غربة البابونج

تاريخ النشر: 17/11/16 | 0:05

الليلة حلمت بام سرحان .. صديقة طفولتي ..ومرافقة صباي وشبابي..
رأيتها تضع رأسي بين أبطها وبطة رجلها وهي “مقرمزة”، وتدعك شعري بتراب السمكة الأحمر ..!! وأنا أصيح من الألم الشديد ، وكل محاولاتي للأفلات من قبضتها كانت تذهب عبثا ..فقد كانت تقول دائماً : ” لا ينظف وسخها إلا ترابها ..!”
فتحت عيني على الدنيا ،لأجد أم سرحان أمامي ..
رأيتها جبلاً يمتد عاليا فوقي، بصعوبة كنت ارى قمته،
ورأيتها تتكوم امامي، وتمد رجليها الى طول ليس له آخر ..
وكبرت.. وشاخت معي ..
“إنْ رِجْعَتْ لِبْلاد .. أنا بِدّي دار ” كُنشِر ” ..!” كنت أسمعها تردد هذا القول..ولم تكترث ان مَلًّهُ سامعيها .
و ” كنشر ” هذا، كان طبيباً يسكن في بيت أرضي ، من ضمن خمس بيوت ، تقع بجانب مستعمرة ” كركور ” ،
كانت تَأُمُّهُ عندما “ينخلها” المرض .. وتعجز الوصفات الشعبية عن إشفائها منه .
خرجت من عيادته، وكانت هذه المرة لأبنها خليل بعد أن داهمته حصبه “غميقة” ، ولم تُجْدِ “عمايل” أم الحسن “طبيبة البلد ” في طردها منه .
وقعت عينا خليل على حبات البرتقال الحمراء، تتدلى من أغصان شجرات حديقة الطبيب ، وأخرى متناثرة تحتها ،بعد ان عجزت من التشبث بحضن أمهاتها ،فطلب من أمه أن تقطف له برتقالة ،فأجابته والدموع تذرف من عينيها :
أحمر وِمْدلّي عنوقه ياما ياخليل
محرم علينا نذوقه ياما يا خليل
وضحكنا وبكينا .. عندما رجعت الى بيتنا وحكتْ القصة ..وهي تردد بدون انقطاع :
” بس إلي مْجَننّي ..ليش بوكلوهوش .. !؟ كله بِسقط على الأرض ..! موش حرام ..!؟
وفي زيارة أخرى ، قال لها الدكتور ” كنشر” ،بعد أن فحصها، وهو يتَصنَّع الهموم ،التي زحفت على وجهه :
– واؤكِ ليس موجوداً لدي في الوقت الحاضر ، وعليكِ الأنتظار ،حتى أطلبه من الخارج ..
-قديش يا دكتور بدي أستنا ..!؟ سألته من بين أوجاع المرض..
-شهرين.. ثلاثة ..
-بموت يا دكتور ..! بموت قبل ما ييجي ..!
-ما سمعتِ اننا في حرب ،والناس بتموت مثل الجراد ، خليك واحدة منهم ..!؟
وانتظرت الدواء شهراً .. سألته عنه فأجابها بعصبية شديده : ” قلتك العالم فيه حرب مولعة ، شو رأيك يوقفوا الحرب مشان دواكي ..! ” .
وانتظرت شهراً آخر .. وتلته ثلاثة أخرى.. ولم يصل الدواء .
فقالت لأمي شاكية : ” وَلْ عليه ..هو بدو يجيب الدوا من الصين !؟ .. مبين بدي أموت قبل ما ييجي ..!”
فتهوِّن عليها أمي الحال قائلة :” أصبري .. ما في صبر إلا بعده فرج.. والفرج إنشاء الله قريب ..!”
مرَّعلى انتظارها للدواء ستة أشهر أو ما يزيد .. فأصابها اليأس، وكادت أن تنساه .
وأذا بأمرأة من الحارة الشرقية تدق بابها ، وما أن فتحت لها ،حتي صاحت من بين لهثاتها المتواصلة، بعد ان قطعت المسافة البعيدة ،التي تفصل الحارتين :
في إلِكْ عندي بشارة .. : ” دواك وصل عند الدكتور كنشر .. هاي جَيْتي من عنده ، وطلب مني أوصلك الخبر !”
سمعتها ” وَفَنَّتْ” زغرودة، رنت في أرجاء البلد ..
وطارت إلى عيادة الدكتور كنشر ..
مالك طايره .. هو الدوا بدو يطير .. !؟ سألتها جارتنا أم جميل مستغربة .
” خايفه انه يرجع للصين إلي أجا منها ..!! ” .
ناولها الدكتور كنشر الدواء ، وعندما مدت يدها الى “عبها ” لتنقده ثمنه ، قال لها بتودد غير معتاد :
-هاي المرة خليه علينا ، هدية مني لك .. !!
-شو المناسبه يا دكتور ..!؟ لَقَطّوا البرتقانات ..!؟ ردت عليه وهي مستمرة في عملية إ خراج النقود من عبها .
-هذه هدية إعلان قيام دولتنا .. دولة اليهود ..!
-وين بدكم تقيموها إنشاء الله ..!؟ قاطعته
-هون .. رد عليها، وهو يشير بسبابته بأتجاه الأرض .
-هون .. هون ..!! ردت عليه والدهشة تغلي في عروقها.
-آه هون .. ! وأنت طالعة إقطفي برتقال ،هدية أخرى مني ..
-وحنا شو بدو يصير مصيرنا ..!؟
-هذا مش شغلي .. هذا شغل إلي أكبر منا !
أخذت علبة الدواء . وركبت دابتها واتجهت الى البلد ..
وفي الطريق ،كانت تلتفت على جانبي الطريق ،وتكلم نفسها ، وهي تضع يدها على خدها ، والدهشة تعصر كيانها:
:” وين بدهم أحطوا دولتهم – يا أم خليل- ..!؟ هون في سهل أبن عفيف ، ولا هناك في مزارع باقة ، ولا على تلة دار عفيف ..ولا هناك على جبال وادي عارة ، ولاهناك على هضاب الروحة ..!!؟
“دورية جيش يما يا خليل ..!” ..همست في أذن أبنها..وسحبت علبة الدواء ،وأسقطتها في أذن الحمار..
وعندما وصلا ،صاحوا بهما من بعيد :” إرفعا أيديكما الى أعلى ..!” ، وعندما إقتربا منهم ، فتشوا جيوبهما ونبشوا خُرْج الحمار ، وصادروا البرتقالات ..
وأذا بأحدهم يسألهما :
-معكما تصريح بالخروج من البلد ..!؟
-شو هذا التصريح إلي بتسأل عنه ..!؟ هو إلي بتنقل ببلاده بدو تصريح !؟ ردت عليه والحسرة والدهشة تقطعها .
واذ بجيب يتوقف بجانبهم ،محدثاً ضجيجاً ملأ المكان ، وينزل منه رجل ، وقبل أن يتبينا من هو ،صاح مقهفهاً :
-أم سرحان ..!؟
تجمدت مكانها مصعوكة ..عندما تأكدت أنه الدكتور كنشر..!
فصاح بالجنود :
-أتركوهما يمران .( متوجهاً الى أم سرحان ) :” المرة الجاي – يا أم سرحان- لما بتطلعي من البلد بس بتصريح .. موش قلتلك ان :”دولتنا الجديدة قامت، وألها نظام وقوانين ..!!”
فعرفت أنه قائدهم ..فزادت دهشتها وصرخت في أعماقها : ” دكتور وقائد جيش ..!!” .
وعرفت أن الدنيا تغيّرت ، وإنّ ما كان لن يكون ..!!
وعندما ابتعدت عنهم مسافة، غابت بها عن أنظارهم، بحيث لا يستطعون رؤيتها، وإذا بجيب الدكتور يقف الى جانبها ،ويطل عليها من شباكه ويناديها سائلاً : ” أم سرحان.. وين “خبيتي” علبة الدواء ..!؟” .
فدست يدها في أُذن الحمار وأخرجتها .. وهو يحدِق بها مشدوهاً ..وابتسامة ماكرة تتمدد على شفتيه .
فصاح وهو يطلق العنان لسيارته :” مشكلتنا معاكم مشكلة..!!” .
وعندما وصلت البلد ، دخلت الى بيتنا – كعادتها – من غير استئذان ،ونادت أمي، وكل من حولها : ” تعلوا تفرَّجوا على الدوا ، إلي أجا من ألصين ..!!” .
كانت كل العيون منصبة على أصابعها، التي بدأت بفتح علبة المقوى ، لتشاهد هذا الدواء الغريب ،الذي أقلقتهم به أم سرحان .!
وعندما أخرجته من العلبة .. أدنته من أنفها وشمته ، صاحت كالمصروعة : ” بابونج ..!! كل هذا الأنتظار على بابونج ..!! ” .
ورمته على طول يدها ..
” البابونج إمَلّي ظهور الحيطان ..” يا مسكينة صاحت أمي ،غير مشفقة على جارتها .
“أستني تانعرف، أن كان الطلوع على ظهور الحيطان بدو تصريح ..!!؟ ” . صرخت، وهي تنفجر ببكاء مرير.

يوسف جمّال – عرعرة

99-3

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة