنهر “الأردن” لأسباب تعتبرها إسرائيل إستراتيجية من النّاحية الأمنيّة والوجوديّة. عبرت القوّات الإسرائيليّة النّهر من عدّة محاور مع عمليّات تجسير وتحت غطاء جوّيّ كثيف. فتصدّت لها قوّات “العاصفة” على طول جبهة القتال من أقصى شمال الأردن إلى جنوب “البحر الميّت” بقوّة قتاليّة وجرأة لا تلين. وفي قرية “الكرامة” اشتبكت قوّات “العاصفة” بالاشتراك مع فرقة مدفعيّة واحدة من الجيش الأردنيّ، وقد شارك سكّان تلك المنطقة في قتال شرس بالسّلاح الأبيض ضدّ الجيش الإسرائيليّ في عمليّة استمرّت قرابة السّاعة، واستمرّت بعدها المعركة بين قوّات “فتح” الفلسطينيّة والقوّات الإسرائيليّة أكثر من 16 ساعة. أصدر الملك الخائن “حسين بن طلال” أوامره للجيش الأردنيّ بعدم التّدخّل بالمعركة، ممّا اضطر الإسرائيليّين إلى الانسحاب الكامل من أرض المعركة تاركين وراءهم ولأوّل مرّة خسائرهم وقتلاهم دون أن يتمكّنوا من سحبها معهم. (سقط قتيلًا في معركة “الكرامة” 250 جنديًّا إسرائيليًّا وجرح حوالي 450 آخرين) وتمكّنت قوّات “العاصفة” في هذه المعركة من تحقيق النّصر المؤزّر على القوّات الإسرائيليّة الّتي “عادت بخفيّ حنين” تجرجر أذيال الخيبة والهزيمة والعار.
هذا هو النّهج الصّحيح لكلّ ثورة وطنيّة تقاتل من أجل قضيّة عادلة، لقد أثبتت معركة “الكرامة” أن لا كرامة لعربيّ أو لفلسطينيّ بلا قتال مشروع ولا إنجاز يمكن أن يتحقّق لهما بلا وسائل قويّة ترهب العدوّ وتذلّه وتحدّ من عدوانه وغطرسة إرهابه. والدّليل هو هذا المسار الكفاحيّ الفلسطينيّ منذ الانطلاقة في “عيلبون” سنة (1965) حتّى الانزلاقة في “مدريد” سنة (1991) وَ “أوسلو” سنة (1993) وما جرّه أسلوب التّفاوض والمهادنة على قضيّتنا الفلسطينيّة من تنازلات أوصلتها إلى أسفل سافلين من الحضيض السّياسيّ والوطنيّ والقوميّ، بعد أن كانت بالسّلاح والانتفاضة في علّيّين، تتصدّر القضايا وتملأ الطّاولات والشّوارع والميادين الشّعبيّة وميادين القتال. ما أسمى ما حدث في “الكرامة” للكرامة العربيّة، إذ التحم الجيشان العربيّان المقاتلان: الفلسطينيّ والأردنيّ، التحم الجيشان يحملان السّلاح النّاريّ الأحمر مع الكفاح الشّعبي الّذي حمل السّلاح الأبيض، فكان النّصر، قبل أن تتدخّل يد الخيانة الملكيّة “السّامية”. وظلّت المقاومة الشّعبيّة والكفاح المسلّح هما الموجّه الوطنيّ للكفاح الفلسطينيّ بعد سنة (1967) فقد قامت “فتح” بعدّة عمليّات فدائيّة ضدّ إسرائيل، فكان لانتصارات المقاومة الفلسطينيّة في تلك العمليّات دور كبير في زيادة شعبيّتها بين الشّبّان الفلسطينيّين والعرب، الّذين أقبلوا للتّطوّع والقتال في صفوف الثّورة مع الفدائيّين، انتصارًا للقضيّة الفلسطينيّة وتأكيدًا لعمقها القوميّ العربيّ. وكان القائد “أبو عمّار” وراء دفّة التّوجيه الفكريّ والعمليّ في كلّ تلك الإنجازات الوطنيّة، وخرج منها “ياسر عرفات” بطلًا قوميًّا بعد تحدّيه الشّجاع لإسرائيل، وبانتصاره استعادت الأمّة العربيّة جزءًا كبيرًا من كرامتها المفقودة بفقدان فلسطين.
من الكرامة البيضاء إلى أيلول الأسود:
اليد الملكيّة الخائنة الّتي أصدرت أوامرها بعدم تدخّل فرقة من فرق الجيش الأردنيّ والمشاركة إلى جانب القوّات الفلسطينيّة، في معركة “الكرامة” المشرّفة هي ذات اليد الملكيّة القذرة والخائنة للعرب ولفلسطين الّتي حاصرت تلك القوّات وقائدها “أبو عمّار” في مجازر “أيلول الأسود”، وفي المكان نفسه، الضّفّة الشّرقيّة لنهر الأردنّ. لا كرامة للمكان! الكرامة للإنسان وهو الّذي يعطي للمكان معانيه الوطنيّة الفلسطينيّة المقدّسة وتجلّياته القوميّة العربيّة الخالدة.
خرج “ياسر عرفات” من معركة “الكرامة” قائدًا عظيمًا وبطلًا قوميًّا، خاصّة بعد هزيمة “حرب حزيران” سنة (1967) واستكمال إسرائيل لاحتلال فلسطين التّاريخيّة كلّها، واحتلال شبه جزيرة “سيناء” من مصر وهضبة “الجولان” السّوريّة، هذه الهزيمة الّتي زعزعت الوجدان العربيّ كلّه وجعلته في صدمة لم يستفق منها حتّى الآن، الشّعب الوحيد من بين الشّعوب العربيّة الّذي لم يصدم هو الشّعب الفلسطينيّ، لأن صدمته كانت قد حدثت بعد النّكبة سنة (1948) ونتيجة لسياسة التّخاذل العربيّ المتعاونة مع الولايات المتّحدة الأميركيّة والمتواطئة مع إسرائيل ضدّ الشّعب الفلسطينيّ، وقد اتّضحت الأمور بعد الخطب الرّنّانة والشّعارات الجوفاء الّتي أتخمتنا بها زعامات الأنظمة العربيّة حول تحرير فلسطين، وبعد أن جفّت البِرَك الخيانيّة الآسنة لتلك الأنظمة، وبخاصّة بعد حرب “التّحريك” في أكتوبر سنة (1973) الّتي قادها الرّئيس المصريّ الخائن “أنور السّادات” (1918 – 1981) بعبور “قناة السّويس” وتدمير خطّ “بارليف” المنيع بالسّلاح السّوفييتيّ، ولكنّه عاد وبدّد هذا الانتصار العسكريّ المحدود بعبور سياسيّ زار فيه خانعًا “الكنيست” الإسرائيليّ وفقًا لإملاءات “عزيزي هنري كيسنجر” (1924 – لمّا يمت) وشروطه المهينة، وكان بذلك أوّل المطبّعين مع إسرائيل وصارت “القاهرة” أوّل عاصمة يرفرف العلم الأبيض والأزرق في سمائها على مرمى “حجر” من قبر الرّئيس العظيم “جمال عبد النّاصر”. وبهذا وبعد جفاف بِرَك الأنظمة العربيّة الآسنة غدت “زعاماتها” لا أكثر من “بلاعيط” تحرّكها عيدان “هنري كيسنجر” وأصابعه!
“فيا نجمة داوود ابتهجي/ يا محفل ماسون ترنّح طربًا/ يا إصبع كيسنجر/ إنّ الأست الملكيّ من اثنيْن وعشرين قُدحًا. مع الاعتذار للشّاعر العراقيّ “مظفّر النّوّاب”.
لم يرُق الانتصار الفلسطينيّ في “الكرامة” للحكومة الإسرائيليّة بل أقلقها تعاظم الوجود العسكريّ الفلسطينيّ وأقلق معها النّظام الأردنيّ العميل، وخاصّة بعد أن اختطف فلسطينيّون من “الجبهة الشّعبيّة” أربع طائرات أقلعت من مطارات أوروبيّة وفجّرت بركّابها بعد أن رفضت مطالبهم بتحرير رفاقهم الأسرى السّجناء في سجون أوروبيّة. بدأت الخلافات تتفاقم بين النّظام الأردنيّ بقيادة الملك “حسين” و”منظمة التّحرير الفلسطينيّة” بقيادة “ياسر عرفات”، ممّا أدّى إلى توتّرات دبلوماسيّة وسياسيّة في العالم العربيّ، يبدو أنّ “عرفات” بتزايد القدرات العسكريّة الفلسطينيّة وزيادة التّأثير على المدن والمخيّمات مع تعاظم التّعاطف الشّعبيّ الأردنيّ أحرج الملك أمام أسياده، الّذين ينتظرون منه المزيد من القوّة والبطش ضدّ القوّات الفلسطينيّة، فقرّر الملك أن ينهي ذلك الوجود بالحسم العسكريّ. هكذا تقابل المقاومة الفلسطينيّة من قبل الأنظمة العربيّة العميلة، فما لا تستطيعه إسرائيل ضدّها من أجل ضمان أمنها ووجودها ينفّذه العرب بقوّة السّلاح ويقمعون المقاومة ويبعدون المنظّمات وينهون الوجود الفلسطينيّ القريب لمصلحة أن تبقى إسرائيل مطمئنّة وتنام قريرة العين.
وصمد “ياسر عرفات” بعد محنة “أيلول الأسود” رغم المكائد الّتي قام بها قائد الجيش الأردنيّ “حابس المجالي” (1914 – 2001) الّذي جاء يستجدي المفاوضات مع “عرفات” من أجل نصب المدفعيّة الأردنيّة وتحريك الدّبابات، وبالرّغم من التّطمينات العربيّة بعدم جدّيّة التّحرّكات العسكريّة الأردنيّة. خطّة “جوهر” تبدأ بالهجوم المدفعيّ والدّبابات من عدّة محاور على المدن في “إربد” وبخاصّة في “عمّان” حيث سقط 300 قتيل، معظمهم من المدنيّين بالقصف الجوّيّ، وعلى المخيّمات في منطقة “صويلح” ومخيّم “البقعة” وسائر المخيّمات الفلسطينيّة، ولم تشفع للفلسطينيّين أيّة تدخّلات عسكريّة قام بها الجيش السّوريّ بعد انقلاب “حافظ الأسد” (1930 – 2000) ولا التّدخّل العراقيّ بقيادة “حردان التّكريتيّ” (1925 – 1971) وكان رئيس العراق آنذاك “أحمد حسن البكر” (1914 – 1982) وفي سنة (1970) تمّ الاتّفاق مع الرّئيس “جمال عبد النّاصر” لتنظيم الحياة والعلاقات في الأردن بين الطّرفيْن فيما عرف باتّفاق “القاهرة”، ومع ذلك لم يخلُ الوضع من توتّرات ومناوشات أدّت إلى تأسيس “منظّمة أيلول الأسود” الّتي نفّذت اغتيال رئيس الوزراء الأردنيّ “وصفي التّلّ” (1919 – 1971) وتنفيذ عمليّة “ميونيخ” ضدّ الرّياضيّين الإسرائيليّين سنة (1972) وانتقل الوجود الفلسطينيّ العسكريّ من الأردن في الجنوب إلى لبنان في الشّمال. ولكنّ المقاومة ظلّت هي المقاومة والصّمود هو الصّمود، وكفاح فلسطينيّ جديد وقريب من الوطن يتعاظم ويزداد تجربة قتاليّة وخبرة كفاحيّة تحت قيادة ثوريّة مكافحة وحكيمة بقيادة البطل “أبو عمّار”.
قلعة الشّقيف تشهد للقائد:
منذ أن استدعت القيادة العسكريّة الإسرائيليّة القائد “غيورا هارنيك” واستبدلت القائد “موشيه كابلينسكي” الّذي أصيب منذ بداية الهجوم، اعتقدت أنّ هذا القائد “هارنيك” وعلى رأس فرقة “كوماندوز” من لواء “جولاني”، وهو من أفضل نخب الجيش الإسرائيليّ، اعتقدت القيادة العسكريّة أنّ موضوع احتلال “قلعة الشّقيف” سيكون قضيّة وقت لا يتعدّى السّاعات، ولكنّ الصّمود الفلسطينيّ المعزّز بالمقاومين اللّبنانيّين وبعض المقاتلين من قوميّات مختلفة استطاع أن يتفوّق على العقليّة العسكريّة الإسرائيليّة، الّتي تؤمن كالعادة بالنّصر السّريع، لكنّ “فرقة الجرمق” من المقاتلين والفدائيّين الفلسطينيّين استطاعت أنّ تعرقل الهجوم الإسرائيليّ بصمود أسطوريّ وتقتل قائد الفرقة المدجّجة، بعدد كبير من الجنود والمدفعيّة والقصف الجوّيّ “هارنيك”، منذ هذه البداية الفاشلة وحتّى تمكّن الفدائيّون الفلسطينيّون من إخلاء الموقع تحت جنح ظلام اللّيل، وعندما احتلتها القوّات الإسرائيليّة لم يعثروا على أحد! حتّى حضور رئيس الحكومة الإسرائيليّة “مناحيم بيغن” (1913 – 1992) الواثق من قوّاته والمنتشي بالنّصر. سأل “بيغن” جنوده: “هل استسلموا”؟ أجابه أحد الجنود: “لا! لم يستسلم أحد”! وكانت خسائر الحرب الإسرائيليّة في الأرواح بين الجنود والصّمود العظيم للفدائيّين سببًا من ذهول “بيغن”، خاصّة بعد تغطية القوّات الإسرائيليّة بقيادة وزير الدّفاع “أريئيل شارون” (1928 – 2014) ورئيس الأركان “رفائيل إيتان” (1929 – 2004) على المجزرة الرّهيبة في “صبرا وشاتيلا” المخيّميْن الفلسطينيّيْن الّتي ارتكبتها قوّات حزب “الكتائب” العميلة بقيادة “أيلي حبيقة” (1956 – 2002) سنة (1982) وعلى إثر ذلك سقط “بيغن” سقوطًا سياسيًّا وقدّم استقالته من رئاسة الحكومة سنة (1983) وظلّ معتكفًا حتّى موته فيما بعد سنة (1992) بعد كثير من المجازر ارتكبها في تاريخه الأسود بحقّ الفلسطينيّين، كواحد من أبرز أعضاء العصابات الصّهيونيّة، وفيما بعد زعيمًا لحزب “اللّيكود” اليمينيّ المتطرّف. لقد دامت الحرب على لبنان الّتي أراد لها “بيغن” أن تنتهي ببضعة أيّام، دامت 88 يومًا من القتال الضّاري والصّمود الأسطوريّ للمقاومة الفلسطينيّة واللّبنانيّة.
معركة “قلعة الشّقيف” واحدة من سلسلة مواجهات خاضها القائد “ياسر عرفات” على الأرض اللّبنانيّة، حيث كان يزور مواقع المقاتلين ويطمئنهم ويقوّي من عزيمتهم لتعزيز صمودهم رغم عدم التّكافؤ في القدرات العسكريّة والسّلاح. وهذا جعل دائمًا مسألة الوجود الفلسطينيّ محلّ نقاش بل موضع خلاف وتناحر سياسيّ وعسكريّ بين القوى اللّبنانيّة، وقد تعامل بعضها مع هذا الوجود كقضيّة تعالج من نواحٍ إنسانيّة، وليست قضيّة شعب سياسيّة فقد وطنه بقوّة السّلاح الإرهابيّ، ومع ذلك كانت المسألة تتطلّب فهم الواقع واحترام الفلسطينيّين لسيادة لبنان والتزام القوانين والأنظمة المرعيّة والإجراءات فيه. ومن المعروف أنّ إسرائيل تمارس ضغطها على القوى اللّبنانيّة بشنّ غارات عسكريّة لتأليب الموقف اللّبنانيّ ضدّ الوجود العسكريّ الفلسطينيّ المتعاظم في لبنان والّذي بدأ منذ سنة (1965) أي منذ انطلاقة “فتح” والكفاح المسلّح وانطلاق العمليّات الفدائيّة من لبنان إلى عمق إسرائيل، ولذلك جرى دائمًا التّوفيق والتّنسيق بين الطّرفيْن: الجيش اللّبنانيّ ومنظّمة التّحرير الفلسطينيّة لمنع الصّدام بينهما. وقد وفّرت اتّفاقيّة “القاهرة” الّتي تمّت برعاية الرّئيس العربيّ العظيم “جمال عبد النّاصر” بحضور “ياسر عرفات” ممثّلًا للجانب الفلسطينيّ وقائد الجيش اللّبنانيّ “إميل البستانيّ” (1909 – 2002) وبمشاركة الجانب المصريّ بوزير الخارجيّة “محمود رياض” (1917 – 1992) ووزير الحربيّة “محمّد فوزي” (1915 – 2000) وقد نصّت الاتّفاقيّة على تنظيم الوجود العسكريّ الفلسطينيّ في لبنان ووفّرت للفلسطينيّين حرّيّة ممارسة النّشاط العسكريّ والسّياسيّ والتّنظيميّ، فضلاً عن النّشاط النّقابي وحرّيّة تشكيل الاتّحادات المهنيّة وإنشاء المؤسّسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة وحقّ الإشراف على المخيّمات الفلسطينيّة. وعلى الرّغم من أنّ اتّفاقيّة “القاهرة” قد نصّت على حقّ العمل والإقامة والتّنقّل بالنّسبة للفلسطينيّين المقيمين في لبنان، إلّا أنّها كانت في جوهرها اتّفاقيّة أمنيّة/ عسكريّة، شرّعت الوجود العسكريّ الفلسطينيّ في لبنان وممارسة الكفاح المسلّح ضدّ إسرائيل. وكانت نتيجتها الخالصة أن تمتّعت المخيّمات الفلسطينيّة للمرّة الأولى منذ إنشائها بإدارة فلسطينيّة ذاتيّة، وهذا ما أغاظ بعض القوى السّياسيّة ذات العلاقة الوطيدة مع الولايات المتّحدة الأميركيّة والغرب صاحبة مشاريع الهيمنة والأنظمة الرّجعيّة العربيّة المتواطئة والعميلة لها وإسرائيل الّتي هي جزء عضويّ وموظّف ومجنّد لخدمة تلك المشايع.
وبالرّغم من حنكة القائد “أبو عمّار” السّياسيّة وقدراته على تحمّل أذى ذوي القربى ولباقته في السّير بين النّقاط والتّوافق بين إرادات حكّام الأنظمة العربيّة السّياسيّة المتناقضة في معظم الأحيان، وقدرته على التّجاوب مع مطالب القوى السّياسيّة اللّبنانيّة المتنافرة إلى حدّ العداء ورغم الاتّفاقيّة المصريّة، كانت السّاحة اللّبنانيّة تشهد بعض التّوتّرات القتاليّة والاشتباكات منذ سنة (1970) حتّى وصلت الأمور وشهدت هذه المرحلة اندلاع الحرب الأهليّة سنة (1975) وتراجع قوّة الدّولة اللّبنانيّة وتقلّص سلطاتها لصالح الميليشيات المتحاربة من كلّ الأطراف. ومنذ اندلاع الحرب الأهليّة وحتّى العام 1982 نما الوجود الفلسطينيّ في لبنان على كلّ المستويات وإلى حدّ كبير. وبلغ هذا النموّ ذروته قبيل خروج (م. ت. ف) من لبنان سنة (1982) حيث تحوّلت “المنظّمة” في المناطق الّتي تواجدت فيها إلى ما يشبه “الدّولة” ضمن الدّولة، ولكنّ سنة (1982) شهدت انتهاء الوجود العسكريّ الفلسطينيّ على الأرض اللّبنانيّة، بعد اجتياح الجنوب اللّبناني والوصول حتّى مشارف العاصمة “بيروت” سنة (1982) بمؤازرة من العملاء. هكذا يجد الإرهاب الإسرائيليّ من يدعمه من بين ظهرانينا على طيلة ممارسته للإرهاب منذ قيامه وحتّى اليوم، وهؤلاء العملاء قد يكونون قيادات أحزاب كحزب “الكتائب” وجيوشًا كجيش لبنان “الحرّ” العميل وملوكًا كالملك الأردنيّ “الحسين بن طلال” وأمراء كوليّ العهد السّعوديّ “محمّد بن سلمان” (1985 – لمّا يمت) وأمارات وممالك ودولًا تطبّع مع إسرائيل كخدمة مجانيّة للعدوّ وخوفًا على الأنظمة والعروش والتّيجان وكراسي الحكم.
من بيروت القتال إلى تونس الاغتيال:
بعد قتال دامٍ ومقاومة فلسطينيّة ولبنانيّة باسلة أمام جحافل الهجوم الوحشيّ الإسرائيليّ على لبنان، وبعد معارك حامية الوطيس دامت لِ 88 يومًا تحت قيادة القائد “أبو عمّار”، وبعد ضغوط دوليّة ظالمة وعربيّة متواطئة جاء “فيليب حبيب” (1920 – 1992) المبعوث الأمميّ الأميركيّ الهوى السّياسيّ واللّبنانيّ الأصل يعرض “تونس” بديلًا ووجودًا غير مسلّح للوجود الفلسطينيّ المسلّح في “بيروت”، ويصرّ القائد ويقول: “إنّنا لم نهزم، وإنّ الثّورة والكفاح المسلّح مستمران ضدّ العدو الإسرائيليّ”. كانت خارطة الظّروف العربيّة والإقليميّة طافحة بالصّعوبات نحو إيجاد محطّة جديدة يواصل من خلالها الفلسطينيّون كفاحهم المسلّح عن قرب، وكانت الأنظمة العربيّة أداة متواطئة في دائرة السّياسة الأميركيّة وختمَ مطّاط بيدها بل “شرّابة في خرجها”، وكان لبنان ملعبًا للطّائفيّة إثر الحرب الّتي جعلته رهنًا للأهواء السّياسيّة الإقليميّة والدّوليّة المتناقضة. كلّ الرّياح تجري ضدّ سفن “منظّمة التّحرير الفلسطينيّة”، وقبل القائد “ياسر عرفات” العرض على مضض ورفض رغم كلّ الضّغوطات الخروج إلى تونس بلا سلاح. “سنخرج بسلاحنا”!
كان حزينًا ذلك اليوم الّذي أبحرت فيه السّفن من ميناء “بيروت” وأصبحت في عرض البحر فريسة تحت براثن المدفعيّة الإسرائيليّة من الجوّ والبرّ ونوايا السّياسة الصّهيونيّة الّتي لا تحترم الاتّفاقيّات، غدت تلك السّفن وجودًا فلسطينيًّا مترنّحًا بين أمواج لا تستكين ورياح لا تهدأ، حتّى حطّ الرّحيل الأسود بها بعيدًا في “تونس الخضراء”، حيث لا يحبّ القائد العاشق للحلم، وعاد جنون الجغرافيا وشبح الغربة والبعد يتراكم على وجدان “ياسر عرفات” الّذي كان حلم الدّولة الفلسطينيّة يستوطن في ضميره وروحه استيطانًا جميلًا، ويرغب أن يكون على قرب ولو سنتمتر واحد من الوطن والتّراب الأسمر ويريد دائمًا موطأ قدم أقرب من فلسطين. وها هو يبتعد إلى تونس في المغرب العربيّ في شمال أفريقيا النّائية، فيا للغروب الدّامس الّذي لا يطاق، ولا يريده القائد العاشق! فهل ابتعد الحلم! هل ضعفت الإرادة! سيبقى القائد العظيم ذا حلم وطنيّ عظيم وإرادة سياسيّة وكفاحيّة عظيمة وعزيمة صلبة لا تلين مهما عتت الرّياح العاصفة وهاجت الأمواج وعاثت السّموم السّوافي. كانت تونس داخليًّا مهيّئة لاستقبال “المنظّمة” وقادتها ومقاتليها وسلاحها، إذ لم تكن ثمّة جهة رافضة للوجود الفلسطينيّ في تونس، سواء كانت تلك الجهة في الحكومة أو في المعارضة، فالشّعب التّونسيّ كلّه مؤمن بعدالة القضيّة الفلسطينيّة وعروبتها. وهكذا استضافت تونس بقبول كبير واستقبال كريم حوالي 8 آلاف فلسطينيّ مسلّح، بينهم أهمّ قادة “المنظمة”: “أبو عمار، ياسر عرفات”، “أبو اللّطف، فاروق القدّوميّ” (1931 – ما زال حيًّا) “أبو إياد، صلاح خلف”، “أبو مازن” محمود عبّاس وَ “أبو جهاد، خليل الوزير”.
ظلّ سؤال العلاقة بين الدّولة التّونسيّة ومنظّمة التّحرير يحيّر بال القائد “ياسر عرفات”، طالما كانت “المنظّمة” في ضيافة تونس، كما كان يشغل باله من قبل السّؤال عن العلاقة مع الدّولة الأردنيّة وكذلك مع الدّولة اللّبنانيّة، فسياسة تونس وسياسة “المنظّمة” لا يمكن لهما بحال أن يتقاربا كثيرًا لاختلاف التّوجّهات والرّؤى والأهداف. كانت العلاقة بين النّظام التّونسيّ و”المنظّمة” واضحة الحدود، إذ طُلب من الفلسطينيّين عدم التّدخّل المباشر في الشّأن التّونسيّ، وظلّوا معزولين من السّلاح، علاوة على استقرار معسكراتهم بعيدًا عن مراكز المدن مثل معسكر “وادي الزّرقاء”. ولكنّ اليد الإسرائيليّة الإرهابيّة لا تكفّ عن الجرائم لأنّها من أسباب طبيعة قيامها ووجودها وعدوانها، ولذلك كانت تدّعي أنّ تونس تسمح بالعمليّات الفدائيّة الّتي تنطلق من أرضها إلى أعماق إسرائيل، كي تبرّر عمليّاتها ضدّ الوجود الفلسطينيّ في تونس البعيدة. وقد قامت إسرائيل بعدّة عمليّات على الأرض التّونسيّة منتهكة كلّ الاتّفاقات الدّوليّة بدعم من الولايات المتّحدة الأميركيّة، من أبرزها عمليّة “حمّام الشّط” الّتي سمّتها إسرائيل عمليّة “السّاق الخشبيّة” في 1 تشرين الأوّل سنة (1985) وقد استهدفت مقرّ “المنظمة” أثناء اجتماع برئاسة القائد “أبو عمّار”، وقد دُمّر المقرّ بالكامل نتيجة القصف الجوّيّ، وقُتل 50 فلسطينيًّا و18 تونسيًّا وجُرح أكثر من 100 مدنيّ، وقدّرت الخسائر المادّيّة بحوالي 9 مليون دولار. لقد امتزج الدّم الفلسطينيّ مع الدّم التّونسيّ، كما امتزج مع الدّم المصريّ في حرب فلسطين سنة (1948) وفي العدوان الثّلاثيّ سنة (1956) وكما امتزج مع الدّم الأردنيّ في معركة “الكرامة” سنة (1968) ومع الدّم اللّبنانيّ في صدّ الاجتياح الإسرائيليّ. وكأنّ على الدّم الفلسطينيّ أن يمتزج بكلّ الدّماء العربيّة واحدًا واحدًا، من الخليج إلى المحيط، نعم! لأنّ قضيّة فلسطين هي قضيّة قضايا العرب، شاء من شاء من الأنظمة العربيّة وأبى من أبى، وفقًا لمقولة القائد “أبو عمّار” “واللّي مش عاجبو يشرب من بحر عزّة” أو “يبلّط بحر عكّا”!
وعلى أرض تونس تمّت اغتيالات كثيرة، فقد لاحقت إسرائيل القيادات الفلسطينيّة في كلّ مكان، لأنّها رأت في تلك القيادات خطرًا محدقًا ودائمًا. في 16 نيسان سنة (1988) أنزلت إسرائيل قوّة عسكريّة من 20 جنديّ من فرقة “كوماندوز” وغوّاصتيْن وأربع سفن مع طائرتيْن للإسناد في ميناء “قرطاج” وفي العاصمة “تونس” اغتالت هذه القوّة القائد “أبو جهاد، خليل الوزير” أحد أبرز وجوه المقاومة الفلسطينيّة الّتي شكّلت خطرًا على إسرائيل، وأودعت في جسده 70 رصاصة، واحدة قتلته و69 رصاصة للتّأكّد من موته! فيا للحقد الصّهيونيّ! وعلى أرض تونس أيضًا اغتالت اليد الصّهيونيّة الحاقدة يوم 14 كانون الثّاني سنة (1991) القائد “أبو إياد، صلاح خلف” رجل “المنظّمة” الثّاني بعد “ياسر عرفات” وقد تمّت العمليّة بتجنيد إسرائيل لمساعد “أبو الهول، هايل عبد الحميد” (1937 – 1991) وفي بيته، وهو من قادة حركة “فتح”، وقد كان العميل تابعًا لِ “أبو نضال، صبري البنّا” ويدعى “حمزة أبو زيد” (أعدم سنة 1991) وقد قتل في العمليّة أيضًا “أبو الهول” وَ “أبو محمّد، فخري العمريّ” (1936 – 1991) ثلاثة من القيادات قتلوا في هذه العمليّة. وبهذا تكون الفترة التّونسيّة للوجود الفلسطينيّ قد امتازت بالاغتيالات وبداية للتّفكير بالاتّفاقات! ويقال إنّ “مؤتمر مدريد” ومن ثَمّ “مبادئ أوسلو” قد طُبخت في تونس، حيث إنّ وفودًا رسميّة وغير رسميّة، وبضمنها وفود إسرائيليّة كانت تتردّد إلى تونس في الفترة ما بين الانتفاضة وتوقيع الاتّفاقات. وباختصار كان الوجود الفلسطينيّ في تونس البعيدة عائقًا أمام استمرار زخم الكفاح الفلسطينيّ بل كان وبالًا على القضيّة برمّتها.
الرّئيس، الحصار والاغتيال:
هناك حقيقتان راسختان لا يمكن الشّكّ فيهما، الحقيقة الأولى طبيعة الحركة الصهيونيّة الإرهابيّة وعدوانيّتها وحقدها على كلّ ما هو عربيّ وفلسطينيّ من إنسان وجغرافيّة وتاريخ وذاكرة، هذا الإرهاب مارسته العصابات الصّهيونيّة قبل قيام الدّولة، ومارسته إسرائيل كدولة ذات سياسة صهيونيّة عنصريّة إرهابيّة منذ قيامها حتّى الآن، ولم تنفكّ يومًا عن ممارسة هذا الإرهاب حتّى ضدّ مواطنيها العرب الفلسطينيّين، فقد قتلت وسجنت العشرات منهم وصادرت أراضيهم وهدمت بيوتهم ومعابدهم ومقدّساتهم وحاولت فصلهم عن عالمهم وحضارتهم وأدبهم وثقافتهم ولغتهم العربيّة وطمس هويّتهم القوميّة العربيّة وتشويه شخصيّتهم الوطنيّة الفلسطينيّة. وصل الأمر في إرهابها حدّ محاولة اغتيال الأذان “الله أكبر، الله أكبر”. ولم تنفكّ عن اغتيال القادة الفلسطينيّين كلّما تسنّى لها ذلك وقد اغتالت أياديها الآثمة العشرات بل المئات منهم في عواصم العالم ومدنه.
حتّى الرّئيس “ياسر عرفات” الّذي وقّع معهم معاهدة الاعتراف المتبادل واتّفاقات السّلام اغتالوه اغتيالًا نوويًّا بالتّسميم الإشعاعيّ بعد حصار دام 12 يومًا في مقرّه في “المقاطعة”، في العاصمة الفلسطينيّة المؤقّتة “رام الله”، ومات إثرها في أحد مستشفيات العاصمة الفرنسيّة “باريس” يوم 11 تشرين الثّاني سنة (2004) عن عمر ناهز 72 عامًا، وعن 40 عامًا من الكفاح الوطنيّ، قاد فيه مسيرة الثّورة الفلسطينيّة منذ الانطلاقة الأولى لحركة “فتح” سنة (1965) والكفاح المسلّح حتّى موته، وقد قال أثناء حصاره ومسدّسه على طاولته تحت يديْه: “يريدونني قتيلًا أو أسيرًا، طريدًا أو شريدًا، وأنا أقول لهم شهيدًا! شهيدًا! شهيدًا! وعَ القدس رايحين شهداء بالملايين”.
أمّا الحقيقة الثّانية، نعم! حمل “ياسر عرفات” كقائد محبّ وراغب في السّلام العادل الّذي لم تؤمن به حكومات إسرائيل وقادتها كلّهم إطلاقًا، حمل غصن الزّيتون كرمز لذلك الحبّ والرّغبة، ولكنّه لم يترك السّلاح ولا الإيمان بالعودة إليه أذا فشل الخيار السّلميّ، لأنّه كان يدرك تلك الطّبيعة العدوانيّة والإرهابيّة لإسرائيل، وكان يدرك سياسة الولايات المتّحدة الأميركيّة بالدّعم الكامل لها ولاحتلالها واستيطانها وتنكّرها لحقوق الشّعب الفلسطينيّ، ويدرك لا فاعليّة هيئة الأمم المتّحدة بجمعيّتها العامّة ومجلس أمنها وقراراتهما عندما تتعلّق تلك القرارات بالعرب والفلسطينيّين وتكون لصالحهم، وكان يدرك حالة الأنظمة العربيّة المخزية وصفرانيّة تأثيرها وانضوائها وخنوعها تحت ضغوط الولايات المتّحدة كجزء من مخطّطات هيمنتها ومشاريعها الصّهيو – أميركيّة في الشّرق الأوسط. لذلك ظلّ الرّئيس “عرفات” بنظر إسرائيل عدوًّا وظلّ هدفًا لإرهابها، يجب التّخلّص منه باغتياله، لأنّه لم ينسق ولم يخضع ولم يخنع للإرادات الثّلاث: الأميركيّة والإسرائيليّة والعربيّة العميلة حتّى أثناء حصاره من هذا الثّالوث الدّنس.
فشل إسرائيل في أربعين محاولة اغتيال:
تعقّبت المخابرات الإسرائيليّة “الموساد” القائد “ياسر عرفات” منذ سنة (1964) بعد انطلاقة “فتح” المسلّحة، لم يعد “عرفات” ذلك الطّالب الجامعيّ الشّاب، الّذي يقود لجان طلّاب جامعيّين، بل أصبح قائد ثورة مسلّحة هدفها تدمير إسرائيل الغاصبة للوطن. لقد نجا هذا الثّائر العظيم من حوالي 40 محاولة اغتيال إسرائيليّة إرهابيّة، حتّى عندما لم تكن هذه اليد الآثمة هي المنفّذة الفعليّة، فالعقليّة الصّهيونيّة أشدّ إرهابًا وإثمًا، ومن الموت نجا عشرات المرّات أثناء المعارك. كانت المحاولة الأولى سنة (1965) في ألمانيا الغربيّة حيث راقب “الموساد” في تلك الفترة شقّة سكنيّة في مدينة “دريمشتات” ولاحظ دخول وخروج قادة المستقبل الفلسطينيّين منها وإليها، لكنّ اسميْن من أولئك القادة أشعلوا الضّوء الاحمر في “الموساد”: “خليل الوزير” وَ “ياسر عرفات”. وحدة “قيساريا” وهو الاسم الحركيّ لوحدة الاغتيال الإسرائيليّة في “الموساد” طُلب منها اقتحام الشّقّة وقتل جميع من فيها، وراسل “إيتان” قائد الوحدة رئيس “الموساد” آنئذٍ باسمه الحركيّ “ريمون” وقال له: “يوجد لدينا إمكانيّة لن تتكرّر للوصول إلى الهدف (المقصود به ياسر عرفات) يمكننا التّنفيذ بسهولة”. ولكنّ الهدف لم يكن سهل المنال كما اعتقد قائد “قيساريا” وفشل الهجوم. وفي عمليّة أخرى سنة (1965) كان “عرفات” في العاصمة السّوريّة “دمشق”، فقامت وحدة 504 بتجنيد جاسوس خطّط لتفخيخ سيارة “عرفات” لم تنجح العمليّة لأسباب ميدانيّة وتنفيذيّة، وفي وقت لاحق حين اعتقلت السّلطات السّورية “ياسر عرفات” نمت فكرة تجنيد بعض السّجناء الجنائيّين لاغتياله داخل السّجن ولكنّ الخطّة لم تنفّذ لأسباب موضوعيّة، وأطلق سراح “عرفات” بعد ذلك وسقط “الموساد” للمرّة الثّالثة. وأثناء نكسة يونيو سنة (1967) أرغم “ياسر عرفات” على القتال ميدانيًّا في القدس الشّرقيّة وقام رجال “الشّاباك” بتعقّبه، ولكنّه سرعان ما أفلت منهم بتمويه ذكيّ. وفشل “الشّاباك” أيضًا.
نما في أوساط استخباريّة إسرائيليّة وبعد الفشل المتكرّر في الاغتيال أنّ “عرفات” صاحب ألف روح، وبخاصّة بعد تحوّل العمليّات الفدائيّة ضدّ إسرائيل تحت قيادته إلى عمليّات موجعة وأليمة وقاتلة. بعد نكسة سنة (1967) لم تعرف إسرائيل وعلى مدى ستّة أشهر مكان وجوده حتّى جاء العميل “غروتيوس” الاسم الحركيّ لأحد عناصر “الشّاباك” والّذي كان مزروعًا في حركة “فتح” وسلّم لمسؤوليه معلومات أفادت بأنّ قيادة “عرفات” نُقلت إلى بلدة أردنيّة اسمها “الكرامة”، فقرّر الجيش الإسرائيليّ التوغّل في البلدة وتصفية “عرفات” ومقاتليه، ولكنّ العمليّة قد تعقّدت بمواجهة المقاومة المسلّحة والمقاومة الشّعبيّة وقتل فيها 28 جنديًّا إسرائيليًّا ونجح “القائد” بالهرب من البلدة في الثّواني الأخيرة من العمليّة. يزيد الحقد ويزيد الإرهاب إذ في كلّ مرّة يزداد “القائد” أرواحًا وتسيل دماء إسرائيليّة. وكانت الخطّة الغريبة هي محاولة اغتيال “عرفات” عن طريق التّنويم المغناطيسيّ، عن طريق طبيب نفسيّ في سلاح البحرية الإسرائيليّ يدعى “بنيامين شاليط”، لكنّ المخابرات الإسرائيليّة عجزت عن التّنفيذ. في سنة (1973) واتت الفرصة الذّهبيّة “للموساد” والجيش الإسرائيليّ ليس لاغتيال “ياسر عرفات” فقط بل جميع قادة “منظّمة التّحرير” أثناء الاستعداد لاحتفال كبير في “بيروت”، قبل الاحتفال بحوالي ساعة اجتمعت قيادة “المنظّمة” في مقرّ قريب فبدأت طائرات “الفانتوم” الإسرائيليّة التّدرّب على قصف المكتب، ولكن سحابة كثيفة غطّت المكان فقام سلاح الجوّ الإسرائيليّ بإرسال طائرة لرصد الحالة الجوّيّة حتّى تسنح الفرصة لها وترصد أفضل، إذ كانت الأوامر للطّيّارين تؤكّد على القصف فقط في حالة مشاهدة الهدف بوضوح تامّ، ولم تواتِ الفرصة، حاول الطّيّارون الهبوط أسفل الغيوم فتراءى لهم الهدف فأسقطوا القنابل من ارتفاع منخفض لم يكن بالمقدور توجيهها فسقطت على سطح المبنى ولم يصب سوى سائق “أبو جهاد” الّذي وقف خارج المبنى يدخن سيجارته ونجا “عرفات ” صاحب ألف الرّوح”، على حد وصف “الموساد” له مرّة أخرى”.
وفي سنة (1982) أصدر رئيس الوزراء الإسرائيليّ “مناحيم بيغين” أوامره بإلغاء خطّة “واحد واحد” لاغتيال “عرفات” بسبب إمكانيّة إصابة أشخاص رفيعي المستوى من دبلوماسيّين عالميّين الأمر الّذي يورّط إسرائيل ويدمّر علاقاتها ببعض الدّول. كان من طبيعة “عرفات” عدم الرّكون لروتين أو تقليد دائم في معظم مساراته وبرامجه، ولذلك كان يلجأ لتغيير خطّته أو مساره في اللّحظات الأخيرة قبل إقدامه على التّنفيذ، وهو ما ساعده على النّجاة من معظم محاولات الاغتيال الّتي أعدّت لها المخابرات الإسرائيليّة وبإحكام. ففي حرب “لبنان الأولى” كان “عرفات” أحد أهمّ أهداف هذه الحرب، وفورًا ومع تقدّم القوّات الإسرائيليّة نحو “بيروت” أقام رئيس أركان الاحتلال “رفائيل إيتان” قوّة مهامّ خاصّة، أطلق عليها الاسم الرّمزيّ “السّمك المملّح” مهمّتها مساعدة رجال “الموساد” في تعقّب “عرفات” وتحديد مكانه وقتله، ولكنّ جميع المحاولات في هذه الحرب باءت بالفشل، بسبب التّمويه والمراوغة العرفاتيّة المعهودة. وتوالت محاولات اغتياله ما بين (1984 – 2001) ولكنّ تلك المحاولات تميّزت بأنّها كانت عبارة عن ثأر شخصيّ من رئيس الوزراء الإسرائيليّ “أريئيل شارون” الّذي تميّز بكراهية “عرفات” طيلة السّنوات المذكورة ورأى فيه جزءًا من المشكلة، وليس جزءًا من الحلّ حتّى بعد “اتّفاقات أوسلو”، مع بداية سنة (2001) بدأت النّقاش داخل إسرائيل حول “ماذا نفعل مع عرفات”. وكانت بعض الآراء تعتقد بضرورة قتله علنًا وأخرى باغتياله سرًّا كي تتمكّن إسرائيل من الإنكار، وهناك من اعتقد بإبعاده وطرده، وبعضها رأت إمكانيّة اغتياله سياسيًّا، وذلك بإقناع الدّول الأوروبيّة بأنّ “عرفات” ليس طرفًا أو شريكًا في السّلام وليس هو الرّئيس الشّرعيّ للسّلطة الفلسطينيّة.
في المحاولة الأخيرة نجح الاغتيال الإرهابيّ:
لكنّ محاولة الاغتيال الإرهابيّة الأخيرة نجحت، فعلى مدار 12 يومًا مكث فيها “عرفات” في مستشفى “بيرسي” الفرنسيّ حاول طاقم كبير من الإطبّاء والخبراء إنقاذ حياته، ولكن اتّضح فيما بعد في تقرير نُشر لأوّل مرّة في كتاب “الحرب السّابعة” للكاتبين: “عاموس هرئيل” وَ “آفي سخاروف” بأنّ الأطبّاء والخبراء وقفوا عاجزين أمام هذا المرض الغريب الّذي أصيب به “ياسر عرفات”. فقد أشارت التّقارير إلى أنّه وفي يوم 12 أكتوبر سنة (2004) حين كان “عرفات” محاصرًا، وبعد أربع ساعات من تناوله وجبة العشاء أصيب بأوجاع في البطن وإسهال وغثيان وحالة من القيء وإحساس عامّ بالسّوء، وبعد عدّة أيّام ظهرت حالة من “اليرقان” وبعد فحص “إلكتراساوند” لبطنه لم يُكتشف سبب محدّد للمرض، لكن لوحظ تدهور في وضعه وانخفاض مستمرّ في عدد الصّفائح الدّمويّة. وخلال وجوده في المستشفى الفرنسيّ ثارت شكوك حول تعرّضه لتسمّم على يد جهات معيّنة، فأجرى الأطبّاء سلسة واسعة من فحوصات الدّم والبول وفحوصات السّموم الطّبيّة وسموم المعادن الثّقيلة، بما في ذلك فحص وجود عنصر السّيزيوم والكروم والكوبلت إلى جانب موادّ مشعّة يمكنها التّسبّب في حالة من التّسمّم الإشعاعيّ، كانت جميع نتائج الفحوصات سلبيّة، لكنّ عنصر البولونيوم الّذي سبّب الوفاة وفقًا لنتائج التّحقيق الأخيرة لم يجرِ فحصه. ونجحت يد الغدر الصّهيونيّة الحاقدة وعقليّة الإرهاب الإسرائيليّة العدوانيّة باغتيال القائد العظيم والفدائيّ الثّائر “ياسر عرفات”.
القضيّة الفلسطينيّة قضيّة اليسار العالميّ:
اقترنت القضيّة الفلسطينيّة كقضيّة تحرّر وطنيّ بقوى اليسار العالميّ كقوى تناضل من أجل التّحرّر من القوى الرّجعيّة والظّلاميّة والاستعماريّة، وكان من الطّبيعي أن تقترن الحركة الصّهيونيّة الإرهابيّة بقوى الاستعمار والانتداب البريطانيّ ومن ثمّ بمشاريع الهيمنة الأميركيّة وقوى الأنظمة الرّجعيّة العربيّة الّتي تسير في فلكها، ولذلك شكّلت الثّورة الفلسطينيّة بقيادة “منظّمة التّحرير الفلسطينيّة” النّقيض التّامّ للحركة الصّهيونيّة، فالأولى حركة تحرّر وطنيّ ترتبط بقوى اليسار العالميّ والمعسكر الشّرقيّ الاشتراكيّ ورأسه الاتّحاد السّوفييتيّ، والثّانية حركة عنصريّة تقوم على السّلب والنّهب والإرهاب والاحتلال، تقمع الشّعوب وتمنعها من نيل استقلالها بمساعدة قوى الشّرّ والاضطهاد العالميّ، فهي ترتبط مع المعسكر الغربيّ الاستعماريّ الإمبرياليّ ورأسه الولايات المتّحدة الأميركيّة. ولذلك وجدت الثّورة الفلسطينيّة في منظومة الدّول الاشتراكيّة الّتي كان من بين أهمّ مبادئها مناهضة الاستعمار سندًا طبيعيًّا لها. وقد التقط القائد “ياسر عرفات” هذا القطب ليؤسّس لواحد من أكبر التّحالفات الّتي صنعتها الثّورة الفلسطينيّة، وقد تعامل هذا القطب الاشتراكيّ مع “ياسر عرفات” كزعيم وطنيّ تحرّري في العالم. ولطالما أثارت العلاقة ما بين الثّورة الفلسطينيّة واليسار العالميّ سؤالاً محوريًّا مفاده: هل كان سقوط الاتّحاد السّوفييتيّ أو المعسكر الاشتراكيّ وتحوّل النّظام الدّوليّ من القطبيّة الثّنائيّة للأحاديّة أحد أسباب ذهاب “منظّمة التّحرير الفلسطينيّة” للتّسوية السّلميّة وتوقيع “اتّفاقات أوسلو”؟ أعتقد بصحّة هذا الكلام! ولكنّ أسبابًا أخرى تتعلّق بظروف العالم العربيّ وأنظمة التّواطؤ بعد موت “جمال عبد النّاصر” وخروج مصر من الصّفّ العربيّ، ومن ثمّ توقيع معاهدة السّلام الخيانيّ الخنوع والمنفرد مع إسرائيل، ومن ثمّ توقيع اتّفاقيّة السّلام بين إسرائيل والأردن، أخرجت تلك الخيانة العلنيّة والخنوع بعد سلسلة من الخيانة السّرّيّة للأنظمة العربيّة الأخرى دولتيْن من دول المواجهة من دائرة الصّراع العربيّ – الإسرائيليّ، الّذي لطالما تباهت به تلك الأنظمة العربيّة بشعارات طبول جوفاء وكاذبة وبجعجعة براميل فارغة، لم تسفر إلّا عن انبطاح أمام سياسات العمّ سام والشّقيقة إسرائيل. ومهما يكن من أمر، فإنّ “ياسر عرفات” صنع تراثًا من علاقات الصّداقة والمحبّة مع حركات التّحرّر الأفريقيّة وقادتها، تراثًا شكّل رصيدًا لا ينضب، وما زال الشّعب الفلسطينيّ يقطف ثماره في علاقاته المتميّزة مع القارّة السّمراء، وقد جناها ممّا زرعه “ياسر عرفات”. وقد أسهمت جهود “أبو عمّار” وَ “أبو جهاد” في فتح علاقات صداقة مع الصّين ومع حركات التّحرّر في آسيا وأفريقيا. قبل الانطلاقة كان “أبو جهاد” سنة (1962) ممثّلًا لحركة “فتح” في الجزائر، فأجرى اتّصالات بحركات التّحرّر الّتي كان لها ممثّليّات دبلوماسيّة هناك، والتقى قادة ثوريّين مثل: الجنرال “جياب” والثّائر اللّاتينيّ “تشي جيفارا”، كما فتح “ياسر عرفات” علاقة متينة مع الاتّحاد السّوفييتيّ منذ سنة (1969) وفتح “أبو إياد” علاقات مع العديد من الدّول الأوروبيّة، وشارك “أبو مازن” في فتح علاقات مع حركات التّحرّر في أميركا اللّاتينيّة ولاحقًا مع روسيا الاتّحاديّة.
ومن هذه المثابة انفتحت أمام الثّورة الفلسطينيّة وقائدها “ياسر عرفات” الأبواب نحو علاقات ثوريّة وطيدة مع النّظام النّاصريّ العروبيّ الثّوريّ في مصر، ومع الثّورات الكفاحيّة وحركات التّحرّر العربيّة والعالميّة في أعماق أفريقيا وآسيا وأميركا اللّاتينيّة، وكان من الطّبيعيّ أن تربط “ياسر عرفات” كقائد لحركة تحرّر وطنيّ علاقات ثوريّة وكفاحيّة وطيدة مع “جمال عبد النّاصر” كزعيم يؤمن بالوحدة العربيّة والتّحرّر، وتمتدّ تلك العلاقات إلى أفريقيا مع “نيلسون مانديلا” كزعيم ورمز للتّحرّر الأفريقيّ، وإلى أميركا اللّاتينيّة مع “فيدل كاسترو” وَ “تشي جيفارا” كرمزيْن لحركات التّحرّر في القارّة الجنوبيّة والعالم، وإلى آسيا والشّرق الأقصى مع “هو تشي منّه” والجنرال “جياب” القائديْن اللذيْن قهرا أربعة استعمارات متتالية في فيتنام، كان آخرها هزيمة رأس الإمبرياليّة، الولايات المتّحدة الأميركيّة المخزية تحت قدم الإرادة والصّمود الفيتناميّ.
مع العظيم جمال عبد النّاصر:
حكمتنا العربيّة تقول “قل لي من تعاشر أقل لك من أنت”، وقال شاعرنا القديم “طرفة بن العبد” صاحب المعلّقة الأطول في إحدى حكمه:
“عنِ المرءِ لا تسألْ وسلْ عنْ قرينِهِ فكلُّ قرينٍ بالمُقارِن يقتدي”.
وبالنّظر إلى هذه المعاني سنشهد للقائد العظيم “ياسر عرفات” من خلال علاقاته مع قادة العالم وثوّاره العظماء: “جمال عبد النّاصر”، “نيلسون مانديلا”، “تشي جيفارا”، “فيدل كاسترو” والجنرال “جياب”. مع أنّ لِ “أبو عمّار” علاقات واسعة ومتشابكة ومتقلّبة مع كلّ زعماء العالم في الشّرق والغرب والشّمال والجنوب. أمّا علاقته مع الرّئيس العربيّ “جمال عبد النّاصر” من بين الزّعماء العرب فقد كانت متميّزة بكونهما ثائريْن قاد كلّ منهما ثورة شعبه ضدّ الظّلم والاستعمار والاحتلال، ووقفا بالبعد العربيّ ضدّ كلّ محاولات النّيل من أيّ أرض عربيّة، فقاتل “ياسر عرفات” مع المصريّين على أرض مصر وقاتل جمال عبد النّاصر مع الفلسطينيّين على أرض فلسطين، وكذلك نبعت هذه العلاقة الثّوريّة المتينة من أهمّيّة الدّور المصريّ في القضيّة الفلسطينيّة. وكان “عبد النّاصر” أوّل زعيم عربيّ يتبني الثّورة الفلسطينيّة ويحتضن حركة “فتح” الّتي أسّسها “ياسر عرفات” سنة (1959) وكانت رائدة الكفاح المسلّح ضدّ الصّهيونيّة والاحتلال الإسرائيليّ على أرض فلسطين. وقد نعت العظيم “عبد النّاصر” الثّورة الفلسطينيّة بأنّها “أطهر ظاهرة في القرن العشرين”. وبعد نكسة حزيران سنة (1967) صارت العلاقة بين القائديْن علاقة تحالف قوميّ، وفي زيارة “عبد النّاصر” لِ “موسكو” بعد النّكسة كان “ياسر عرفات” برفقته. وقد ذكرنا ما كان للرّئيس المصريّ العظيم من دور في الخلافات بين الجيش الأردنيّ والتّنظيمات الفلسطينيّة في أحداث “أيلول الأسود” سنة (1970) وكذلك استطاع “عبد النّاصر” بفكره العربيّ المشرّف أن يسوّي الخلافات بين اللّبنانيّين والفلسطينيّين باتّفاقيّة “القاهرة”. لقد أصيب “أبو عمّار” بالاكتئاب إثر وفاة الزّعيم العظيم، لأنّه فقد شقيقًا وحليفًا عربيًّا مخلصًا لعروبته ولفلسطين، وفقدت القضيّة الفلسطينيّة كقضيّة العرب الأولى سندًا لا يعوّض. ولنا فيما آل إليه “الزّعماء” العرب الخانعين بعد موت “جمال عبد النّاصر” خير برهان على عظمة الفقيد السّلف ودناءة الباقين الخلف. “سيذكرُني قومي إذا جدَّ جدُّهمْ وفي اللّيلةِ الظّلماءِ يُفتقدُ البدرُ” كما قال الفارس والشّاعر العربيّ “أبو فراس الحمدانيّ” نعم نفتقدك يا أبا خالد! فالوقت جدّ عصيب ومظلم ومخجل نفتقدك يا “جمال عبد النّاصر” ماردًا عربيًّا ينتصب أمام الأعداء فيرهبهم وبدرًا ساطعًا ينير ما يحيق بنا من ظلام قوميّ دامس وظلام أنظمة رسميّة ذليلة وخنوعة.
كان لِ “أبو عمّار” علاقات كثيرة مع الرّؤساء المصريّين ومع العرب ملوكًا ورؤساء، لكنّها لا تحظى باهتمامي، لأنّني أتكلّم عن علاقة قائد عظيم مع قائد عظيم، وليس في هؤلاء جميعًا بعد موت “جمال عبد النّاصر” وموت “ياسر عرفات” أيّ قائد! وليس في هؤلاء أيّ عظيم!
مع العظيم نيلسون مانديلا:
كان “ياسر عرفات” أوّل من هنّأ الثّائر السّجين “نيلسون مانديلا” بعد الإفراج عنه من سجون التّمييز العنصريّ، وكان أوّل من حضر إلى جنوب أفريقيا سنة (1994) للمشاركة في مراسيم تنصيب العظيم “نيلسون مانديلا” كأوّل رئيس أسود ومنتخب ديمقراطيّ في جنوب إفريقيا، وقد حظي “عرفات” باستقبال مميّز أشار إلى خصوصيّة العلاقة بين الزّعيميْن، وقد تبع هذا اللّقاء زيارات متبادلة أخرى، كان أبرزها زيارة “مانديلا” لفلسطين سنة (1996) لكنّ العلاقة بينهما كقائديْن لثورة شعبيْن يطلبان التّحرّر من الظّلم والاضطهاد ونيل الحرّيّة والعدالة والكرامة، بدأت مبكّرًا منذ كانت اللّقاءات بين الحركات الطّلابيّة في “القاهرة” منذ سنة (1956) وكانت العلاقة الشّخصيّة قد نشأت بين الثّوريّيْن العظيميْن: “ياسر عرفات” وَ “نيسلون مانديلا” منذ فترة وجود “مانديلا” في المعتقل، إذ كانا يتبادلان الرّسائل واللّقاءات مع قيادات حزب “المؤتمر الوطنيّ الأفريقيّ”، وقد كان ثمّة تواصل أخلاقيّ بين “عرفات” وعائلة “نيلسون مانديلا” خلال فترة اعتقاله. تؤكّد الوثائق الفلسطينيّة أنّ أوّل لقاء جمع القائديْن العظيميْن كان في “لوساكا” عاصمة زامبيا، وذلك بعد الإفراج عن “مانديلا” بفترة وجيزة سنة (1990) وتبع ذلك لقاء آخر في “ويندهوك” عاصمة ناميبيا في العام نفسه، وتلته عدّة لقاءات في عواصم أخرى، كثرة اللّقاءات تدلّ على قدم العلاقة الثّوريّة بين القائديْن وعلى عمقها. كان “مانديلا” يقول: “عرفات نقل قضيّة شعبه من قضيّة لاجئين إلى قضيّة أمّة”. وقد كان يتابع نشاطاته من غياهب السّجن، وقد قال: “كم كان “عرفات” مثيرًا لاهتمامي بثباته ومثابرته. لقد آمن به شعبه وسار معه خطوة بخطوة، في السّرّاء والضّرّاء، فهو الّذي وضع المسألة الفلسطينيّة على جدول أعمال المجتمع الدّوليّ، لقد كانت حماسه وثقته لا تتزعزع، وكان التزامه بالكفاح من أجل إقامة الدّولة الفلسطينيّة تشكّل قيمًا رمزيّة في نظر الكثيرين في العالم. سوف يبقى “عرفات” إلى الأبد رمزًا للبطولة عند كلّ شعوب العالم الّتي تكافح من أجل العدالة والحرّيّة، وقد حظي الشّعب الفلسطينيّ على نحو خاصً بالقيادة الجماعيّة لمنظّمة التّحرير الفلسطينيّة، وعلى رأسها رجل يتمتّع بمقدرة قياديّة ومنزلة عالية وحكمة ومثابرة ووفاء هو “ياسر عرفات”. هذه هي رؤية زعيم أفريقيّ مكافح من أجل العدالة والحرّيّة عن قائد شعبنا العربيّ الفلسطينيّ.
حين حاول صحفيّ أميركيّ إحراج الرّئيس “نيلسون مانديلا” في لقاء تلفزيونيّ، أثناء زيارته للولايات المتّحدة الأميركيّة بسؤاله عن علاقاته مع شخصيّات “إرهابيّة” مثل “ياسر عرفات” وأنظمة “دكتاتوريّة” كنظام الحكم في كوبا والرّئيس “فيدل كاسترو” قال: “نحن نفتخر بهؤلاء، هؤلاء أصدقاؤنا الّذين ساعدوا في كفاحنا ضدّ العنصريّة وأمدّونا بالدّعم المعنويّ والسّلاح الثّوريّ حتّى “مقبض السّيف”، وبذلك انتصرنا على الأبرتهايد”. في آذار سنة (2009) رُفعت لوحة للقائديْن: “ياسر عرفات” وَ “نيلسون مانديلا” في جنوب إفريقيا، رفعتها سفارة دولة فلسطين لدى جمهوريّة جنوب أفريقيا، لوحة كبيرة تخلّد الشّراكة النّضاليّة والصّداقة الأمميّة الّتي جمعت الزّعيميْن في العاصمة “بريتوريا”، وتُظهر اللّوحة صورة التقطت في تسعينيّات القرن الماضي، يحتضن فيها الزّعيم الأفريقيّ المناضل والعظيم “نيلسون مانديلا” الزّعيم الفلسطينيّ المناضل والعظيم “ياسر عرفات” خلال مشاركتهما في أحد مؤتمرات القمّة الأفريقيّة.
مع العظيميْن: كاسترو وجيفارا:
لقائد حركة “26 يوليو” الثّوريّة في كوبا العظيم “فيدل كاسترو” علاقات نضاليّة مع الثّورة الفلسطينيّة وفصائلها المختلفة، وله مع قائد الثّورة الفلسطينيّة “ياسر عرفات” علاقات أخويّة كفاحيّة خاصّة، وقد التقى القائدان عدّة مرّات، على خلفيّة قرارات كوبيّة مشرّفة لصالح القضيّة الفلسطينيّة، وذلك يتجسّد من خلال موقفيْهما المعارضيْن للصّهيونيّة والإمبرياليّة، والدّاعميْن للثّورة والكفاح ضدّ الاحتلال والهيمنة والاضطهاد. المناضل الأمميّ “كاسترو” أحبّته فلسطين كلّها، على كافّة الفصائل والأحزاب والحركات لمواقفه الشّجاعة الدّاعمة والمؤيّدة للحقّ الفلسطينيّ. إذ وقف مدافعًا عن فلسطين في كافّة المحافل الدّوليّة والدّبلوماسيّة، وفتح أراضي كوبا أمام شعبنا وأبواب جامعاتها لتعليم أبنائنا، كما قام بتدريب العديد من المناضلين والفدائيّين في المعاهد والكلّيّات العسكريّة، مؤمنًا بأنّ من الحقّ والعدالة والشّرعيّة أن يدافع ويقاتل شعبنا الفلسطينيّ من أجل استرداد حقوقه الوطنيّة ومن أجل نيل حرّيّته السياسيّة. إنّ هذه المواقف تندرج من اعتبار الثّورة الفلسطينيّة جزءًا من حركة الشّعوب المقهورة للتّحرّر العالميّ والنّهج على الإخلاص للقيم الكفاحيّة والنّضاليّة الّتي أرسى دعائمها القائد “كاسترو” وصديقه القائد “عرفات”. لقد احتضن الرّئيس الكوبيّ قائد الثّورة الكوبيّة المنتصرة على الدّكتاتوريّة والعمالة لعدوّ الشّعوب، الإمبرياليّة الأميركيّة، احتضن “ياسر عرفات” وشكّل معه أعظم ثورة في التّاريخ المعاصر.
بعد تأسيس منظومة دول “عدم الانحياز” سنة (1963) كان للدّور الكوبيّ الّذي لعبه الرّئيس “كاسترو” الدّور المؤثّر في قبول فلسطين كعضو دائم وكامل الحقوق، وكذلك لعبت الدّبلوماسيّة الكوبيّة دورًا كبيرًا في الاعتراف الأمميّ في هيئة الأمم المتّحدة بِ “منظّمة التّحرير الفلسطينيّة” كممثّل شرعيّ ووحيد، ولقد أدّت مساعي “كاسترو” بدافع الاحترام والتّأييد للشّعب الفلسطينيّ وتقديرًا لقيادة “ياسر عرفات” ومسيرته الكفاحيّة، أدّت إلى اعتراف عدد كبير من دول القارّة اللّاتينيّة بفلسطين دولة وافتتحت سفارات لها فيها. ولقد دعا الرّئيس الكوبي لأوّل مرّة القائد الفلسطينيّ، رئيس “منظّمة التّحرير” للحضور والمشاركة في احتفالات انتصار الثّورة الكوبيّة سنة (1970) وعلى مستوى الدّعم العسكريّ الثّوريّ فقد دعمت كوبا بقيادة “كاسترو” الثّورة الفلسطينيّة سياسيًّا وعسكريًّا وإعلاميًّا إبّان الغزو الإسرائيليّ للبنان سنة (1982) والّذي كان هدفه القضاء على الوجود العسكريّ الفلسطينيّ والقضاء على التّنظيمات الفلسطينيّة الّتي شكّلت خطرًا وجوديًّا على إسرائيل. وخدمة للقضيّة الفلسطينيّة العادلة أغلقت كوبا بقرار من الرّئيس “كاسترو” “المركز الثّقافيّ الإسرائيليّ” في “هفانا” سنة (1972) وقد كان بؤرة لبثّ الدّعاية الصّهيونيّة العنصريّة، وفي أيلول سنة (1973) أعلن “كاسترو” من على منصّة المؤتمر الرّابع لدول “عدم الانحياز” الّذي انعقد في الجزائر، أعلن عن قطع العلاقات الدّبلوماسيّة مع إسرائيل. وعند انفجار “الانتفاضة” سنة (1987) حظيت بالتّأييد الكوبيّ الكامل كشكل رائع من أشكال الكفاح الشّعبيّ بالحجر والمقلاع لمواجهة الاحتلال الصّهيونيّ المدجّج بالسّلاح والحقد العنصريّ والمطامع الكولونياليّة والرّغبة بالهيمنة على الأرض والثّروات والمقدّرات الفلسطينيّة ليبقى المصير الفلسطينيّ في يديْها الملطّختيْن بالدّم وتحت قدميْها الهمجيّتيْن. وقد حظيت فلسطين بعد الإعلان عن استقلالها سنة (1988) على أرض الجزائر بالـتّأييد الكوبيّ الفوريّ، وافتتحت لها في “هفانا” أوّل سفارة في القارّة الأميركيّة اللّاتينيّة.
جسّدت مقولة الثّائر الأمميّ العظيم “جيفارا” علاقة الثّورتيْن: “26 يوليو” والثّورة الفلسطينيّة، والقائديْن المكافحيْن: “كاسترو” وَ “عرفات”. قال “جيفارا”: “وطني هو المكان الّذي يعاني فيه أيّ شعب من شعوب العالم الاضطهاد والظّلم”. زار “جيفارا” قطاع “غزّة” سنة (1959) فكانت زيارته أوّل بادرة ثوريّة تأتي من أميركا اللّاتينيّة لدعم الكفاح الفلسطينيّ والمصريّ، ومن هذه البادرة الكفاحيّة تحوّل الاحتلال الإسرائيليّ لفلسطين من صراع إقليميّ إلى صراع عالميّ ضدّ الاستعمار، خاصّة أنّها جاءت إثر العدوان الغربيّ الإمبرياليّ الثّلاثيّ على مصر، لإسقاط النّظام العروبيّ والوطنيّ النّاصريّ الثوريّ. وكانت هذه الزّيارة تطوّرًا سياسيًّا بين النّظام النّاصريّ والثّورة الكوبيّة، فقد جاء المناضل الثّوريّ الأمميّ “جيفارا” لزيارة قطاع “غزّة” بدعوة من الرّئيس “جمال عبد النّاصر”، لأنّ “القطاع” كان تحت الحكم المصريّ، وقد كان “جيفارا” أوّل الشّخصيّات الشّهيرة الّتي زارت “غزّة” لرؤية الدّمار الّذي خلّفته “النّكبة”، وقد كان في استقباله عدد من قيادة الفدائيّين والمناضلين. وقد قال “جيفارا” هناك: “إنّ الأخوّة الّتي توحّدنا تتحدّى مسافة البحار والمحيطات الّتي تفصلنا، تتحدّى اللّغات المختلفة وعدم وجود روابط ثقافيّة، لتتجسّد في عناق نضاليّ وأخويّ”.
احترمت فلسطين وقادتها وأحزابها وفصائل ثورتها وحركاتها الثّوريّة والسّياسيّة وكلّ إنسان فلسطينيّ، وعلى رأس هؤلاء جميعًا القائد المناصل والرّئيس الفلسطينيّ “ياسر عرفات”، احترمت كوبا وقائدها العظيم “كاسترو” وثائرها العظيم “جيفارا” والشّعب الكوبيّ والدّور الكوبيّ الكفاحيّ في الدّعم المطلق للقضيّة الفلسطينيّة، وتقديرًا لهذا الموقف، تمّ رسم لوحة جداريّة بعرض 10 أمتار وارتفاع 3 أمتار بالقرب من مدينة “الدّورة” جنوبي الضّفّة الغربيّة، على جدار العزل الإسرائيليّ لتكريم روح المقاومة الكوبيّة والفنزويليّة، ويظهر في تلك الجداريّة صور لزعيميْ المقاومة الكوبيّة: الرّئيس “فيدل كاسترو” والمناضل “تشي جيفارا” وزعيم المقاومة الفنزويليّة الرّئيس “هوجو شافيز” (1954 – 2013) وأبرز زعماء الثّورة الجزائريّة الرّئيس “هواري بومدين” تتوسّطها صورة العظيم الفلسطينيّ “ياسر عرفات”.
مع العظيميْن: هو تشي منّه وجياب:
تعتبر مقولة الجنرال الثّوريّ “جياب” الفيتناميّ: “الثّورة والثّروة لا يلتقيان” مقولة كفاحيّة من الدّرجة الأولى، ولقد أصغى إليها جيّدًا “ياسر عرفات”، وقد التقى الجنرال مع “عرفات” في أكثر من مناسبة، كان أهمّها ذلك اللقاء في جبال فيتنام، حيث المقرّ السّري للزّعيم القائد “هو تشي منّه” قبل انتصار الثّورة الفيتناميّة، وفي المرّة الأخيرة في “هانوي” بعد انتصارها. كان “جياب” دائم السّؤال عن الوضع الفلسطينيّ، وكان يردّد الحديث عن حتمية انتصار الشّعوب ضدّ الاستعمار. وقد سأله “نصري حجّاج” (1951 – ما زال حيًّا) أحد الصّحفيّين الفلسطينيّين إذا علم برحيل “عرفات” سنة (2004) فقال: (وقد توفّي الجنرال سنة 2013) “نعم! وقد حزنّا لرحيل هذا القائد الوطنيّ”، وذكر لقاءه به عدّة مرّات، أولّها في الجبال مع الرّفيق “هو تشي منّه”، فقال: “أرسل لي خصّيصًا كي أنضمّ إليه للقاء قائد الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة “ياسر عرفات” وقد سألني في ذلك اللّقاء عن تجربة الشّعب الفيتناميّ، وخصوصًا في معركة “ديان بيان فو” الّتي انتصر فيها شعبنا على الاستعمار الفرنسيّ، ليسجّل أوّل انتصار لشعب محدود الإمكانيّات على قوّة عسكريّة طاغية”. يتابع الصّحفيّ الفلسطينيّ في لقائه مع الجنرال: “كان الجنرال قصير القامة بشكل واضح، يداه صغيرتان كيديّ طفل، ذكّرتني قامته ويداه وإشعاع عينيه على الرّغم من العمر بقامة “ياسر عرفات” وذكائه. لكنّنا لم نسمع منه طوال الجلسة مفردة “أنا”. لم يقل فعلْتُ وخطّطْتُ، بل قال: الرّفاق والمقاتلون من فعل وناضل وقاتل، وذلك كلّه بتوجيهات الرّفيق “هو تشي منّه”. وممّا يشار إليه أنّ “نصري حجّاج” زار فيتنام سنة (2006) لتصوير قبر المناضل الفلسطينيّ “أنور شهاب” (من يذكره الآن) وهو من قرية “عنبتا” الفلسطينيّة، دفن في مقبرة المقاتلين الفيتناميّين في “هانوي” الّذين سقطوا أثناء مقاومة الاستعماريْن: الفرنسيّ والأميركيّ وسقط معهم الشّهيد الفلسطينيّ من أجل حرّيّة الشّعب الفيتناميّ، لقد كُتبت هذه المعلومة في كتاب “حربنا الشّعبيّة هزمت حرب الإبادة الأميركيّة” لكاتبه الجنرال “جياب”، وقد ترجمه إلى العربيّة في بيروت “سعدي الطّميزي” السّفير الفلسطينيّ في فيتنام. هكذا يختلط الدّم الفلسطينيّ الثّائر مع الدّم الفيتناميّ في معركة الإنسان الحرّ والأصيل ضدّ الوحوش الإمبرياليّة المفترسة، كما اختلط من قبل مع الدّماء العربيّة، في مصر والأردن ولبنان وسوريا، وكذلك يحكي التّاريخ عن استشهاد مناضليْن فلسطينيّيْن: “علي عبد الخالق” وَ “فوزي صبري النّابلسيّ” كانا قد تطوّعا للدّفاع عن الجمهوريّة الأسبانيّة وامتزاج دمائهم الطّاهرة مع كثير من الدّماء الإنسانيّة من قوميّات مختلفة، في الحرب الأهليّة بين الجمهوريّين والقوى الدّكتاتوريّة على أرض أسبانيا. وعن شخصيّة “علي عبد الخالق” وعن قصّته في الحرب كتب الرّوائيّ “حسين ياسين” روايته “علي، قصّة رجل شجاع”.
تأثّر “عرفات” كثيرًا بنجاح “هو تشي منّه” الشّيوعيّ الفيتناميّ، أوّل رئيس لفيتنام الشّماليّة، الّذي نجح في تعبئة اليسار في أوروبا والولايات المتّحدة، ولم يتردّد في اتّخاذ خطّ الدّعاية لفيتنام الشّماليّة عندما بدأت هجمات النّظام الشّيوعيّ في فيتنام الشّماليّة على الجنوب باعتبارها حرب تحرير وطنيّ في فيتنام. أمّا قائد الجيش الفيتناميّ الشّماليّ، الجنرال “جياب” فقد علّم “ياسر عرفات” درسًا قيّمًا: “من أجل النّجاح في الكفاح من الضّروريّ تطوير مصطلحات مناسبة”.
كان من الممكن أن تتعلّم التّجربة الثّوريّة الفلسطينيّة من التّجربة النّضاليّة الفيتناميّة أو غيرها في جنوب أفريقيا والهند، ولكنّ للكفاح الفلسطينيّ ظروفًا خاصّة ومختلفة، وقد كان “جياب” يدرك هذه الخصوصيّة ويدرك المخاطر المحدقة بالثّورة الفلسطينيّة وينبّه قادتها منها. فقد وصف “جياب” الثّورة الفلسطينية، في حديث مع “ياسر عرفات” بأنّها “ثورة المستحيل”، ومغزى ذلك أنّ الفلسطينيّين لا يملكون تضاريس مناسبة لشنّ حرب عصابات وكفاح مسلّح كما في فيتنام، ولا توجد دول تشكّل قاعدة لانطلاقهم. كان مصطلح “ثورة المستحيل” نابعًا من محاولات فلسطينيّة لاستنساخ تجارب ثوريّة في فيتنام، الصّين، الجزائر وغيرها، تعتمد على حرب العصابات والكفاح المسلّح. أرسل الجنرال “جياب” رسالة إلى “ياسر عرفات” قال فيها: “قتالكم أصعب بكثير من قتالنا، فلا غابات لديْكم لتتّخذوها ملاجئ وممرّات، ولا جبال شاهقة ولا أنهار طويلة ولا مسافات بعيدة، أنتم تقاتلون كمن يقاتل في حلبة مصارعة، لكنّكم قادرون على تحقيق الانتصار بالإرادة الصّلبة وإتقان فنون قتال وابتداع فنون لا يعرفها أعداؤكم، المفاجأة في الإبداع الكفاحيّ هو طريقكم لسحق عدوّكم القويّ، حرب المدن والقرى ستكون جزءَا كبيرًا من حربكم، عليكم أن تحلّوا بأسرع وقت مشكلة المسافات والأبعاد والتّضاريس، وطريقكم إلى ذلك واضحة إنّه بعدكم الاستراتيجيّ، أخوتكم العرب، الدّول المحيطة هي دول عربيّة وشعوبها عربيّة، هذا هو بعدكم الّذي يحمل لكم الانتصار”. “جياب” الفيتناميّ يدرك قوميّة المعركة الفلسطينيّة والجنرالات العرب الحاكمون يبيعون فلسطين وقضيّتها وشعبها وقائدها بحفنة دولارات، وهو الخطأ نفسه الّذي وقعت به السّلطة الفلسطينيّة عندما أُغدق عليها بالمال من الدّول المانحة، ولذلك استبدلت “منظّمة التّحرير الفلسطينيّة” الخيار النضاليّ الشعبّيّ “الانتفاضة” بالتّفاوض الأجوف، وعمليّة السّلام الّتي يُتّهم الفلسطينيّون دائمًا بوضع العصيّ في عجلاتها وعرقلتها، وهو ما حذر منه “جياب” في مقولته العظيمة “الثّورة والثّروة لا تلتقيان” وهي تحمل دلالة مقولة القائد العظيم “هو تشي منّه”: “إذا أردت أن تفسد ثورة فأغدق عليها بالمال”.
كانت تقييمات القائديْن الفيتناميّيْن ونصائحهما يشيران إلى عمق الصّداقة الكفاحيّة الّتي يكنّانها للثّورة الفلسطينيّة صاحبة القضيّة الوطنيّة العادلة وإلى قائدها التّاريخيّ العظيم “ياسر عرفات”. وكان الفلسطينيّون جميعًا رسميًّا وشعبيًّا يكنّون لفيتنام الثّورة المكافحة والمنتصرة ولقائديْها أسمى آيات التّقدير والاحترام كنموذج كفاحيّ يقع في مرمى عين الثّورة وعقلها، وقد رأوا فيما حقّقه الثّوّار في تلك البقعة الثّوريّة بالفطرة انتصارًا لقضايا الشّعوب المقهورة، والّتي تناضل من أجل الحرّيّة والاستقلال والكرامة الوطنيّة والإنسانيّة. وقد مثّلت انتصارات الثّورة الفيتناميّة رافعة معنويّة للشّعب الفلسطينيّ في نضاله العادل من أجل استعادة حقوقه الوطنيّة المشروعة، حيث استلهم المناضلون الفلسطينيّون خاصّة والشّعب الفلسطينيّ عامّة من تلك التّجربة الغنيّة بالكفاح روح المقاومة والصّمود وثّورة حتّى النّصر، كما يحلو للقائد “أبو عمّار” أن يردّد. بعد الانتصار الفيتناميّ الكبير زار وفد فلسطينيّ رفيع برئاسة “ياسر عرفات” فيتنام للتّهنئة بالنّصر والاستماع إلى بعض الملاحظات الإرشاديّة، الّتي قد تفيد الفلسطينيّين في نضالهم. قام “هو تشي منّه” بتسليم راية الثّورة الفيتناميّة لقائد الثّورة الفلسطينيّة، متمنّيًا للفلسطينيّين الانتصار، لكنّه كان حذرًا في التّفاؤل وقال مخاطبًا الوفد الفلسطينيّ ورئيسه: “أيّها الرّفاق نحن انتصرنا، لأنّ خلفنا بحريْن عظيميْن يمدّاننا بأسباب الانتصار: الصّين الشّعبيّة والاتّحاد السّوفييتيّ، إضافة إلى إرادة شعبنا وتصميمه، فكيف يمكن أن ننهزم! أمّا أنتم، فمن خلفكم ليسوا بالضّرورة مؤيّدين لكم ولنضالكم، وعليكم أن تنتبهوا! ليس للعدو الّذي أمامكم فقط، بل أيضًا للأعداء المتربّصين من خلفكم”. لقد صدق العمّ “هو تشي منّه” والله! فأولئك الحكّام العرب أنظمة وملوكًا ورؤساء وجامعتهم الّذين ملأوا الأجواء ضجيجًا مفرغًا وشعارات جوفاء حول تحرير فلسطين وقوميّة المعركة كانوا الطّابور الخائن الخامس والسّادس حتّى العاشر، فغدروا من الخلف ووجّهوا طعناتهم في ظهر القضيّة الفلسطينيّة بدءًا من “مدريد” وَ “أوسلو” وانتهاءً بصفقة القرن وصفقات التّطبيع الذّليل.
كان “سعدي الطّميزي” (1961 – ما زال حيًّا) أوّل سفير فلسطينيّ دائم لدى دولة فيتنام، وإحياءً للذّكرى السّابعة لاستشهاد القائد “ياسر عرفات” واحترامًا لمكانته في التّاريخ الكفاحيّ ترجم أوّل كتاب من اللّغة الفيتناميّة إلى اللّغة العربيّة، وقد صدر في “هانوي” سنة (2011) عن الدّار العامّة للنّشر والتّوزيع في مدينة “هو تشي منّه” (سايغون سابقًا) وكان الكتاب يحمل عنوان “ديان بيان فو، خمس عجائب لا مثيل لها في تاريخ الحروب”. وهو من تأليف الكاتب الفيتناميّ “ماي ترومغ توان”، يحكي عن عجائب معركة “ديان بيان فو” الشّهيرة، بقيادة الجنرال “جياب”، والّتي انتصرت فيها القوّات الثّوريّة والشّعبيّة الفيتناميّة على القوّات الفرنسيّة سنة (1954) ومثّل ذلك الانتصار تحوّلًا مهمًّا في تصفية الاستعمار والوجود الفرنسيّ في شبه جزيرة الهند الصّينيّة. وقد قدّم السّفير “الطّميزي” للكتاب مشيدًا بالعلاقات التّاريخيّة بين الثّورتيْن: الفلسطينيّة والفيتناميّة، وما يكنّه الشّعبان لبعضهما من تضامن وتقدير، وقد عبّر عن سعادته بأن يأتي إصدار هذه التّرجمة في الذّكرى السّابعة لرحيل الشّهيد “ياسر عرفات” صديق الكفاح للشّعب الفيتناميّ وقائديْه العظيميْن.
نموذج العلاقة الكفاحيّة: القائد والحكيم:
لكلّ ثورة قائد وقائد الثّورة الفلسطينيّة هو “ياسر عرفات”، ولكلّ ثورة حكيم وحكيم الثّورة الفلسطينيّة هو “جورج حبش” (1926 – 2008) ولكل حركة ثوريّة نظريّة حكيمة تحتكم إليها، ولكن ليس للثّورة الفلسطينيّة نظريّة واحدة، بل لكلّ منظّمة أو جبهة أو فصيل من الثّورة الفلسطينيّة مرجعيّة فكريّة مختلفة، ومن هنا منشأ الاختلاف في الرّؤية الوطنيّة وفي النّهج الكفاحيّ وفي السّلوك السّياسيّ، مع أنّ معظمها تنضوي تحت مظلّة “منظّمة التّحرير الفلسطينيّة” ذات المنهج الوطنيّ اللّيبرالي الفضفاض. ولقد كانت “فتح” بقيادة “أبو عمّار” وَ “الجبهة الشّعبيّة” بقيادة “الحكيم” أبرز الفصائل في الاختلاف والائتلاف واحترام الدّور الوطنيّ المتبادل، بين الفصيليْن وقائديْهما الشّهيريْن.
شاركت الجبهة الشّعبيّة في الدّفاع عن لبنان أمام الاجتياح الإسرائيليّ سنة (1982) وكان “جورج حبش” جزءًا من القيادة الفلسطينيّة إلى جانب “ياسر عرفات” والّتي أدارت معركة مقاومة الحصار، وقد ظهر في عدّة مؤتمرات صحفيّة، وواظب على التّواجد على محاور القتال. ولكنّه بعد انتهاء الوجود العسكريّ الفلسطينيّ في لبنان رفض التّوجّه مع “عرفات” إلى تونس وفضّل البقاء والاستقرار في “دمشق” قريبًا بجوار فلسطين. وخلاف آخر أعظم، يعدّ “الحكيم” من ألدّ المعارضين للاتّفاقيّات المبرمة بين الفلسطينيّين وإسرائيل، المعروفة “اتّفاقات أوسلو” وكان يرى أنّ كلّ تلك الحلول المنفردة للأطراف المتنازعة مع إسرائيل شيء مرفوض، ورأى أنّ نتائج “أوسلو” رجحت إلى مصلحة إسرائيل بشكل حاسم وظلّ “جورج حبش” يرفض تقديم طلب إلى إسرائيل للعودة إلى الضّفّة الغربيّة وقطاع غزَّة حتّى وفاته سنة (2008) ولكنّ تلك الخلافات لم تكن لتفسد العلاقة الوطنيّة والكفاحيّة بين “القائد” وَ “الحكيم”. ففي قاعة “اليونيسكو” في العاصمة اللّبنانيّة “بيروت” ضرب “القائد عرفات” وَ “الحكيم حبش” مثالًا في إنكار الذّات والوحدة الوطنيّة. هناك وقف الأمين العامّ للحزب الشّيوعيّ اللّبنانيّ وقدّم “جورج حبش” ليلقي كلمة الثّورة الفلسطينيّة، وكان “عرفات” مع وفد حركة “فتح” حاضرًا في الاجتماع. قال الأمين العامّ: “والآن مع كلمة الشّعب الفلسطينيّ، مع كلمة الثّورات العربيّة المعاصرة وضمير الثّورات يُلقيها الرّفيق “جورج حبش”. غضب بعض قادة “فتح” وهمسوا للقائد “عرفات” بأنّها إهانة! واقترحوا عليه أن يُغادر القاعة، ولكنّ “عرفات” همس لهم قائلاً: “لن أسجّل في تاريخي أنّني خرجت أثناء كلمة حكيم الثّورة “جورج حبش”، ورفض الخروج!
وكانت المفاجأة الكبرى حين صعد “الحكيم” ووقف على منصّة الكلام ولم يقل إلّا كلمة قصيرة جدًّا: “إنّ كلمة الثّورة الفلسطينيّة، كلمة الشّعب الفلسطينيّ، كلمة الثّورات العربيّة المعاصرة وضمير الثّورات لا يلقيها إلّا أخي ورفيق دربي القائد العامّ للثّورة الفلسطينيّة “ياسر عرفات”! وفي هذه اللّحظة وقف كلّ الحضور في القاعة وصفّقت له على هذا الموقف الوطنيّ الكبير، قفز “أبو عمّار” إلى المسرح وعانق “الحكيم” وظلّ الجمهور يصفّق ويهتف بصخب وفرح: “تحيا الثّورة الفلسطينيّة! وحدة.. وحدة وطنيّة! لقد ضرب القائدان الحكيمان مثلًا في الذّكاء السياسيّ والموقف الوطنيّ النّبيل.
وفي حادثة أخرى مرض “الحكيم” ونقل للعلاج في فرنسا، وعلمت قوى استخباريّة صهيونيّة بالأمر، أرادوا اعتقاله، فعمل “أبو عمّار” بجهد دبلوماسيّ وسياسيّ حثيث مع الفرنسيّين، لكنّه فشل بسبب تعنّت قوى اليمين الإسرائيليّ ومطالبته الدّائمة باعتقال “الحكيم”. اتّصل “أبو عمّار” بعشرة من أعضاء الهيئة التّنفيذيّة لاتّحاد طلبة فلسطين وطلبهم في اجتماع عاجل بمكتبه في “تونس” وقال لهم: “أنا بعرضكم! نريد إخراج “جورج حبش” من المستشفى بأيّ طريقة كانت “! ويقال أنّ الطّلبة الفلسطينيّين تجمهروا بأعداد كبيرة أمام المستشفى وبالمقابل فعلت قوى من اليمين الإسرائيليّ، وافتعلوا الخصام معهم فجاء قوى الأمن الفرنسيّ لتفريق المتظاهرين، في هذه الآونة دخل من أخرج “الحكيم” بهدوء وأخذوه إلى مكان بعيد وآمن.
شهدت “حركة القوميّين العرب” ومن بعدها “الجبهة الشّعبيّة” اللّتيْن أسّسهما “جورج حبش” تحدّيًا كبيرًا، في ستينيّات القرن الماضي. “حركة فتح” وفي قيادتها “ياسر عرفات” انتمى إلى مدرسة سياسيّة تتناقض مع مدرسة “الطّهارة السّياسيّة” الّتي انتمى إليها “جورج حبش”. فقد انتمى “عرفات” إلى مدرسة “المستنقع السّياسيّ”، وهي تقول إذا أردت أن تكون في قلب الحركة السّياسيّة عليك أن تغوص في المستنقع السياسي، لا أن تبقى على الضّفاف حتّى تحافظ على “الطّهارة”، فالعدوّ الأوّل للنّجاح السّياسيّ هو “الطّهارة السّياسيّة”. وقد كان “عرفات” ناجحًا إلى حدّ كبير في السّباحة في مستنقع الحياة السّياسيّة العربيّة المتلاطمة الأمواج والمتقلّبة التّيّارات والعواصف، وكان قادرًا على الانبعاث مجدّدًا مرّة تلو أخرى، كلّما اعتقدوا أن انتهى زمانه كان يعود من جديد، حتّى كاد اسم فلسطين يرتبط باسْمه صعودًا أو هبوطًا.
وفي رثاء “القائد” قال “الحكيم”: “إنّ لحظات الحزن الّتي تمرّ علينا برحيل القائد الرّئيس “ياسر عرفات” تقوّي قضيّتنا وتكبر بوحدة شعبنا وصموده الأسطوريّ وثباته، هذا الصّمود الّذي أوجد مكانًا للقضيّة الفلسطينيّة على خارطة الصّراع مع إسرائيل. إنّ علينا أن نتحلّى بالشّجاعة والإرادة والتّصميم، ونردّد أمام كلّ من يتربّص بنا شرًّا وضررًا كلمة أستعيرها من السّيّد الرّئيس “ياسر عرفات” “يا جبل ما يهزّك ريح”، ولن ينال من عزيمتنا غياب القادة ورحيل الرّموز، بل هي مناسبة لتحويل أحزاننا إلى أفعال وبرامج، ومواصلة النّضال وتوهّج الإبداع الفلسطينيّ في تجاوز مصاعبه، هناك ضرورة لتحوّل رمزيّة الرّئيس “ياسر عرفات” إلى رمزيّة وقدسيّة فلسطين، شعبنا أحوج ما يكون إلى الوحدة الوطنيّة، ورصّ الصّفوف ومغادرة مواقع الخلاف والتّنافر، والسّير موحّدين عبر هذا “المارثون” الفلسطينيّ الطّويل الّذي لم نقطعه بعد. كان رفيق درب وقائد ثورة ورئيس سلطة، حيث اختلفنا كثيرًا وتوافقنا كثيرًا وتوحّدنا وتباعدنا وتقاربنا، لكنّها فلسطين وحدها كانت الوسيط الأهمّ لتوحّدنا مرّة تلو مرّة. حيث هي الغاية والهدف، فقد كانت فلسطين بثورتها وشعبها وشهدائها وأسراها أكبر من أيّ خلاف أو تنافر، فقد كانت فلسطين هي الرّوح الّتي نستمدّ منها العزم والتّصميم والالتحام. “ياسر عرفات” له ما له وعليه ما عليه، ولكنّه باني الهويّة الوطنيّة الفلسطينيّة الّتي تجسّدت في كيان وطنيّ جامع، وجعل للفلسطينيّين عنوانًا ومؤسّسة جامعة، وكلّما طال غيابه يزداد الحنين إليه. كم نفتقد إلى زعامته في هذه الظّروف العصيبة، لا سيّما في ظلّ الانتفاضة الحاليّة الباسلة الّتي انطلقت يتيمة بلا أب، ولا تزال بالرّغم من دخول أسبوعها الثّامن بلا أب، وهذا لا يمكن أن يحدث لو كان “ياسر عرفات” موجودًا”. في كلام “الحكيم” ملخّص العلاقة الكفاحيّة الأخويّة بين القائديْن والّتي تستند إلى إيمان عميق بفلسطين وضرورة استبقاء الحلم وحتميّة الكفاح من أجل استردادها ليتحقّق حلم “القائد” وَ “الحكيم” الّذي ناضلا من أجل تحقيقه وهما على قيد الثّورة والحياة، وماتا ولمّا يتحقّق! لكن من الضّروري أن يتحقّق!
يقول “هاني المصريّ” (1954 – ما زال حيًّا) وهو أحد أعضاء الجبهة الشّعبيّة: “قال لي “جورج حبش” حكيم الثّورة أكثر من مرّة وهو في ذروة خلافه مع منافسه على قيادة الشّعب الفلسطينيّ، إنّ “عرفات” قد يخطئ وقد يرتكب حتّى أخطاء فادحة ولكنّني واثق من أنّه لا يمكن أن يخون”. ثمّة جهات اليوم تحت حكم السّلطة الفلسطينيّة وشرطتها تريد أن تشوّه التّاريخ النّاصع للجبهة الشّعبيّة وقائدها وتريد الإساءة للعلاقة الكفاحيّة الّتي ربطت بين “القائد” وَ “الحكيم” وبين أبرز فصيليْن فلسطينيّين مكافحيْن: “فتح” وَ “الجبهة الشّعبيّة”، وعلى هؤلاء يردّ الإعلاميّ الفلسطينيّ “ناصر اللّحام” (1966 – ما زال حيًّا) مثمّنًا تلك العلاقة الثّوريّة العظيمة في تاريخ النّضال الفلسطينيّ بينهما فيقول: “إنّ ثقافة العلاقة بين “فتح” وَ “الجبهة الشّعبية” تؤرّخ في الكتب وتدرّس في مدارس الثّورات، ومن العيب على البعض توتير الأجواء وتحطيم تاريخ مشرّف من العلاقة الرّاقية الّتي تشكّل ميراث شعب، وليعلم كلّ رفيق (يقصد من الجبهة الشّعبيّة) يهتف بشتيمة ضدّ “فتح” وليعلم كلّ شرطيّ (يقصد من شرطة سلطة فتح) يتطاول برفع عصاه على جسد رفيق أو رفيقة أنّه يشارك في تحطيم تاريخ مقدّس من القيم والأخلاق الثّوريّة، وإنّ أيّ رجل أمن يضرب رفيقًا بعصاه فهو كأنّما يضرب “ياسر عرفات”، وإنّ كلّ رفيق يشتم “فتح” فهو كأنّما يشتم “جورج حبش”. هذا تقويم جميل ورائع لتلك العلاقة. صدق “ناصر اللّحام”!
عرفات والأدب والفنّ:
كان الأدب الفلسطينيّ المقاوم وبخاصّة الشّعر والقصّة القصيرة رديف الكفاح الفلسطينيّ المسلّح وسلاحًا لكلّ أشكال المقاومة الفلسطينيّة ونشاطاتها، ولا يقلّ هذا السّلاح الجماليّ أهمّيّة عن السّلاح الحقيقي. وكان “القائد” يدرك هذه الحقيقة وما للكلمة والقصيدة واللّوحة والغناء وسائر الفنون من أثر يرفد الثّوّار والمقاتلين بروحانيّة جماليّة تأتي من عبير القلم وشذا الورق واخضرار الغناء. وله في ذلك قول عظيم: “عظيمة هذه الثّورة، إنّها ليس بندقيّة، فلو كانت بندقيّة لكانت قاطعة طريق، ولكنّها نبض شاعر وريشة فنّان وقلم كاتب ومعول فلّاح ومقبضة جرّاح وإبرة لفتاة تخيط قميص فدائيّها، زوجها”. إنّ الثّورة الفلسطينيّة بنظر “القائد” هي الحياة الفلسطينيّة بكلّ تفاصيلها. ولأهمّيّة وجود الشّعراء والأدباء والفنّانين إلى جانب المقاتلين والمناضلين كان “معين بسيسو” خلف المتراس وبيده جريدة “المعركة”، هناك على مشارف العاصمة “بيروت” وقف “معين” أمام قوّات الاحتلال الإسرائيليّ الغازية وصرخ بنبرة الشّعر النّضاليّ المقاتل “لن تدخلوا بيروت/ ستموتون تحت شبابيك المدينة الّتي لا تموت/ ستسقطون تحت سقوفها.. متاريسها/ لن تدخلوا بيروت/ كلّ كيس رمل/ كلّ صخرة/ كلّ موجة في بحرها تابوت” وصاح هناك “محمود درويش” (1941 – 2008) بمديح ظلّه العالي والمدوّي، ومشى “علي فودة” (1946 – 1982) يوزّع جريدة “الرّصيف” على المقاتلين ومات هناك على رصيف المتاريس، وجاء “فايز أحمد فايز” (1911 – 1984) شاعرًا من الباكستان، ومن الهند حضر الشّاعر “سجاد ظهير” (1899 – 1983) متضامنًا، كلّهم شعراء جاءوا ليقولوا للمقاومة الفلسطينيّة واللّبنانيّة: “نحن معكم! الشّعر المقاوم من كلّ جهات الأرض وشعوب العالم معكم”، هكذا كان قصيدة الشّعر مقاتلةً كالبندقيّة المقاتلة، وكانت الكلمة رصاصة. كان “عرفات” القائد العسكريّ الميدانيّ نبضَ شاعر يعشق هذا السّلاح العظيم.
أحبّ “ياسر عرفات” السّياسيّ والثّوري الشّعراء والأدباء والمفكّرين، لأنّه أدرك أهمّيّة الإعلام والثّقافة والفنّ، فقد مارس “أبو عمّار” الصّحافة منذ أواخر خمسينيّات القرن الماضي، فكان يكتب في مجلّة “فلسطيننا” الّتي صدرت بين (1959 – 1964) لتكون المنبر الإعلاميّ لحركة “فتح” قبيل انطلاقة الكفاح المسلح، وله فيها عدد من الافتتاحيّات والمقالات غير الموقّعة باسْمه الصّريح، وغداة النّكبة أصدر في القاهرة سنة (1949) مجلّة “صوت فلسطين”. وكان إلى جانب ثقافته الدّينيّة والسّياسيّة يحفظ كثيرًا من الأبيات الشّعريّة يردّدها في المناسبات وفي المقابلات الصّحفيّة، وكان الشّعراء والكتّاب والمفكّرون يألفونه جدًّا ويأنسون إليه، وفي طليعتهم: “كمال ناصر”، “محمود درويش”، “معين بسيسو”، “لطفي الخوليّ” المصريّ (1929 – 1999) والعراقيّة “لميعة عبّاس” (1929 – ما زالت حيَّة) وغيرهم، ولم يكن بعيدًا عن الفنّانين ومنهم: الرّسام “إسماعيل شمّوط” (1930 – 2006) والفنّان السّوريّ “نذير نبعة” (1938 – 2016) وهو مَن صمّم شعار “العاصفة” الجناح العسكريّ لحركة “فتح” سنة (1966) وكان على صلة مباشرة مع “ياسر عرفات”. يجدر ذكر الأبيات الّتي كتبتها الشّاعرة العراقيّة “لميعة عبّاس” في القائد العظيم وكان يحلو له سماعها:
“صُنوُ الملوكِ ويطلبونَ رضاهُ – يختالُ من زهدٍ على دنياهُ
لا بيتَ، سرجٌ دارُه، ومرورُهُ – حلمٌ، وبغتةُ ضيغمٍ مسراهُ
كلُّ الشّعوبِ توحّدَتْ في شعبِهِ – وحدودُه أنّى تُشيرُ يداهُ
يدعونَهُ الختيارَ ذاك لحكمةٍ – وأنا كما الطّفلُ النّقيُّ أراهُ
لولا جلالةِ قدرِهِ ولكونِهِ – رمزَ الفداءِ لخلتُني أهواهُ”
ومن المواقف الّتي تتّضح فيها إنسانيّة “القائد” مع الشّعراء الّذين أحبّهم الشّاعر الفلسطينيّ “توفيق زياد” (1929 – 1994) صاحب قصيدة “أناديكم” وقصيدة “هنا باقون”، وقد مات الشّاعر بحادثة سير وهو عائد من لقاء معه في أريحا في 5 تمّوز سنة (1994) وكان “أبو عمّار” يهتمّ بأوضاع الشّعراء والكتّاب العرب الّذين عاشوا في كنف الثّورة الفلسطينيّة، وقد أصدر أمرًا بتغطية نفقات علاج الشّاعر المصريّ “أمل دنقل” (1940 – 1983) وهو صاحب قصيدة “لا تصالح” الموجّهة للرّئيس الخائن “أنور السّادات” بعد أن أزمع زيارة إسرائيل، لقد عانى “دنقل” من السّرطان لفترة طويلة. وقام “القائد” الإنسان بتغطية نفقات علاج الأديب السّوداني “جيلي عبد الرحمن” (1931 – 1990) إذ اشترى له جهازَا لغسيل الكلى وأسكنه في منزله كي يجنّبه عناء الانتقال من المنزل إلى المستشفى. كان “أبو عمّار” يحبّ شعر “سميح القاسم” (1939 – 2014) ولمّا يره، لأنّه شاعر قوميّ الاتّجاه وفلسطينيّ المضمون، وله مواقف وطنيّة مشهودة في مقارعة الحكم الإسرائيليّ. وفي سنة (1999) التقى “القائد” بالشّاعر “سميح القاسم” أثناء رعايته لاحتفال في جامعة “بيت لحم” وفي هذا الاحتفال ألقى “سميح القاسم” كلمة باسْم الفائزين بجوائز الشّعر، وكان هو الفائز بجائزة تلك السّنة.
ولكن تبقى العلاقة بين القائد “أبو عمّار” والشّاعر الكبير “محمود درويش” علاقة متميّزة وخاصّة، فقد كان “درويش” في منزلة الابن عند “ياسر عرفات” وكان يعتبر “أبو عمّار” أباه، وقد كان لصيقًا به في “بيروت” وفي “تونس” وفي “رام الله”، ومن المعروف أنّ “محمود درويش” كان من أهمّ الباحثين الّذين يفهمون إسرائيل فهمًا عميقًا وثاقبًا، وكان “أبو عمّار” يعتبره مستشاره للشّؤون الإسرائيليّة، كون “درويش” عاش حوالي 20 عامًا من عمره بعد النّكبة تحت الحكم الإسرائيليّ في قرية “الجديدة” بعد أن هدمت العصابات الصّهيونيّة قريته “البروة” وأصبح لاجئًا في الوطن، وذلك قبل خروجه إلى الاتّحاد السّوفييتيّ ضمن وفد الحزب الشّيوعيّ، ولم يعد معه، ومن ثمّ انضمّ إلى “منظّمة التّحرير الفلسطينيّة” وأصبح شاعر الثّورة والمقاومة إلى جانب الشّعراء الكبار من أمثال صديقه “معين بسيسو”، وهو من كتب وثيقة إعلان الاستقلال الفلسطينيّ سنة (1988) وقد عاد إلى “رام الله” مع أنّه كان معارضًا لاتّفاقات “أوسلو”.

ويبقى خلوده أقوى من موته:
استشهد “أبو عمّار” وهو في ريعان المواقف الصّلبة وفي عنفوان ردّ الكيد عن الشّعب الفلسطينيّ، بعد طريق شائك بالآلام كطريق عذابات “يسوع المسيح”، وطويل كصيام دهر عن التّفريط بالحقوق الوطنيّة والقدس، وبعد هجرة بعيدة في أصقاع الأرض كهجرة “الرّسول محمّد” إلى أواسط أفريقيا في الحبشة. فسلام عليك يا أبا الشّعب الفلسطينيّ، ولست فقط رئيسه كما وصفك رئيس لجنة المتابعة العربيّة العليا الرّفيق “محمّد بركة” (1955 – ما زال حيًّا) سلام عليك! أذا متّ أو قُتلت، وسلام عليك! سواء كانت اليد الّتي حملت السّمّ السّقراطيّ فلسطينيّة أم عربيّة أمّ إسرائيليّة. ففي نهاية المطاف قتلك الحقد الصّهيونيّ الّذي تربّص بك 40 عامًا و 40 محاولة اغتيال فاشلة. قتلتك إسرائيل الرّسميّة سليلة الإرهاب والّتي تنعت كلّ من يناضل من أجل قضيّة عادلة، وبخاصّة قضيّتك/ فلسطينك باللّاساميّة والإرهاب، ولكنّك كنت تردّ: “كلّ من يقف إلى جانب قضيّة عادلة لا يمكن أن يُسمّى إرهابيًّا”. وليس صحيحًا ما صرّحت به السّيّدة “سهى الطّويل” (1963 – ما زالت حيًّة) الّتي فقدت اتّزانها واستقامتها وسمعتها، وشوّهت التّاريخ النّاصع والوطنيّ الكفاحيّ المشرّف للقائد “ياسر عرفات” إذ أنّها برّأت إسرائيل من اغتيال زوجها، والأهمّ أنّها صرّحت لصحيفة “يديعوت أحرونوت” الصّهيونيّة بأنّ الانتفاضة الثّانية كانت خطئًا ارتكبه “القائد”، وهي الانتفاضة الّتي قال عنها “القائد” بعد فشل محادثات السّلام: “كلّ من يفكّر في وقف الانتفاضة قبل أن تحقّق أهدافها سوف أعطيه عشر رصاصات في صدره”. وانكشفت كفلسطينيّة مارقة عندما أيّدت اتّفاقيّات السّلام المنفرد مع إسرائيل، والأنكى من ذلك كلّه أنّها تدعم اتّفاقات التّطبيع بين دول الخليج وإسرائيل، وهي تعيش الآن في فرنسا بلا طهر عالة على المال الوطنيّ وعلى الدّماء الوطنيّة الطّاهرة، وتنفق على حساب أموال الشّعب الفلسطينيّ. لمصلحة من تصرّح بهذا هذا الكلام! أليس لمصلحة دوام الاحتلال وتخليد الاستيطان ولمصلحة الخيانة والتّطبيع! ولماذا لا تعيش أرملة القائد الوطنيّ رمز النّقاء والرّئيس الوطنيّ على التّراب الوطنيّ الطّاهر والمتاح! أليس في فلسطين عطور فرنسيّة وأزياء أوروبيّة وبذخ وفساد وحياة على حساب المال العامّ!
“ياسر عرفات” يا أطول الفصول في حياتنا! سيموتون جميعًا، أمّا أنت فستبقى أحد أسماء فلسطين الجديدة، لقد أغلقت برحيلك الباب على مرحلة كاملة من مراحل حياتنا، لذلك ستبقى قائدًا خالدًا، ستبقى الرّمز الفلسطينيّ والثّوريّ العظيم، صاحب الكوفيّة والزّيّ العسكريّ، حامل غصن الزّيتون والبندقيّة، ستبقى سيف صلاح الدّين الّذي سيستردّ القدس الّتي لن يكتمل حلمك إلّا بها، ستبقى مشعلًا وسيبقى النّور.. تراه في نهاية النّفق. “لقد قبضوا كلّهم” المال والمراكز والامتيازات وأنت لم تقبض إلّا على جمر الثّورة والكفاح، قال الثّائر العظيم “جيفارا” يومًا: “الثّورة يصنعها الشّرفاء، ويرثها ويستغلّها الأوغاد”. الجملة الأولى من هذا القول يصفك ويليق بك وينطبق عليك! أمّا الجملة الثّانية فهي توصيف مطابق لمن ظلّوا بعدك!
في رثائك قال الصّحفيّ “عبد الحليم حجّاج” بتصرّف: “كان شيخًا زاهدًا عفيف النّفس واليد واللّسان، عاش على الكفاف وهو المهندس يوم أن كان المهندسون بعدد أصابع اليديْن. عاش بسيطًا في لبسه وأكله وشربه، فما كانت ثيابه إلّا “الكاكي” الّذي ينام فيه ويصبح به، بل ويقابل زعامات العالم وقياداته بنفس “الكاكي” والكوفيّة والعقال والبسطار العسكريّ، لم تُغرِه البدلات والقمصان الإنجليزيّة الفاخرة ولا العطور الباريسيّة، ولا السّيّارات الفخمة ولا الطّائرات الضّخمة، ولم يبنِ له قصورًا وفنادق في العواصم، بل كان ينام مع الثّوّار الفدائيّين، يحتضن بندقيّته ويتوسّد كوفيّته وينام على الرّمل والحصى الغليظ. كان القادر على امتلاك كلّ ما تشتهي النّفوس الشّرهة الّتي تنهب فتحوّل الثّروة الوطنيّة ملكًا خاصًّا لها ولأتباعها ومتذيّليها، ولكنّه كان يخاف الله ويخاف من ضميره ومن شعبه أن يكون في عيشة رغد وشعبه ما زال فقيرًا محرومًا. كانت الثّورة في عهد “عرفات” لا أحد يتكسّب منها ولا يجمع الملايين من ورائها. أمّا الثّروة فصارت في يد الّذين اعتقلوا سلطة الشّعب وأمواله وانتصاراته ومنجزاته الوطنيّة وأودعوها في خزائنهم وأحكموا عليها الأقفال. الآن هم يشربون أنخاب العار والذّلّ والمواقف المترهّلة على حساب دماء الشّهداء وقيود الأسرى وأنّات الجرحى وعذابات المحرومين من الشّباب الفلسطينيّ الضّائع في مهبّ الرّيح”.
اذهبوا إلى أبناء “الرّئيس محمود عبّاس” في “رام الله” وتأمّلوا طرقهم وثرواتهم وانزلاقاتهم السّياسيّة مع “أمّ هارون” والسّواد الأعظم من أهل الضّفّة الغربيّة يجرون وراء رغيف الخبز، وهم الّذين ضحّوا وقاتلوا وانتفضوا وواجهوا الاحتلال واعتقلوا وسجنوا وجرحوا وماتوا. اذهبوا إلى أبناء “الرّئيس إسماعيل هنيّة” (1963 – ما زال حيًّا) وتأمّلوا كيف يحبّون المال حبًّا جمّا وكيف يمتلكون الأراضي والعقارات والعمارات والسّواد الأعظم من أهل “قطاع غزّة” يبيتون في شبه عراء وجوع، وهم الّذين ضحّوا وقاتلوا وانتفضوا وواجهوا الاحتلال واعتقلوا وسجنوا وجرحوا وماتوا. لقد ترك “ياسر عرفات” وراءه زمرة من التّجّار تسيطر على مقاليد السّلطة ومقاليد الاقتصاد ويقتسمونها. لقد ماتت الاستقامة السّياسيّة ومات النّقاء الوطنيّ ورحل الانتماء للثّورة والكفاح برحيل “أبو عمّار”. وكما تابع “حجّاج” في رثائه: “ليس من يحكم اليوم من القدّيسين بل هم من العشرين المبشّرين بنار جهنّم، الّذين جعلوا القضيّة الفلسطينيّة “شركة مساهمة محدودة” لهم ولأقربائهم وأنسبائهم وشللهم السياسيّة الفاسدة. فهؤلاء ليسوا “قدّيسين”، وإنّما هم كهنة السّلطة الفلسطينيّة المهيمنين على كلّ شيء فيها. هؤلاء يحتّم عليهم الضّمير والنّهج العرفاتيّ والوطنيّ القويم أن يؤثروا المصلحة الوطنيّة العامّة ويتخلّوْا عن مطامعهم الذّاتيّة العتيقة حتّى تنجح حركة “فتح” الّتي قزَّموها”، وقزّموا دورها الكفاحيّ بتحويل مقاتليها الشّجعان إلى شرطة وأمن وقائيّ ينسّق مع المحتلّ الإسرائيليّ وباعدوا بين أهدافها وبين أحلام الشّعب الّذي كان يحبّها كما أحبّ قائدها المخلص العظيم “ياسر عرفات”. لذلك كلّه سيموتون جميعًا بلا ذكر، ويموت “أبو عمّار” وذكره سيبقى حيًّا، خالدًا لا يموت ما كرّ اللّيل والنّهار وتوالجا، وحتّى يبزغ فجر الاستقلال وتقوم الدّولة “شاء من شاء وأبى من أبى”، هنالك سيرفع شبل من أشبالنا وزهرة من أزهارنا الألوان الأربعة: الأحمر والأبيض والأسود والأخضر علمًا خفّاقًا فوق مآذن القدس وكنائس القدس، وسيبقى “أبو عمّار” جبلًا كفاحيًّا، راسخًا في الأرض، يطاول أعنان السّماء يرهب الأعداء ولا تهزّه ريح مهما عتت ولا عواصف مهما عصفت ولا وحوش مهما تغوّلت.
وأخيرًا:
لم يحظَ قائد ثورة في العالم ولا شخصيّة قوميّة مناضلة بما حظي به القائد الثّائر العظيم “ياسر عرفات”، وبعد رحيله أحسّ سياسيّو العالم العربيّ والعالم الواسع، وفي جميع الأرجاء والقارّات، وعند كلّ الشّعوب المقهورة، وفي كلّ الأوساط السّياسيّة والدّول الصّديقة وغير الصّديقة والمعادية لفلسطين وعدالة قضيّتها، أحسّوا بفراغ لا يستطيع أن يملأه أحد إلّا “ياسر عرفات”. حاول البعض التّوسّط لدى الرّئيس السّوريّ السّابق “حافظ الأسد” (1930 – 2000) لتحسين العلاقة الفاترة مع “ياسر عرفات” وقالوا له: “إنّك الوعاء الكبير والوعاء الكبير يتّسع للصّغير”! فأجاب الأسد مدركًا عظمة “أبو عمّار” وحنكته وقدراته على الرّغم من الخلاف بينهما: “لا وعاء مهما كبر يتّسع لأبي عمّار”.
عشرات بل مئات القصائد والأغاني الثّوريّة كتبت له ولمسيرته الكفاحيّة، الشّعراء الفلسطينيّون الكبار وغير الكبار انبروا كتبوا قصائدهم الوطنيّة للثّورة والكفاح و”ياسر عرفات”: “معين بسيسو” في “الآن خذي جسدي كيسًا من رمل” وَ “محمود درويش” في “مديح الظّلّ العالي” وَ “سميح القاسم” في “موت ذاك أم خدر” وَ “فاروق جويدة” في لن أسلّم رايتي” وَ “مانع سعيد العتيبة” في وداعًا يا صديقي” وَ “نزار قبّاني” في “بلقيس” وَ “أمل دنقل” في “زهور” وغير ذلك الكثير من القصائد ورسائل العزاء وأناشيد المجد للثّورة والقائد “أبو عمّار”.
وقد كُتب عن “القائد” العظيم عشرات الكتب تناولت شخصيّته المتميّزة ومسيرته الكفاحية ومواقف مفصليّة من حياته ونضاله الوطنيّ، أبرزها ما نُشر في المؤسّسة الّتي تحمل اسْمه وقد أقيمت بعد استشهاده، سنة (2007) واختير لرئاستها “ناصر القدوة” (1953 – ما زال حيًّا) وهو نجل شقيقة “ياسر عرفات” الّذي شغل منصب سفير فلسطين في هيئة الأمم المتّحدة لفترة طويلة، اختير لرئاسة المؤسّسة منذ تأسيسها حتّى أقاله مؤخّرًا رئيس السّلطة الفلسطينيّة “محمود عبّاس” بسبب موقفه من ترشيح المناضل السّجين “مروان البرغوثيّ” (1959 – ما زال سجينًا) لرئاسة السّلطة ومنع عنها الدّعم الماليّ، وكأنّه لا يريد أن يبقي أثرًا للنّقاء الوطنيّ العرفاتيّ، وقد أقيل أيضًا من عضويّة حركة “فتح” الّتي فقدت مكانتها الكفاحيّة بعد أن تولّى “عبّاس” رئاسة السّلطة الفلسطينيّة، إذ أصبحت هذه الحركة الّتي قادت الكفاح الفلسطينيّ المسلّح حزبًا حاكمًا بلا سلاح، وأصبح قادتها قادة لقوى الأمن والأمن الوقائيّ الّذي ينسّق أمنيًّا مع جيش الاحتلال الإسرائيليّ، وأمسى مقاتلوها رجال أمن وشرطة يعتقلون المعارضين السّياسيّين ويعتدون على المظاهرات الشّعبيّة والنّقابيّة.
نستطيع أن نجد هذه الكتب في “متحف ياسر عرفات” قريبًا من ضريحه في “المقاطعة” في مدينة “رام الله” وقد بُني سنة (2009) وأفتتح سنة (2016) ومن أبرز هذه الكتب: “أبو عمّار مواقف عن الحرّيّة والاستقلال إصدار الأمانة العامّة لمجلس الوزراء”، “أبو عمّار في البرلمان الأوروبيّ إصدار الإعلام الموحّد لمنظّمة التّحرير”، “القاطع الثّالث من الزّلزال في بيروت لمحمّد النّاطور”، “المنظّمة تحت المجهر لهيلينا كوبان”، “تلك اللّيلة الطّويلة ليحيى يخلف”، “عرفات لإلان هارت”، “عرفات لداني روبنشتاين”، “تحدّي السّلام لييتم ألمان”، “على درب المسيرة إصدار مركز الرأي للإعلام”، “مع عرفات في فلسطين لأنطونيو روبي”، “ياسر عرفات ذاكرة لا تغيب لأحمد يوسف”، “ياسر عرفات لبسّام أبو شريف” وَ “ياسر عرفات وجنون الجغرافيا لنبيل عمرو”. وإلى جانب هذه الكتب آلاف المقالات والمقابلات والأشرطة.
أطلق اسم “ياسر عرفات” على كثير من الشّوارع والميادين والمؤسّسات الثّقافيّة والعلميّة والمرافق العامّة والخاصّة، وأطلق اسْمه على مطار “غزّة الدّوليّ”، وعلى مستشفى “سلفيت الحكوميّ”، وأنشئت “مؤسّسة ياسر عرفات” وأطلقت جائزة للإنجاز العلميّ والاقتصاديّ تحمل اسم “القائد”، وعلى “مخيّمات ياسر عرفات الصّيفيّة”، وأقيم “متحف ياسر عرفات” في “رام الله”، ولا تخلو مدينة فلسطينيّة من اسمه على شارع أو ميدان أو مرفق عامّ. كما سُمّيت شوارع مدن فلسطينيّة في “طولكرم”، “غزّة”، وَ “نابلس” وكذلك في عواصم ومدن في العالم العربيّ والعالم الواسع، فقد أطلق اسْمه على شارع في العاصمة التّونسيّة، وعلى شوارع في مدينة “نابولي” وَ “باليرمو” وَ “روما” في إيطاليا، وعلى ميادين في، “رام الله” وَ “سلفيت”، وعلى متنزّه في السّلفادور في أميركا اللّاتينيّة. إن دلّ ذلك على شيء فإنّما يدلّ على عظمة الرّجل ومكانته لدى كلّ الشّعوب كقائد ثوريّ عظيم في زمن عربيّ، كالح ورماديّ عزّ فيه الرّجال والقادة والعظماء.
وفي قصيدة لي كتبتها إثر استشهاد القائد العظيم “ياسر عرفات” بعنوان “بيان ختاميّ” من ديواني الثّاني بعنوان “بوادٍ غير ذي زرع” صدر سنة (2007) كتبت تحت عنوان القصيدة: “صادر عن مؤتمر قاعدة الوجدان العربيّ ومنظّمات الضّمير الإنسانيّ”، وقلت في استهلالها: “سيحيا ياسر عرفاتْ/ في الماضي/ في الحاضرِ والآتْ/ سيحيا ياسر عرفاتْ/ رغمَ الآهاتْ/ في جرحِ التّاريخِ/ رغم الآفاتْ/ في الجسدِ المأزومِ/ في العقدِ المقطوعِ الحبّات/ سيحيا ياسر عرفاتْ”، وفي مختتمها قلت: “منذُ المهدِ وحتّى اللّحدِ/ رغمَ عناءِ المسجدِ/ رغمَ عناءِ المهدِ/ رغمَ اللّحدِ/ وعلى العهدِ/ سينهض ياسر عرفاتْ/ كالماردِ ينتصبُ/ كالأسطورةِ يحيا/ في الزّمنِ الآتْ/ حتّى لوْ ماتْ”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة