لا رأي لمن لا يُطاع

تاريخ النشر: 14/09/16 | 13:16

بيت حفظته منذ الصغر:

أمرتهمُ أمري بمُنْـعَرَج اللِّوى *** فلم يَستبينوا النصح إلا ضحى الغدِ
ذلك أن الأستاذ المرحوم مصطفى عبد اللطيف أبو بكر، وهو قريب وجار لي كان مثقفًا كتب مقالة ونشرها، وختم فيها بهذا البيت، دون أن يذكر اسم الشاعر، ويومها علق البيت في ذاكرتي.
في قراءاتي تنبيّن لي أن البيت هو للشاعر الجاهلي دُرَيد بن الصِّـمَـة، وكان شاعرًا أدرك الإسلام، وظل عنيدًا ولم يسلم، حتى قُتل يوم حُنَين وعمره مائة- في قصة تدل على شجاعة غريبة وعجيبة.

البيت من قصيدة يرثي بها دريد أخاه عبد الله، وكان هذا قد غزا قبائل غطَفان، وساق أموالهم، ولما ابتعد قليلاً طلب من جماعته أن ينزلوا إلى (منعَرَج اللوى)، فقال له دريد: ناشدتك الله ألا تنزل، فإن غطَفان ليست غافلة عن أموالها، فأبى عبد الله، ولم يقبل النصح.
فكانت نهاية المعركة مصرع عبد الله، فقال فيه دريد مرثِـيَـتَـه التي مطلعها:

أرَثّ جديدُ الحبل من أمِّ معبد …. بعاقبة أو أخلفت كل موعد

(أم معبد هي زوج دريد، وكانت تحتجّ على دريد لكثرة جزعه على أخيه، فطلّقها.)

مما ورد في القصيدة:
أمرتهم أمري بمُنْـعَرَج اللِّوى *** فلم يَستبينوا النصح إلا ضحى الغدِ
فلما عصَوني كنت منهم وقد أرى *** غَوايتهم، أو أنني غيرُ مهتدِ
وهل أنا إلا من غَزيَّةَ إن غَوتْ *** غوَيتُ، وإن ترشُدْ غزية أرشُدِ

و(غزية) هم قوم دريد. أما (اللِّوى) فمعناه مُسترقّ الرمل، ومنعرجه هو المكان الذي ينقطع فيه الرمل ليُفضيَ إلى الجدد أو الطريق، فهو هناك ينثني وينعطف، وفي روايات أخرى وردت لفظة (منقَطَع).
أما لماذا اختار (ضحى) فلأنه أضوأ وأسطع لبيان الحقيقة.

لكني –وقد علّمت النص- كنت أقف كثيرًا على الإبداع في بيت دريد في هذه القصيدة:

تنادَوا فقالوا: أردتِ الخيل فارسًا *** فقلت: أعبدُ الله ذلكم الرَّدي؟
..
تصوروا أن القوم يتنادون لمقتل فارس، فالخبر يتناقلونه لأهميته وخطورته،
ومع ذلك قالوا إن الفرسان أردَوا فارسًا، ولم يذكروا اسمه،
ولكن دريدًا بقوة حدسه، وهو يعرف جرأة أخيه واقتحامه الميدان تساءل أول ما بلغه الخبر: فقال: أعبد الله؟
هل هو عبد الله أخي ذلك الذي أردَته الخيل، فمن يكون غيره؟

وعلى ذكر من يطلب من جماعته أمرًا ولا يجد قبولاً لطلبه أسوق هنا بيتًا ورد في شعر القَعقاع بن ثُمامة بالصدر نفسه:
أمرتهمُ أمري بمنقطَع اللوى *** ولا أمرَ للمعصيِّ إلا مضيَّعُ

وفي بحثي وجدت البيت الأخير برواية أخرى لزهير بن كلحبة اليربوعي:

أمرتكم أمري بمنعرج اللوى *** ولا أمر للمعصيِّ إلا مضيّعا
فلما رأوا غِبَّ الذي قد أمرتهمْ *** تأسّف من لم يُمسِ للأمر أطوعا

(التذكرة الحمدونية- لابن حمدون – مادة ص 1950 من موسوعة الشعر).

في “خطبة الجهاد” نجد موقفًا مؤثّرًا، فما أحزن هذا الموقف الذي وقفه علي -كرم الله وجهه- مقرّعا من خذلوه:

“… وأفسدتم عَلَيّ رأيي بالعصيان والخذلان، حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب، لله درُّهم، ومن ذا يكون أعلمَ بها منّي أو أشدّ لها مراساً؟ فوالله لقد نَهَضْتُ فيها وما بلغتُ العشرين، ولقد (ذرّفت) نيّفتُ اليومَ على السّتين، ولكن لا رأيَ لمن لا يُطاع”- قالها ثلاثًا، وجلس.
نهج البلاغة 70، 71.

ب. فاروق مواسي

faroqmwaseee

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة