إعصار التملص

تاريخ النشر: 16/12/16 | 16:37

كنتُ أنا القاعدُ على مقعدِ الخمول، رجلاً هزيل البدن، طويل النفس، ساخرا، مبتسما، حدّة التملّص جليّةٌ على سحنتي، أتكأ إلى مقعدِ موقف الحافلات وفاهي يلسع ماضيه وحاضره، أنعس نعاس المغمي عليه، وفاه مفتوح على كل النواحي، كنت أتلكّأ في دهشةٍ ومكرٍ عن أشياء قد تقصيني عن هذا الوضع، كانت الاشارات بالنسبة لي كلها بضوء أحمر، فلم يكن لي مفرّ في أن أجتازَ هذه الوجهة، أن أمتهن قليلا بهذا الواقع، ولم أكن أتكهن أنه اختبارمرّ، قد يطلقني إلى دنيا جديدة، دنيا أخرى كما يمكن له أن يقصيني بعيدا عن متعة الخلود وكنتُ أشاهد ما يشاهده الراقد بأنني على أعالي منحدر صخريّ مرتفعٍ أضحكُ بصوتٍ عالٍ، كانت أهوالي تشير بأنني أخرجتُ آخر انفاس ذاكرتي منذ وقتٍ، لقد سمحتُ للحاضر الدنو اكثر الى قطعة أجنتي دونما مانع ودون تساهل لأحد. كان المكان الذي أكون فيه هو ذات المكان الذي أتشرّد أمامه لأسابيع وأسابيع. ثم انطرحتُ مباشرة على أسفله بمقل ناعسة مغمضة، عائما فيه كفيضِ مسقط ماء أعور في ردم مفتوح على كل الأرجحيات ثم هوت أطرافه الواحدة تلو الاخرى في سيل متناسق الى أعماق غير مأثورة، الى اعماق متروكة على ارض متعفنة، تلفُ دماغ معطّل الإحساس بكميات غير صالحة من عقاقير الضياع.
أنا الرجل الذي ازدردتُ ماضيَ وحاضري، وها أنا مستعدٌّ لإزدراد ما ظلّ من سنيني. هذا الجسد الناحب على مدة من الدّهر ولّتني سبخاتها، هذا المستنقع المرضع تبنى سواه لزعامة مستقبله، وما كان لي غير الإيعاز له وهو يسحبه بكل قوة الى ممرات حالكة، هناك داخل مخّي. كان ذهني الفطري قد ارتدَّ تماما عن الترشح لمسؤولية اخرى، لأن هذا الجسد المتشقّق فوق أيامي لا يمكن له مهما يكن السبب الثبات أمام تيارات تطلع من بين أنفاسي، لا أستطيع التمهل قليلا، لا أستطيع التعجّل ولا أستطيع ان أكون مستيقظا،لا أستطيع حتى اللوْك البسيط للبان علق بين اسناني، تركته متردّداً بين تفّه أو ازدراده، لأن احدى الحركتين قد تشوّش عليّ نعمة التشدد والثبات في مطرحي.
كأنها تحدثّني بكل زورٍ وجحود وكأنها تؤنبني على سحابة قد أفشتْ أنفاسي الباطنية بكل انتباهٍ وما استقرت على الانتهاء منّي حتى سارعتني بنتيجةٍ غامضة لذهنٍ ضاع بين تيهٍ أنا مختلقُه وأجيره والمسؤول الأول والأخير على انغلاقه.
لا أقدر إزالة التراب المتكوّم على سحابة مقلتي، لا أستطيع حتى النحيب على حالي، لكن الدموع رفضا إلا ان تهبّ في محيا هذا الوضع، بنقطات جرّت معها رذاذ هذا الخادع من فوق غشاوتي، وفي هذا االوقت استيقظَ النمر من نومه رافعا سلاحه لسلخ جلد هذا الحال، لإطعام بطن خاوٍ رقد فارغا لمدة قليلة، أين فاضت الدماء الى هذا الدماغ الذي لا يزال قئما رغم ثوران كل هذه الفصول، ثم بدأ بتحريك أصابعي كإشارة لبدء التطهر من هذه المواد التي لبستني لوقت غابر، وجعلتني جرذ اختبار لهذا الدهر.
نهضتُ في النهاية بخطى شوق عدتُ قليلا للخلف لتفادي بعض الامور، تفقدتُ وضع حوضي المسدود منذ مرة طويلة في ذهني وقصيرة على الواقع، ملأتُ بطريات أيامي استعدادا للآتٍ الذي لن يكون يسيرا، وغصتُ لبعض الوقت في قراءة اسئلة هذا الزمن في غمرة من الإحساس المختلط بطعم غريب، بدأت أصابعي بحياكة دربٍ جديد نحو الصعود، لأنه في تلك اللحظات سهوت ُبأنني في قاع البرميل، وبأنني عمتُ لمدة طويلة داخله في طريق دائرية حتى تعبأت رئتاي بسمّ هذا الاخير، وما عليّ سوى العوم للاعلى داخل دواماتٍ متفرقة والبحث عن الطريق الثابتة للرجوع الى الأعلى .
بغتة وفي لحظة أندهاش طبيعيٍ غارتْ جسارتي بقوة نورس هجم على سمكة من قاع البحر، تمسكتُ بها رغم الكلوم التي تسببتْ فيها مخالبه، وأنا على هذا الوضع والوجع ييحزن قلبي، حتى ظهر لي مكان الانطلاق الذي أقف فيه في اول اختبار لي في هذه الحياة، بين رهط كبير من رفاقي، وتبددتْ عن مقلتيّ تلك الغيمة السمراء في لحظة نزق استطعتُ بعدها العودة الى ممرات الحياة، والبدء في درب قوي بين حيثيات معروفة وبين حشود عادية، وركبتُ أخيرا الحافلة لوجهتي المحدّدة تاركا خلفي أحزانا ما كان لي أن أختبرها لو صمّمتُ على وجهتي بكلّ منطق.

عطالله شاهين
3talla7shaheen

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة