“في الوجودِ اثنان ” بقلم محمد بكرية

تاريخ النشر: 15/07/19 | 8:56

أنا , من أمّي وأبي ,
سقطْتُ مثلَهما دونَ أنْ ندري بيَدِ القدَرُ,
كبرتُ وهما على أرضٍ حافيةٍ من الزّرعِ والجَذْرِ
وكانَ علينا أنْ نحَصِدَ الغِلالَ ونرقّشَ الصحراءَ بكرْمٍ أخضر.
أُطلُّ على امتدادٍ بعيدٍ , يضطجعُ بينَ أحضانِ الهضابِ العالية.
أتلفّتُ كعصفورٍ عالقٍ على أكمَةٍ أوْ أيكةٍ يابسة في بيداءَ واسعة.
عصفورٍ تاه عمّا اشتهى , عن غصنِ وردٍ غضٍّ في حديقة ,
وصار رهينًا لشوكِ الشجر.
شجرٍ محرومٍ من قُبُلاتِ السماء ,
من ندَى المساء , من ضوءِ القمر وماء المطر.
آهٍ , آهٍ , يا لشوكِ الشجر!
قالوا :
هو القدرُ, هو القدر.
وقالوا:
أفتحْ بوّابةَ الفجرِ بالصّلاةِ على الرُسُلِ والأنبياء ,
صلّ عليهم صباحًا وأقرأ الإنجيل ,
وفي المساء ,استعذْ من همَزاتِ الشيطانِ بتلاوةِ القران .
هكذا فعلتُ , لمْ أنسَ قيامَ اللّيلِ والتهجّدِ ,
وفي ليلة القدْر, دعوْتُ اللهَ , علّ السماءَ تنفتحُ ويصيرُ لي في الجنّةِ منزلٌ أوْ عنوان.
قالوا ثم انصرفوا …
وبقيتُ في عزلتي مع آخرَ,
اثنان يتحاربان إذا ما جنّ اللّيلُ وانبلجَ الفجرُ.
أنا الطيّعُ الصاغرُ , نورُ ملاكٍ , لا أعاكسُ فتياتِ الحيّ ,
ولا أجنحُ عن وصايا أمّي وأبي, فهما الوالدان.
وأنا العبثيّ , جنونُّي الحلمِ لا أصلّي ,
لكنّي أرقدُ تحتَ جناحَيّ الله في التجليّ ,
وأرى أناملَكِ أصابعَ ضوْء على شمعدان.
عبء أنا عليّ , على زماني على خيالي وليلي ,
أهو القدرُ أم شوكُ الشجر؟
أنا في الوجودِ اثنان ,
واحدٌ تجرفُه نشوةُ الاقتراب, وآخرُ يُؤثرُ البُعدَ والاغتراب,
قريبان كروحِ الله إلى قلوبِ الأنبياء ,
بعيدان كشهوةِ الغنيّ إلى خبزِ الفقراء.
افتِنِي يا ” جون بول سارتر”
كيفَ لمْ أغزِلْ بكفيَّ قطْنَ روحي وأوْكلتُه لكفِّ الزمان!.
يا ” سارتر”:
أردْتُ أنْ أمرّغَ قلبي بمزيدٍ من وردِ الحقول ,
فقطّعْتُ عمري بين الشوكِ عالقا , كعصفورٍ مكسورِ الجناحِ حبيسِ القدر.
قالوا:
هو القدر , هو القدر .
افتِنِي يا ” سارتر”
بما ملكَ فكرُكَ من أسرارِ العبَثِ والوجود ,
علّني أغفو تحت ضوءِ قمرٍ بعيدٍ, وأكتبُ نصّا عن بهاء الصبح
وتجاعيد النهار.
تعبْتُ من تحليقِ الخيالِ فوق الضباب ,
والسفرِ عبرَ التلال والهضاب,
أرهقَني البحثُ عن تضاريس بلدي ,
عن عاداتِ الروح , عن معاني الفناء الخلود .
افتِني لأصرخَ:
أيّها الوجودُ أنا واحدٌ , اثنان
متشابهان , صديقان , لا يغتربان , ولا يتنافران.
افتِنِي ,
كي أطيّعَ الغيمَ ولنَبري ينهمرَ المطر,
ثمّ أرفعَ هذا السياجَ بساعديّ , أفردَ في الفضاء جناحيّ
أحطَّ على تلّةٍ بعيدة,
وأصيحَ:
أنا منْ روّضَ القدَر ,
أنا منْ روّضَ القدر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة