خلق الجبال

تاريخ النشر: 23/03/17 | 2:00

قال الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)} [النبأ: 6، 7].
وقال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)} [فاطر: 27، 28].

خلق الله تبارك وتعالى الجبال، وجعل فيها من المنافع ما لا يحصيه إلا من خلقها ونصبها.
وجعل سبحانه الثلج يسقط عليها، فيبقى في قُللها حاضناً لشراب البهائم والناس إلى حين نفاده.
ويذوب الثلج من الجبال تدريجياً، فتجيء منه السيول الغزيرة، وتسيل منه الأنهار والأودية، فينبت في المروج والوهاد والربى ضروب النبات والأشجار.
والله حكيم عليم، فلولا الجبال لسقط الثلج على وجه الأرض، فانحل جملة، وساح دفعة واحدة، فعدم وقت الحاجة إليه.
ولو انحل جملة لأهلكت تلك السيول ما مرت عليه من نبات وحيوان، ودار وإنسان.
وقد خلق الله الجبال مختلفة الأشكال والألوان والأحجام، متعددة المنافع والصفات:
فمنها جبال بيض، وجبال حمر، وجبال خضر، وجبال صفر، وغرابيب سود وغيرها من الألوان المختلفة.
ومنها جبال كبيرة، وأخرى صغيرة، وجبال طويلة، وأخرى قصيرة، وجبال متصلة، وأخرى منفصلة.

وفيها من المنافع والمصالح والجواهر والمعادن ما لا يحصيه إلا الذي خلقها وأبقاها وأرساها، وملأها بالمنافع التي عرف بعضها الخلق، واكثرها لم يعرفوه.
ومن منافعها أن الله جعلها أعلاماً يستدل بها الناس في الطرقات، في البر والبحر والجو.
ومن منافعها أن الله جعلها للأرض أوتاداً تثبتها، ورواسي لها لئلا تضطرب.
ومن منافعها ما يكون في حصونها وقللها من المغارات والكهوف والمعاقل التي هي بمنزلة الحصون والقلاع، وهي أيضاً أكنان للناس والحيوان: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} [النحل: 81].
ومن منافعها أنها ترد الرياح العاصفة، وتكسر حدتها، فلا تدعها تصدم ما تحتها، وجعلها سبحانه سبباً لرد السيول النازلة من أعلى، فلا تنزل جملة بل تأخذ ذات اليمين، وذات الشمال.
وخلقها الله عزَّ وجلَّ على أكمل هيئة وأنفعها، فلو طالت واستدقت كالحائط، لتعذر الصعود عليها والانتفاع بها، ولسترت عن الناس الشمس والهواء.
ولو بسطت ممتدة على وجه الأرض، لضيقت عليهم المزارع والمساكن، ولملأت السهل، ولما حصل لهم الانتفاع بها، ولما سترت عنهم الرياح، ولما حجبت السيول.
ولو جعلت مستديرة كالكرة لم يتمكنوا من صعودها.
فكان شكلها الذي خلقت عليه أولى الأشكال وأليقها وأحسنها وأوقعها على وفق المصلحة.
وخلق الله فيها من النباتات والأدوية والعقاقير ما لا ينبت في السهول والرمال.
ومن منافعها ما ينحت من أحجارها للبيوت والمباني، والأصباغ على اختلاف أصنافها وألوانها.
وأودع الله عزَّ وجلَّ في الجبال من الجواهر والمعادن على اختلاف أصنافها من الذهب والفضة، والنحاس والحديد، والرصاص والألماس، والزمرد والزبرجد، وغير ذلك من المعادن النفيسة، والتي ما يزال الإنسان يجهل أكثرها.
وفيها ما يكون الشيء اليسير منه تزيد منفعته وقيمته على قيمة الذهب بأضعاف كثيرة كاليورانيوم والألماس وغيرها.
وفي الجبال من المنافع ما لا يعلمه ولا يحيط به إلا الله الذي فطرها وأبدعها، وقد عرف الإنسان من معادنها على ما يزيد على مائة نوع، وما جهله الإنسان أكثر.
وهذه المخلوقات والمنافع من أكبر الشواهد على قدرة باريها وفاطرها.
وهذه الجبال تسبح بحمد ربها، وتخشع له، وتسجد له، وتنشق وتهبط من خشيته كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} [الحج: 18].
وقال سبحانه: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)} [ص: 17، 18].
وكل ما في الكون كائنات حية تسبح بحمد ربها، وتخشع له، ومنها هذه الجبال العظيمة التي تهبط من خشية ربها كما قال سبحانه: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)} [البقرة: 74].
وهذه الجبال العظيمة هي التي خافت كالسموات والأرض من ربها وفاطرها من حمل الأمانة، فأبت حملها، وأشفقت من ذلك كما قال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72].

وقد فرق الله الجبال في الأرض، وفضل بعضها على بعض:
فمنها جبل الطور الذي كلم الله عليه موسى – صلى الله عليه وسلم -.
ومنها الجبل الذي تجلى له ربه فساخ وتدكدك من عظمة الله.
ومنها جبل أحد، الذي حبب الله رسوله وأصحابه له.
ومنها الجبلان اللذان جعلهما الله سوراً على بيته، وجعل الصفا في ذيل أحدهما، والمروة على ذيل الآخر.
ومنها جبل عرفات، فلله كم ينزل عليه من الرحمات، والعفو عن الذنوب العظام في يوم عرفة.
ومنها جبل حراء، الذي كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يخلو فيه بربه، حتى أكرمه الله بالرسالة في ذلك الغار.
فسبحان الكريم الذي يخلق ما يشاء ويختار، ويختص برحمته وتكريمه من شاء من الجبال والرجال، والأيام والليالي والبقاع.
وهذه الجبال العظيمة الشاهقة، لتعلم أن لها موعداً تنسف فيه نسفاً، وتصير كالعهن من هوله وعظمته، فهي مشفقة من هول ذلك الموعد منتظرة له، وهو يوم القيامة: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)} [الطور: 9 – 10].
وقال سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)} [طه: 105 – 108].
وهذه الجبال العظيمة مع شدتها وصلابتها، أخبر عنها خالقها أنه لو أنزل عليها كلامه لخشعت وتصدعت من خشية الله كما قال سبحانه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [الحشر: 21].
فوا عجباً من مضغة لحم أقسى من هذه الجبال .. تسمع آيات الله ومواعظه تتلى عليها .. ويذكر الرب جل جلاله فلا تلين ولا تخشع ولا تنيب .. وتفر من المواعظ كفرار الحمر من الأسود: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)} [المدثر: 49 – 51].
فليس بغريب على الله عزَّ وجلَّ، ولا يخالف حكمته أن يخلق لها ناراً تذيبها إذا لم تلن على كلامه وذكره، ولم تروعها زواجره، ولم تؤثر بها مواعظه.
إن من لم يلن لله قلبه في هذه الدار، ولم ينب إليه، ولم يبك من خشيته، فليتمتع قليلاً، فإن أمامه الملين الأعظم، وسيرد إلى عالم الغيب والشهادة فيرى ويعلم كما قال سبحانه: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25، 26].
يا حسرة على العباد .. متى يستفيدون من عقولهم؟ .. ومتى يرون بأبصارهم؟ .. ومتى يؤمنون بقلوبهم؟ .. وماذا ينتظر المكذبين لربهم.
{فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)} [الانشقاق: 20 – 24].
وإذا عرفنا قوة السموات والأرض .. وقوة الملائكة العظام .. وقوة المياه والرياح .. وقوة البحار والجبال.
فكم تكون قوة الجبار الذي خلق هذه المخلوقات .. ؟.
وكم سعة خزائنه التي وسعت هذه المخلوقات العظام .. ؟.
ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)} [الأعراف: 155]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة