القهر والجبيرة .!

تاريخ النشر: 02/04/19 | 16:00

” مجَبِّر أيدي الحزانا ..!” .
قول يُقال في بلدنا ومنطقتها , عندما يذكر اسم عمنا أبو فايز .. يرافق حكاية من حكاياته , أو موقعة كان من أبطالها .. وهي كثيرة بعدد الأيدي والأرجل التي قام بتجبيرها ..
إذا ما عزم فرد من أبناء بلدنا ,على القيام بعمل فيه خطر على يديه أو رجليه , يُقال له تخويفاً أو تشجيعاً أو مزاحاً :” أبو فايز موجود .!” .
رغم أن أبو فايز التحق برفيقه الأعلى منذ عدة عقود .!
ما زالوا يحذِّرون :” دير بالك .. أبو فايز مات .!”.
أبو فايز لم يتقاضى أجرة لقاء عمله هذا .!
وإذا وحدَّث وارتكب أحدهم ” جريمة ” ,وعرض عليه أجرة لقاء عمله , كان ينال نصيبه , من لسانه الحاد كالسكين ..
فلا يرحمه من تعابير وكلمات خاصة به , لا يستعملها أحد غيره .
ولا يغفر له كونه غريباً .. وهذه المرّة الأولى , التي احتاج فيها الى خداماته .
وإذا جادل واحتج , كان يطرده من أمامه , وهو يقول له :” روح دوٍّر على واحد غيري , يوخذ منَّك إيجار !”.
ولا يوافق على استقباله مرة أخرى , إلا بعد أن يعود معتذراً ..
كانت عيادته مفتوحة , لاستقبال المحتاجين لخدماته ليل نهار ..
وإذا كُسرت يدُّ أو رجل أحدهم ,وتغافل ولم يتعجَّل بالقدوم الى بيته, كان يصبُّ عليه جامَّ غضبه ..
يصيح به لائماً زاجراً لاعناً :” بدِّي أعرف ليش بيًّتها .! هي مش ايدك !؟” .
حتى وأصبح مثلاً في بلدنا , يقال لمن يقسو في ملامته على صاحبه :” لومك ضرب حجار .. مثل لوم أبي فايز .!”.
كعادته , لم يسأل عن أصل ولا فصل ولا اسم , من قدم إليه طالباً “تجبيرة ” يد أو رجل ..
حتي قيل أنه لا يرى , إلا الأطراف المكسورة , ولا ينظر الى الوجوه , كان لا يفرِّق بين الأطراف الصغيرة والكبيرة , السمراء والبيضاء .. ولا من أيِّ أرض أتت ..
حتى البكاء والصراخ , كان من الممنوعات في “عيادته” , فعند سماعه أي تعبير عن ألم أو توجُّع , كان يصرخ بالمصاب ومرافقيه مهدداً :
” أن لم يسكت , أو تسكتوه فسأتوقف عن تجبيره , وابحثوا عن مجبِّرٍ غيري .!”.
في تلك الليلة الغريبة , فُتح باب فناء بيته الذي يفتح على الزقاق وأُغلق بقوة , فخرج أبو فايز من غرفته , ليتبيَّن سبب هذا الصوت القوي الذي أحدثه غلق الباب ..
فوجد أمامه رجلاً ملقياً في ساحة الدّار , كانت تخرج من أنّات تنتج عن نشيج مذبوح ..
تقدّم منه , وبدأ يتفحصَّه من بين حزم الظلام ,التي كانت تحاصر شعاعات الضوء الخفيفة , الي كانت تتسلَّل من طاقات بيته ,ومن البيوت التي كنت تلاصق بيته .
كان رجل ضخم الجسم , يرتدي زيّاً أجنبياً , وعندما اقترب منه أكثر , لاحظ انه يمدُّ يده الى رجله ويصيح من الألم , انحنى ومدَّ يده وتحسَّس رجله .. فعرف من خبرته الطويلة .. أنها مكسورة ..
تركه ودخل الى غرفته , وعاد منها يحمل قنديلاً ضوءه قوي , وقرّبه منه .. وعندما كشَّف ضوء القنديل وجهه ,هاله ما وقعت عليه عيناه ..
إنه هو .. “لا يعرف غيره “.!
وجهه المربوع الأحمر , رأسه الأصلع أنفه الكبير, وحاجبيه ورموشه الشقراء .. عيناه الخضراوتان ..
إنه “دفيد ” .!
مجنَّد حرس الحدود , الذي أنزله قبل أسبوعين عن خروبته , مدعيَّاً ان القانون يمنع قطف ثمار الخروب, حتى ولو كانت ملكاً له..!
ممثل الحكم العسكري , الذي يقود فرقة من الجنود , التي تحكم على البلد حكماً استبدادياً , تحوِّط عليهم طوقاً , يحاصرهم في داخل البلد ,وتفرض عليهم من التجوُّل ليلاً , ويمنعهم من جنيِّ محاصيلهم من حقولهم وحواكيرهم , التي تقع على أطرافها .
إن آثار هراوتهم محفورة ,على رؤوس وجلود أهل البلد ..
كانوا بالنسبة لأهل , كيّان مرادف للغول والجوع والقهر والحرمان ..
ولاحظ أن قناة من الدم تسيل من رجله .. أنه يعرف لو لم يوقف النزيف , فلن يبق حيّاً حتى الصباح ..
” لينزف حتى الموت .. سترتاح البلد منه ! “صرخت كلَّ جوارحه من أعماقها ..
ظهرت أمام عينيه صورته هو ورفاقه , وهم يُعمِلون هراوتهم في أجساد حطابات البلد .. لن يمحى من ذاكرته زعاقتهن , وهن يحاولن بأيديهن إبعاد ومقاومة ضرباتهم ..
وتتالت الصور.. المشاهد التي تحكي تاريخ ظلمهم وجبروتهم ..
تكسيرهم لجرار ملّايات البلد , “ليميتهم” من العطش .!
منع دايَّة البلد , من الوصول الى المرأة الحامل , التي جاءها مخاضها ..وتستغيث طالبة المساعدة ..!
صورة الرجل ابن البلد المجاورة , الذي وجده مقتولاّ ومرميّاً بجانب الطريق ,عندما كان راجعاً من برطعة , بعد أن جبّر امرأة منها ..
قتلوه كغيره من المتسللين ,وتركوه فريسة للوحوش البرية.!
“إياك – يا ابني – ترك مكسور بدون تجبير !” اخترق سمعه صوت يعرفه .. يزوره من حين الى حين ..صوت أبيه .. أبيه الذي علّمه صنعة التجبير ..
” التجبير- يا ابني – نعمة ربنا .. أعطاها عن طريقنا , لكلِّ العالمين.!”. أعاد أبيه تذكيره بوصيته ..
خرج من سَرَحانه .. فعادت أذنيه لتلتقط أنات توجع الجندي الملقى أمامه .. قام من مكانه ورفع رجله , وقرَّب عينيه منها , فلاحظ أن الدَّم ما زار ينقط منها ..
تناول طنجرة كانت بجانبه , وملأها من برميل الماء , ودخل بها الى داخل الغرفة ..أخذ يعالج البريموس كي يشعله , من أجل تسخين الماء ,الذي سيستعمله في التجبير .. وإذا بالباب الذي يفصل بين غرفة النوم وعيادته , يُفتح وتخرج منه زوجته ..
– مبيِّن عندك مصاب .. ! ليش ما صحيتني .!؟. .لامته وهي تفرك عينيها بأناملها.
اقتربت من الرجل .. نظرت الى وجهه .. وقبل أن تعصف بها الصدمة ” قرمزت ” وقرَّبت وجهها من وجهه , وعندما قشعته بعينيها , وتأكدت مما ترى ,صرخت كالملسوعة من “قحف ” رأسها :
“بدّك تجَبِّر اليهودي المجرم .!؟” .. بدَّك تدّاوي دفيد إلّي مخرِّب بيوتنا ومجوِعنا .!؟”..
” وين منّا نروح من أهل البلد .!؟” استمرت بالزعيق والصراخ..
لأوّلَ مرة ترفع صوتها في حضرته , ويبقى صامتاً , ولا يحاول إسكاتها ..
استمرَّ في التعامل مع االبريموس .. هارباً من صراخها ..
أمّا دافيد فقد بانت على وجهه , آثار لكمات صراخها , فصارت تتبدَّل ألوان وجهه , مختلطة بالآلام , التي كانت تخرج من داخله ..
” أنا الصُّبِح مش باقيه عندك في هذه الدار .!” زعقت وهي تطرق الباب راجعة الى غرفة نومهما ..
” يا ابني .. الجبارة معك أمانة لكلِّ الناس .. كلِّ الناس.! ” .
رجع صوت أبيه , يهدهد في أرجاء المكان ..
أشعل البريموس , ووضع عليه طاسة الماء , تناول صحن من الألمنيوم ,وسحب عن الرف فلقة من الصابون , وأخرج موسه من جيبه ,وبدأ “يحِتُّ” به الصابونة , ليتساقط قشرها في الصحن , حتى رضيَّ عن الكميَّة التي يحتاجها للجبيرة .
توجَّه الى طاسة الماء , فحصها بيده فاطمأن الى درجة سخونتها , أطفأ البريموس , واستعان بقطعة قماش لينزلها عنه .
توجَّه الى “دافيد” , الذي كان يراقب كلَّ حركاته , تناول رجله المكسورة , وبدأ يرشق عليها من ماء الطاسة الساخن ,ومن ثم يملسُّها ويدلِّكها , حتى رضيَّ عن وضعها .
سحب لفّافاً من القماش , من رزمة اللفافات التي كان يعدُّها ..
وإذا بطرقٍ قويٍ .. يقطِّع سكون الليل, الذي كان يسيطر على المكان ..
عرف أن الطَّرق كان على باب بيته , ولكنه استمرَّ في وضع قشارة الصابون في قطعة القماش ..
وإذا بباب الدَّار ينخلع من مكانه , ويدخل منه عدد من الرجال ..وهم يصرخون جيش ..! جيش ..! , ارفع يديك .. الكُل يرفع يده ..!
رفع أبو فايز عينيه , وخطف نظرة نحوهم , فعرف أنهم جنود يهود , ليسوا غريبين عنه , انه معتاد على ملقاتهم ..
واستمر َّ في عمليَّة التجبير ..
وضع القماشة ,التي تحتوي على قْشارة الصابون , ولفَّها حول الرجل المكسورة .. وتناول لفافة أخرى , وبدأ بلفِّها حولها ..
كلُّ هذا .. وعيون الجنود المشدوهه منصبَّه عليه .. بعد أن أصابهم صمت أخرس ..
انتهى أبو فايز من تجبير رجل “دافيد” , قام من مكانه , وتوجه الى حوض الماء ,الموجود خارج الغرفة , كي يغسل يديه .
وإذا بصراخ يلاحقه :
“اتركوني .! اتركوني .! لا أريد ان تأخذوني معكم , لا أريد مساعدتكم .!
تركتوني في البرية وهربتم من الكلاب , وتركتوني مصاباً تحت رحمتها .!
لولا راعي الغنم , الذي خلَّصني منها وأحضرني الى هنا .. لمتُّ مرميّاً في البريَّة .!
كان صوت ” دفيد” , يصرخ برفاقه الجنود .!
وقف أبو فايز على فتحة الباب , والغضب والكراهية تتطاير من قسمات وجهه المحتقنة , وصرخ به :
” روح مع جماعتك وحِلْ عنّا .! ”
ولم يُشاهد ” دافيد ” في البلد , أو حولها مرَّة أخرى .!
يوسف جمّال – عرعرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة