الخرّوبة المقطوعة .!

تاريخ النشر: 16/12/18 | 8:43

وجدناه ممدَّداً , بجانب جذع الخروبة المقطوعة ..
كان ينام معها نومته الأخيرة ..
مسبَّل العينين , تلفُّه سكينة سحريَّة , تتلفَّع بصمتها المسكون , وجهه مزيًّن بحروف سطَّرتها السنون , تحكي الحكاية ..حكايتنا مع الخروبه ..
بحثنا عنه في كلِّ مكان , كان من الممكن أن يصل إليه , وفي أمكنة كثيرة , كان من المستحيل أن يصل إليها ..فلم نجد له أثر ..
غاب عنّا تلك الأيام ..
أين نام ليله .!؟
أين قضى نهاره .!؟
من أين حصل على قوت يومه .!؟
قضينا أياماً طوال في تيه مجنون ..
*********
حكى عن لقاءات الثوار تحت الخروبة ..تحميهم من شمس الصيف وبرد الشتاء .. عن اختبائهم بين فروعها .. عن ثمرها الذي كان يسكت جوعهم .. عن علامات التواصل بينهم , التي كانوا يرسمونها على جذوعها ..
وحكى عن الشهيد مصطفى الكفريني ..
الذي استشهد تحتها , مفضلاً الموت ,على الوشاية بمكان وجود رفاقه الثوار ..
كنّا , أنا واثنان من الثوار , مختبئين بين أغصانها العليا , عندما أحضروه إلى هناك , مقيَّد اليدين , معصَّب العينين ,تعلو قامته عن الأرض , حتى يكاد رأسه يختفي بين أغصانها ..
الآن قُلْ . انطق ..!
أين الثوار . !؟ صرخوا به صرخات هزَّت المكان ,وسطَّحت كتل الليل المتراكمة السواد ..
بقي ساكتاً صامتاً , كأنه كتلة صمّاء من الصخر الأسود .. كأنه شبح من الموت المتحجِّر ..
قرَّبوا بنادقهم حتى لامست رأسه , كادت تقلع عينه ..
زعقوا في وجهه مهددين , خيَّروه بها بين الموت والحياة , بين أن يكون تحت الأرض أو فوقها ..
فبقي صامتاً أخرس كالليل الذي يلِّف المكان ..
كان يعرف أننا على ظهر الخروبة , وأننا نسمع كلَّ ما يجري تحتنا..
سأقول لكم أين هم ..! خرجت منه كلمات , فجَّرت كتل السواد التي كانت تمسك بخناق المكان ..
جعلتنا نزيد التصقنا , وتمسَّكاً بفروع الشجرة , شعرنا أننا نقف على شفا هاوية سحيقة , نخاف السقوط فيها ..
إنهم في مغارة عين الزيتونه .! أكمل كأنه يرمي بثقل , كان يحمله على كاهله ..
” أنت تكذب يا حقير .! قبل قليل كنّا هناك .!
لقد اخترت مصيرك .!
ابتعدوا عنه أمتاراً معدودات .. فاغتالت أسماعنا ثلاث طلقات ..
رمينا بأنفسنا عن الشجرة , تقدمنا منه , كان ينزف داماً أحمراً يختلط بالتراب .. تراب الخروبة ..
صاح مرتين ..
قتلوني الكلاب ياما .. قتلوني الكلاب ياما .!
وسكت ..
حملناه على ظهورنا ومشينا .. الى ان سلَّمناه الى أهل البلد , ورجعنا مسرعين الى الجبل , كي لا نقع في قبضتهم .
هذه واحدة من قصص جدّي حول الخروبة .. وما كان يجري حولها..
الخروبة التي قطعناها قبل أيام , لنبني مكانها بيتاً جديداً ..
كانت معركة الجاروشة , أوَّل معاركنا مع جدّي ..
قبل سنتين قرَّرنا نقل .. جاروشة جدتي من تحتها ..
الجاروشة التي كانت نساء البلد , يجتمعن حولها تحت البلوطة ,
يجرشن حبوب الغلَّة , ” ويجرشن ” أخبار أهل البلد ..
كانت الخروبة ديوان نساء البلد في النهار , ومنتدى الرجال في الليل ..
وقف جدّي كالصخرة , معارضاً رافضاً نقلها من تحت الخروبة.!
ولكن أبي وأعمامي نقلوها ..ولم يستطع الصمود أمام ضغطهم الشديد .. فسلّم بالأمر الواقع .
ولكن عندما قُطعت الخروبة اختفى ..
تبخّر ..غاب كأنه فص ملح وذاب .!
وتركنا نلطم عذاب هموم اختفائه ..
قضينا أيام غيابه بين البحث عنه , والبكاء عليه ..
صاحت عمتي مولولة, وهي ترفع يديها الى السماء :
” يا ربي أظهره حيّاً , أو ميِّتاً ..
فإن كان ميِّتاً , يكون على الأقل قبراً , نزوره ونبكي عليه.!”.
أين اختفى جدّي , كلّ هذه الأيام , التي تلت قطعنا للخروبة .!؟
طلسم حيًّرنا .. جعل نهاراتنا وليالينا حوّام مجنون .!
بعد اسبوع من اختفائه , وقفت سيارة شرطة في ساحة دارنا , فنزل جدّي منها ,أمام ذهولنا وشدة دهشتنا ..
نزل من سيارتهم , وأسرع الى غرفته ,دون أن يلتفت الى الجالسين في الساحة ,وأغلق بابها خلفه , وبقينا “على عَمانا ” ,لا نعرف أين كان مكان اختفائه , وما علاقة الشرطة به .
بقي في غرفته ,لا يصيب من الطعام والشراب , الذي يتناوله منّا على باب غرفته إلا القليل , كانت ترجع الصحون من عنده كما هي تقريباً .. ولا يكلِّم أحداً .!
بعد يومين من انتهاء بيت العزاء , ظهر رجل من بلدنا في ساحة بيتنا ,وناول أمي – فأساً وطورية وبعض الأشتال ..
اقتربت منهم , وبدأت أشاركهم سماع قصة الرجل , التي بدأنا نستمع إليها مشدوهين مذهولين ..
” هذه العدّة لعمي أبو فوزي , كان يزرع أشتال الخروب في “خلّة فوده ” .. أرضكم إلّي صادرها اليهود ..!
فداهمه رجال الشرطة , ووضعوه في سيارتهم وأخذوه .. وذلك بعد معركة بينه وبينهم , كان فيها صراخ وعراك .!
أنا كنت هناك .. أرعى عنزاتي .. ورأيت كلَّ شيئ .. !” .
أنهى الرجل حكايته عن جدّي , وغادر بيتنا , وتركنا نعيش حالة من الذهول ..
” معنى ذلك , أن جدّك قضى الأيام , التي غاب عنّا في السجن..!
كانت الشرطة تحتجزه .. ولم تقم بإعلامنا ..!” .
قال أبي بلهجة , من كان غارقاً في قعر بئر سحيق ..
بعد يومين , وجدناه نائماً نومته الأخيرة , بجانب الجذع المقطوع.!
لحق بالخروبة .!

يوسف جمّال – عرعرة

تعليق واحد

  1. الف تحية للاستاذ الفاضل والجار الكريم يوسف جمال.
    تعابير رائعة وكتابة ملهمة ارجعتنا للخلف ولستين الوحدة والعطاء.
    الف تحية لك والمجد والخلود لشهدائنا الابرار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة